أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله خطوري - لَا شَيْءَ يَهُم















المزيد.....



لَا شَيْءَ يَهُم


عبد الله خطوري

الحوار المتمدن-العدد: 7692 - 2023 / 8 / 3 - 15:25
المحور: الادب والفن
    


●لَام ...

يبحث في آلساعات آلمتأخرة من الليل عن باب بيت نصف موارب يحمل علامات معينة نُعِتَ له من طرف أحدهم إثر قدومه العابر إلى هذه البلدة النائية. عليه أنْ يسرع تفاديا لأي مشكل يمكن أن يطرأ، لذا كان مترددا في آجتيازه هذا الدرب أو ذاك المسلك .. جعل يحدر رأسه يرفعه يديره في كل آتجاه متفحصا محترسا حتى خمن ضالته وجدها بمشقة عسيرة .. اقترب ابتعد دنا حام يذرع الزقاق الفارغ جيئة ذهابا وهو يدخن سيجارة رخيصة .. يداه في جيبي معطفه الأسود الثقيل .. لاهثا يزفر بخارا رماديا أحسه ساخنا يخرج من جوفه دون أوبة .. يجاور المكان بحرص يختلس النظرات في جميع الاتجاهات يترقب متوجسا يتحين لحظة مناسبة كي ... كل الأضواء معتمة .. عليه أن يقترب أكثر إذن .. لا تترددْ .. وقف قبالة الباب .. بدتْ حدوة الحصان الصدئة المقوسة المقلوبة أمام عينيه تغمز بخفر مستحثة إياه على التوغل على الدخول .. لم يدخل .. ظل واقفا يلاحظ غبشا أحمرَ باهتا يخرج من الداخل .. وكان هناك ظل صغير لِطَيْف ما يمرق عابرا يتكسر هنا هناك .. تحسستِ الخشبةَ المسطحةَ المهترئةَ المشققةَ يَدَااهُ .. أرخى السمعَ عله يسمع شيئا .. بشك وريبة وعلى مهل وبكلتا راحتيه دق دقات خفيفة جشاء خرساء بالكاد سمعَتْها أذنااه .. أحس لخشونة المطروق وخزا لاذعا .. ارتدَّ كملسوع إلى الوراء منتظرا ما سيظهر وأنفاسه تصعد وهادا تقطع فيافي لا نهاية لامتدادها، وطفق وجيب القلب يتسارع قدما إلى فوق إلى أعلى يدور يلف لفات كاملة .. بُووومْ .. يطرق طرقات عنيفة يصل صداها إلى قنة قحفه المتحفزة، فتخلف رنينا صاخبا كطنين طبل لا هواء في أحشائه .. مسح بضع قطرات من عرق سالت على جبينه .. سَوَّى معطفه بشكل جعله يغرق فيه أكثر دون أن يبدو من جسمه غير هامة ضئيلة كرأس عود ثقاب محروق .. وشرع الظل القادم من الداخل يكبر يكبر حتى وصل الباب فتحه، وإذا بها آمرأة أمامه .. نعم آمرأة .. لا شك في ذلك .. لحم ودم يتحركان .. كانت مكومة في بينوار منزلي قديم الاستعمال .. أكيد، هي آمرأة كباقي النساء على قارعة الحياة عرفهن أو لم يعرفهن، بقامة مربوعة وآبتسامة آخترقت ظلام العتبة لتستقر في كيانه تزلزله لثواني معدودات .. تراجع إلى الوراء .. نظر هنا هناك متنفسا بعمق .. حلق في سماء متلئلئة بنجوم لحظة، وآبتسم هو الآخر .. ثم بتوجس مارق دخــل ...

● أَلِف ...

كانت السيدة زليخة متجهمة الطباع مع سكان الحي، بَيْدَ أنها تتحول إلى مخلوقة ناعمة عطوفة عندما تلمح مُريدا ما بجانب الباب .. اُدْخُلْ آسيدي ادخلْ .. تحرص تقولها بصوت أقرب إلى الهمس كي لا يسمعها الجيران، فيدخل الداخل تستقبله بحفاوتها المعهودة .. تهش في وجهه آبتسامتُها النفاذة التي آحتفظت بها طيلة هذه السنين التي خلت من حياتها.وبدون مقدمات، تقبله على خديه رافعة أي كلفة مفترضة كأن بينهما معرفة قديمة، فيرتاب الواقف أمامها شيئا ما يعروه بعض الارتباك، وإذ تنتبه هي للاحمرار يعلو وجنتيه وللعرق يبرقع جبهته، تعمد إلى الفانوس الأحمر في الغرفة المظلمة الموجودة في أقصى ركن البيت، توقد فتيلته المنتصبة في حياء، فينبعث غبش خافت كشفق غروب بالكاد يضيئ بعض جوانب السرير يُظهر البطانية الرمادية واللحاف البني المصنوع من القطن والوسادة الطويلة المثبتة في شكل عمودي على غير العادة .. فِراش غير مرتب كأنه ظَلَّ اليوم كله مَسْرَحًا ترتع فيه القطعان والعفاريت بفوضى عارمة .. تتوجه عنده .. تعانقه .. تداعب شعره، تُخلل الخصلات المصفوفة كيفما آتفق ..

_ جُونيسْ مُونْ شيغْ تُوجُورْ جُونيسْ مَالغْري تُو جِي غْيانْ أَديرْ شباب يا عزيزي شباب رغم كل شيء لا ملاحظة لدي ...

تهمس باسمة تعاين تفاصيله تنظر بيقين إلى خريطته المغلفة المحاصرة بمعطفه الغامق الخانق..

_واش مَاجَاكْشِي الصهد .. / ألا تشعر بالحَر ..

راحت تعمد إلى خوالجه تخدش سكينتها بحركات عينيها وأناملها الجريئة، فيزداد آرتباك الضيف، وتتوغل هي في ضحكات صاخبة ضايقتْ مشاعره التي تتكدس في داخله دون نظام ..

_فاشْ كتفكرْ ازين انْسَ خَللِي الحالْ يَرْصَى .. / فيمَ تفكر لا تبالِ هدئ من روعك..

تمسك يمناه .. تضغط .. حساسيته مفرطة .. تتململ بآحتشام .. يدخل الاثنان الغرفة .. الفوضى نفسها .. كل شيء ملقى على عواهنه...

_اسمحْ لي أنا مْرُوبْلَة هاذْ الأيام ... / لا تؤاخذني إني لستُ على ما يرام الآن..

_......صمت........

_ما ديش عليَّا .. / لا تؤاخذني..

كان يشم رائحة نوم ورطوبة ومرق إيدام الدواز وشاي بائت وقهوة مهروقة على البوطاغاز وأشياء أخرى تنبعث من كل شبر في المسكن الكابي، من الجدران، من الأرضية، من السقف، من بقايا المتاع .. حتى إن رأسه طفق يلف يحوم حتى كاد يسقط لولا أن تداركته بقبضة من يديها ورجليها وكل جسمها، مجلسة إياه على السرير...

_مالك ؟؟ واش مريض ؟؟

_ .. لا .. لا ...

_ومالك آعْشيري ؟؟

_فقط .. غير .. اووف .. إنها المرة الأولى التي ...

وقطعَتْ كلامَه مهدئة...

_ .. لا عليك .. ما تكون غير على خاطرك آلبوجَادي (١) ديالي ..

ولما لم ينبس ببنة شفة، استمرت مزهوة

_هذه لَلَّاكْ زليخة وأجرك على الله ..
قْصَدْتيها بْحَالْ إلى قْصَدْتي الطبيب نْعَامْ آسيدي ..

بينما آستمر هو صامتا يطرق رأسه متراجعا منتكسا أمام جأش جرأتها اللامتناهية ...

_حَيَّدْ عليكْ ذاك المُونْتُو (٢) خذ راحتك .. أنا غادي نْجي دابا ...

قالت تضحك وآكتفى هو بترديد ..آآآ.. مختنقة في حَنجرته لا تعني أي شيء .. مجرد .. آآآ .. يصدرها وكفى ..

● شيــن ...

”نانا“ و “ إيفيتْ“ و “ إيما“ والأخريات ... عِشْنَ حياتهن وكفى .. لا شيء بعد ذلك يستحق الاهتمام .. أشياء العالم سيان .. والدنيا هي الدنيا مذ خلق الله الدنيا .. والبشر هم البشر والخير والشر .. لا شيء يهم .. هي مسؤولة عما تفعل كانت تقول لصديقتها .. حرة في تصرفاتها .. أفعالها وكل ما تهتم به أو لا تهتم .. لا شيء يهم .. هي تملك إرادتها في دنياها الصغيرة .. مسؤولة إنْ رفعتْ إصبعها مشيرة إلى الآخرين .. "كارنين" في سياقها الذي وُضعت فيه مسؤولة عن حركاتها الظاهرة وغير الظاهرة .. وإذا ما أدارتْ رأسها أو شعرت بالتعاسة أو دخنت سيجارةً "إيمَّا" أو أطبقت جفونها لا تريد أن ترى "شارل" زوجها الأبدي والقرية والعالم وما فيه تكون مسؤولة بإرادتها الخاصة .. المسؤولية ..؟؟.. ما هذا الشرود في الكلام ؟؟ إنها فكرة العتمة مرة أخرى تحلق في مخيلته مادة جناحيها العملاقيْن لتحجب عن حصافته الإجابة .. أنْ تعرف إجابة السؤال مشكلة عويصة في حد ذاتها تحتاج إلى عقل سليم ليحلها .. إنها مسؤولة كانت دائما .. وما ذنبي أنا ؟؟ هل أنا مسؤول عن كل ما يتعلق بي ولا يتعلق ؟؟ هل إذا فتحت فمي بالكلام أكونُ حققت بعضا من المسؤولية .. هراااء .. مجرد كلام حول كلام حول .. ومجيئي هنا في هذه الساعة المتأخرة من الليل هل أنا مسؤول عنه ؟؟ "نانا" قالت لنفسها تُحاورها إن المسؤولية هروب .. هل قالتها حقا ؟؟ والهروب نوع من المزاح السخيف .. وفي النهاية كل شيء يبدو جميلا .. آه .. قالتها نانا لإيفيت أكدتْ مرارا لها .. ماعليكِـ سوى أن تهتمي بالشيء وتشغفيني به حتى تجديه جميلا .. في النهاية .. كل شيء هو ما هو .. ولا شيء آخر .. نعم .. الوجه هو الوجه .. الإطْباق هو الإطباق .. الرجال هم الرجال .. والحياة هي الحياة .. وماذا بعد .. الإرادة المسؤولية الهرب والجَمال و ... ما هذا التشويش العويص في تشابكه ؟؟ أثمة لقاء وتلاقح بين هذه الأطراف التي تبدو متباعدة ؟؟ هل "إيما" كانت مسؤولة عن أفعالها ؟؟ عن توقها للتسامي ؟؟ للصعود فوق إلى الأعلى ؟؟ للخروج من شرنقة وجدَتْ نفسها مسجونة تختنق داخلها دون إرادة دون رغبة؟ هل كانت تهرب أو تسعى إلى تحقيق فكرة الجمال كما تصورها خيالها ؟؟ وكارنين والأخريات ؟؟ أووف .. ماذا يعنيني أنا من كل ذلك ؟؟ماذا يعتريني ؟؟ لمَ كل هذه الخواطر المبهمة الضاربة بعضها بعضا ؟؟ ما يهمني أنا هو أنا .. هل هذه أنانية ؟؟ لا يهم .. فلأَضْرِبْ كل شيء عُرض الفراغ، ولأنخرطْ في قوقعتي التي آعتدتُ العيش فيها دون فرضيات أو حسابات أو سفسطات واهمة .. هل هو هروب ؟؟ لا يهم .. فليس ثمة شيء يستحق كل هذا الصخب، كل هذه الرعونة، وكل هذ الهواجس الجوفاء ما هي إلا زبد فارغ على هامش معيش لا يدوم .. عن أي معيش أتكلم ؟؟ عن العيش عيشهم عيشنا عن وجودنا في الحياة .. أوووف .. اُصْمُتْ .. ما الحياة إلا حياة أوصافي .. هذا ماكان .. شْشْشْــ...

● ياء ...

فَكَّ رباط حذائيه بوَجَلٍ قَلِقٍ، ثم بقي جالسا على كرسي من خشب مسنَد جهة الحائط المقابل للسرير، ولما لاحظتْ توتره ووجومه، أقبلَتْ بتؤدة طوقتْه، وبآستدارة خفيفة من بدنها، كانت وإياه وجها لوجه .. أقعتْ على ركبتيها أمامه، وشرعت تحدق في عينيه مليا مربتة على كتفيه ...

_لماذا لم تزح عنك هذا المونْتُو؟

_ سأفعل

_ أتركني أنجز هذه المهمة...

أوقفَتْه، نضت عنه المعطف، وعلقته على مسمار مثبت في الحائط ...

_كم هو ثقيل

_....صمت....

_كيف تستحمله؟

_إنه يقيني البرد ...

_لا حاجة لك به الآن أنا هنا نْحَيَّـدْ من غزالي البرد هههااا...

أخرجتْ منديلا من مَخبإ ما في صدرها، ومسحتْ تلك القطرات العنيدة التي ما فتئت تمطر من رأسه ...

_مالك .. واش فيك السخانة؟

_كلا .. لكن .. أنا .. لَمْ .. يعني .. أقصد ..

_هَـااا .. أتريدُ أن تزعم أنك .. أششت .. ههه .. لا أصدق .. كلكم تدعون ذلك .. مساخيط الوالدين..

_إييه .. لكن .. لا .. ليس كذلك .. أقصد ..

_إيييه سيدي ومولاي لَم يعاشر آمرأة قط في حياته .. ممم .. الله يجعلني نثيقْ ...

_.....صمت.....

_ألا تعرف النساء ؟؟ ألك مشكل معهن ؟؟مع أجسامهن ؟؟ أتكرهها ؟؟ أتكرههن ؟؟ مْمْم ...

وظل صامتا وهو حسير، فبادرته مهدئة...

_لا تقلق .. لا عليك .. صدقتك .. تبدو عليك السذاجة .. كيعجبوني موالين النية بحال الدراري في يدي مسالمين خاضعين .. كل شيء سيكون على ما يرام .. غيرْ خوذْ راحتك ...

_المسألة أني أخشى أن أكون...

_لا تخش شيئا مادُمتَ جئت عند لالاك زليخة مُولاتْ لَبْوابْ المفتوحة .. أنت ضيفي الليلة .. فلا تهتم لأي شيء...

أمسكتْه من يديه .. ألصقته بالجدار .. اتكأتْ على جسمه تُطوقه تحضنه تقبله في فمه قبلة عميقة أحس لها خدرا غامضا لذيذا، وعلى إيقاع خطواتها البطيئة، تقدمت به نحو السرير .. أجلسته هناك .. سَوَّتْ المخدة .. قالت له .. خذ راحتك .. وآستغرق هو في صمته لا يبدي لا يعيد ... كان الضوء الباهت للفانوس يرسل أنوارا حمراء محتشمة على الجدران الزرقاء الداكنة المتآكلة، فينعكس ظلالا هلامية تتراقص ترتعش في الأجواء كأسماك خرافية تهيم بلا غاية في لجج البحار .. التفت إلى مضيفته، فألفاها وجها كابيا شاردا على غير عادتها، بيد أنها سرعان ما آستردت تلك الابتسامة المنفرجة قائلة...

_سأتركك الآن

_.....صمت......

_ارتحْ قليلا ..

_شكرا

_أخيرا تكلمتَ .. شي حْمِيِّيرْ مَاتْ فْشٍي بْلاصَا يا مُولْ النية .. عجيب لابد أن شيئا ذا بال وقع كي تشرفنا بالحديث

● همــزة...

تقصدُ المِرآةَ المعلقة في الحمام .. تنظر .. تتمعن .. تمسح آثارًا مَا، بَدَتْ لها على الزجاج .. تصفف شعرها .. تسوي فستانها .. تعمد إلى إبراز ما تبقى من فتنتها بعد سنين عديدة قَضَتْها في الكفاح بكل ما تملك من غال ورخيص من أجل ضمان لقمة عيش في زمن صعب جدا .. في البداية _ والحق يُقال _ لم يكن دافعها إلى ذلك كسب الرزق، وإنما نزق الشباب وشيء من شبق أحست به وهي بعد فتاه، فكانت أولى مغامرتها مع آبن البلدة القريب من منزلهم في قرية الجبل النائية عن المدينة .. كان يحبها، ذلك ما قاله، وهي صدقته، وكيف لا تصدقه وهي كانت في أمَسِّ الحاجة إلى سماع مثل ذلك الكلام الجميل الذي يُتَوِّهُ القلب والعقل معا يتفوه به شاب وسيم يافع قوي مليئ بالحيوية يهصرها بين أحضانه، فتُحِس نفسَها محاصرة بحنان طالما آفتقدته في طفولتها .. كان يحسن معاملتها .. معه، تنسى العالم وما فيه من نكد .. تسافر بين ذراعيه تجوب المزارع والأدغال في غفلة عن الرقباء .. كانت عيناه أول شيء لفت نظرَها فيه في كل لقاءاتهما .. سوداوان بِهالة من وَميض وألق نفاذين .. ينظر إليها تلك النظرة الخاصة الفشي شكل، فيتزلزل كيانها كله .. كانت سهاما، بل نبالا، بل شُهبا من نار ونوار تخترق أحشاءها كمُدًى حادة تستقر في شغافها بردا وسلاما .. لقد كانت مجنونة بهما به وبكل ما يحفه ويحيط به .. تلك الأيام الأولى من الوله الأول مرقتْ سريعة خاطفة وسعيدة .. ناولته ما أراد، وأخَذَتْ ما كانت تصبو إليه .. شاب يهتم بها يعملها كإنسانة من لحم ودم وشعور يناجيها يُشبع رغبات مكبوتة في جسدها ماذا تريد أكثر .. معه، أدركَتْ معنى العتق من حصار الشرنقات القميئ، وكيف يصعد المرء قمم الأعالي حيث الوعول والخيول المتوحشة تتعالق والأتربة المصهدة بحَرِّ الشموس والأشجار العملاقة .. هناك يمكث ردْهًا من الزمن منتشيا بأفياء القرمز والبهاء، يغني مع الحساسين، يرقص والماعز البري، يغوص في غيابات السدف غائبا عن هذا العالم وأشيائه السخيفة .. أحبك أحبك أحبك .. كانت تهتف لاهثة منتشية بكل قطرة من عرق تنهمر من صدره على نهديها النافريْن يا حسراه كان يعصر حلاوتها مثل برتقالة طازجة طرية مشلحة بها مزازة بطعم خاص يضعها بين حقويه يضغط يرتشف رواء آلصبا الذي لن يعود يدفع يهوي بكل ثقله إلى الأسفل ثم يصعد من جديد إلى أعلى عليين يسمو فتمسك هي بأغصانه تتشبت بوريقاته الملقاة بسخاء على الضفاف والحوافي والأودية والجرف بين مد وجزر تعلو التلال تنحدر تتموج بسلاسة متوحشة غاضبة جائرة ساخطة .. كانت الدوائر القرمزية تطفر من عينيها المغمضتين، وكانت السماء تضحك والبدر يغني وجناديب المساء تعزف لحنا رائقا شيقا .. نداوة بدائية آسْتَشْعَرَتْها بِلَذَّةٍ غريبة كحُلْم آلمعتوهين كنشوة اليرقات تزيح غشاوتها تحلق طيرانها الأول بأجنحة الحياة ترفرف .. آآه .. كَـكَرْكَرَة الصغار الذين لا يأبهون بمشاكل الكبار ومتاعبهم .. أحبك أحبك أحبك .. ذلك الصوت الجامح الثائر يخرج من أعماق أعماقها منتصرا ظافرا بعد أن أنهكه الغرق في سراديب المتاهة .. خَدَرٌ كالسكر كالشهد كالعسل نَمَّلَ كل شبر في جسمها الفاتر، فآستسلمتْ للدوار يغشيها في يَم في ضباب في غبش لا تتبين فيه أي شيء .. ما أحلاها ظلمة تغطس فيها العيون لا ترى غير مُقلٍ تتلولب تدور تستدير تغوص تَعْرُجُ بلا هداية تستكين في عَمًى رغيد لا يَرَى لا يُرى تنام في دَعة هناك تشط في الغياب لا تؤوب أبدا .. كل شيء كان في بدايته .. الفتوة البأس الجأش العنف العنفوان وصولة الانتشاء .. لقد مضى كل ذلك الآن، لكنها غير نادمة .. لقد عاشت لحظتها كفَراشة بربيع قصير في أويقات خاطفة مع رَجُلها الأول ستظل عالقة بذاكرتها لا تبرح حناياها .. إنها الإشعاع والبريق الوحيد في حياتها .. أوووف .. غير أن الأمور، بعد رحيل العزيز الغالي إلى البلد السحيق، انقلبت على رأسها وحدها بعد أنْ نجح هو في الحصول على أوراق خولتْ له أن يصبح فاكَنْسِيًا (٣) يزور البلدة صيفا فقط، ويطوف في أرجائها مزهوا بريشه الجديد كديك رومي سخيف، بينما ظلت هي الدجاجة دجاجة وكفى .. فمثله يستطيع إدراك ما يريد من شقراوات وحسنوات، فكيف ستثيره آمرأة بلدية محنطة في قشرتها الغليظة كبطيخة خريف أدركها آلبوار .. لكن، رغم كل ما حدث، فهي ليست نادمة على حتى حاجة .. بالزعـط .. قالت للمرأة الماثلة كالشبح أمامها .. حركتْ كتفيْها بطريقة لا مبالية .. تنفسَتْ بعمق .. هي أشياء تحدث وكفى .. بالزعـط .. الله يلعن بوها همـزة هادْ الدنيا وخلاص ..

●يـــاء...

إنها تعيش حياتها .." نانا .. إيفيت .. إيما .. كارنين ..." .. ووو الأخريات اللائي بدون وَسم أو آسم .. يعشن حياتهن .. لا شيء بعد ذلك .. والمسؤولية والجمال والهروب والإرادة .. تبا .. لا أريد التفكير لا أريد خواطر تقتلني .. هل كُنَّ مثلها بدينات مترهلات ؟؟ بالتأكيد لا .. الجمال يلعب دورا هاما في بلاغة الكلام ومنحوتات الجبص والإسمنت والنحاس والخشب .. كلهن فينوسات فقدن أو أريد لهن أن يفقدن بوصلة الطريق .. لاحِظْ أنكَ تهرب إلى الجَمال من جديد .. فأنت مسؤول إذن عن هروبك هذا .. فتحمل الموقف كما يجب .. لا يهم .. أنا لا علاقتي بكل هذه الهواجس .. إنها كانت جميلة .. كلهن كنَّ كذلك .. ولولا ذلك لما توفر ذلك الشرط الأساس في علاقاتهن في نهايتهن في مأساتهن .. إنه الخيط الذي يجتذب الآخرين لهن، شعاع نور يحرق كل من يقترب منه .. هو شيء ضروري في حيواتهن .. إنه نسغ يرفع قيمة السخاء والكرم ويجعل "نانا" أو نظائرها يرتقين في سلم الوضاعة إلى أن يصبحن من ذوي المال والنفوذ .. وضاعة ؟ أقلتَ وضاعة أم تراك قلت كلمة أخرى ؟؟ ها أنت تصرح أخيرا بمشاعرك بعد لف ودوران .. مثلك مثل أي قرد بهلوان يخوض فيما يخوض ثم .. تفْ تفْ .. يمضي لحاله كأن شيئا لم يكن .. لقد ظللتَ طيلة الوقت تراود نفسك على كون المسألة كلها لا تصل إلى هذه الدرجة من الانحطاط .. وما بال هذه الدرجة ؟؟ وما دخل الانحطاط هنا ؟؟ لِمَ هذا التوصيف ؟؟ أهذا الوضع حقا هو الدرك الأسفل من كل شيء ؟؟ هل _فعلا _ الأمر كذلك ؟؟ وإنْ كان كذلك، فمَن صنف هذه الأوضاع بهذه الشاكلة؟ من المسؤول عن ما حدث ويحدث ؟؟ مَنْ جعل هذه المترهلة أمامه تعيش مثل وضعها هذا ؟؟ وبأي حق يجوز له أو لغيره أنْ يخوض معها غمار علاقة عابرة بالكاد تكون حميمية لمجرد قتل نزوة طرأت في الرأس سَبَبُ المصائب هكذا كنكتة بائخة تَمَّ آبتكارُها على حين غرة وسرعان ما طواها النسيان بمجرد أن تُحْكى .. أَوَبَعْدَ كل ما ألفتَه طوال تلك السنين المحسوبة من عمرك الفاني تتحدث عن مثل هذه الدرجة .. هذا الدرك .. ؟؟ .. ألستَ غارقا حتى يافوخك في هذا السعير ؟؟ ألا توجد الآن هنا معها ؟؟ فكيف تُسوِّل لك نفسك الحكم عليها عليهن ؟؟ مَنْ أنت ؟ما تكون ؟ ألا يجدر بك أن تبدأ بنفسك ؟ماذا تفعل هنا في غفلة عن الجميع ؟ ألا تمارس آختلاسا وسرقة موصوفة للحم آدمي لمجرد أنه بمقدورك صرف قدر من المال ؟؟ أبعد كل هذا تجرؤ أنْ تنعتها ب ... تبا ... بأي حق تفعل ذلك ؟؟المسؤولية مرة أخرى .. "نانا" عاشت حياتها .. والأخريات كذلك .. كلهن غطسن بإرادتهن غرقن لم يندمن، لا لشيء إلا لأنهن آخترنَ مصيرهن في زبانية حمى الحياة التي تطوقهن من كل جانب .. فلتعشْ حياتك أنت الآخر دون لغط دون ثرثرة دون رغوة كلام فائض عن الحاجة دون أحكام مسبقة أو مؤخرة يغدقها عقل مهيض واهٍ متعب تالف بين ما لا يتآلف وينسجم .. إنها تعيش حياتها وكفى .. هي مسؤولة .. هو مسؤول .. وليس ثمة شيء يستوجب الحشمة والعار أو ما يشبه هذه الهرطقات الجوفاء المبتذلة لكثرة ما لاكتها الحناجر وتشدقت بها الألسن .. فلتصمتْ .. لتتركْ خلق الله لخالقهم .. لتدعْ نفسك تسير والزحام يجرفها التيار أنى يشاء .. لا شيء يهم .. لا شَيْــ ....

●هَــــاء...

زليخة آمرأة آعتصرها الشوق .. أخذها بعيدا ولم تفكر .. طوقها الانسحاق ولم تمل من الاستمرار .. يوجعها الآن عهدها الغابر كمطرقة صلبة تهوي بقوة وعنف تطرق دُسُرا غليظة في رأسها جهة اليمين جهة اليسار وسط الناصية مخلفة ثقوبا غائرة وآلاما مبرحة لا تستكين إلا بعد أن تتجرع ما لم يطب من الأقراص المهدئة .. هي لا تفكر .. لكن رأسها يؤلمها .. لا يهم .. لا بد يكون هذا مرضا فحسب .. هذا ما كان .. لا يجب الاهتمام بأي شيء الآن .. عزيزها الغالي راحت أيامها معه أووف غبرت في مدارج النسيان .. لقد نسيها رماها كخرقة هدب مهملة مهلهلة لا تستحق أدنى آهتمام .. لفظها كنواة مقرفة راح الريح يلعب بها يذروها دون ينتبهَ لاستغاثاتها ونداءاتها المتكررة .. أصما كان .. بَخخخْ .. لقد تغير .. فقدَ جميع أحاسيسه بسفره هناك .. ألقى بها وراء ظهره تماما كأن شيئا لم يكن .. بيد أن هذه النواة المبصوقة تمكنت أن تغرس نفسها في رحم الأرض .. في أعماق أعماقها .. تستكين هناك لحظة حتى إذا سقطت قطرات من مطر من رذاذ آستطاعت أن تخرق بقواها الواهنة القشرة لتستحيل نبتة خضراء يانعة قوية ترنو للشمس للنسيم مرحبة بالجداجد الحمقاء والنمل الزاحف واليعاسيب الطائرة والجراد الهائج، لا يهم، ليَأتِ مَنْ يَأتي يلقح أفوافها المفتوحة أبدا، وليفعلْ ما يشاء، لن تبالي، لقد مزقت الشرويطةُ المهملةُ المكفنةُ أطمارَها ساخطةً متبرمة تفتح الأبواب المواربة والنوافذ الموصدة للمريدين يقطفون من عسيلتها ورودا وأقاح .. لا شيء يهم .. فقط هذه اللحظات الشيء الوحيد الماثل أمامها الآن حقيقة واقعا تتحداها لتعيشها وإلا غطتها أتربة آلسنين برغامها، فلتتوغل في دناها الدنية دون تفكير .. لقد تركت كل شيء بعيدا لْهيهْ هناااك في باديتها القصية، ومضت قدما إلى الأمام تعيش حياتها كيفما أرادت الأقدار بَللِّي جابَتْ الوقت رغم كل ما قيل يُقال .. لا يهم .. اعتزلت الجميع .. ظلت وحيدة لمدد مديدة .. لا أحد مَدَّ يد العون .. الكل آعتزلها .. نظروا إليها بآزدراء آحتقروها وسَمُوها بجراحات عميقة .. ألسنتهم كانت سما زعافا .. عيونهم قرطاس .. قلوبهم غل يعشعش في ضغينة لا تكل .. إنهم لا يرحمون .. فكان لا بد لها أن تغادر ...
في أيامها الأولى بالمدينة الجديدة، تعلمت أن تحك جلدها بظفرها، وتعلمت أشياء أخرى .. اشتغلت هنا هناك .. أعمال متنوعة لا تحصى، وفي كل عمل تكتشف جديدا .. تدرك المعاني على حقيقتها وليس كما كانت تبدو لها في القرية السخيفة .. وآستخلصت تجارب جديدة .. وفي النهاية، ضربت كل عاداتها السابقة عُرض الهواء وقالت .. يا نفسُ هيتَ لك .. كان ذلك في السنين الأولى .. أما الآن، فقد ألفتْ شغب الدنيا بنت الكلب .. حتى الناس كفوا عن الكلام، على الأقل في حيها العتيق الذي آستغرقت فيه بعد طول رحيل .. لا يهم .. كانت المِرْآة أمامها كابية محَجَّبَة بهالة من ضباب وبخار يتصاعد من الغلاية التي يفور فوارها فوق وابور الغاز .. أسرعتْ فأغلقتْه .. يجب أن تنسى هذا البارزيط (٤) الذي ينخسها من حين لحين .. أن تهتم بنفسها تعتني بصحتها، لكن المَرْأة الماثلة أمامها تنبئها بغير ذلك تماما .. لقد أضحتْ آمرأة مشروخة لم تَدَعْ لها السنون حتى باشْ تْخَللْ سنانها .. بخْخخ وفينْ هوما السنان ههه .. ها هي الآن بعد كل هذا العمر تلفي نفسها والمِرآة وحيدتيْن .. حتى هذه المرآة ضجرت من غضونها التي آنتشرت في جسمها كالحيات .. فلم يعد الردف ردفا ولا النهد نهدا .. لقد أخذوا كل شيء وتركوني .. كانت تتحسس ما تبقى لها من جسد مرتخ بحسرة وأسى .. صَدْر هرم متهدل أضناه الإرهاق .. عُنْقُداها طُرْطُبان فارغان متدليان كخفاشيْن أعْورَيْن مقرفيْن تستعين بأقمشة تكومها على بعضها كيْــ .. أووف .. جلد فقدَ نعومته أمسى هيدورة تتزلع أحشاؤها من يوم لآخر تتفرق تتقطع .. جِيدٌ رخو كبطن ضفدع المجاري فقَدَ حتى قدرته على النقنقة البغيضة .. بطن فضفاضة عجينة آجتاحتها طبقات من الصقيع المتراكمة عبر الأحقاب .. فمَنْ يقبل بهذه السلعة الكاسدة .. إيييه كْصِيدَة نْتِ بَحْلَقْ فِيَّ مزيان ماعرفتينيشْ (٥) .. يا ويحها لم تعرف بعدُ معنى الاحتواء، معنى الحركة التي تخرق أحشاءها تخلف فيها زلزالا طوفانا من أعاصير تشعرها بالأمومة .. أووف .. أية أمومة .. هراء .. بالزعط .. نفضتْ رأسها بحركة خاطفة مستعجلة .. رشت على وجهها ماء .. ارتدت ملابسها على عَجل .. صفتْ شعرها المصبوغ بالحناء .. لفته في فوطة .. عدلت ما فضل من زينتها تجرعت قرصا آخر أغلقت باب الحمام وراءها وهي تبتسم .. لا شيء يهم ...

●مِيـــم...

_ .. مممم مالك ؟؟

لاحظَتْ عينيْه تجثمان على رأسها، فأوضحتْ ...

_إنها الحناء .. أظنك تحبها .. هه ..

ولمَّا لم يجب كررت سؤالها، فرد ...

_بـلا ..

_ إذن تعال ...

أمسكته من زنده تروم معانقته ثم أدنته منها حتى جعلته قربها مباشرة لاصقا بها، فغمرته بقبلات في وجهه أحسها دافئة برائحة الحناء والحمام .. وتعالت في أحشائه أصوات طفل جالس في حوش بيت قديم في عهد قديم .. كانت النسوة جالسات أو على ركبهن مقعيات يشكلن دائرة حول وابورغاز موقد لتدفئة طست ماء قصديري تتصاعد منه ابخرة جعلت ضوء المكان ضبابيا أقرب إلى العتمة حتى آستحالت فيه الرؤية .. كان الصغير غارقا في الضباب .. عيناه لا تبصران غير خيوط متقاطعة متشابكة تسبح أمامه يضرب بعضها بعضا .. فقط خيالات نسوة يثرثرن في شؤونهن الخاصة والعامة .. اقترب من ضحكاتهن المتعالية ومن المكان برؤوس أصابع محترسة كي لا يسقط على الأرضية المبللة وكي لا يثير آنتباههن .. كان يعلم أنه يختلس شيئا ممنوعا عليه .. كيف أدرك ذلك ؟ ليس يدري .. كل ما يذكره الآن أنه رأى سيقانا مديدة مزغبة بزغب خفيف، فأحس أنه آنكشفت له عوالم أخرى لكائنات من الخرافة غير تلك التي آعتادها .. وهو الآن يشم الحركة المخاتلة نفسها .. الرائحة نفسها .. حتى الرأس الملفوف بالفوطة بدا له واضح المعالم .. متقدما ظل يستزيد من المشهد حتى باغته ذاك الرأس الباسم لائما .. سيرْ آوليدي تلعب .. وأوْصَدَ الباب .. زززييوْ .. في عينيه .. غير أن يدًا بضة فتحته معترضة .. قَشُّـووو مَمُّو .. كانت إحداهن تضع يديها على وجهها .. قَشُّووو .. تهمس أكثر من مرة مرحبة مبتسمة ضاحكة .. مازال صْغيوَرْ آجي آلغْزِيوَلْ ديالي ادخالْ .. فيستمر الصغير مسمَّرا في مكانه أمام المرأة التي تستدعيه وأمام عيني أمه الآمرة بالابتعاد .. ولما لم يدر ما يفعل عالجتْه أمه بصفعة صغيرة خفيفة على خده الصغير لازال لحد الساعة يحس لها خدرا ودوارا بلون الرصاص إذْ يُصهر على درجة عالية ...

قالت نانَا .. لماذا لا تتكلم ؟
قال الرجل .. لا .. لم يقل شيئا ..
قالت نانا .. هل أنت عاطفي ؟
قال الرجل .. وأنتِ ؟
قالت نَانا .. لا يهمني الأمر
قال الرجل .. لماذا ؟
قالت نانا .. تعودت على هذه الحياة
قال الرجل .. والآخرون ؟
قالت نانا .. هم هناك يغدون يروحون كالعادة
قال الرجل .. وأنت ؟
قالت نانا .. أنا هنا الآن معك
قال الرجل .. والحب ؟
قالت نانا .. لا أعرفه
قال الرجل .. والعاطفة ؟
قالت نانا .. كلام زائد عن الحاجة
قال الرجل .. وعملك ؟
قالت نانا .. هذا شيء آخر
قال الرجل .. كيف ذلك ؟
قالت نانا .. إنها مهنتي .. لقمة عيشي .. رغبة ملحة في الاستمارار في العيش تودي بي بعيدا .. تنسيني كل شيء ..
قال الرجل .. كل شيء ؟؟
قالت نانا .. نعم .. اعطيني نقودا ..
قال الرجل .. خذ ماشئتِ
قالت نانا .. لو أعطيتني نقودا أكثر، يمكنك أن تبقى هنا
قال الرجل .. معكِ
قالت المرأة .. نعم
قال الرجل .. هذا شيء جميل
قالت المرأة .. نعم هذا شيء جميل

●لَا شيءَ يَهم ...

كانت الصور تترادف، يتلو بعضها بعضا لتخلف في قلبه مذاق حمام ورصاص وصُهارة وأنفاس أطياف هلامية تختلط لتشكل مزيجا غريبا من روائح مختلفة .. قال .. هذا شيء جميل .. قالت .. أنتَ للي جميل يا نور عيني .. فآنتبه لها واقفة أمامه منتصبة بقميص مضغوط مفتوح الصدر على شكل هلال سميك في نصف آستدارة .. زنداها عاريان يبرزان زغبا خفيفا بالكاد تُرَى منابتُه .. طعم الرصاص .. حمرة الرغبة .. بداية اللوعة .. والطفل الصغير التواق لمعرفة أشياء ظلت مبهمة عنده لزمن طويل .. التجربة كل شيء .. في ذلك الوقت لم تكن له الفرصة ليعرف الكثير والكثير .. سير آولدي تلعب آجي آولدي تلعب قشُّوو .. وبينهما ضاع الرأس وما حَوَى .. ماتت أشياء جميلة قبل ولادته .. تعال .. كانت تناديه .. انظر يا حبيبي تفرجْ على للاك زليخة، وبحركات حلزونية راقصة آنسيابية سلسة راحت تميط الحزام تنضو ملابسها قطعة قطعة وعلى مهل تخلع الكسوة المزركشة بألوانها الفاقعة، وكأفعى مدربة سارت تنساب تتدلل تُقَشر جلدتها الشتوية تتنفس أنفاس صيف جديد أزاحت البقية وتركت آخر قطعة يلتهمها فضوله المتزايد .. كان صامتا .. قالت مشيرة إلى ما تبقى .. هذه سأتركها لك .. ولم يتكلم .. فقط ترك لعينيه حرية التيه في تضاريس جسمها الماثل أمامه بتفاصيل السنين المنتشرة عبر مساحاتها المتزلزلة في الظلال .. من فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق يتفحص رأسُه المسافرُ خمائل هات الشعاب تائها لا يرسو على بر .. اقترب منها بآحتراس .. شجعَتْه ممسكة بيده التي جعلتها تمتد إلى ما تبقى تخلعه هو الآخر بحركة بطيئة متثاقلة بدأ رأسه يدوخ يتشمم رائحة حمام بلدي ساخن وبؤبؤا عينيه يدوران كدوامة ريح تالفة حتى ألفى نفسه ساقطا مغشيا عليه وسط أدغال مثلث الفجيعة خَرَّتْ قواه ضاعت تلاشت ذابت آنهارت تفسخت كل مكنوناته هناك لفترة آمتدت أحسها كالأزل .. سير آوليدي تلعب آجي آوليدي قشووو مازال صغيرا أتركيه ...

_مومو عيني

_......صمت.....

_ غزالي

_.......صمت.......

_إني أتكلم معك مالك لا ترد ؟؟

ولما لم ينطق، عالجته بصفعة خفيفة على خده أحسها دوارا بلون الرصاص إذ يُصهر على درجة عالية ...

_ أمي أنتِ هَــاااا...

_ أنا للاك زليخة وأجرك على الله ههه

وشرعتْ تضحك صاخبة مقهقة عابثة ...

قالت نانا .. يضايقك أنْ أنظر إليك ؟
قال الرجل .. كلا
قالت نانا .. يبدو أنك تشعر بالضيق
قال الرجل .. كلا على الإطلاق
قالت نانا .. وما الذي تفعله ؟
قال الرجل .. أقـــرَأ
قالت نانا .. لماذا تفعل ؟
قال الرجل .. لأنه عملي

قالت المرأة .. ما بال حبيبي كيدخل ويخرج في الهدرة ؟؟

_أنـــا ؟؟

_وشكون .. أنـا ؟

_لا شيء

_كيفاش لا شيء ؟ تظل ساهما صامتا وعندما تقول كلمة تطلقها ألغازا وحجايات غير مفهومة ...

_أنـا ؟؟

_نعم .. يا حبيبي إنك تخرف

_همممم

_واش مريض ؟

_ممكن

_لا عليك .. مادمت جئت عند للاك زليخة فستكون على ما يرام الدخول عندي كالدخول عند الطبيب ...

_ ممكن

وراحت تهدهده يمينا يسارا في رقصات هادئة يهتز لها جسدها العاري، وآنسابت يديها تزيل عنه ثيابه قطعة قطعة حتى أصبح طفلا صغيرا في حِضن آمرأة تستدعيه كي يلعب كي تفحص أمراضه المختبئة آنَ أوانُ إخراجها من رأسه المريضة .. آجي تلعب .. سيرْ آش جاي تديرْ هنا بَعَّااادْ .. لاشيء يهم .. حملتُ جسدي المخبول إلى بلد الثلج حيث الحمى بالمجان واللوعة مبعثرة بالتقسيط وضعتُه بين يديها تفعل به ما تشاء .. قالت .. هذا لا يساوي فلسا .. قلتُ .. عيناك غابتا نخيل وقت السحر ..غنّتْ .. سولتْ عليك العود والناي .. أجبْتُ .. يكفيني شيئا من السُّكْر كي أغرق في أمواجك المتلاطمة أتيهُ أضيعُ أتلفُ .. وضحكَتْ المغناج ضحكا كالجنون .. انتشتْ لاهثة .. هيتَ لكَ .. زفرَتْ .. لا شيء يهم الآن .. أردفَتْ .. أنتَ ضيفي الجميل .. قلتُ .. في عينيك يعشعش القمر .. غنتْ .. المحاين الفقايص .. همستُ .. اليوم خمر وغدا خمر .. قالت .. إيتوب على المكتوب .. ثم رجَعْتُ منحدرا من عندها وآثار أنياب هرة شرسة في عنقي .. وحملتُ جسمي مرة أخرى وأخرى .. أدمنتُ الصهود والانحدار .. أدمنتُ التلف والدوار والفوار وعبث الانصهار .. لا شيء يهم .. كنتُ أهوى البصق في جوف قطط الليل البهيم وسحق الفراشات المزوقة على عانتهن المزغبة بغبش خفيف .. وكانت تراقصني على نغمات وَرِّيني وحشكْ آلغابة .. ورددتِ المرأة اللازمة بضحك هستيري نابحة ككلبة ضلت طريقها عن القطيع .. هَـااوْ هَــاااوْ ...

_إنكِ تحسنين الغناء

_عادي

_إنكِ تحسنين الرقص

_هي طقوس مهنتي

_والحب؟؟

_إنكَ تخرف يا حبيبي...

ولما هم بالكلام، بادرته يمناها على فمه .. شششت .. اصمت يا صغيري اترك للاك تعمل عملها .. بينما كانت اليسرى تدغدغ فسيلته المدماة .. مُدْ يدّيكْ نْحَنِّيوْلَكْ (٦) .. آلحجام عار عليك آوليدي بين يديك (٧) .. رَاهْ يْحَوَّمْ كِيفْ طويرْ (٨) .. ثم طار ما طار من هناك لم يعد يذكر غير أشياء حمراء شفافة وقانية بشششْ تنبجس خفاقة فوارة رشراشة .. اقبضْ مزيان شد عنداكْ .. سمعهم يقولون .. كانت يد تحز تقصل تقطع تبتر والسوائل حامية تتدفق لا تنقطع .. هزوووه صافي .. باش عمرو ما تعاود سمعَ مرارا هذا دواك واللهيلا عَبْرُو عليك إيوى رد بالك مرة اخرى عنداك ... وآستلقيا بتثاقل على معترك الثيران إياه، وأخذتهما غفوة وآهات تشرع أبوابها للعناق يفعل فعله في غفلة عن ما يهم ولا يهم ...

قالت نانا .. أتترددُ كثيرا على هذا المكان ؟
قال الرجل .. كلا .. بل في بعض الأحيان .. اليوم مثلا .. أتيتُ بالصدفة ..
قالت نانا .. لماذا تقرأ ؟
قال الرجل .. قلت لكِ إنها مهنتي
قالت نانا .. آه .. فعلا .. لقد نسيت ..
قال الرجل .. أنتِ ذات حظ عظيم ..
قالت نانا .. لماذا ؟
قال الرجل .. لأنك تنسين ..

قالت المرأة .. الله يشافيك ..
ولم يقل شيئا الرجل، فقط آستغرقتْ عيناه في آنسدالهما، وخاطبته مرة أخرى، لم يجب .. قالت في نفسها .. نام المسكين .. لاشيء الآن يهم .. حتى هذا الجسد الذي هو جسدها صار شيئا مألوفا عندها أنْ .. ممم .. يفعلوا في خريطتها ما شاؤوا، فقد أضحت مستنقعا ترتع فيه تماسيح أمخاخ السكارى المنخورة بعد كل هذه السنين .. كثيرة هي الأيادي التي لعبت تلعب وستلعب مقابل شكرا مقابل أوراق بقشيش يلقى ما بين لوعتها الغائرة دون آكتراث ..اوووف.. ما عندي ما ندير لا خيار لدي سوى النسيان .. نانـا إيما كارنين مسؤولاااات .. هي كذلك .. لا شيء يستحق الاهتمام .. بالزعط .. للاك زليخة هاذي وأجرك على الله .. الدنيا هي الدنيا الكلاب هم الكلاب .. هي مسؤولة عن حركاتها عن سَكَناتها عن مصيرها الذي يمكن أن يكون كالزفت في قرينة الكحلا التي تعيشها .. وما ذنبي أنا .. هراااء .. لا داعي للتفكير كثيرا .. لا داعي باشْ نْرَدْ لْقَلبي (٩) .. فالعاطفة لا تساوي ولا تداوي مجرد زبد كلام لا غير ...

قالت المرأة .. لا تتكلم ..
قال الرجل .. سأصمت ..
قالت المرأة .. الحياة هي الحياة ..
قال الرجل .. اصمتي ..
قالت نانا .. إن المسؤولية هرب والهرب نوع من المزاح السخيف وفي النهاية كل شيء يسير كما أريد له أن يسير لا شيء يهم ...

_تمت

_إشارات:

* (نَانَا Nana) شخصية في فيلم"لِتَحْيَ حياتها "إخراج الفرنسي" جون لوك غودار" عام 1962، استمدها من رواية لإيميل زولا بعنوان يحمل آسم شخصية “نَانَا Nana“ دون أن يعيد إنتاج الحكاية نفسها ..
* Nana personage du film Vivre sa vie de Jean-Luc Godard (film, 1962) Film en douze tableaux
* (إيفيت) صديقة (نانا) في فيلم غودار
* (إيما بوفاري) الشخصية الرئيسة في رواية (غوستاف فلوبير) تحمل الاسم نفسه
* (كارنين) شخصية (تولستوي) في روايته “آنا كارنينا“
١_آلبوجَادي : غر عديم التجربة
٢_المُونْتُو : المعطف
٣_فاكَنْسِيًا : عاملا بالخارج
٤_البارزيط : دارجة مغربية بتفخيم صوت الباء محرفة من الكلمة الفرنسية parasite بمعنى طفيليات لها ضرر دون فائدة
٥_كْصِيدَة نْتِ بَحْلَقْ فِيَّ مزيان ما عرفتينيشْ : أنتِ من مخلفات حادثة سير في الوجود انظري اليّ مليا عساك تعرفينني (الشخصية تناجي نفسها)
٦_فسيلته المدماة : إشارة الى ختانه لما كان طفلا
_"مُدْ يدّيكْ نْحَنِّيوْلَكْ" : أهزوجة من طقوس حناء الأطفال قبيل ختانهم
٧_آلحجام عار عليك آوليدي بين يديك : اهزوجة ترددها أم الطفل المختون بمعية متعاطفات معها .. و(الحجام) : خاتن الأطفال ..
٨_راه يحوم كيف الطوير : اشارة الى ما كان يقال للمختونين قبيل ختانهم من قبيل (انظر هناك طائر جميل) قصد تلهيته عن عملية الختان
٩_باش نرد لقلبي : أشعر بالذنب



#عبد_الله_خطوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فَجيعةُ صديقِنا آلمَمْسُوح
- أمُومَة مُعَلَّقَة
- فائية ابن المُؤَقِّتْ المراكشي
- تَاخْفيفْتْ نْبُوشفَرْ
- نحنُ _ آلمُترددين آلخائبين أبدًا _ نُ ...
- فِطْرَة عَارِية
- عِنَاااااقُ آلبَوَاشِق
- سِبَاقُ آلْحِمْلَان
- تَكَلّمِي أيّتُها الحَوّامةُ آلمتعجرفةُ
- مَاذَا لَوْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ .. ؟؟ ..
- طُوفَااان
- أعراسُ آيَتْ وَرَايَنْ
- أمازيغُ أنوال
- لَا .. لَمْ يَكُنْ أَهْلُونَا آنْدِيجِينْ
- اِفْعَلْهَا، أَيُّهَا آلسَّلَمُونُ، قَبْلَ يَفْعَلُوهَا بِكَ
- عَبَقُ آلْعَمَى
- قِطّةٌ تَمُوءُ
- يَرَقَةُ آلْخَرِيفِ
- كباشِقٍ يَمُدُّ آلْجَنَاحَ أعَاوِدُ آلصِّياح
- مُرُوووق


المزيد.....




- إيران تقيم مهرجان -أسبوع اللغة الروسية-
- مِنَ الخَاصِرَة -
- ماذا قالت الممثلة الإباحية ستورمي دانيالز بشهادتها ضد ترامب؟ ...
- فيلم وندوة عن القضية الفلسطينية
- شجرة زيتون المهراس المعمر.. سفير جديد للأردن بانتظار الانضما ...
- -نبض الريشة-.. -رواق عالية للفنون- بسلطنة عمان يستضيف معرضا ...
- فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين
- من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت ...
- تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف ...
- قيامة عثمان 159 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 159 مترجمة تابع ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله خطوري - لَا شَيْءَ يَهُم