أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زكرياء مزواري - مجتمع الكر... نحو نموذج تفسيري جديد















المزيد.....

مجتمع الكر... نحو نموذج تفسيري جديد


زكرياء مزواري

الحوار المتمدن-العدد: 7654 - 2023 / 6 / 26 - 10:23
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


درجت في مجموعة من المقالات السابقة على تقليب النّظر في العديد من الألفاظ المستعملة في لغة النّاس اليومية("الحشية"/"العطية"/"القوادة"/"الهمزة")، قصد فهم المعاني والدّلالات التي يَشحن بها الأفراد هذه الألفاظ. وكانت لعملية المفهمة هاته، فضل كبير على توسيع آفاق الإدراك؛ ذلك أن مفهوم كبناء ذهني مجرد، له مقدرة هائلة على تكثيف الواقع والإمساك بجزئياته وتفاصيله، كما يستمد قوته من قدرته على استنطاق الظواهر، وسماع ما يعتمل فيها من تقاسيم ورنات، لكن عملية بناء المفهوم ليست دائماً موضوعية، فهي تقصي دلالات وتبقي على أخرى، حتى تنسجم مع توجه الناظر، وطبيعة رؤيته للعالم. لذلك، نجد أهل النظر، دائماً في حالة اشتباك مع المفاهيم، وذلك إما بغرض نحتها وإبداعها، أو بغرض إعادة تفكيكها، وإدخال ما أقصي منها من مدلولات، حتى يستعيد المفهوم قدرته إلى التقاط ظواهر الواقع المعقدة.
نقترح في هذا الصدد الاشتغال على دال "الكر"، والنظر في المدلولات التي يحملها، وطبيعة التوظيفات والسياقات التي يستعمل فيها، منطلقين من قاعدة مفادها أن الفرد كفاعل اجتماعي يعد فعله/فكره/ كلامه حاملاً لقصد ومعنى، وأن الدارس الملاحظ ينبغي عليه أن يؤول هذا الفعل، حتى يتسنى له في الأخير الفهم والتفسير.
لا شك في أن دال "الكر" المستعمل في لغة الفرد المغربي اليومية دال فصيح، يجد أصله في اللغة العربية، وله جملة من المدلولات؛ فقد استخدم في لغة الحرب، ويعني الإقدام وضدّه الإدبار، كما جاء في وصف إمرئ القيس لفرسه ("مِكَرٍّ مفَرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاًكجلمود صَخْرٍ حَطّهُ السّيل من علِ")، كما استخدم بمعنى الإعادة، كقول العرب: كرّ عليه السؤال، أي أعاده، ثم أطلق على حبل شراع السفينة ("كرّ السفينة")، أو الحبل الذي يصعد به إلى النخلة ("كرّ النخيل")...إلخ. أما في الاستعمال اليومي المغربي، نجد لهذا الدال في الحس المشترك معاني أخرى؛ فيطلق تارة على عضو المؤخرة، ويكون مرادفاً لها، ويطلق تارة أخرى على الذات أو النفس.
إذا تأملنا الاستعمال الأول في لغة اليومي، سنجد مجموعة من الألفاظ الجارية على لسان الفرد المغربي، كقوله(ها): "على كر عندها" أو "شوف قداش كرها" أو "كرها كبير/صغير"، وهي كلها معاني تصب في خانة الشبقية والالتذاذ بعضو المؤخرة. لا شك أن هذا الهوس عند الذكر بهذا العضو، يجد صداه عند الأنثى كذلك؛ فاليوم وفي ظل الاستثمار الرأسمالي في جسد المرأة سواء في الإعلام أو التصنيع، تمت إعادة صياغة مقولات الجمال ومعايير الحسن عند الفرد، وصارت المؤخرة ببروزها وظهورها وشكلها معيار من معايير الجمال في هذا "الجسد-النموذج" المتخيل، وصار نحت العضو بالرياضة أو المواد الصناعية، الشغل الشاغل لدى الأنثى. وهكذا نفهم هذا التحول الذي وقع في وظيفة المؤخرة، من عضو طبيعي له وظائف بيولوجية إلى أداة للجمال وإنتاج الفرجة، وآلية لنزع الاعتراف وإثبات الذات من خلال فعل الاستعراض.
أما عن التوظيف الثاني لدال "الكر" والذي يشير عموما إلى الذات أو النفس، فنعثر على ألفاظ كثيرة تعزز هذا الجانب، من قبيل: "ديها فكرك"، أو "دخل سوق كرك"، أو "خدم على كرك"، أو "ركز على كرك"، أو "حظي غي كرك". وهذه العبارات صارت تستعمل بقوة سواء في الواقع المادي أو الواقع الافتراضي، بل تمّ التطبيع معها، وبات استعمالها "مألوفاً" في لغة المغربي اليومية، بعد أن كانت "غير مألوفة"، ومندرجة في خانة غير المقبول أخلاقياً. وهذا ما دفعنا إلى التساؤل في سرّ هذا التوظيف المكثّف لهذا المدلول الثاني، سواء من طرف الذكور أو الإناث، والبحث في التربة الاجتماعية للفرد المغربي، قصد فهم الثابت والمتحول في هذه الظاهرة.
في البداية، نكون في حاجة إلى إقرار المسلمة الآتية، وهي أن المجتمع المغربي دخل منذ منتصف القرن التاسع في سلسلة من الإصلاحات نتيجة صدمته الحضارية جرّاء احتكاكه بالغرب، وأن موجة التحديث العنيفة التي فرضها عليه المستعمر، ستخلق ازدواجية على مستوى المرجعية، وسيكون أثرها واضحاً في قيم الفرد المغربي المتراوحة بين التقليد والتحديث. هذه الازدواجية، سرّعت من وتيرتها الثورة الرقمية الآن، حيث ساهمت في كسر مؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية، وأفرزت واقعاً قيميّاً متشظيّاً.
عوداً إلى الاستعمال الثاني لدال "الكر"، سنجد الفاعل الاجتماعي المغربي يوظفه في الحالة التي يشعر فيها أن "حياته الخاصة" منتهكة، إمّا من قبيل ممارسة الوصاية على فكره، أو من جانب التدخل في المفرط في خصوصياته وحميمياته واختياراته. ولفهم موضوع "الحياة الخاصة" و"الحياة العامة"، أو "الفضاء الخاص" و"الفضاء العام"، بشكل أكثر دقة، نكون في حاجة ماسة إلى الإنصات لعلم الاجتماع.
يميز عادة علماء الاجتماع بين نمطين من أنماط التجمع البشري، وهما: "المجتمع التقليدي" و"المجتمع الحديث"، أو ما يسميه عالم الاجتماع الألماني "فرديناند تونيس" ب "الجماعة" (Gemeinschaf) و"المجتمع"(Gesellschaft). هذا التمييز يجد حضوره في الأدبيات السوسيولوجية التي تعود إلى القرن التاسع عشر، بما هو قرن التصنيع بامتياز. هذا المناخ الصناعي الجديد، أفرز جملة من التحوّلات التي مسّت مورفولوجية المجتمع الأوروبي آنذاك، من مجتمع كان نمط انتاجه متمحوراً حول الأرض وخيراتها، وما يوازيه ذلك من أشكال وعلاقات وروابط اجتماعية تتماشى وذاك النمط، إلى مجتمع صناعي وتجاري يسكن المدن الكبرى، وما يوازيه كذلك من أشكال اجتماعية متماشية معه. صحيح أن هذا الانتقال من البادية إلى المدينة، ومن الفلاحة إلى الصناعة، أفرز جملة من الظواهر السوسيولوجية المرضية، وهي ما عبّر عنها إميل دوركايم ب"الأنوميا"، والتي تفيد عنده "اللا معيارية" أي حالة عدم الاستقرار والاضطراب والقلق لدى أفراد الجماعة الناتج عن انهيار المعايير والقيم الاجتماعية، وقد أبدع في تشخصيها في مؤلفه الشهير "الانتحار". وبالموازاة مع ذلك، بحث العديد من علماء الاجتماع في مجموعة من القضايا التي أفرزتها الثورة الصناعية، كقضية العلاقات الاجتماعية في المجتمع الحديث، بما هي علاقات صارت تنحو أكثر فأكثر نحو الفردانية وبروز مفهوم الفرد بمعناه الحديث الذي يختلف كليا عن الأنانية؛ فشكل الاجتماع البشري الحديث بمدنه المتروبولوية، ومؤسسات الدولة التي فككت سلطة الجماعة/القبيلة وتشخصنها، وبروز المجتمع المدني، كلها عوامل –إضافة إلى أخرى- ساهمت في بروز الفرد، وتجذر الفردانية في المجتمع.
هنا ينبغي الإشارة إلى أن مفهوم الفردانية هو وليد الفكر الليبرالي الحديث الذي تشكّل في الغرب، وخير من عبّر عن هذا النّفَس الليبرالي هم فلاسفة العقد الاجتماعي، في دعوتهم إلى إعادة صياغة دساتير الدولة، حيث تكون العلاقة الجامعة بين المواطن والدولة أو الحاكم والمحكوم مبنية على "التعاقد"، وأنه لا شيء "خارج التعاقد"، ومعنى ذلك أن الفرد بحقوقه الطبيعية سابق بوجوده كيان الدولة الصناعي، وأن المفروض في هذه الأخيرة أن تضمن حقوقه الطبيعية، وترفع من شأن آدميته وكرامته من جهة، كما أن على أفراد هذا الكيان أن يتعاقدوا فيما بينهم عن نوعية الحقوق والواجبات التي ينبغي أن يلتزموا بها، وهكذا يكون "التعاقد الاجتماعي" تعاقداً جديداً أبدعته الذهنية الحديثة، ومفاده ألاّ شيء خارج عن إطار "التعاقد".
هذه الانتقالات الكبرى لم تعرفها المجتمعات الماقبل صناعية، التي لا زال نمط إنتاجها يعتمد الزراعة والفلاحة بشكل كبير، ولا زالت علاقاته وروابطه الاجتماعية تقليدية، ومبنية على قيم القرابة والدم وحضور السلطة البطريكية؛ هذا المجتمع يكون أفراده بمثابة نُسخٍ متشابهة، حيث ينتفي تقسيم العمل الصارم، وحيث تكون مؤسساته مرهونة بمزاج مسؤوليها، وحيث تتغول سلطة الجماعة والأسرة والقبيلة والطائفة على الفرد، حتى يختفي تماماً ويذوب في الوعي الجمعي.
هكذا تكون سيكولوجية الفرد في مثل هذا المجتمع رافضة لكل تفرّد؛ فإذا رأى شخص فرداً آخر من نفس "تجمعه"، مختلفاً عنه من حيث الفكر والتصرف والنظر إلى الأشياء، سرعان ما يوجه له النقد أو يلجأ إلى التنمر. كما أن مفهوم "الخصوصية" غير حاضر عنده إطلاقاً، إذ بحكم تنشئته الاجتماعية، تعوّد أن حياته الخاصة وشأنه الفردي هو من شأن الأسرة أو المحيط الجماعي، كما أن الكثير من الحكم الشعبية المشكلة لمخيال المجتمع تعزز هذه الذهنية الجماعية ("دير كيما يدير جارك، ولا بدل باب دارك"/ أو "ما يخرج من الجماعة غي الشيطان"/ أو "الموت وسط الجماعة نزاهة"...إلخ). فمثل هذه الذهنية التقليدية تعيق ميلاد الفرد، وظهور نشاطه الخلاّق الذي هو أصل كل تميز وإبداع حضاريين؛ فالفرد حين يترك له هامش الخصوصية، ويأخذ مسافة من قيم مجتمعه وأحكامه، ويعيد ترتيب سلم القيم في المجتمع بفكره الناقد، سرعان ما يضخّ دماء جديدة في شريان المجتمع، ويحرك مياهه الراكدة، ويخلق نوعاً من الدينامية والحركية داخله. لكن، حين تهيمن سلطة المجتمع على الفرد وتبتلعه، تصير كل نشاطات الفرد، خاصة الجوانية، مجرد صدى جماعي؛ فالزواج يصير قرارا جماعيا، واختيار الشريك ومعايير انتقائه تتحول إلى قرار جماعي، والدراسة والهجرة والعمل وباقي الاختيارات في الحياة تصير بدورها قرارات جماعية.
في الأخير، يبدو أن موضوع "الحياة اليومية" بما يشتغل فيها من جزئي وعيني من الظواهر، هو مجال خصب للبحث والمساءلة وإعادة التفكير، فهذا "اليومي" وإن بدى "مألوفاً" و"عاديا" لدى الحس المشترك، فهو غير ذلك عند من يروم تفكيكه وإعادة بنائه، لأنه يحوله من مجرد معطى خام جاهز، إلى موضوع مبني اجتماعيا وثقافيا، وأن هذه العملية الفكرية لمن شأنها أن تكشف عن الوجوه الحقيقية للأقنعة المتخفية، لأن تعرية هذا اليومي المُبنين هو تعرية للمجتمع بكامله، وإماطة لحجب التحوّلات الكثيفة التي يمر منها هذا الأخير.



#زكرياء_مزواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البحث العلمي تحت مجهر الأنثروبولوجيا
- زمن المؤخرات السائلة
- الإسلام في تركيا: انطباعات أنثروبولوجية
- رحلة زاكي باشا أفندي البطولية إلى الديار الاسطنبولية
- المُثَقّفُ المنشود في رواية -عبد الرحمن والبحر- لخالد حاجي
- في ضيافة بيت العنكبوت: من بيت من وهن إلى بيت من زجاج
- الكَهْفُ الافتراضي: هل فكرنا يوماً في السوشيال ميديا أَمْ عَ ...
- الجنس البارد
- نوستالجيا -سيد لميلود-
- في الحاجة إلى تعليم ذكوري
- المدرسة والمتعلم وتزييف الوعي
- المدرسة سجن كبير
- مجتمع الهمزة... نحو نموذج تفسيري جديد
- الدين والطقسنة القاتلة
- مجتمع الحزقة.. نحو نموذج تفسيري جديد
- مفهوم القودة...نحو نموذج تفسيري جديد
- عيد المولد النبوي الشريف في حينا
- مجتمع -العطية-... نحو نموذج تفسيري جديد
- فصل المقال في تقرير ما بين العلم والعوام من انفصال
- مجتمع الحشية.. نحو نموذج تفسيري جديد


المزيد.....




- ترامب يعلن إزالة ضمادة الأذن -الشهيرة- بعد ساعات من حسم الجد ...
- مجموعة العشرين تتعهد -التعاون- لفرض ضرائب على أثرى الأثرياء ...
- العلاقات الأميركية الإسرائيلية على مفترق طرق
- -للحد من الحصانة القضائية للرؤساء ومسؤولين-.. بوليتيكو: بايد ...
- انطلاق الألعاب الأولمبية وسط خروقات أمنية
- نتنياهو يدرس تعيين جدعون ساعر وزيرا للدفاع مكان غالانت
- فيديو: الشرطة الإماراتية تشارك في تأمين أولمبياد باريس
- ترامب: الإدارة الحالية أسوأ من حكم الولايات المتحدة
- فريق كامالا هاريس يرد على انتقادات إسرائيلية لتصريحاتها عن غ ...
- العراق.. قصف على قاعدة عين الأسد


المزيد.....

- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج
- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زكرياء مزواري - مجتمع الكر... نحو نموذج تفسيري جديد