أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لخضر خلفاوي - *من جديد سردي: *حقيبة المعطوب ! La valise de l’invalide / The invalids suitcase















المزيد.....


*من جديد سردي: *حقيبة المعطوب ! La valise de l’invalide / The invalids suitcase


لخضر خلفاوي
(Lakhdar Khelfaoui)


الحوار المتمدن-العدد: 7716 - 2023 / 8 / 27 - 00:01
المحور: الادب والفن
    


—-
سردية من تجربة حياة : كتب لخضر خلفاوي *
*

-ما أحلكها من لحظة بالنسبة لشخصية سريعة الغضب و الالتهاب العصبي مثلي ، شخصية مزاجية تعاني فرط الحساسية في زمن غير مكترث بأيّ شيء عدا إرضاء البطن و الفرج و ممارسة اللهو و العبث .. حال ثورة شخص مثلي عندما يفوته القطار و تختلط الأمور و الحسابات و كل الترتيبات و المواعيد .
-إنها لحظة رهيبة فوات القطار لسبب من الأسباب التي لم تحسبها جيدا أو هي خارج عن نطاق إرادتك..
في هذه الليلة الشتوية الباريسية القارصة من القرن الماضي ، أجد نفسي في ورطة توقف كل وسائل النقل من قطارات و حافلات بعد انقضاء الوقت الرسمي لحركة المرور .. السبب المباشر هو أنّي نسيت نفسي و نسيت الوقت في سهرة ممتعة متميزة رفقة أصدقاء فرنسيين من كل الآفاق المهنية ، صحفيون، مذيعون و مثقفين استدعوني ككل نهاية الأسبوع و ككل مرة في شقة صديقي( أرنو) و رفيقته المُذيعة "كريستين" القاطنين بالقرب من ساحة ال "ريبيبليك république ..هي من أشهر الساحات التاريخية في قلب باريس حيث ترمز لدى الرأي العام للثورة و الحرّية و الانتصارات و لكل حدث مهم إلى غاية يومنا حيث تتّخذ هذه الساحة كمحطة تجمهر و التقاء المتظاهرين و التشهير بحدث ما أو التنديد بقضية حساسة التجمهر في هذه الساحة يعني هو ضمان الإشهار الوطني و الدولي بسرعة البرق.. أذكر عند مقتل المطرب ( القبلي ) "معطوب لونّاس" تحرّكت الخلايا الانفصالية القبائلية التي تحرّكها حركة (الماك) الإنفصالية وسط تهويل و تحسيس إعلامي كبير ، حيث تمّت المظاهرة بإشهار كل الاتهامات للنظام الجزائري و اتهامه بضلوعه في اغتياله و تصفيته بعد إصدار آخر ألبوم غنائي محرّفا و مستهزئا بالنشيد الوطني الجزائري .. و كان المنظمون و من بينهم أخت المطرب يطالبون المجتمع الدولي بمعاقبة الجزائر و حماية الأقلية " القبائلية " و إرسال قوات دولية أمنية لحماية القبائل من بطش النظام الجزائري و اضطهاده لهم ! كان ذلك بحضور و تنشيط مشترك مع شقيقة الضحية .
-ف ( لاريبيبليك) من الامكنة الراّمزة لقيام الثورة الفرنسية في الخامس من ماي 1789. أسس الساحة البارون " عصمان"Haussmann و اعتمد شعار المعلم و أولى جمهوريات فرنسا Liberté, l’Egalité et la كعملة أبدية لا تبلى روحها في داخل و خارج المؤسسات الرسمية .. الحرية ، العدالة و الأخوة .“.
-إذًا أردتم أن تنسوا أنفسكم و تفكرون على مدار الساعة دون توقف في الوطن بكل تفاصيله عليكم بتنفيذ عملية انتحارية ؛ أيّ اهجروا أوطانكم قسرا أو رغبة أو جبناً.. ستدرك ومع مرور الزمن و تدحرج عمرك نحو قيعان المنفى أن نفسك أو روحك نسيت أن تلفّها داخل حقيبتك أو بين تلافيف جواز سفرك .
*
-أ.ميلير (فرنسي من أصول ألمانية ) هو الذي تكفل باستقبالي و مؤاخاتي و برعايتي في -منظمة دولية بلا حدود للإعلاميين- حيث يشتغل كباحث في قسم /الشرق الأوسط و المغرب العربي / فيما يتعلق بحقوق التعبير و الصحافة حول العالم و يشتغل في ذات الوقت مع قناة ( أورو -نيوز). كنت أسكن منذ وصولي لباريس في مركز لللاجئين من كل الجنسيات و من كل المستويات في ضاحية من ضواحي باريس جنوبا و بالضبط في شارع ال8 ماي 1945.. عندما وجدوا لي مأوى مؤقت متمثل في غرفة في هذا المكان و عرفت أوّل عنوان سكني رسمي ضمن عناويني عند مسقطي في المنفى، فأوّل ما تبادر إلى ذهني لحظتها هو تقيئي لذاكرتي الموروثة المتعلقة بهذا التاريخ المميز لدى الجزائري.. ساقني القدر من باب المليون و نصف مليون شهيد إلى عنوان له علاقة مباشرة بمجازر ( سطيف، قالمة و خرّاطة ) بالشرق الجزائري ، بالإضافة إلى بؤر انتفاضات هنا و هناك لم يُركّز عليها المؤرخون… كيف ينسى هكذا تاريخ و هو الذي نفّذت فيه فرنسا أبشع مجازر في التاريخ الحديث في حق العشرات الآلاف من متظاهرين جزائريين طالبوا بالحرية و باستقلالهم و لحملها على الرّحيل بعد فوز الحلفاء على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية و راح ضحيتها الآلاف من المجنّدين الجزائريين إجبارا معظمهم .
كنت أتجوّل و أتمشى على أرصفة محطة القطار الرئيسية ( انفاليد Les invalides) ، حيث من عادتي أقِل قطار RER Cباتجاه مدينتي الصغيرة ( ماسي).
كنت أحمل أوزارا لي ، ملابسي و أغراض في حقيبة مميزة جدا من (الديزاَيْن أو التصميم الأصيل الراقي القديم من القرن الماضي )، لن أحدّثكم عن محتويات حقيبتي تلك ! تذكرني حقيبتي هذه دائما بمعظم روايات ( أغاتا كريستي)، و لا أدري ما السبب تحديدا !…
-هذه الليلة لم يحدث إعجابي بحقيبتي ، بل كانت أثقالها و حملها أثار كل شياطين تعبي العصبي بسبب تفويت آخر قطار يأخذني إلى التسع أمتار مربع لغرفتي الجميلة المتواضعة التي احتوتني بكل خساراتي و جروحي و تتقاسم معي وحدة و وحشة المنفى و لواعج الاستئصال النفسي من بيئتي الطبيعية الفطرية .
كانت محطة (Les invalides ) شبه خاوية على عروشها ، و عدد المشاة يعدون على الأصابع و أغلبهم أشخاص متشرّدون و من دون سكن قار يقضون لياليهم في هكذا محطات اتقاءًا للبرد القارص ينامون على "الكارطون" أو على تلك المقاعد المخصصة لانتظار المسافرين مصطحبين وحدتهم و مستأنسين بقنينات الخمرة و السجائر حتى يسترجع اليوم الموالي وعيه بمطلع أوّل عربة و قطار في اليوم بُعيد طلوع كل فجر .
-" أنا، مُعاق ، عاجز، معطوب ، لا حركة تُرجى منه بسبب عجزه ، باطل أنا .. بل أنا كلّ الأباطيل لابطل كما أبطال الأنفاليد ! أنا معطوب و النّاس لا تعترف بوجوده ! و الرّب الذي أتى بكَ إلى هنا أنت يا أنا .. يا بااااااطل ! غير رسمي ، مُعدمٌ ، مُعدمٌ أنت يا خضر !!!".. كنتُ في خلدي أجلد ذاتي و أنا أُوتي بكل المرادفات لمصطلح (invalides ) .. كنت في قمّة تذمّري بسبب تضييعي لآخر قطار يأخذني إلى القرب من بيتي .. فكان تعب يومي مذ الثامنة صباحا إلى ما بعد منتصف الليل جعلني افقد كل أعصابي ، حاجتي للنوم و لارتماءتي على سريري و الخلود للراحة أضحى و أمسى و كاد أن يفجر مطلبا أكثر من ضرورة !.
كنت أحب هذه المنطقة و هذه الدائرة لغناها التاريخي و رمزيتها بالنسبة للموروث التاريخي العالمي و الإنساني ، هكذا منطقة هي صرة الذاكرة الحربية الفرنسية و التاريخية و ما ترتب عنها من تورطها في كثير من بقاع العالم من تفاعلات جيواستراتيجية رسمت و أعادت رسم خوارط العالم …
-اللعنة عليك يا نابليون ، بونابارت اللعين ، اللعنة عليكم يا جيشهم ! اللعنة عليك يا تاريخ ! ما الذي أسقطني هنا و سهوت بكل هذا ( الأعطاب )!!؟.
بالقرب من هذه المحطة بالدائرة السابعة يتربع فندق أو مبنى " الانفاليد les invalides و متحف الجيش الشهير ، على التماس من برج الإيفل و ميدان ( مارس) حيث يرقد تحت قبة المبنى ، أو المتحف الامبراطور( نابليون الأول ). يعود الفضل ل الملك لويس الرابع عشر الذي أمر ببناء فندق الأنفاليد invalides في 24 فبراير 1670، بهدف رئيسي المتمثل في توفير السكن والرعاية و الحماية للجنود الجرحى المعطوبين أو المعاقين، المُعدمين ، الذين أعفوا من الخدمة !!. لماّ توفّي نابليون الأوّل (بونابارت) في المنفى في 5 مايو 1821، في جزيرة سانت هيلين. في عام 1840، قرر بموجب ذلك الملك "لويس فيليب" إعادة جثة الأمبراطور نابليون بونابارت Napoléon Bonaparte إلى الوطن لدفنها في قلب باريس، و وضع تابوت نابليون تحت قبة أنفاليد invalides في ديسمبر 1840. يا إلهي أنا لاجئ، عربي ، مسلم ، معطوب ، مُعدمٌ ، معفى ، و متشرد في وسط كل هذا الصقيع! كنتُ الرّمز الحي لكل الإعاقات .. و كمية الفرح التي سرقتها في سهرة أصدقائي في تلك الليلة اغتصبها مني الصقيع و بدّدها الغضب و الاحباط ، ماذا فعلت بنفسك يا خضر !؟ هل ستقضي ليلتك في البرد و العراء يا مُعدمٌ و العدم عنوانك الذي يليق بك!؟..
بينما كنت في هذه الهيستيريا النفسية المبالغة و السخط الكثيف مع نفسي و عليها كوني كنت مكترث أن هذا الخضر عزيز النفس لأوّل مرة يحدث له أنّ يبيت خارج البيت في الشارع، كنت أعتبر هذا التفصيل كأنّ السماء انطبقت على رأسي و أن مكوثي في انتظار بداية خدمات النقل بعد ساعات هي اهانة عظمى لشخصي و سقطة لن اغتفرها لنفسي لأنّي رغم أنّي رجل استباقي في كل شيء و أحسن التدبر إلا أن سهوي و نسياني آخر توقيت لآخر قطار على الخط الذي استعمله للعودة إلى مقرّ سكناي جعلني أقسو أكثر و أجلد نفسي أكثر و أجرّ في رواحي و ذهابي على رصيف المحطة حقيبتي ..
-كنت ألمح رجل خمسيني يجلس على مقعد و يقرأ بهدوء كبير كتابه حينا و يسترق النظر إلى سكناتي و حركاتي حينا آخرا و الغضب بادٍ على وجهي و كأنّ السماء انطبقت فعلا على الأرض …لا أحد يتصوّر أو يمكنه تخيّل شكل و حجم غضب الجزائري -لِلاَ شيء -! أمّا غضب و صرعة الجزائري لأجل -شيء- فهذا أمر آخر يصعب وصفه ، علينا أولا تصوّر غضبنا و كربنا من يوم القيامة لكي نصل إلى صورة مقربة إلى حجم و شكل غضب الجزائري و عصبيته و صرعته عند ثورته على الشيء ! و كأنّ (الجنس الجزائري بالفطرة و الوراثة مريض أعصاب ، جميعهم دون استثناء) حالة لعينة مزمنة تلاحق كل الأجيال .. فالجزائري و هو غاضب يغضب و هو فرحان يغضب و هو عاشق يغضب و هو يمارس الحب يغضب .. و هو يُقبّل حبيبته يغضب و يغضب في السلم و يغضب في الحرب و يغضب وقت الهدنة و يغضب حتى في المنام و الصحو ، كوابيسه كلها غضب في غضب…يغضب في سكره و في صلاته و في حجّه و في اعتماره.. نحن الجزائريون كتلة من غضب مستديم ! لا ليس كذلك ! لقد أصبحت صفة الشهرة للجزائريين أنهم من بلد المليون و نصف مليون شهيدا صفة مُتجاوزة من قبل الزمن بنظري ، بل أُجزم بأن الجزائري الواحد هو ( ثورة )، ثورة تتنفس و تتحرك و تمشي على رجلين و لها لسان و شفتين و يدين ، بمعنى أنّ الجزائر هي عبارة عن رحم عظيم جغرافي ، في شكل بلد يستوطن فيه 44 مليون ثورة و كل ثورة تحاول أن تثور على الأخرى !.
قبل أن تبدأ مسيرة المنافي في باريس كنتُ اعتقد أننا شعب شديد الحمية و دمه سخن ، نعم ( دّمنا سخون بزاف !)، كنا نقولها بافتخار و كبرياء ، لما وصلت فرنسا و بدأت مرحلة البحث عن الضوء قبل البحث عن الذات فلا يمكن أن ألحظ نفسي و أراها بوضوح في الظلمات التي كانت تحيطني و تحاصرني هنااااااك! و أنا أبحث عن الاستقرار في مدينة ( الأضواء) و احتكاكي بِمِلَلٍ عديدة و أعراق و ثقافات مختلفة و من كل القارات و البلدان تفطّنت عندها أنّ الدّم الذي يسري في عروقنا و كنا نعتقده ساخنا زيادة مقارنة بباقي البشر و الأجناس هو في الحقيقة دم فاسد و محروق بل متفحّم ! لهذا عند كل غضبة جزائري لا تخلف غضبته -على الأرجح - إلا الهشيم و الدمار! عندنا بالوراثة كبت ساخط عظيم لن يفسره أشهر أهل الاختصاص في علم النفس و السلوكيات !.
-"لا تغضب يا لخضر ! أوصيك و أوصيك لا تغضب ! برّد أعصابك و دماغك لما تصل باريس و تستقر ّ.. جاهد ثورتك و غضبك فإنّك ستظلم نفسك و لن تنتزع حقوقك و لو كنت محقا في مجتمعات دمها بارد كهذه !".. لا أدري ما الذي أتى بنصيحة الدكتور " متوكّل" و هو طبيب جزائري يشتغل بإحدى مستشفيات باريس التقيته ذات عمر في مطار قسنطينة ذات محاولة فاشلة للسفر إلى باريس و منعتني السلطات الأمنية من مغادرة الوطن ، لأنّي كنت أفكّر بشكل صحيح ! تعرّفت عليه بالصدفة بمقهى داخل المطار القسنطيني كان ينتظر طائرته باتجاه "شارل ديغول ".. تقبّلني قلبه و عقله من خلال تبادلنا و تعارفنا فائتلفت قلوبنا و دعاني بالحاح شديد على مأدبة عشاء في إحدى مطاعم المطار قبل وصول طائرته و مغادرته أرض الوطن. هل ما زال يحتفظ بلوحة جميلة صغيرة الحجم من إنجازي أهديتها له بعد مأدبة العشاء ؟ هل مازال يذكرني !؟ هل هو من أهل الدنيا أو من الغابرين!؟. كل ما أحتفظ به سعادته لما أخرجت من حقائبي تلك اللوحة و دونت خلفها إهدائي و كان منبهرا و سعيدا لموقفي و لهويتي الفنية الأخرى التي لم أكشف عنها أثناء دردشتنا و لا في وقت العشاء الأخير لمسيحي الأرض الجزائرية!.
-قلت في نفسي و أنا أتمشى باحباط شديد على رصيف من أرصفة المحطة العملاقة ل " أنفاليد" عليّ أن أتوقف عن ثورتي الساذجة ، و ليكن ما يكون إن بتّ الليلة في هكذا مكان !..
كان ذلك الرجل الوحيد القارئ لكتابه متكئا على حقيبة ظهرية يسترق النظر بفضول شديد و كأنه يتردد في الحديث إليّ ليطلب شيئا مني ! لم أكن متأكّدا إن كان مسافرا أخطأ التوقيت الخاص بالقطارات و وسائل النقل أو هو شخص متشرّد مُعدمٌ دون سكن قار !…
عند اقترابي منه ، بادرني بالتحية و بابتسامة عريضة لبقة تبعث على الأمان.. هنا أجاب عن أسئلتي الأوّلية فيما يخص وضعه، لأنه سألني باللغة الإنجليزية ، و افتهمت حينها أنه هو أيضا وقع مثلي في ورطة ضياع آخر فرصة لركوب عربة قطاره ، لكنه لم يكن مكترثا مثلي … و هو يطوي كتابه و يخبئه في حقيبته كان يطلب مني ما إن كانت هناك حيلة لترك هذه المحطة و مواصلة السفر نحو وجهاتنا … كان الرجل بشوشا جدا و لبقا ، جلستُ إلى جانبه و اعتذرت له أنّي سيء جدا في التحدث بالانجليزية لكني حاولت إيصال المعاني و اجتهد لأكون مفهوما .. ما أتعسه من قدر يلاحقنا ، دائما العربي و الفرد (العالم ثالثي) مُطالب بتبرير نفسه و شرحها للآخرين و يحاول بذل جهد كاف لِيُفهم من قبل الآخرين ، لماذا ليس العكس ؟!، أخذَ الرجل يحاول التحاور معي …كنتُ اعتبرها سابقة هكذا سلوك ، أمريكي يتحدّث معي ، إذن أنا موجود !؟ فسألني عن أصولي و فصولي، فعرف مختصرا عن سيرتي الذاتية و دوافعي الشخصية و ظروفها التي رمتني في هذا المكان … ل (للمعاقين)!. Les invalides.
و منه فاجأني أنه فنان تشكيلي و جاء كسائح حر , خارج الرحلات الجماعية المرتبة مسبقا و أتى بحثا عن الالهام و ليزور أشهر أماكن و متاحف باريس لمدة أسبوعين ثم يعود للولايات المتحدة الأمريكية . كنت أقول في نفسي ( باريس فرحة، على حد انطباع هيمانغواي)، لماذا أنا حزين هذه اللحظة و التي قبلها و التي قبلها و كل هذه اللحظات !!!. الرجل ارتاح لي أكثر لما أخبرته عن منظّمتي التي أعمل فيها كمتربص مذ وصولي قبل أشهر قليلة ، شهرة منظمتي الإعلامية الدولية جعلته يرتاح أكثر لي و يزداد احترامه في تبادله معي …هدوء و لباقة " بيتَرْ Peter " أرغماني على تعديل مزاجي فكنتُ أخفى ثورتي التي تتأجج بداخلي ، بل استحيت من نفسي و قلت يا الله ! الرجل أتى حاجّا من أقاصي الكرة الأرضية ، قدم من الولايات المتحدة الأمريكية و هو ليس فرونكفوني اللسان و لوحده و تسكّعه هذه اللحظات و الساعات يرضيه و حادث تفويته لقطاره و مبيته في العراء تحت صقيع المحطة الباريسة اعتبره تفصيلا تافها لم يهزّ منه شعرة و لم يثير أعصابه و لا تذمّره و أبقى الرجل الخمسيني على هدوئه و اتزانه و أنا بالمقابل كنتُ لو استطعت لذهبت لتوّي لضريح Napoléon Bonaparte نابليون بونابارت و تبوّلت عليه نكالا لما فعلته فرنسا بنا في بلدي حتى أُضطرّ للهرب منه إليها ، أهرب منْ والدي و الدتي و أخي و أهلي! أتبوّل عليه و أقول له كفّوا أيديكم عنّا و عن الجزائر و اتركونا لحالنا!..و إذا كان كما قلتَ يا امبراطور الأمس "المستحيل لا تعرفه فرنسا ، فسجّل عندك ما يقوله أحفاد الشهداء:" نوفمبر لا يعترف ب المستحيل و لا يعترف بفرنسا على السّواء ". "… صحيح أنّ
-"سيّء الحظ أو المعدم هو قابلة موّلدة للعبقربة ".. كذبت أيضا يا "بونابارت " و لو صدقت .. أيّ عبقرية أيها البائس … يا لخضر !.
-لمّا حدثني عن الفن التشكيلي و الرسم لا أدري كيف وجدت نفسي مستثارا مورّطا معه في الدردشة و نسيتُ ما كان ينتظرني من سأم الانتظار لساعات طوال ، كنت أجاهد رداءة اللغة الإنجليزية عندي و أبقي على المحاورة و معرفة أكثر عن مجاله ، لا أنكر أن أسئلتي في الأوّل كانت رغما عني كأسئلة المُخبر ، فالمخبرون يعتمدون نفس نمط الأسئلة المفخخة كالإعلاميين تماما تجربتي الطويلة في هذا المجال طبّعت طريقة طرح أسئلتي أحيانا على الطريقة البوليسية . كنت في الحقيقة أريد التأكد من صحة ما يزعم ، فرحت أتطرق معه إلى عوالم الفن التشكيلي و الفن التصويري و الرسّامين و المدارس الفنية و نتناقش و نتبادل فلم انتبه للوقت حتى وجدت نفسي منسجما معه رغم أن انجليزيتي -تشبه اللكنة الانجليزية لبقرة إسبانية !- كما يقال هنا تهكّما لدى الفرنسيين ساخرين من نطق أحدهم !.
كان تجوالي معه في عالم و أبعاد و تاريخ الفن التشكيلي أعطاه هو أيضا فكرة عني و ازداد لطافة و اقتناعا بمتشرّد الصدفة الجزائري (الذي هو أنا ) في باحة محطة الأنفاليد ..
-كنت اعتقد أنه لا يعرف الجزائر كبلد ، لأن الأمريكان لا يعرفون إلا البلدان السياحية أو البلدان التي استعمروها و دمّروها ، فأينما حلوا لا يتركون إلا الخراب و الدمار ! في أمصار اختلقوا فيها حروبهم الحمقاء و أرسلوا جنودهم لحفظ السلام من الحروب المخلوقة من قبلهم ! قد يعرف معظم الأمريكان كابول و أفغانستان، ليبيا ، السودان و باكستان و العراق و الشرق الأوسط و الفيتنام لكنه من المستبعد أن يعرف معظمهم الجزائر بينما معظم شعوب العالم تعرف الولايات المتحدة الأمريكية. لكن "بِيتَر " فاجأني أنه يعرف بلدي الجزائر لا لأنها بلد المليون و نصف المليون شهيدا أو لأن ألمانيا كانت تدفع الجزية للأسطول الجزائري البحري مقابل تركها أن تعيش بأمان في القرن الثامن عشر ، بل هي "ملحمة خيخون " التي صنعها رفقاء ماجر و بلومي و عصّاد و مرزقان على حساب ألمانيا الاتحادية في كأس العالم لكرة -القدم - في إسبانيا عام 1982هي التي عرّفت "بيتر" هذا السّائح الرسّام الأمريكي بأنّ هناك بلد ينتمي إلى العالم الثالث و لديه فريق كروي قوي و لديه بترول و غاز أيضا !. كان يقول لي بإعجاب و ارتياح كبير و هو يستأنس لنقاشنا "أنت رجل ذكي و طيب يا ( أَكْدرْ!) " كان يصعب عليه نطق اسمي Lakhdar .. الأكدر أو الأخضر أو الأقدر ، كل هذه التفاصيل كانت لا تهمّني !
**
كنتُ في هذه الصبيحة المشمسة جدّ مستعجل و أنا أنتظر دوري أمام الجهاز الآلي لترسيم الرسائل و الطرود و طبع آليًا رسوم مستحقات الإرسال .. الظرف الذي كان بحوزتي هذا الصباح كان عليه أن يغادر قبل منتصف النهار ..
كانت تلك المرأة الستينية ( التي تعطي انطباعا أنها بنت الأقل من الخمسين )، فراستي هي التي فضحت سنها .. تبّا لهذا الزمن ، مكننوا كل شيء و رقمنوا كل شيء ! إلى أين نذهب يا إلهي ! و تلتفت إليّ ضائعة و مبتسمة في وقت واحد .. قلت لها نحن في طريقنا إلى قتل و نسف ما تبقى من الإنسانية بسبب مكننة و رقمنة و أشيأة كل شيء ! ضحكت باستحسان إجابتي و توافقها و تلازمها مع سخطها اللطيف اللحظي .. كانت حائرة من أمرها و هي تنقر بأناملها شاشة الجهاز و حائرة في الاختيارات التي يقترحها عليها الذكاء الاصطناعي لهذا الجهاز داخل المكتب البريدي لمدينتي ، وكنت أنا - على أعصابي - انتظر دوري خلفها انتظر أن تنهي معاملتها ، فالتفتت نحوي و دون حرج سألتني "لقد تورّطت مع هذا الجهاز الملعون ! لم استطع تحديد بالضبط الخيارات ..!"
كانت المرأة تتكلّم فرنسي بنطق أمريكي ، كم أحب مخارج اللغة الفرنسية من فم انجلوساكسوني أو بصوت أمريكي شمالي.. انتبهت لذلك لأول جملها .. فتقدمت نحو الجهاز و الشاشة و بدأت أحاول مساعدتها و ظرفها كان موضوعا على مسطح وازن للظرف لتحديد آليًا تسعيرة خدمة الإرسال و الرسوم الدولية و الذي يشبه طردا صغيرا جدا .. أخبرتني أنّ الظرف فيه كتاب أرادت إرساله إلى أحد أقاربها بالولايات المتحدة الأمريكية ..
بدأت في عجالة في ضبط على الشاشة الاختيارات و ما يناسب إرسالها و هي تتابع إجرائي و لمساتي فأتممت لها في ثوان الأمر على مرآها، ففرحت كثيرا و تنفّست الصعداء و سعدت لذلك شاكرة لي و مكررة الشكر بلباقة مميزة :( شكرا لك ، شكرا لك ! لقد انقذتني ! أنت رجل ذكي ! أنت رجل ذكي شكرا سيدي ! ).. فخجلت منها و كنت أقول في نفسي : -اكملي يا ولية .. اكملي ! قولي -ذكي و طيّب - ! نعم ذكي و طيّب على حد تعبير " بيتر " الرّسام ، صديقي الأمريكي لليلة واحدة قبل أكثر من ربع قرن ! تنهّدت و أنا أجادل نفسي بسرّ كبير :"لا يُقاس الذكاء من الرأس إلى أخمص القدمين، ولكن من الرأس إلى السماء!" ، يبدو أنّكَ محقا فيما ترجمتُهُ لك يا " بونابارت " ، فعلا من الرأس إلى السّماء ، نعم من الرّأس إلى السّماء .. والله ! من الرأس إلى القيعان لا نتقدم أبدًا ! لما خلّصت لها معاملتها و انصرفت هي بدورها ، أتممت أنا ما جئت لأجله و تركت مكتب البريد و أنا أنظرُ ُ إلى السّماء مُردّدا في خلد اللحظة : "كل صباح يُبذر الله فيَ قصّة جديدة مُطعّمة من تفاعلات حياتي، و كأنّه بها يريدني أن أخضرّ لغيري و فيه حتّى يعتبرْ!".. و أنا اجتاز الطريق من خلال معبر المُشاة أتصادف ثانية بالعجوز الأمريكية ذاتها على متن سيارتها و هي تترك مركَن السيارات القريب من مركز البريد و تبتسم لي بلطف و تشاور مودعتني و المكان !.
***
-باريس الكبرى جنوبا
25/8/24



#لخضر_خلفاوي (هاشتاغ)       Lakhdar_Khelfaoui#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- *إرهاصات صباحية من قلب الخيمة: عليكم مشرقي و انعكاسي!
- *مثقال نَحلة!
- الشاعر : *شفاكَ الله يا ( رميلي) .. ابقَ ، تعافى أرجوك، فإنن ...
- -الطاهر وطار و ظاهرة ( استعمامه)!
- *نقطة ضوء مُنَرجسة : يحِلُّ لي أحيانا الغرور و يليق بي ..أمّ ...
- *سردية واقعية : الجانكي Janky و حرّمت أحبّك .. ما تحبّنيش!
- (لصّادة!)
- *شكرا لكم -تهانيكم - بمناسبة ( عيد مِدادي) !
- *أنا حزين يا ريح رسول الله !
- *ومضة من تجربتي الإعلامية ( في القرن الماضي ) : سيّدُ العِنا ...
- *كاريكاتور سياسي من الألفية المنصرمة: (الجزائر) و تابوت الشّ ...
- *أفكار مع آية: (المعروف )
- *من تجربتي الإعلامية و الأدبية الشخصية: -شِراك-، وطني، -العر ...
- -قصاصة من مجلّد نضال فكري و ثقافي و إعلامي .
- *إطلالة على الماشي : عن رواية (عشرية الخنازير الدموية و أسمد ...
- *أفكار في تجربة الكتابة: حتى تكون كاتبا متزنا و ليس حاوية نف ...
- *أفكار فلسفية وجودية من الحياة: هل أنتم أضعف من هذه النبتة !
- *سردية تعبيرية فلسفية: تَخيّلوا!
- *أفكار فلسفية: مُعضلة الجوارية العميقة و التعوّد في العلاقات ...
- *أسئلة وجيهة في تجربة الكُتّاب العرب: الهوس و التجنيس و عقد ...


المزيد.....




- هنيدي ومنى زكي وتامر حسني وأحمد عز.. نجوم أفلام صيف 2024
- “نزلها حالًا للأولاد وابسطهم” .. تردد قناة ميكي الجديد الناق ...
- مهرجان شيفيلد للأفلام الوثائقية بإنجلترا يطالب بوقف الحرب عل ...
- فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي ...
- انقاذ سيران مُتابعة مسلسل طائر الرفراف الحلقة  68 Yal? Capk? ...
- فيلم السرب 2024 بطولة احمد السقا كامل HD علي ايجي بست | EgyB ...
- أستراليا تستضيف المسابقة الدولية للمؤلفين الناطقين بالروسية ...
- بعد إطلاق صندوق -Big Time-.. مروان حامد يقيم الشراكة الفنية ...
- انطلاق مهرجان أفلام السعودية في مدينة الظهران
- “شاهد الحقيقة كامله hd”موعد عرض مسلسل المتوحش الحلقة 32 مترج ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لخضر خلفاوي - *من جديد سردي: *حقيبة المعطوب ! La valise de l’invalide / The invalids suitcase