|
قراءة سيميائية و تفكيكيّة لرواية غابات الإسمنت . لذكرى لعيبي *
علي فضيل العربي
الحوار المتمدن-العدد: 7630 - 2023 / 6 / 2 - 08:42
المحور:
الادب والفن
ختمت الروائيّة ذكرى لعيبي روايتها " غابات الإسمنت " على لسان بطلتها إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) ، قائلة : ( و رغم كلّ ما مرّ .. سأعيش و أنسى المرّ ) . هناك روايات تجبرنا – كقراء أو نقاد ، أن نقرأها أكثر من مرّة . لا لكونها رواية صعبة المنال ، أو غامضة في ثنايا السرد و الحوار ، بل ، نظرا لتفرّدها و تمرّدها على السرد العربي المألوف . و ما اعتاده القاريء العربي من نصوص سرديّة ، تمتّعه فنيّا ، و لا تستفزّه عاطفيّا . تدغدغ مشاعره و أحاسيسه ، و تزعزع أفكاره ، لكنّها لا تزلزلها ، و لا تزرع فيها كمّا من الأسئلة الحرجة . و إن كان من بين أدوار الفن ّ عامة ، اقتحام المناطق المغلقة في الطبيعة و النفس البشريّة ، و التنقيب في أعماقهما عن المكنونات ، التي لا تبصرها عيون العامة بعين بصيرة . أجل ، لم تعد الرواية المعاصرة تهادن فلسفة الواقع المعيش ، بل أضحت وسيلة لتعريّة هذا الواقع الإنساني ، الذي يخفي كثيرا من الطابوهات ، و يقمع الحريّات ، و يمارس طقوس النفاق السياسي و الاجتماعي و الثيوقراطي ـ تارة تحت غطاء التقاليد الباليّة و العادات البائدة ، و تارة أخرى تحت طائلة الاستبداد بكل ضروبه و أشكاله . رواية " غابات الإسمنت " ، للكاتبة ذكرى لعيبي ، و هي كاتبة ميسانية المولد ( نسبة إلى ميسان ** ) ، عراقيّة الموطن و الهويّة ، سندباديّة الترحال . ولدت في زمن العجائب العربيّة . تناولت فيها الكاتبة ، بكل جرأة و شجاعة ، أحد المجتمعات العربية – جعلت المكان الأول عائمًا – لأسباب نعرفها جميعًا – الذي لا تختلف البلاد العربيّة برمّتها - الذي مازالت فيه الذكورة الفوقيّة ، تمارس ( قوامتها ) و رعونتها على الأنثى ( المرأة ) الرازحة تحت نير الدونيّة و النصفيّة ( من النصف ) . فأضحى الذكر هو كلّ المجتمع ، بينا المرأة هي نصفه ، الذي سُلب منها ، و حُرمت منه . و قد صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولى شهر أفريل 2023 م ، عن دار الدراويش للنشر و الترجمة / كاوفبويرن - جمهوريّة ألمانيا الاتحادية . قسّمت الكاتبة الروائيّة ذكرى لعيبي ، روايتها " غابات الإسمنت " إلى قسمين ؛ عنونت قسمها الأول بـ ( الجريمة ) ، و قد توزّع على أربعة عشر فصلا ( هل نلوم القدر ؟ ، رفيقتي ، السجن الكبير ، نائلة ، اللقاء ، نافذة أخرى للحياة ، وعود ، بين الحياة و الموت ، إرادة الموت ، لقاء في المكتب ، عالم العطور و العقارب ، أناملي و الدمى ، العودة إلى السجن ، المهمة الأولى ، ) بينا عنونت الفصل الثاني بعنوان ( الحريّة ) ، و قد ضمّ أحد عشر فصلا ، هي كالتالي : ( الحريّة ، عناق ، البيت ، سكن و عمل ، احتفالية ، زيارة المقبرة ، خبر عن الفرح ، حياة جديدة ؛ لكن بحدود ، لقاء مع العروس ، التمرّد ، حريّة أخرى ) . أما عدد صفحاتها فقد ناهزت 218 صفحة . و قد صدّرت الكاتبة الروائيّة ذكرى لعيبي روايتها ، بإهداء إلى بطلة روايتها " أنعام عبد اللطيف الحاير " قائلة لها : " الأقوياء هم من يعاصرون أعوام التبعثر .. من دون أن تتشظّى أرواحهم .. نحن متّفقتان أن أيّ علاقة تجعلنا نتخلّى عن قيّمنا و مبادئنا ، لا بد من إعادة النظر فيها ...ثم تضيف : جريمتك لا تنحصر في قتل رجل خائن .. بل في تمزيق صورة إنعام ؛ الأنثى الجميلة التي كانت بداخلك . " و قبل الولوج في هذا المتن السردي ، المثير لمشاعرنا ، المستفز لعواطفنا و قناعاتنا الفكريّة ، يستوقفنا ، عنوانها الموسوم بـ " غابات الإسمنت " . و إذا كانت الأبواب هي المداخل الشرعيّة القانونيّة للبيوت و المحلاّت ، فإنّ العناوين هي عتبات النصوص الروائيّة ، لا يمكن إغفالها أو تجازوها أو التهوين من قيمتها الفنيّة و الدلالية . إنّ الغابات ( مفردها الغابة ) في سياقها الرمزي و وظيفتها الإنزياحية ، و مفهومها النفسي تدل على الأنوثة غير المستكشفة . فقلب الغابات – غالبا – ما يمثّل الأرض المقطوعة الشجر و الطوق المقدّس . و منها صيغ مصطلح ( قانون الغاب ) ، فهو شريعة تقوم على الفوضى و الأنانيّة المطلقة و أخذ الحقوق بأساليب مختلفة و مشبوهة في وجود أمن ضعيف و سلطة سيّئة الذكر . أما في المفهوم السياسي ، فهي ترمز إلى مكان لترويض العاطفة و الشهوات الحسيّة و الانغماس في في طقوس رومانسيّة و صوفيّة كما هو الشأن في الأدب الفارسي . أما رمزيّة الإسمنت ، فهي تحمل معاني القهر و التضييق و الخنق و القسوة و الاستبداد . بطلة الرواية ( الراوية ) ، هي إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) ، امرأة مثيرة للجدل ، متمرّدة عن مجتمع ( القطيع ) و ضحيّته في آن واحد . أمرأة باحثة عن حريّتها و كيانها و دورها و مكانتها في مجتمع شرقيّ ـ تقبض على زمامه فلسفة ذكوريّة فوقيّة متخلّفة . تناسى متعاطوها مبدأ ( النساء شقائق الرجال ) ، و تتعامل معهنّ بمباديء مغلوطة و مزيّفة عقليّا و دينيّا و إنسانيّا . قتلت زوجها ، الذي خانها مع عشيقته ، و انتقمت لشرفها و عزّة أنوثتها ، و لسان حالها يردّد في سرّها قول أبي الطيّب المتنبّي : لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ** حتى يراق على جوانبه الدم . لكنّها بالمقابل ، سعت إلى ترسيم وجودها ، و تأمين حريّتها بوسائل غير شريفة ، و بمبدأ ميكيافيلّي بحت ( الغاية تبرّر الوسيلة ) . و هذا ما أدّى إلى سقوطها في المحظور ، قبل السجن و أثناءه و بعد مغادرته . حكم القضاء عليها بـ ( 8 ) سنوات سجنا نافذا ، كعقوبة لها على جريمتها الشنعاء تلك ، قضت منها ثلاث سنوات ، بفضل عشيقتها و ( حبيبتها ) النقيب ابتسام علام ، مديرة السجن ، ثم استفادت من الإفراج المسبق ، نظير حسن سيرتها و سلوكها ، كما كُتب في تقرير الإفراج ، و انتهى بها المطاف حرّة ، طليقة في بريطانيا ، منتحلة شخصيّة سيّدة مجتمع و أعمال . ثنائيّة الصراع بين الذكورة و الأنوثة : يكتشف القاري ، من خلال تتابع فصول الرواية ، أنّ الكاتبة ذكرى لعيبي ، تثير أزمة العلاقة بين الرجل و المرأة ، أو لنقل بين الذكر و الأنثى ، في المجتمع الشرقي المحافظ خاصة ، و المجتمع العربي برمّته ، من المحيط إلى الخليج . و هي أزمة اجتماعيّة و نفسيّة و ثيوقراطيّة متوارثة أبا عن جدّ ، قائمة على نظرة الرجل الشرقي إلى المرأة الشرقيّة ، تسندها – بقوة – منظومة العادات الخرافيّة البالية و التقاليد الأسطوريّة البائدة ، و تغذيها الفتاوي الدينيّة الباطلة . أزمة إلغاء وجود المرأة و تموضعها في المجتمع الشرقي ، و إنزالها منزلة القطيع السائر خلف الرجل ، و الكائن الثانوي . رغم أنّ كلّ الشرائع السماويّة ، كرّمت المرأة ؛ أمّا و زوجة و أختا و ابنة و عمّة و خالة ، و هلّم جرّا . لكنّ الرجل ( الذكر) الشرقي أبى إلاّ أن يهينها و يحجر عليها حقوقها الفطريّة ، و يغتصب – سرّا و علانيّة – أنوثتها و حرّيتها و كرامها ، و بحجّم دورها في المجتمع الشرقي ، و يحصره في العمليّة الجنسيّة ، الشرعيّة و اللاشرعيّة ، و يحوّلها إلى آلة نسل و خادمة بيت ، هو سيّدها ، منتحلا شخصيّة ( سي السيّد ) كما جاء في ثلاثية نجيب محفوظ الخالدة . ترصد هذه الرواية صراعا عميقا بين الرجل الشرقي الأرعن ، الظالم و المرأة الشرقيّة المظلومة ، المحرومة من حقوقها الفطريّة . و هو صراع قديم و متجدّد ، متوارث عبر التاريخ ، جذوره تمتدّ إلى الجاهليّة الظلاميّة ، و يستمر في النمو في المجتمع الشرقي ، مجتمع الإماء و الحريم و ما ملكت الأيمان ، حين كانت المرأة سلعة رخيصة ، تباع و تشترى في أسواق النخاسة ، في المجتمعات البائدة – دون استثناء - حتى في أوربا ، التي انعقد فيه مؤتمر يشكّك و يبحث و يسأل : هل المرأة إنسان أم حيوان ؟ . صراع متطرّف ، علّته الجهل بالمباديء الإنسانية المتعارف عليها شرقا و غربا . لكنّ ما بلفت انتباه القاريء في رواية الكاتبة العراقيّة المتميّزة " غابات الإسمنت " ، هو تحميل الرجل مسؤوليّة جرائم المرأة كلّها ، و تبرئة هذه الأخيرة منها . فكلّ السجينات اللائي لقيتهنّ في السجن و موظفات السجن ، و على رأسهنّ المسؤولة النقيب إبتسام علاّم ، هنّ ضحايا سلوكات الرجل و معاملاته الشائنة . الخيانة و الجريمة و الابتزاز في الرواية : منحت الكاتبة ذكرى لعيبي في روايتها ( جريمة الخيانة ) دور المركز ؛ فهي فوهة البركان و بؤرته التي ينفث منها حممه الحارقة ، و في الاتّجاهات كلّها ؛ خيانة الزوج لزوجته ، خيانة رجل السياسة لبلده ، خيانة رجل الأمن لمهمّته ، خيانة رجل الدين لعقيدته و شريعته ، خيانة الفرد لذاته و قناعاته ، خيانة الحبيب لحبيبته ، خيانة الذكورة للأنوثة ، و هلّم جرّا .. لقد عمدت الكاتبة إلى تبرير جرائم النساء السجينات ، و تبرئتهنّ منها ، و أرجعت مسؤوليّة تلك الجرائم إلى الرجل . الذي وصفته على لسان السجينة نجاح قائلة : " تبّا ما أتعسنا ...هناك فرق كبير رجل حقيقي ، و شبه رجل ، نحن وقعنا في وكر أشباه الرجال " ص 62 . فظلم الرجل الشرفي و رعونتهم و جرمه - في نظر النقيب ابتسام علاّم – صنعا مأساة المرأة الشرفيّة . " الرجال مجرمون و الدليل وجودكنّ بالسجن ، أو على المشانق ، نحن نقدر أن نكون رجالا و نساء في الوقت نفسه ، كل واحدة هي رجل و أنثى ، فما حاجتنا لهم ؟ " ص 55 . فالخيانة - في نظر السجينات و السجّانات ، و على رأسهنّ النقيب ابتسام علاّم – سلوك ذكوري بحت ، و كأنّ المرأة معصومة منها . و هي نظرة نابعة من نفسيّة مريضة و شاذة . إنّ خوف النقيب ابتسام من فقدان حبّها الجديد إنعام ، أو خيانتها لها ، و لو بمجرّد التفكير في الزواج من رجل ، جعلها تصوّر لها عالم الرجال جحيما لا يطاق ، بينا صوّرت لها علاقتها بها جنّة ستنسيها ( بحيرة الدم ) . و ليتأمل معي القرئء الكريم قول الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير . " أمامي ثلاث سنوات أروّض نفسي خلالها على الحياة الجديدة ، لقد خانني رجل .. فهل تخونني امرأة ؟ و قد هتفت الليلة ، و هي ترتعش فوقي : أحبّك .. أهيم بك .. إنّك لي إلى الأبد " ص 53 . و في موضع آخر تصفها ، قائلة : " أجدها تلعب دور الإثنين وفق تتابع زمني : الرجل أو المرأة ، فأصبح أنا رجلا أو امرأة وفق هواها " ص 54 . هذا الحوار الذي دار بين إنعام عبد اللطيف الحاير و النقيب ابتسام علاّم : - ( ابتسام ) : أووه صغيرتي الجميلة ، أنت أجمل منّي ، لذلك إذا خنتني مع واحدة سأقتلك - ( إنعام ) : محال . - ( ابتسام ) : تقسمين . - ( إنعام ) : أقسم . - ( ابتسام ) : إذن دعيني أخطط لك مستقبلك ، سأريه صورتك .. ستكونين محظيته ..طبعا ذلك مقابل شيء ، لن تمنحيه نفسك مجانا ، بالمقابل سأتحدّث مع سيادة الوزير ، لتدخلي دورة أمنيّة في الأيام القادمة ، حتى إذا خرجت فتحت صالون حلاقة ، فتأتي إليك النساء ، يجب أن نعرف كلّ شيء ، زوجات موظفين كبار .. مديرين عامين .. مسؤولين .. ستكونين أكبر من مخبرة .. سيّدة أمن ، و ستملكين صالونا ، و تبقى علاقتي بك ، لا يهمني مع من تكونين من الرجال ، أريدك أن تستغلّيهم ، أو تستغلّي المسؤول الذي ستصبحين محظيته بشطارتك ؛ لكنّك ستكونين لي وحدي " ص 55 /56 . يعكس هذا المقطع من الحوار ، الذي دار بين النقيب أبتسام علاّم و إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) ، ذروة الابتزاز الشنيع بجميع صوره . فمقابل حريّتها ( الإفراج المسبق ) ، تتنازل البطلة ( الراوية ) عن مباديء شخصيّتها ، و شرفها ، و قيّم مجتمعها الدينيّة و الأخلاقيّة و العرفيّة . أمّا النقيب ابتسام علاّم ، فعلاقتها بابتسام لا تتعدّى تحقيق غرضين هما : امتلاك انعام نفسيّا و جسديّا و ليبيديا لإشباع رغبتها الجنسيّة الشاذة ، ( السحاق ) ، و توظيف ( في صورة عبوديّة ) لمهمّات التجسّس القذرة على حياة أسر المسؤولين و المدراء و الموظفين الكبار و جمع معلومات عنهم لابتزازهم بها في حالات عزمت السلطة عزلهم من مناصبهم أو رفضوا طاعة أوامر رؤوس منتفعة و نافذة و متنفّذة في مفاصل المجتمع . و هي من أرخص الوسائل التي تستعملها منظومة المخابرات و رجال الأمن في البلاد العربيّة و غيرها من بلدان العالم الثالث و الرابع ووو . لم يرحم المجتمع – بكل أطيافه - البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) ، و لا زميلاتها السجينات . لم يرأف لحالتها . رغم أنّها ، كانت في موضع الدفاع عن شرف الزوجيّة . " الناس و الصحف رأوني مجرمة أستحقّ القصاص ، مشفقين على زوجي " ص 19 . " أمّا أهلي الذين تخلّيت عنهم و تخلّوا عنّي منذ دخلت السجن ، فقد لاموني على فعلتي ، و حجتّهم ، مادام زوجي وفّر لي السكن و العيش و العمل ، فلأدعه يفعل ما يشاء ، لم يعلق بأذهان الجميع سوى بركة الدم و مشهد القتل الشنيع " ص 19 . هذه إذن هي معايير التعايش الأسري ، و بناء الحياة الزوجيّة ، عند هؤلاء الناس المعتوهين . و هي معايير تفضح النفاق الأخلاقي و التناقض الثيوقراطي و الظلم الاجتماعي المسلّط على المرأة الشرقيّة . شرعوا للرجل حقّ خيانة زوجته ، مادام يوفّر لها الغذاء ( العلف ) و السكن ( الزريبة ) و العمل . وفي دستور أعرافهم و تقاليدهم الميّتة و المميتة ، فإنّه من حقّ امرأة ( القطيع ) ، أن تحاسب زوجها على أفعاله الشنيعة ، و لو زنا بامرأة أمام عينيها . " لأنّ الأفضل للمرأة وفق العادات و التقاليد و العرف السائد ، أن تلتزم الصمت أمام زوجها في كلّ الأحوال ؛ حين يهينها تصمت ، و إن ضربها تصمت ، أمّا إذا رأته متلبسا بالخيانة و الزنا فما عليها ، قبل كل شيء ، إلاّ أن تكبت بنفسها و تستر كأنّها هي المذنبة ، و إلاّ ستكون مضغة للأفواه " ص 27 . ما أغرب هذا المنطق الجاهليّ ، و قد كان الرجل الجاهلي أشرف من رجل هذا العصر ، بغض النظر عن الذكر الجاهلي الذي كان يئد ابنته ، خوفا عليها من السبي . أقول ، ما أغربه من منطق لا تستسيغه النفس الأبيّة ، و لا يتحمّله عقل العاقل . فبأيّ شريعة سماويّة ، و بأيّ قانون وضعيّ ، حُقّ للزوج الشرقي ، أن يعامل زوجته الشرقيّة بأسلوب الغاب الإسمنتي ؟ فهل زوجته لو كانت غربيّة ، أجنبيّة ، بهذا الأسلوب الفجّ ؟ كلا ، لقد رأينا رجالا شرقيين متزوجين بأجنبيات غربيّات ، يدبّون وراء زوجاتهم كالكلاب الأليفة ، المنزوعة السلاسل . و منهم من ارتدّوا عن دينهم ، أو ضيّعوا طقوسه العباديّة اليوميّة ، ف و تركوا الصلاة و الزكاة و لا الصوم و لا الحج ، امتثالا لرغبات زوجاتهم الغربيّات . فما بال ، هذا الرجل الشرقي يصول أمام زوجته الشرقيّة الطيّبة ، الشريفة ، الأصيلة ، صولة الأسد خارج عرينه ، و يخفي رأسه أمام زوجته الغربيّة ، الأجنبيّة في الرمل مثل النعامة . و قياس الحال ، أنّه هزبر هصور على زوجته الشرقيّة ، و هرّ أجرب أمام زوجته الغربيّة . لقد أسست الكاتبة معمارها الروائي " غابات الإسمنت " و أقامته على تيمتي الكذب الأكبر و الخيانة ( لأنّ الخيانة أصلها الكذب ) ، ( خيانة الأمانة ، خيانة الزوج لزوجته ، خيانة الزوجة لزوجها ، خيانة البلد ، خيانة الوظيفة ، خيانة الذات ، خيانة الدين ، خيانة الأخلاق ، الخ ....) . فكان أن انتقلت الخيانة من سلوك فرديّ غير نمطيّ ، إلى ظاهرة اجتماعيّة ، نمطيّة في دواليب المجتمع الشرقي . و قد عبّرت عن ذلك مديحة لصديقتها إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء ) قائلة : " بعد مضيّ سنوات حبسي ، و من خبرة تواجدي فوق منصّة الحياة ، اكتشفت أنّنا نعيش في مواجهة تسونامي الكذب الأكبر ، رجل الدين المويّف يكذب .. و السياسي الموالي لغير بلده يكذب ..و المثقف الذي لا يحترم نفسه .. و غير المثقف الذي يتّخذ من الكذب باب سخرية .. و الفقير و الصغير و الكبير ..حتى أنا و أنت نكذب على بعضنا في بعض التفاصيل الخاصة " ص 133 . في السجن : تحوّل مفهوم السجن في هذا المعمار السردي ، من صورته التقليديّة ، المتعارف عليها لدى العام و الخاص ؛ مؤسسة عقابيّة تأديبية لإعادة التربيّة و الإصلاح و تقويم السلوك المنحرف ، إلى عالم آخر أكثر خطورة على الفرد و المجتمع . مكان لصناعة الفساد ( شذوذ جنسي ( السحاق ) ، استهلاك المخدّرات ، التجسس ، الابتزاز ، المتاجرة بالجسد ، استغلال الجنس .. ) . و هو – لعمري – انحراف عن الرسالة التربويّة المنوطة بها . فما فائدة السجن ، إذا خرج منه الفرد أكثر خطورة على المجتمع ؟ ما جدواه إذا لم يقوّم الفاسدين و المجرمين و المنحرفين و الخائنين للأمانات ، ليقي المجتمع من شرورهم ؟ سيميائية السجن في رواية " غابات الإسمنت " أخذت بعدا نفسيّا ، و تعدّت جغرافيّة المكان . فالسجينات و السجّانات كلهنّ ، يعانين من وطاة السجن النفسي . فمثلا : الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) سجينة ضميرها الغافي تارة و اليقظ تارة أخرى ، سجينة جريمتها ( فتل الزوج و عشيقته ) ، تلاحقها ليل نهار ، في اليقظة و الأحلام ، سجينة ذاكرتها الملأى بالأحلام المعسولة ، سجينة شذوذها الجنسي ( السحاق ) مع النقيب ابتسام علاّم و تعلّقها الشديد بها ، سجينة الابتزاز ، سجية كرهها للرجل ، سجينة عالم التجسس الذي أولتها إليه ( حبيبتها ) ابتسام علاّم . سجينة اللاإرادة . أمّا النقيب ابتسام علاّم ، فهي السجّانة و السجينة في آن واحد . ذات شخصيّة مريضة ، متناقضة ؛ فهي في نظر السجينات ( داخل السجن ) امرأة القانون و المسؤوليّة و الاستقامة ، هي الآمرة الناهيّة ، الساعيّة لخدمة السجينات و التعاطف معهن و مساعدتهنّ ، هي بمثابة الأخت الكبيرة و المربيّة . لكنّ الحقيقة غير ، و ما خفيّ من شخصيتها لا تعرفه إلاّ إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) و أمثالها . النقيب ابتسام علاّم سجينة شذوذها و هيامها ببنات جنسها منذ طفولتها . هي ، كما قالت عن نفسها : " إنسانة مشوّهة من الداخل " ص 67 . و تروي أيضا عن تجاربها الشذوذية السابقة قائلة : " منذ الصغر أحسست بميول لجارتنا التي كانت رفيقتي ، كنت أشتهي أن أقبّلها و في يوم اكتشفت أنّها .. ارتاحت للأمر " ص 66 . ثم تسألها حبيبتها إنعام : " أطنّ أنّك بقيت طويلا معها ؟ " ص 66 . فتجيبها النقيب ابتسام : " فترة ، ثم مارست سنة مع صديقتي في الثانوية التي انتقل أهلها الى مقاطعة ، ثم مع طالبة أخرى . استمرت علاقتنا ثلاث سنوات و انتهت بزواجها " ص 66 . في غيهب السجن التقت إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) مجموعة من النسوة السجينات ( المعلّمة مديحة نعمان ، نائلة العاصي ، أم محمد العجوز ، قارئة الكفّ ، أم كامل ، نجاة النشالة ، سليطة اللسان ، أشواق ، أم نظيم ، أم جبّار ، كريمة المحكومة بالإعدام ، رهام سهيل ، ذات شموخ ، و أخريات ) ، كلّ امرأة من هذه النسوة تحمل مأساتها الاجتماعيّة و معاناتها النفسيّة ، لكنّهنّ تجمعهنّ هموم متشابهة ، ظلم المجتمع الذكوري لهنّ . قضاياهن مختلفة ، ( جرائم قتل للأزواج الخائنين ، و الاختلاس ، و المتاجرة بالمخدرات ، و البغاء و غيرها ) . و هذه رهام سهيل ، السيّدة الجميلة ، الشامخة ، ذات الثلاثين من عمرها ، مثلا ، سُجنت في قضيّة اختلاس . " كانت تهمتها الاختلاس ، سيّدة ذات موقع مهم .. مديرة أحد الأقسام في بنك ، راودتها أن تصبح مليونيرة بين عشيّة و ضحاها ، فوقعت في الخطيئة بتحريض من هيئة مستشارين فاسدين " ص 124 . و هاهي إنعام عيد اللطيف الحاير ( ميساء ) ، تعود إلى وعيها ، لحظة ، و تسأل نفسها ، و هي تشاهد تلك الطقوس الشيطانيّة ( قبائح بطقوس و معتقدات غريبة ) التي مارستها طائفة من بنات ذوات ، قائلة : " و رجعت إلى نفسي أحدّثها : و أنت ما تفسيرك للقبائح التي تمارسينها مع سيّدة مثلك ؟ " ص 154 . فتجب و تبرّر ذلك بقولها : " لكنّهن يمارسن معصيّة و شركا ...بينما أنا أمارس حقّي في الحب دون خوف " ص 154 . و تضيف ، و قد صحا ضميرها فجأة و أنّبها : " لا تختلفين عنهن بشيء ، و لا تختلفين عن أخريات يبعن أجسادهنّ و قلوبهنّ مقابل المال ، أو اللائي يقنعن أنفسهنّ بالشرف بعلاقات مشبوهة تحت مبدأ التضحيّة من أجل الغير جميعكنّ بنات هوى و عتمة و ضلال . " ص 154 . و تواصل إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساس أدهم عبد الرحيم ) ، تلقّي ضربات صحوة الضمير في لحظة صفاء النفس ، فتعترف لنفسها أنّها غارقة في عالم الرذيلة من رأسها إلى أخمص قدميها . فتردّد بنفس نادمة ، ضامئة إلى الانعتاق من ظلمة الشذوذ الجنسي ، قائلة : " يا ربّي ، كيف أقحمت نفسي في جريمة ضد الطبيعة ؟ سلوك يدينه مجتمعي و ديني ؟ هل أنا مريضة ؟ ربّما مريضة لأنني أشعر أنّ علاقتي مع ابتسام شيء لا مفر منه ، علاقتي تولّدت من مخاوف الفشل و الخيانة ، خيار جنسي متاح دون عواقب وخيمة ، و بغض النظر عن المحرّمات ، فأنا اخترت الخيار الأكثر إرضاء بالنسبة لي بعد جريمة قتل و سجن و سمعة فرضها عليّ المجتمع . من دون ابتسام ماذا كنت أعمل ؟ كيف أواجه الحياة ؟ ص 160 .
أمّا مديحة ، فقد كانت ضحيّة زوجها السياسي المعارض ، و ضحيّة نظام سياسيّ استبدادي . تخرج من السجن بريئة من تهمة المخدّرات ، لتصيح سيّدة اعمال ، و صاحبة " معمل خياطة ينبض بالحياة و يصب في عصب البلد .. مديحة هي المديرة ، و هي التي تروّض خياطات و مهندسات مكائن ليرافقن مسؤولين كبار و يدخلن البيوت بمهام أخرى .. مربيات .. سكرتيرات . " ص 134 . أما كريمة ، الأم لولدين فقد نفّذ فيها حكم الإعدام ، و لم يُقبل طعنها لتخفيف حكمها ، و لعبت الاعتبارات العشائريّة و الأسباب غير القانونيّة دورا في إعدامها . " في قضية كريمة اعتبارات قانونيّة و عشائريّة ، الدولة نفسها لا تتحكّم بها ، ألم تري أنّي لم أخرجها بحجة المرض أو التحقيق لتبيت مع مسؤول له سلطة على القضاء ، لقد هان عليّ أن تقضي ليلة مع رجل من دون مقابل و هو حياتها " ص 81 . إنّ ما يؤكّد استشراء الفساد في جميع مفاصل السلطة الحاكمة ، و خصوصا جهاز القضاء ، هو غياب الأحكام العادلة . و الغريب – فعلا – هو حكم الإعدام على السجينة كريمة ، بسبب تهمة ملفّقة من زوجها ( زواجها برجلين في و هذه ضحيّة أخرى من ضحايا الذكورة الشرقيّة ، إنّها السجينة نجاح ، التي اتّهمت بالنشوز و الزواج برجل ثان ، و هي في عصمة زوجها الأول الذي طلّقها قبل سنة ، و ادّعى أنّه أعادها قبل انتهاء مدّة العدّة . " كانت ضحيّة لؤم زوج احترف الكذب و النفاق " ص59 . " طلّقها و تركها مدّة فتزوجت بعد سنة من الطلاق . لكن زوجها أرجعها قبل انتهاء مدّة العدّة من دون أن تدري ، و دون أن يخبرها أنّه أعادها . فأقام عليها دعوى فحوكمت بقضية الزواج من اثنين بوقت واحد . " ص 59 . إذن ، كلّهنّ ضحايا ثقافة شرقيّة تقليديّة ظلاميّة ، و نظرة دونيّة ، و تأويل ظلامي للدين . تتساءل الراوي إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء ) متعجّبة ، و محتجّة و بحنق و غرابة . " أي دين هذا الذي يسمح للرجل أن يطلّق زوجته ثم يعيدها لعصمته دون سؤالها ؟ دون علمها . دون رضاها ربّما . هل نحن نعيش بمعزل عن العالم أم نسكن كوكبا آخر ؟ " ص 59 . ثقافة باليّة الأفكار ، ميّتة ، مميتة ، لا تصلح لتسيير قطيع من النعاج ، ثقافة لا تعترف بالمرأة ككائن مساو للرجل ، في الجزاء ، خيره و شرّه . فإذا خان الرجل زوجته و زنا ، فلا يحقّ للمرأة أن تحتجّ ، بل من واجبها الصمت و الكتمان و الرضا . أمّا إذا خانت هي زوجها و وقعت في جريمة الزنا ، فمن حقّ الرجل و واجبه أن يقتلها دفعا للعار و دفاعا عن الشرف ، أو يطلّقها او يشتكيها للقضاء في أحسن الأحوال . و كأنّ العار لصيق بالمرأة فقط ، و الشرف للرجل دونها . و السجن ، في حقيقة غاية وجوده ، هو مؤسسة عقابيّة و ردعيّة و تربويّة . لأنّه بُني ليحمي المجتمع المدني من المجرمين و الفاسدين و الخارجين عن القانون و المتمرّدين على النسيج الاجتماعي السليم . و بالتالي فهو وسيلة و ليس غاية . هدفه إعادة السجين إلى وعيه و استقامته و تقويم سلوكه ، لدمجه في المجتمع ، لأداء رسالته الانسانيّة في جوّ من الأمن و الطمأنينة و الصدق و القناعة . غير أنّنا نلاحظ - كما روت لنا البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير - أنّ السجن قد تحوّل إلى بؤرة فساد ، و ليس عالم إصلاح . فيه وقعت البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير ، ضحيّة شذوذ جنسي شنيع ( السحاق ) ، بسبب جمالها الذي أبهر النقيب ابتسام علاّم ، مسؤولة السجن . و لم تمانع في ممارسة السحاق مع الضابطة ، في بيتها . حيث كانت تأخذها إليه ، و تمارس معها شذوذها الجنسي . إنّ هذا السلوك المقزز ، سببه ، كما تقول البطلة إنعام و الضابطة ابتسام ، كرههما للرجال . و هكذا تقع الضابطة ابتسام في حمأة الخيانة . حيث تخون وظيفتها و مركزها ، من كونها امرأة تمثل القانون و الدولة ، و تحرص على تنفيذه و حمايته . إلى امرأة خائنة . لكنّ خيانتها للقانون و الأخلاق سببه الرجل الشرقي ، و بالتالي فهي بريئة من سلوكاتها و أفعالها الشاذة . " ماذا نفعل ؟ أنا عاطفتي معك ، مشاعري دلتني على نساء مثلي . و عندما تحرّكت نحو رجل أحببته و غدر بي ، تيقنت أنّهم وباء ، و ثبت لدي أنّ مشاعري الحقيقية لا بد أن تكون مع بنات جنسي ، حتى وصلت إليك . " ص 158 . السياسة و الخيانة و الجنس : و في الرواية ، ارتبطت السياسة بالخيانة . فالمسؤولون يسوسن البلد ، و يتحكّمون في مصيره و خيراته انطلاقا من الغرف المظلمة ، لصالحهم و لمصلحة أزواجهم و أبنائهم و عشيقاتهم . لهذا السبب زرع جهاز الأمن جواسيسه في كلّ مكان ، و خاصة أماكن تواجد المسؤولين الكبار . تقول الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) عن وظيفتها الجديدة ، التي كلّفتها بها النقيب إبتسام علاّم و عن منزل رئيس غرفة التجارة : " هذا المنزل للعهر و عمل الصفقات ، وظيفتي أن أنقل للسيّدة النقيب ما بداخله " ص 118 . و تصف النقيب ابتسام علاّم رئيس غرفة التجارة بقولها : " الوقح يعقد صفقات لدول أخرى بأرباح من الطرفين " ص 120 . انتحلت الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) - و هي المرأة القاتلة لزوجها و عشيقته و العاهرة و الشاذة جنسيّا - دور الجاسوسة و المخبرة . و هو دور حرّكته نزوات الابتزاز ، " لا تظني أنّك جاسوسة أو مخبرة .. أنت مثلما نقول رجل أمن ، سيّدة أمن ، و قد جعلت شعبة الأمن الوطني تتطلع على أسرار كثيرة ، غير العري ، سيفاجئون السيّد رئيس غرفة التجارة بها حين يشعرون أنّهم لا بد من أن يزيحوه " ص 120 . " عليّ ان أثبت كفاءتي ؛ أنا السجينة الموظفة " ص 107 . هكذا تحوّلت إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) بسبب الابتزاز المالي و الجنسي و الوعد بالإفراج المسبق ، من أجل الحريّة ، " حريّة مغمّسة بتجسس و زنا و محرّمات " ص 211 ، بعد تخفيض المدّة إلى ثلاث سنوات سجنا فقط ، بدل ثماني سنوات . إلى عنصر من عناصر الأمن لحماية البلد من الخيانة و الفساد السياسيين . و هي لا تكاد تصدّق . ( حاميها حراميها ) . إنّ البلد ، أي بلد ، في حاجة إلى أناس شرفاء لحمايته ؛ شرفاء في الوطنيّة و العرض و الدين و الفكر و الثقافة . أمّا أمثال النقيب ابتسام علاّم و إنعام عبد اللطيف الحاير و مثيلاتهما من عناصر الأمن و المخبرين و المخبرات ، فهم شخصيات مريضة ، في حاجة ماسة إلى من يحميهم من ذواتهم ، و يعالجهم من أمراضهم النفسيّة الخطيرة . هل من المعقول ، أن تدير امرأة ( ضابطة ) ( كابتسام علاّم ) ، سحاقيّة ( من السحاق ) ، شاذة جنسيّا ، مؤسسة عقابية لإعادة التربيّة ؟ هل من المنطق أن تتحوّل امرأة – كإنعام - من مجرمة ، قاتلة ، عاهرة ، شاذة جنسيّا ( سحاقيّة ) – بين عشيّة و ضحاها – إلى جاسوسة أو مخبرة لمصلحة البلد ؟ إنّه لأمر عجاب يشيب له الولدان .
خاتمة : تقّول الكاتبة الروائية ذكرى لعيبي ، بعد الإهداء مباشرة : " من يعتقدون أنّ الأدب الجريء إثارة للغرائز؛ و ابتذال و خدش لحياء مصطنع ؛ و المتطرّفون ، المتشدّدون ، القريبون من ديناميت السياسة ؛ أنصحهم بعدم قراءة هذه الرواية " . و قد ذكّرتني هذه النصيحة ، التي أسدتها الكاتبة ببعض القنوات التلفزيّة ، التي تعرض أفلاما سينمائيّة ، على الجمهور ، و تضع ملاحظة { ممنوع على أقل من 10 أو من 18 سنة ) . و هي تعتقد – واهمة - أنّ نصيحتها ستطاع و يؤخذ بها . إنّ الأدب الجريء ، لا ينحصر في الجنس فقط ، رغبة في إثارة الغزائز ( الليبيدو ) ، بل إن الكتابة الإبداعيّة في حدّ ذاته عمليّة جريئة ، عندما يمارسها المبدع بعيدا عن خيانة ضميره و مجتمعه و أحلامه . أمّا الذين يضعون القيود و الأغلال في معصميّ الكاتب ، فإنّهم يحرمون أنفسهم – قبل الكاتب – من الحياة الإنسانيّة الحرّة ، الصادقة . و ختام القول ، فإنّ رواية " غابات الإسمنت " ، من بنات أنامل كاتبة عراقيّة شرقيّة ، عاشت طفولتها و شبابها في خضمّ مجتمع شرقيّ ، أنهكه الجهل و التخلّف و أدمته التقاليد البائدة ، و العادات البالية ، و الأزمات النفسيّة و الاجتماعيّة و مزقت نسيجه الأزمات السياسيّة و الحروب الأهليّة و الإقليميّة و الإثنيّة . ( و شهدت شاهدة من أهله ) . رواية ، جمعت فيها الكاتبة بين ، المعقول و اللامعقول . بين الجرأة و الحريّة ، بين المسكوت عنه و المفصَح عنه في واقع المعيش ، غلب عليه السواد . هي رواية فضحت زوايا مظلمة ، جدرانها الاستبداد ، و سقفها الفساد ، و أرضيتها الاستعباد ، و حرّاسها الخونة و المال القذر و الجنس الحرام . لكنّها ، بالمقابل ، ليست مرآة للمجتمع الشرقي بكل أطيافه و أعماقه و أزماته المختلفة ( رواية نمطيّة ) - فكم في الشرق من مساحات مضيئة ، يغار منها الغرب - و إنّما هي غوص ( جريء ) في بعض أدغاله الاجتماعيّة و النفسيّة الخفيّة ، و تعريّة لبعض الطابوهات المسكوت عنها خجلا أو خوفا أو لامبالاة . و هي ، و إن كانت في المجتمع الشرقي من الطابوهات الممنوع الجهر بها ، فهي في المجتمعات الغربيّة أشدّ استفحالا ، و قد انفلتت من قيود الخفاء و التحفّظ ، و خرجت إلى الشارع و العلن ، و لعلّ تنامي ظاهرة المثليّة الجنسيّة خير دليل على الانهيار الأخلاقي عند طائفة من الغربيين ، الخارجين عن الفطرة الإنسانيّة السليمة . إنّ الحريّة مكسب إنسانيّ عظيم ، لا غنى عنه ، في مسار الحياة البشريّة . حتى الطبيعة لا يمكنها الاستغناء عنها . و لكنّ الحريّة دون ضوابط أخلاقيّة و قيّم إيجابيّة و مسؤوليّة راشدة ، تفضي إلى عوالم الفوضى ، و تقود البشريّة إلى الفناء عاجلا أم آجلا . و من إيجابيات هذه الرواية ، كشفها للمستور و الخفيّ . فإنّ قصص السجون في العالم العربي ، و في العوالم الشرقيّة و الغربيّة ، أغرب من حكايات ألف ليلة و ليلة ، قصص منحطة ، لا يكاد العاقل تقبّلها و تصديقها ، لكونها ترتقي إلى عالم الخرافات و الأساطير و أحلام اليقظة . و حسب ، علمي ، فإنّ رواية " غابات الإسمنت " لذكرى لعيبي لها فضل السبق الأدبيّ و الإبداعيّ في ساحة الرواية العربيّة المعاصرة ، لتناول ( طابوهات السجن ) في العراق ، الذي لا تختلف عنه السجون العربيّة من المحيط الهادر إلى الخليج العربي الثائر . إنّها رواية اتّسمت كاتبتها بالجرأة الأدبيّة و الفكريّة و الأخلاقيّة ، انطلاقا من التزامها بالشجاعة الأدبيّة ، في قول الحقيقة ، و عدم خيانة مجتمعها و قرّائها ، من مختلف القناعات الايديولوجيّة . و إذا تفحصنا أسلوب الروائيّة ذكرى لعيبي ، في هذه الرواية ، التي بين أيدينا ، وجدناها أسلوبا أقرب إلى أسلوب التحقيق الصحفي ، اسلوب سهل ممتنع ، فيه من السلاسة و الإنسيابيّة ما يدفع القاريء و يغريه لمواصلة قراءة الرواية ، و ربّما ، يدفعه شغفه بها إلى إعادة قراءتها . و مهما قيل أو كُتب عن رواية " غابات الإسمنت " للكاتبة العراقيّة ذكرى لعيبي ، من نقد ، سواء أكان مدحا أم ذمّا . و مهما تعرّضت إلى النقد اللاذع ، فإنّ هذه الرواية ، المتخمة بالرموز و الأحداث ( المدهشة ) ، قد باحت للمتلقي العربي ، بكلّ توجّهاته الإيديولوجيّة ، بما لم تبح به شهرزادُ لشهريارَ . و لم تطق السكوت عن الكلام المباح و اللا مباح في هذا الزمن العربي المترهّل .
هامش : * ذكرى لعيبي : كاتبة و روائيّة و قاصة و شاعرة عراقيّة لامعة و غزيرة الإنتاج الإبداعي . من مواليد ميسان . هاجرت من العراق عام 2000 م ، و هي تقيم بين ألمانيا و دبي . عضو في كل من : إتحاد كتاب وأدباء العراق ، و اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ، و اتحاد الصحفيين العراقيين و اتحاد الصحفيين والكتّاب العرب في أوربا. و دارة الشعر المغربي ومؤسسة حميد بن راشد النعيمي لجنة الطفولة والشباب( عضو سابق) مؤسسة المثقف العربي/ سيدني – أستراليا ، مؤسسة وشبكة صدانا الثقافية / نائب رئيس إدارة مجلس المؤسسة لجنة دعم كتاب الطفل / القيادة العامة لشرطة الشارقة / عضو مؤسس نادي دبي للصحافة . بيت الشعر في الشارقة. من إصداراتها : لقد جاوزت إصدارتها 36 منجزا أدبيا ، توزّع بين مجموعات قصصيّة للكبار و للأطفال و روايات و دواوين شعريّة و نصوص مفتوحة ، و كتب مشتركة ) . نذكر على سبيل المثال ، لا الحصر ، مجموعات قصصيّة ( الضيف ، حبّ أخرص ، ثامن بنات نعش ، رسائل حنين ، للخبز طعم آخر ) ، إضافة إلى مجموعة من الروايات ( خطى في الضباب ، يوميات ميريت ، غابات الإسمنت ،) كما لها إسهامات كثيرة في أدب الطفل ( شمس و رحلة الأمس ، حكاية الطاووس و الثعلب ، اللصوص و القلم المعطّر ، قطرة الماء السعيدة ) ، أما إسهاماتها الشعرية ، فنذكر لها ما يلي : ( امرأة من كوز و عسل ، يمامة تتهجّى النهار ، بوح في خاصرة الغياب ) .أما الكتب المشتركة ، فنذكر : ترانيم سومريّة المشتركة ، العبور إلى أزمنة التيه ، حكايات ميشا ) و غيرها من الكتب . لها لقاءات و أمسيات أدبيّة و شعريّة في كل من : معرض الشارقة الدولي للكتاب . مهرجان الشارقة القرائي للطفل . إتحاد كتاب وأدباء الإمارات . جمعية المثقفين العراقية / مالمو- السويد النادي الثقافي العربي / الشارقة قناة الشارقة الفضائية . قناة الاتجاه العراقية . قناة الشرقية من كلباء – هيئة الشارقة للإذاعة والتلفزيون . ** ميسان : إحدى محافظات العراق في شرق البلاد على الحدود الإيرانية ، عاصمتها العمارة ، الواقعة على نهر دجلة . و قبل عام 1976 م ، كانت تُعرف بمحافظة العمارة .
#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صورة المرأة المنتميّة في المجموعة القصصية ( إيلا ) * للقاصة
...
-
تحرير الحريّة
-
تأمّلات في التقشف و الزهد
-
وجهة الفلسفة الغربيّة . إلى أين ؟
-
الظاهرة الحزبيّة في البلاد العربيّة ما لها و ما عليها .
-
امرأة من زمن العمالقة
-
لماذا نكتب ؟ و ماذا نكتب ؟
-
أم الخير
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 8 )
-
ربيع إيكوزيوميّ *
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 7 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 6 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 5 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 4 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 3 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 2 )
-
يوميّات معلم في مدرسة ريفيّة ( 1 )
-
فلسفة الوقت في حياتنا
-
أكتب لكم من الجنوب ( 10 )
-
التعليم قبل الديمقراطيّة .
المزيد.....
-
-الهجوم الإيراني على قاعدة العُديد مسرحية استعراضية- - مقال
...
-
ميادة الحناوي وأصالة في مهرجان -جرش للثقافة والفنون-.. الإعل
...
-
صدر حديثا : كتاب إبداعات منداوية 13
-
لماذا يفضل صناع السينما بناء مدن بدلا من التصوير في الشارع؟
...
-
ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة
...
-
مركز الاتصال الحكومي: وزارة الثقافة تُعزّز الهوية الوطنية وت
...
-
التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي
-
يتصدر عمليات البحث الأولى! .. فيلم مشروع أكس وأعلى الإيردات
...
-
المخرج علي ريسان يؤفلم سيرة الروائي الشهيد حسن مطلك وثائقياً
...
-
فنانون سوريون ينعون ضحايا تفجير كنيسة مار إلياس
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|