لخضر خلفاوي
(Lakhdar Khelfaoui)
الحوار المتمدن-العدد: 7710 - 2023 / 8 / 21 - 03:08
المحور:
الادب والفن
سردية من الواقع
****
*(إلى صديق عزيز ، في كثير من المرات دون أي سبب و لا مناسبة و لا غرض يوحي إليّ الله بأعجوبة أن أقرئه السلام .. ما سرّ ذاك ؟! لا أدري والله !).
****
"… على خلاف فصل الصيف ، عهدتُ عند استيقاظي صباحا و أشرعُ بممارسة و بمفردي كعادتي طقوس التحضير في عجالة لفطوري الصباحي .. فعند آخر تفصيل للفطور يأتي دور أوائل طقوس يومي، فكأن حياتنا ترتكز أساسا على بواكير الأمور و الأشياء و عادة ما يكون الاعتناء بالبواكير و الحفاظ على تميزها و رمزيتها لدينا بالأمر الشائك حسب السياقات الزمكانية و النفسية .. أول فنجان قهوة و أوّل سيجارة من سجائري التي تعيد تعديل رصيدي من ( القطران)، أو القار الذي يثبته تبغي داخل أحشائي و عروقي.. سواد المادة السامة المدمن عليها وحده ما يجعلني أشفع لإدماني التدخين و كأني اعتبرها لون الحبر الذي -تلتهم- و تلتهب به أفكاري قبل عتقها في وظيفة زفيرية بعد استنشاقي المتكرر لذلك السواد الكميائي الذي تفرزه سجائري الوفية المصاحبة لحرقتي الفكرية المتواصلة دون هوادة !.خارج فصل الحرّ الفرنسي ( المُهنَّد) آخذ إذن فنجان قهوة ( الايسبريسو) espresso و طبعا الملازم كوب عصير البرتقال ثم أتوجّه إلى (كاراجي) الجميل بكل كوارث فوضاه و أشيائه المتراصة المتراكمة فوق بعضها في كل الاتجاهات لا أحد يعرف من أهل البيت أنّ أفكاري معظمها تحت تلك الأنقاض !. لا أشعر بالأمان و الراحة و التماهي حدّ النشوة إلا و أنا اخترق فضاء مرآبي، و كأنّي في كل لحظة ولوج فضائي الحميمي هذا أُبدّد كل قواعد "الفيزياء العامة و الكمّية" أتصوّرني اخترق مرآتا ليست ككل المرايا حيث يتداخل فيها النوع و المادة و الشيء و اللاشيء و المرئي و اللامرئي و الزمن بكل عتباته و النسبية و اللانسبية و اللازمن بكل ورشات السيناريوهات التي لم يكتبها الله أو كتبها و لم يكشف عن خطته و تفاصيلها لفرضها على المعادلة الوجودية بإلإضافة إلى "أنا و الفضاء" الخاص المضافين للحظة السريالية ذاتها ! كل هذا بسبب علاقتي الخيميائية التي هندستها و صنعتها بوعي و لا وعي ، بعقل باطن و بباطن ينتفي فيه العقل و عوضه القلب بكل المشاعر المُشرّدة ! كنت في كل لحظة طقس من هكذا طقوس أشعرُ على عكس عامة الناس أنّي الرجل الوحيد الذي يخترق المرايا و يسكنها و يرى تفاصيله و العالم اللامرئية من داخل هذه المرآة .. تخيًلوا حجم هبلي هذا و أنا أفكّر فيه حقيقة و صدقا عند كل عتبة أعتبها خارجا من الباب الخلفي للمطبخ و مارا بمبدأ الحديقة الخلفية و أتوغّل "كاراجي" أو محرابي المقدّس في أغلب فصول السنة. صيف باريس الذي نسميه أحيانا بسبب التجربة ( صيف هندي )، بسبب أمطاره الفجائية الرعدية كردة ضغط الطقس و الاحتباس الحراري في هذه المنطقة و هذه النقطة من العالم .. لا عجب إن كانت باريس و ضواحيها تفرض علينا مطرا غزيرا و انخفاض درجة الحرارة المحسوس في رمشة عين و ربما تستفز الفياضانات في عز أغزطس/ أوت ، لأن صراع الجنّ و الملائكة يحتدم بشكل صاخب و عنيف عندما ترتفع درجات الحرارة ، و يصبح إنسها الذي لا يعاني الاحتباس بل التسيّب في كل شيء لا يقاوم ( سطوة باريس صيفا ) .. يقولون عن باريس أنها ( العاصمة) لكل هذه الفتن، لكنها لم تعصمنا من معظم أشكال الاغتراب و الضياع و التسكع الفكري و التشرّد الهوياتي !.
أهيئ في هذا الفصل ركنا خارجا على مستوى حديقتي الخلفية بطاولته و كراسيه تحت خيمة خاصة استغله صباحا أو ليلا لاختلي بنفسي و بطقوسي ..
-وضعتُ كوب عصيري على الطاولة و فنجان قهوتي و استخرجت علبة سجائري لأنقّب من خلالها عن السواد الذي ستبتلعه أحشائي لتكثيف ( منسوب القطران أو الزّفت) القارّ في عروقي. بدأت لعبة الانتشاء و السرحان بين ارتشاف قهوتي و استنشاق دخاني و تأملاتي في المدى الواسع الآفاق بلا حدود يتجاوز حدود و سياجات بيتي المحيطة ..
قطعت خلوتي لبضع دقائق عائدا لداخل البيت لإحضار محفظتي ، لأني كنت استعد للانصراف و الخروج ، و عند عودتي وجدت ( دبورا ) أحمق يسبح في عصير البرتقال و يقاوم قدر الغرق المحتوم … فمن خاصية النحل و الدبابير حاستهم الاستشعارية المهولة الخارقة ل ( الحلاوة )!.. لقد راودت سكريات محلول عصيري الدبور عن نفسه و لم يقاوم و بدلا من تذوق العصير و الانصراف إلى شأنه ، آثر المغامرة و يريد أن يستمع ببئر ممتلئ بالحلاوة و اللذة ( المُفتْمَنة le goût vitaminé ) المتوفرة في كوب عصيري ..
كان هذا الدبّور يتخبط كالجان يريد الخلاص و يطير إلى حيث اليابسة و الهواء ، بعدما فهم الدرس متأخرا أن ( اللهاث وراء اللذة و الحلاوة قد يودي بحياته غرقا !) .. يموت المخلوق غريق الحلاوة و اللذة !..
فكّرت برهة و أنا أراه يصارع الموت لأجل استئناف الحياة ، ضحكت لمَا هو فيه من ورطة رغم أنه تحرّشَ بي و نقع في عصيري المدمن عليه عند كل صباح، لا لحلاوته أو طمعا في لذته ، لأني كفرت بملذات الحياة الفانية و فقدت مصداقيتها عندي عند سقوط أولى تفاحة في تاريخ الخلق قبل عقاب الطرد من الحلاوة و اللذة ، فلو استهلكت و غرفتُ كل محيطات العالم عسلا ما انْمَحت أو ما تلاشت مرارة الإخفاق الوجودي في حلق المعنى الذي لحق بي في كل هذا السفر بسبب إساءة عالمي لفهمي !.. بكل بداهة التفصيل كنت مجبر على تناول عصيري مع قهوتي عند كل صباح للتخفيف من نوبات ( الغثيان) المصاحبة لي في معظم أوقات عمري !..
قررت إذن مدّ يدّ العون للدبّور الغارق ، سبحان الله ، كأنه مقدّر عليّ طول العمر اسعاف الدبابير و النحل من هكذا معضلات .. اعتقد أن كل العينات ( الدبورية و النّحلية ) التي ارتطم مصيرها بتفاصيل حياتي اليومية من خلال قراءتي لها هي دبابير و نحل عاقة فسقت عن أمر و أعراف و قيم و قوانين مجتمعاتها ، ما كان لهذه الدبابير و لهذه النحلات التي مرت بحياتي و أسعفتها أن تضلّ و تقع في شرّ ضلالها كهكذا مصير و مطبات ، لأن من هداه الله فلا ضالّ له و من أضلّه الله فلا هادي له و لا عاصم يعصمه من أمر الله .. نعم اعتقد أن هذه العيّنات من هكذا نحل و دبابير التي فرضت تفاصيلها أن أقصها أنا في هذا المقام هي في الحقيقة أسوء و أشرّ مخلوقات ( شاذة ) كفرت بالعرف و القيم و القوانين أو المنظومة التي كانت عليها و سائدة في مجتمعاتها، بل فعلت مثل إبليس و تأبلست و كفرت بما أوحاه الله لها .. ألم يوحي الرّب إلى معشر النحل و أرشدهم سبيل الرشاد ؛ فلماذا شاذاته ضربْنَ الوحي الإلهي و التعاليم الوجودية و الأعراف عرض الحائط و غرتهم حياة المغامرة و العصيان .. هم أممٌ مثلنا تماما ، ربما أنا " المجنون" أو الدرويش الوحيد الذي يفقه سلوكها ..
و مع ذلك لم يرضيني أن أبقى متفرجا على غرق و موت هذا الدبّور المغامر الجرئ و المتمرد و فضلت أن أمحوَ السيئة بالحسنة و لو بمثقال نَحلة ، فأوّل ما تبادر لذهني لإنقاذ الدبور هو حمل ملعقة صغيرة و أخذت أجدف بها داخل موج ( الحلاوة و اللذة ) أحاول مَلْعَقة الدبور و استخراجه في أسرع وقت ممكن ، نعم ملعَقتهُ و أعرجتُ به إلى الفضاء و الهواء و أطلقت سراحه و كنت على ثقة بأنه سيتعافى مجددا و ينطلق محلقا وراء ( معاصي و زلات أخرى )، و يقع مرة و مرتين و ما لا نهاية في فخ ( الحلاوة و اللذة !)…
-كنتُ راضِ على نفسي أنّي لم أدعه يموت داخل كوبي ، فلو فعلت لأحزنني الأمر ، فموت الآبقين و العصاة و المتمردين و المجادلين في المعروف و الفضيلة و نواهي الله لا يغنيني في شيء و حياتهم لن تضرّ بصيرورة الكون وفق خطة الله ، فقط أشفق عليهم من ضلالهم و غرورهم .. ثم أن العلماء يقولون أن حياة البشر مرتبطة بوجود النّحل و أشباه بني ملّته !
-كنت أسير باتجاه وجهتي إلى المدينة و السوق الأسبوعية لهذا الأحد و أنا أردد من الحين لآخر في خلدي ( وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا/ ثم قول من أوحى إلى النحل و الدبابير : إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ/ كنت أردد ذلك من قلبي و أنا في أقسى و أسوأ حال !.. تذكّرت بأعجوبة مرة أخرى صديق عزيز على قلبي … قطعت خلوتي في تدوين هذه القصة و ألقيتُ عليه السلام عبر رسالة خاصة ثم عدت إلى خلوتي مع النص لأبحث عن قفلة له !الله يوحي للنحل و للخضر أيضا !.
*
-قرأتُ في بعض النصوص مزيج بين الأسطورة و الفلسفة في ثقافات عدة منها المسيحية أن (الروح البشرية ) المرتبطة بحياة كل فرد لها حجم لا يتعدى حجم ( نحلة ) .. أي هناك ( نحلة ) تتجوّل في جسدنا من الداخل عندما لا يحين أجلها و تصعد لبارئها .. شخصيا أنا من المصدقين لهذه النظرية على الأقل هندامها الفلسفي يروق لي، فما نسمعه يوميا دون انقطاع من طنين أغلبه مزعج فهي أرواحنا المتعبة التائهة .. و يتواصل ضجبج طنينها و قد يحرمنا حتى الراحة و النوم لأيام و أشهر و ربما على مدار قسط كبير مما كتبه الله لأعمارنا .. يتوقف هذا الطنين عندما تقرّر مشيئة الله تنفيذ ( خطته بكل حذافيرها) فيدعوها و يوحي إلى (نحلاته) الطنانة التي كانت تعيش و تحيا في دواخلنا و ذواتنا و تحرّكنا في كل الاتجاهات بأنه آن الأوان أن تعود إلى الدار الباقية و تصعد إليه فيسترجعها و يرثها !.
#لخضر_خلفاوي (هاشتاغ)
Lakhdar_Khelfaoui#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟