أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زكرياء مزواري - زمن المؤخرات السائلة















المزيد.....

زمن المؤخرات السائلة


زكرياء مزواري

الحوار المتمدن-العدد: 7616 - 2023 / 5 / 19 - 21:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ولّت مرحلة المقدّمات كأنّها حلم عابر. كان العصر فيما مضى يتميّز بالصّلابة والقوّة، والزّمن لا يفعل فعلته في الإنسان والحيوان والجماد إلاّ عبر طفرات طويلة الأمد. كانت سيرورة التّاريخ تمشي ببطء شديد، ووتيرة التغيّر ثقيلة الخُطى، بحيث لا يمكنك معاينة أثرها إلاّ بعد مُرور ردحٍ من الدّهر. أمّا الآن، وبفعل تداعيات الثّورة الرّقمية، دخلنا طوراً جديداً ميسمه السّرعة الفائقة، وميزته اللّيونة والسّيولة.
في عصر الهُنا والآن، عصر الاستهلاك والآنية المفرطة، لم يعد هناك متّسع في وقت الإنسان للتفكير في مقدمات الأشياء ومقاصدها، ولا في الغوص في دقائق الأمور وغايتها، بل صارت إنّيته ضحلة لا تبحث عن العمق، وشفّافة لا تطلب السّتر، مزهوة بخوائها، ومنتشية بسردياتها اللّحظية الصّغيرة.
هذا الإنسان الجديد السّائل، الذي بشرّت به فلسفة ما بعد الحداثة، وجسّدته التّقانة الفائقة، بات يطلب مؤخرات الأشياء لا مقدماتها، وأمسى يبحث عن النتائج لا عن أسبابها، إنسان أُحادي البُعد نتيجة التّحكّم المفرط في مدخلات وعيه ومخرجاته، لا يكاد يتجاوز جسده وحوّاسه الخمس.
إن هذا العالم المادي المُصمَت الذي يحيى داخله هذا الإنسان، غيّر الكثير من كينونته، وبات معه مجرد شيء أو سلعة مطروحة في عالم السّوق. لقد فقد كلّ قيمة جوّانية مُتعالية، وصار وجوده مرتبطاً بالاستهلاك ومطاردة الهوايات والموضات، ديدنه التّبضّع، ودأبه ملاحقة آخر إنتاجات السّوق، ما دامت في نظره مؤشراً على درجة "التقدم" و"التحضر"!
هذا التحريض على الاستهلاك، ما كان له أن ينجح لولا قوة الصورة التي تديرها بمهارة عالية الآلة الإعلامية، كآلة نجحت في اختراق وعي الإنسان، وأعادت تشكيل رؤاه لذاته وللعالم وفق مقاسات السّوق، وقوانين العرض والطلب. هذا الغزو الإمبريالي الكاسح لسيكولوجية الإنسان، جعل منه كائناً عارياً مُفرغاً من الدّاخل من أي قيمة تجعله يقاوم درجة التّنميط والتّدجين والتّسطيح، كما صيّره في نهاية المطاف مجرد مادة وظيفية-استعمالية.
لقد أبانت المجتمعات الاستهلاكية عن مدى خواء أفرادها من أيّ حاسّةٍ نقديةٍ، ومن أيّ مضمونٍ إنسانيٍّ مُركّبٍ، كما باتت سلوكاتهم متوقعة وقابلة للتوجيه والبرمجة، بعد أن تفوّقت آلة الذكاء الصناعي المتحالفة مع اقتصاد السوق بخوارزمياتها، واكتشفت الحدائق السرية لهذا الكائن، والمتكوّنة من مجموع الميول والرغبات والأذواق، وكل ما هو حميمي وجوّاني.
إن التّرشيد المحكم للسّوق، وقبضته الحديدية على مراكز اهتمام الفرد المعاصر، جعل حاله شبيه بحال السّمكة الحمراء وهي في "الأكاوريوم"؛ ذلك أنها تعتقد أن عالمها الحقيقي هو ذاك الإناء الذي يحيط بها من كل جانب، وأنها من فرط الدوران داخله، تفقد ذاكرتها القدرة على التركيز والانتباه، وتصير بذلك متلذّذة بوضعها، ومتخيّلة أن عالمها هو أفضل العوالم الممكنة.
إن خطورة تمركز الإنسان المعاصر حول الاستهلاك، لا تكمن في الهوس المبالغ فيه في الشّراء والتّبضّع من أجل التّبضّع فقط، بل في أن يصير جسد الإنسان موضوعاً يقع عليه الفعل، ويصير مفعولاً به في عالم السوق؛ ذلك أن هذا الجسد اليوم، صار صَنَمَ هذه الحضارة الجديدة، وبات يُطلب كغاية في ذاته، مُزيحاً بذلك الصنم القديم الذي تربّع على عرش المملكة الإنسانية لقرون طويلة وهو العقل.
إذا كان الفيلسوف الفرنسي المسكين روني ديكارت في المرحلة الحديثة وضع العقل كأساس لهوية الإنسان، واعتبره بمثابة القاعدة المتينة والصّلبة التي ينبغي للهوية أن تنبني عليها، وأداة لإثبات وجودها، فإنّنا اليوم أمام كوجيطو جديد، يقلب السّابق رأساً على عقب، ومضمونه: "أنا أمتلك جسداً جذّاباً، إذن، أنا موجود". هذا الإبدال المعرفي يعكس درجة تمركز الحياة المعاصرة حول الجسد، ويجلّي مستوى التّفنّن الذي وصلت إليه الحضارة في الاعتناء به.
لم يعد الهوس بالجسد اليوم، مقتصراً على المجتمعات الغربية باعتبارها مجتمعات صناعية ورأسمالية، بل مع الثورة الرقمية، تمم تعميم "الجسد-النموذج" الذي صنعته مؤسسات المتعة واللّذة على كافة أرجاء المعمورة، وجعلت الفرد يستبطن معايير جمال هذا الجسد المتخيّل، ويُحاكم بها جسده الأصلي.
إن إعادة تشكيل وعي الإنسان، وإعادة بناء ذائقته الجمالية، يبرز بجلاء عند الجنس الأنثوي؛ ذلك أن اقتصاد المتعة اليوم صار متمركزاً حول جسد الأنثى بشكل مفرط، وصارت قطاعات التجميل والزينة من أقوى القطاعات المدرّة للرّبح، ويكفي أن نلقي نظرة سوسيولوجية على الإحصاءات المتعلّقة بهذا الموضوع، حتّى يتّضح الأمر بأنّنا أمام مؤسسات احترافية عالية، لها دراية عميقة بسيكولوجية الأنثى، وأمام اقتصاد عقلاني يعرف كيف يخلق حاجات جديدة يوقع بها المرأة في شباكه.
لم يترك قطاع اللّذة شيئاً من جسد الأنثى إلاّ وأصابه، حريص أشدّ ما يكون الحرص على إخراجه من حالة الطبيعة وإدخاله إلى حالة الثقافة؛ فالطور الأول مُزعج بالنسبة إليه، لأنه يُفسد حفلته التّنكرية في تطويعه وتحويله إلى مجرد مادة وظيفية-استعمالية، والطور الثاني يساعده على بسط مزيد من النفوذ عليه، وذلك بعد ترويض العين ونمذجة الذوق وتنميطهما. ومن الأعضاء التي حظيت باعتناء خاص من طرف هذا القطاع، نظراً لما تضفيه على جسد الأنثى من "جمال"، وما تسبغ عليه من "جذب" و"افتتان"، هو عضو المؤخرة.
صحيح أن مؤخرة المرأة على مرّ التّاريخ كانت مركز إغراء للرجل، وصحيح كذلك أن العجيزة البارزة معيار لجمال جسد الأنثى، لدرجة كانت محطّ تغنّي من طرف الشعراء، لكن الفرق بين الأمس واليوم، أن هذا العضو الأنثوي انزاح من الهامش إلى المركز، وصار غاية في ذاته، وأمسى نحته وتكبيره مطلب القاصي والداني، وبات مصدر عدم رضا للأنثى على جسدها إن هي افتقدت للنسخة-النموذج التي رسمها السوق.
لقد وقع تحوّل في وظيفة المؤخرة، وانتقلت من عضو طبيعي له وظائف بيولوجية إلى آلية للجمال وإنتاج الفرجة، وأداة لنزع الاعتراف وإثبات الذات من خلال الاستعراض، وصارت قيمة جمال الأنثى مستمدة من المؤخرة، وباتت الوصفات الطبيعية منها والصناعية ديدن المرأة وشغلها الشاغل. لقد نجح قطاع اللّذة في الاستثمار في صناعة "المؤخرة-النموذج" وفق ما يطرحه السوق من سلع، وما يعرضه من أشكال وأنواع، ونجح في صياغة أذواق الذكر كذلك عبر الصورة والإشهار، وذلك من خلال قولبة معايير الجمال لديه، وجعله يختزل جسد المرأة في شكل وحجم مؤخرتها، بل وباتت متعته الجنسية لا تكتمل إلا بوطء هذا العضو!



#زكرياء_مزواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإسلام في تركيا: انطباعات أنثروبولوجية
- رحلة زاكي باشا أفندي البطولية إلى الديار الاسطنبولية
- المُثَقّفُ المنشود في رواية -عبد الرحمن والبحر- لخالد حاجي
- في ضيافة بيت العنكبوت: من بيت من وهن إلى بيت من زجاج
- الكَهْفُ الافتراضي: هل فكرنا يوماً في السوشيال ميديا أَمْ عَ ...
- الجنس البارد
- نوستالجيا -سيد لميلود-
- في الحاجة إلى تعليم ذكوري
- المدرسة والمتعلم وتزييف الوعي
- المدرسة سجن كبير
- مجتمع الهمزة... نحو نموذج تفسيري جديد
- الدين والطقسنة القاتلة
- مجتمع الحزقة.. نحو نموذج تفسيري جديد
- مفهوم القودة...نحو نموذج تفسيري جديد
- عيد المولد النبوي الشريف في حينا
- مجتمع -العطية-... نحو نموذج تفسيري جديد
- فصل المقال في تقرير ما بين العلم والعوام من انفصال
- مجتمع الحشية.. نحو نموذج تفسيري جديد
- في رحاب الزاوية
- رمضانُ في الذّاكرة (ج2)


المزيد.....




- معارضون خارج المملكة ينظمون مؤتمر -البحث عن الديمقراطية في ا ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من استهداف مبنى في مستوطنة شتولا شمال ...
- الشورة.. والمصالحة الصعبة
- سويسرا تنظم مؤتمر -السلام في أوكرانيا- وروسيا تقلل من جدواه ...
- فون دير لاين تدعو لاستئناف حل الدولتين
- تجديد واسع في قيادات الجيش الإسرائيلي على خلفية الانتقادات ا ...
- تونس.. إحالة 40 متهما على الدائرة الجنائية المختصة في الإرها ...
- الخارجية الأمريكية تكشف عن مطلبين سعوديين قبل تطبيع علاقاتها ...
- بزعم معاداة السامية.. قمع أمريكي لاحتجاجات طلابية تدعم غزة ب ...
- أردوغان: نواجه ضغوطا من الصهيونية


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زكرياء مزواري - زمن المؤخرات السائلة