أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الأسطل - تُوم.. من مجموعتي القصصية















المزيد.....

تُوم.. من مجموعتي القصصية


وليد الأسطل

الحوار المتمدن-العدد: 7603 - 2023 / 5 / 6 - 04:47
المحور: الادب والفن
    


جلس توم دون حركة، كالمتجمد، فقد انبسط منظر طبيعي ساحر أمام عينيه: أشجار نخيل منحنية بإثارة على بحر ذي لون زبرجدي، بينما كان الشاطئ الرملي الأبيض الطويل بمثابة الخلفية لها. جواهر صغيرة من الجنة، قطع من السعادة المركزة، تخيلات لإجازة أبدية. كما وأضاءت شمس ناعمة امرأة شابة بدت في حالة أقرب إلى النشوة.
في أعلى يمين هذه الصورة المثالية، توجد فجوة في قطعة من الخشب الرقائقي المتقادم.
تنهد توم، ثم وضع القطعة الأخيرة برفق. كانت قطعة من السماء، زرقاء، محايدة، كئيبة. ذابت الحواف المقطوعة بمهارة عالية في كتلة الصورة الدافئة والساحرة. ومع ذلك كانت صورة باردة جدا وعدوانية. إنها دون حياة.
شعر توم بالرغبة في البكاء. لقد وضع القطعة الأخيرة من الأحجية. انتابه الإحساس المعتاد بالتخلي، والتمزق. أغمض عينيه للهروب من هذا الشاطئ الخالي من الروح. ثم فتحهما فجأة.
نظر إلى جدران غرفته، جدران عالمه الضيق. شعر وكأنه غريب عن عالمه الحقيقي وعن عالمه الذي تركه للتو.
ثم، وهو يمنع نفسه عن البكاء الواقف عند عتبة حلقه، ضرب بيده الأحجية غاضبا؛ فسقطت من الطاولة، وانتثرت على الأرض.
التقط القطع الزرقاء والخضراء والبيضاء، الواحدة تلو الأخرى، ووضعها بعيدا في صندوق كبير، كانت تنام في أسفله الكثير من القطع الأخرى، مجهولة الهوية، وغير المجدية. حدق في الصندوق بهدوء، غير قادر على التفكير، غير قادر على الحركة. ببطء، كان الغضب ينحسر بداخله، تاركا إياه بلا حسيب ولا رقيب كما سيطر عليه. ببطء، استعاد الإتصال بالواقع. صوت. هناك من يناديه.
"أنا قادم يا أمي".
نزل الدرج راكضا، مرحا. طفل صغير، سهل ومطيع.
تم تقديم العشاء. منذ أن أصبحت ثلاثة أطباق فقط تحتل طاولة المطبخ الكبيرة، استحالت الوجبات باهتة أكثر بكثير من ذي قبل. لم يقبل توم ولا والدته رحيل أندرو، الإبن البكر، الذي تزوج منذ شهرين فقط. وعلى الرغم من قصر هذه المدة إلا أن خلافا قد نشأ بين زوجة أندرو وحماتها، اتخذ منحى تصاعديا. مرت الأسابيع ببطء، وباعد الإبن البكر بين زياراته لأمه.
هرع ثلج نحو توم. ولكن قبل أن يقفز القط في حضن الصبي، أمسكته أمه، وغمست فمها المبلل بالكحول في فروه الأبيض، مصدرة أصواتا طفولية صغيرة. ماء القط متناسيا توم.
جاء ضجيج الباب ليغطي على متعة القط. خمّن توم أن والده قد عاد إلى المنزل. توقفت والدته عن مداعبة القط. تصلبت عيناها متغلبتين على ضبابية الكحول المبتلع، التي كان من الصعب أن تسمح لذرة من الصلابة بالمرور عبر هذا المحيط من الأبخرة الناعمة.
فكر توم في سباق الخيل. اعتقد أنه سيغطي الأبخرة القاتلة لحياته. قال لنفسه: ستكون أحجيتي التالية سباق الخيل.
وهكذا نسي للحظة خطوات والده على البلاط، وأنفاس والدته ... استقرت فيه سعادة هزيلة - سريعة الزوال - سببتها أطراف أصابعه، التي كانت تلمس قطعا كرتونية وهمية. جلس والده بقربه، نظر إليه، وقال ملقيا بأحلامه في مكان آخر، ضبابي:
"... هل أنت بخير يا بني؟
- نعم يا أبي."
انحنى الرجل على الصبي وقبّله على جبهته، وقد رافقت حركته رائحة زنبق الوادي القوية. عطر المرأة، عطر الفتنة .. اندفعت الدموع الحارقة إلى معدة زوجته، دموع من جمر على جدران بركان مريض. دون أن ينظر إلى زوجته، جلس الرجل، ألقى نظرة سريعة على الطاولة، حول الطاولة، ثم قام متجهماً، أمسك بالقط الذي كان يخرخر بين ذراعي صاحبته وألقاه على الأرض. ماء القط معلنا عن انزعاجه، ولجأ إلى غرفة المعيشة.
"لا أريد شعر القطط على مائدة الطعام."
زمجرت الزوجة دون إجابة، لتيقنها أنها ستخسر مباراة الشجار اللفظي، على الرغم من النظرة المتحدية المحرضة على المواجهة، التي ألقاها عليها زوجها.
"تخيل توم طوفا جليديا. دببة على طوف جليدي ... أبيض مثل القط ثلج. طقس بارد، وطوف الجليد ..."
كانت سنوات عمره الاثني عشر تدور حول الأحجيات. الألعاب الأخرى لم تهمه، تجاهل الأطفال في سنه، تجاهل ألعاب الأطفال في سنه. كان عقله مجرد صورة مجزأة ضخمة حاول بطريقة خرقاء تجميعها.
تمت الوجبة دون أي حادث، وهو ما يقدره دون الكثير من الحماس. كانت دقائق الصمت الطويلة لا تطاق بالنسبة إليه، تماما مثل المشاجرات التي لا تنتهي، والتي لطالما تخللت لقاءات والديه. سجل صوت الشِوَك التي تعذب قاع الأطباق، صدمة الزجاجة على شفة كأس أمه، خرخرة القط الذي قفز مرة أخرى إلى حجر أمه، الضجة الصامتة التي تصم الآذان من اللامبالاة الأبوية المفاجئة والازدراء. وأخيرا، الكلمات القليلة التي تم همسها:
"يبدو أنك قد شبعت، قالت والدته وهي تصب لنفسها كأسا من النبيذ الأحمر الرديء.
- هيا اذهب إلى سريرك، واخلد إلى النوم، أضاف والده بنبرة لاذعة."
كان توم يتوقع أن يقال له هذا. نظر إلى الأعلى متجاهلا البطاطس غير المطبوخة جيدا التي تفسد طبقه.
"اذهبي لتنامي، يا حبيبتي".
الحبيبة لا تتفاعل. لاحظ الولد طريقة والده في مناداة زوجته "حبيبتي". نداء بافلوفي بسيط، يعود إلى فترة ما قبل الطوفان الذي شهده حبهما، تلقائية ساخرة، مفارقة نفاق، حنان منسي، أو ربما سخرية قاسية.
نهضت في حالة يرثى لها، متشبثة بالطاولة للحظة. أوقعت طبقها على الأرض، بعد أن دفعته دون أن تنتبه.
تمزق الصمت الرهيب، تحطم الطبق إلى العديد من شظايا الزجاج البني الداكن.
مثل فيلم يسير إلى الوراء، أعيد بناء الصمت، بشكل متصنع وأخرق.
"اتركيها يا أمي، سأجمعها. اذهبي إلى السرير."
امتثلت لأمر ابنها، وذهبت، دون تعليق، دون حياة. انحنى توم، وجمع قطع الزجاج برفق، ثم وضعها على الطاولة. تحدث إليه والده. لم يعد يستمع. أعاد بصبر بناء اللوحة، قطعة قطعة، وحافة حادة على حافة حادة. تسببت حركة خاطئة في ولادة لؤلؤة من الدم على طرف إصبعه. لفترة طويلة، شاهد توم النسغ الأحمر العدواني يتضخم، ثم ركز على أحجيته مرة أخرى. سرعان ما انتهى. لم يستعد الطبق مظهره السابق، بسبب استحالة إعادة تكوين الإنحناء الأصلي، لكن القطع كانت في مكانها، بالكاد ملوثة بالطعام. لاحظ توم والده وهو يراقبه. بدا أن هناك شيئا من الرعب في أعماق عينيه الخضراوين كأوراق زنبق الوادي. قام بمسح الطاولة بظهر كمه، مما أدى إلى سقوط اللوحة مرة أخرى على الأرض.
ثم انطلق راكضا، تاركا المطبخ ووالده، ساعيا للحصول على الدفء المريح من حزمة الجليد المتفتتة.
كان الليل طويلا. بكى توم قليلا. غدا يوم الأربعاء. في الساعة التاسعة صباحا، كان عليه الذهاب إلى المكتبة، فلم تعد لديه أحجية. كان بحاجة إلى تموين، وكان المكتبي ممونه، وسيده، وأصبح توم عبدا له. كانت قطع الكرتون الصغيرة مَفزَعَه، جواز سفره إلى أرض المناظر الطبيعية المشكال. لم يكن موضوع الأحجية مهما: غابة كثيفة، سيارة فاخرة، تحفة فنية. كل شيء كان جيدا. فقط عدد القطع مهم. ولم يكن أبدا أكثر من ألفين.
جاء ثلج لينضم إليه، ويتمسح به. لم يكن يعتبر القط الأبيض صديقا، وإنما مجرد أحد معارفه. لقد نام توم أخيرا. انغمس في نوم خال من الكوابيس والأحلام.
استيقظ في الليل على ضجيج مشاجرة قادم من غرفة نوم والديه. تابع تطور الوضع: الصرخات، الدموع، المناشدات. تخيل احمرار العيون، الكلمات المشوشة، واليدين المرتعشة. سمع ما لم يتخيله، ثم سمع باب البيت يغلق، والدته تذهب إلى الحمام لتتقيأ، ثم تجيء إلى غرفته وتأخذ ثلج. وأخيرا، الصمت كعادة قديمة.

في الصباح الباكر، وجد القط على سرير والديه. كانت والدته تشخر، ومكان والده باردا، خزانة الملابس مفتوحة على مصراعيها، خالية من ملابس والده التي لطالما لبسها. كان يعلم أن الحقيبة اختفت أيضا.
انتابته رغبة ملحة في الحصول على أحجية جديدة. كانت الساعة السابعة صباحا. لا زال الوقت باكرا جدا. حمل القط دون أن يوقظ والدته ونزل إلى المطبخ.

كانت الساعة العاشرة تدق على أجراس الكنيسة عندما استيقظت والدة توم. فمها ممتلىء بلعاب كثيف، ونظراتها باهتة. نهضت بصعوبة، حدقت باشمئزاز في الخزانة الفارغة، ثم، مترددة بين الحمام والمطبخ، مالت نحو الأخير. نزلت الدرج بتثاقل.
صرخت بمجرد دخولها المطبخ.
بصعوبة تعرفت على بقايا ثلج في هذا الإنتشار اللحمي المليء بالدم، في هذا التقطيع المنظم بمهارة.
استقرت الأرجل المقطوعة بعناية على الزوايا الأربع للطاولة. كان الجسم والفراء الأبيض والدم وشظايا العظام والأحشاء مقطعة رياضيا ومرتبة هندسيا. تم تقطيع الرأس نفسه إلى أربعة أجزاء متساوية.
في منتصف كل ذلك، كتبت كلمة "أحجية" بالحبر الأحمر على ورقة بيضاء.

على بعد بضعة كيلومترات، كان توم يسير حاملا حقيبة على كتفه، ذاهبا في مغامرة. هروبٌ صغير، آخر قطعة من أحجية عائلية كانت مبعثرة في قاع صندوق يتحلل.



#وليد_الأسطل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لؤلؤة راشيل 9
- لؤلؤة راشيل 8
- إليها
- لؤلؤة راشيل 7
- لؤلؤة راشيل 6
- لؤلؤة راشيل 5
- لؤلؤة راشيل 4
- روايتي لؤلؤة راشيل (3)
- رواية لؤلؤة راشيل 2
- روايتي البوليسية -لؤلؤة راشيل- 1
- إلى والدي
- ظاهرة سولجنيتسين.. جورج نيفا
- فيلم Red Desert 1964
- كتاب “هافيل.. حياة” لمايكل زانتوفسكي
- عن الأحداث الدموية في التاريخ السوفيتي.. نيكولاس ويرث
- مواسم جياكومو.. ماريو ريغوني ستيرن
- عن التطبيع
- فيلم مائة يوم في باليرمو
- فيلم القندس
- شارة الشجاعة الحمراء.. ستيفن كرين


المزيد.....




- وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا ...
- مطالبات متزايدة بانقاذ مغني الراب الإيراني توماج صالحي من ال ...
- -قناع بلون السماء- للأسير الفلسطيني باسم خندقجي تفوز بالجائز ...
- اشتُهر بدوره في -أبو الطيب المتنبي-.. رحيل الفنان العراقي عا ...
- عبد الرحمن بن معمر يرحل عن تاريخ غني بالصحافة والثقافة
- -كذب أبيض- المغربي يفوز بجائزة مالمو للسينما العربية
- الوثائقي المغربي -كذب أبيض- يتوج بجائزة مهرجان مالمو للسينما ...
- لا تشمل الآثار العربية.. المتاحف الفرنسية تبحث إعادة قطع أثر ...
- بوغدانوف للبرهان: -مجلس السيادة السوداني- هو السلطة الشرعية ...
- مارسيل خليفة في بيت الفلسفة.. أوبرا لـ-جدارية درويش-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الأسطل - تُوم.. من مجموعتي القصصية