أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله خطوري - مَوْتُ أَبِي آلْخَيْزُرَانِ















المزيد.....


مَوْتُ أَبِي آلْخَيْزُرَانِ


عبد الله خطوري

الحوار المتمدن-العدد: 7583 - 2023 / 4 / 16 - 19:10
المحور: الادب والفن
    


الآن فقط أتذكرُ تلك القولة المأثورة التي دأب جدي المسكين يُرددها طيلة حياته.كان يقول دائما في فترات يريد أن يبدوَ فيها هازئا شامتا:"إِذا فْلَسْ لِيهُودي كَيَرْجَعْ لَعْقُودْ بَّاهْ الرَّاشْيَة..".. نعم، أتذكر الآن هذا الكلام وغصة تشبه الحرقة تداعب بصلافة شراييني الواجفة.شيء مُرٌّ يسحق أحشائي. ينساب.يتسربلني كفُقاعةِ ماءٍ آسنٍ .. حالُ الدنيا وما فيها ليس هو حالي، أنكفئُ الآن وحيدا لأموتَ بعيدا عن زبانية البشر .. لم يبقَ لي شيء .. كل شيء ضاع .. وها أنذا أعُودُ إلى عقودي وكَنَانِيشِي المهترئة .. أضيعُ بين رفات الكلمات، أتيهُ .. تنسجُ آلحروفُ خيوطا مُحْكَمَةً، تُحْكِمُ الخِناقَ، تشد الوِثاقَ .. تُطوقني خيالاتي المُفَحَّمَة .. أختنقُ .. أتنفسُ .. أموتُ .. أصرخُ .. يبح صوتي .. تهترئ الرقبة .. أتلاشَى بين أسطر من ضباب .. أتسَمَّرُ في العَتبات .. لا أقْبِلُ، لا أُدْبِرُ .. تشلحُ سماديرُ معفرة برغام ما تبقى في ناظري مِنْ غَبش الأيام التي خَلتْ وظلت رُعونتُها الصفراءُ الهائجةُ تسكنني، تقضُّ مضاجعَ النوم في حَنايايَ المُسَعَّرَة .. أأَنْسَلِخُ عن جلدي كأفعى ؟؟أَيمكنني أنْ أنْسَى ؟؟ أضربَ عن كل ما جرى صفحا وأتلف في اللحظات لا أبالي ..؟؟.. هكذا ..!!.. ..لا!! لا تستطيع خلايايَ التخلص من بقايا تلك الأشباح الفارغة الأفواه .. تتربص بي دائما .. ترهقُ المسامَ والأعصاب .. ومثلما الانسان يفقد هويته، أُمْسَخُ، أتفسخُ أتَحَوَّلُ ... وتلك الصور ..!!.. تلفني يلفني وإياها الفراغ المُجْحِفُ وأسافرُ .. ليس ثمة إلا ..ههه.. هاها .. تبا ..

الطريق أمامي بَدَوي برمال غبراء مُمتدَّة بلا نهاية بلا بداية.صحراءٌ كالقَدَر، كالْقِدْرِ مُسلَّطَة من كل جانب .. الشمس .. الرمال .. الصمت .. الفراغ .. أرضٌ يَهْماء خالية من المعالم .. لا يهتدي فيها إلى طريق إلا مَنْ جَرَّبَ آختراق هولَ هذه الصحاري .. يهتز الكرسي من تحتي .. يهتز المِقْوَدُ .. صدى "المُوتُور" وهو يسعل من فرط ضغط الرَّبو عليه يستفزني يستحثني على الإسراع للخروج من هذه المهامه.فقط حشرجتُه هي التي تُبقيني يقظا مُتوجِّسا .. تُذَكِّرُنِي بأني لازلتُ في هذا العالم القَميئ .. مسكينٌ مُحرك الشاحنة، زمن طويل وهو يعاني من دائه المزمن، ولم تُفِدْ الإصلاحاتُ المتكررة شيئا معه، رغم ذلك فهو صابر مُثابر.لا أتذكرُ يوما شكَا فيه أو تذمر، رغم عبء الخزان الثقيل وكثرة التحركات في طرقاتِ تِيهٍ لا تشبه الطرق العادية .. في الصحراء، على المرء أنْ يحفظَ كل شبر يمر به، كل حبة رمل، كل نَسَمَةٍ يُصَادفُ مُرورُها هنا أو هناك .. كل شيء .. وإلا فإنه سيضيع ويبتلعه الفراغ كما آبتلع الكثيرين ..لا..لا..لا تحدجوني بنظراتكم الثاقبة .. لا.. فأنا .. لستُ مُذنبا في شيء .. إنه خطأهم .. لقد حذرتهم .. نصحتهم .. فلم يأبهوا بي .. لم يحترموا شيبتي .. ما ذنبي أنا إن آختراوا نهايتهم بتلك الطريقة ..!!.. آه.. لستُ أنا .. إنها الصحراء .. وحدها الصحـراء مسؤولة ...
يقتلني الحَرُّ الآن .. يسكن رأسي آلخزان. دقات المطارق والسواطير في قنتي تستحث الألم دون هوادة.أتحسسُ جانب الصدع، ليس هناك دم، هناك نار، ألم بغيض، نتن، صديد قذر ..آخ.. هذه الصور .. جَدي !! ماعساكَ تفعل في حالة كهذه؟ هيه !! أجِبْ !! طبعا إنك لا تجيب .. تكتفي بسخريتكَ البغيضة الشامتة.أقسم بكل ثمين وغَال لديك، أَنْ ليس لي يَد في كل ما حدث .. هم أرادوا ما أرادوا .. لِمَ يُحْكَمُ عليَّ بذنب لم أقترفه .. عقاب شديد هو هذا الوَبال الذي أثخنتموني به .. أعرف الآن أني سأموتُ .. نعم .. وأنْ لا جَدوى من كل هذا اللغط من هذا الضجيج .. لكن رغم ذلك أعيدها أكررها .. هذا ليس عدلا أَنْ أُعاقبَ بمثل هذه الطريقة طيلة هذه السنوات ...


_اِستعدْ يا صاحبَ الخَزَّان!

_ أنا بريئ

_ لا وقت للكلام .. لقد صدر الحكم

_ أنا بريئ

_ اِستعدْ

_ أنا بريئ

_ قَـيِّـــدُوه!!

_ اُتركوني يا أولاد ....

_ لا تخشَ شيئا، سيتمُّ ذلك بدون أن تشعرَ .. مجرد ومضة خاطفة...

_ اُتركُــــووووونِـــــي .....


ريحُ الخماسين تتراقص تيها ولوعة، فترقص لرقصها زواحف مخيفة تنط في الفضاء غير الرحيب .. تطير ترتع تلعب دون حسيب أو رقيب.لقد أغلقتُ ككل الثغرات، كل المنافذ التي يمكن أنْ تتسرب من خلالها تلك الهوام السامة، رغم ذلك، فإني أتفحص كل شيء.لا أريدُ أن أترك شيئا للصدف.أتأكد من إقفال باب غرفة القيادة، وأسلم نفسي للصحراء.أتَكَوَّمُ على نفسي مُحَنَّطا في عباءتي.لا تظهر مني سوى العينان من بين ثنايا الكوفية السوداء التي لففتُ بها رأسي ووجهي ورقبتي.سُعال الموتور اللاهث يعانقُ في بَرَمٍ صوتَ الريح التي لا تَمل ،، تنبعث تلك الصور مرة أخرى ،، زجاج الواجهة تحتَ رحمة ضوء الشمس. تنبعث الأشباح من جحيمها اللاَّفح .. حريييق .. رائحة الرمال والدخان .. لون قاتم من يَحْمُوم يُطوق المكان .. لون السخام .. أبخرة بلون الرصاص والقطران .. عقارب سُود بِجُثت البهائم .. أجنحة الغرابين ترفرف في قرف في الفضاء .. زعاف ..!! زعانف غاضبة تُصَوِّبُ رصاصاتها الثاقبةَ اتجاه الخزان في شكل مستقيم مباشر.ومن بين كل ذلك، تنبعث ثلاثة أجساد مُسجاة على قارعة الطريق .. جثت سوداء محروقة مُتَيَبِّسَة .. أضغطُ بحِدَّةٍ على الفرامل، فينتج عن آحتكاك العجلات بالأرض المُرَمَّلَة هالةٌ كبيرة من الغبار سرعان ما تتلاشى لأفاجَـأَ بالفراغ أمامي متحديا كعجيزة القدر ...


_ لقد فعلتَ فعلتك الشنيعةَ أيها المجرم، وتستحق العقاب

_ لَمْ أفعلْ شيئا..

_لقد قتلتَهم، وسرتَ تلهو بدمهم ببرودة وبساطة .. مطلق الاستخفاف...

_ لا ذنبَ لي لا جُرم لا جريرة كفى

_كل الدلائل والعينات المأخوذة من مكان الواقعة تفيد أنكَ فعلتَ فعلتكَ الشنيعةَ قصدا وإرادة

_لا إرادةَ لي فيما حدث .. ماذا كان عسايَ أطمعُ أو أرغبُ من أناس مَعدومين مثل أولائك ؟!

_لا شأن لنا بكل هذا الكلام...

لقد عذبوني .. قتلوني .. كنتُ أراهم يفعلون .. أصرخُ .. لا مجيب، لا أحد يأبه بي .. جلدوني بالعصي بالهراوات على قَفَـا مؤخرتي المجدورة .. تتابعتِ الضرباتُ من الرجليْن واليديْن .. ألقوني أرضا .. سحبوا حيائي .. قطفوا الفاكهة الوحيدة التي كانت بوحزتي .. دمروني .. "لم يستطعْ، بادئ الأمر، أن يرى شيئا .. الا أنه أحس بألم فظيع يتلولب بين فخذيه ثم آستطاع أن يتبين، بعد لأي، أن ساقيه مربوطتان الى حمالتين ترفعانهما الى فوق، وأن عددا من الرجال يدورُ حوله..."


_ الرحمة...

_أتتذكرهم ..؟؟.. تلك الجثت أتذكرها ؟؟

_ فظيع .. إني أتألم ...

_ طبعا إنك طمستَ معالمهم.أحرقتَ كل شيء وهربت.شواظ من جهنم .. ذلك كان حكمك عليهم، ونفذت إعدامك بكل برودة وهربت...


جدي، تُرى ما ذا فعل الله بذلك اليهودي الذي رجع لدفاتر أسلافه القديمة؟ هل وجد شيئا يسدي به رمقه؟ لماذا تضحك يا جدي؟ أتسخر مني أم أنك لا تقدر فكاكا عن عاداتك السخيفة؟؟؟

أبو الخيزران في المجتمع صورة مصبوغة بهالة الوقار والاحترام.الناس، الناس كلهم، أو أغلبهم على الأقل يرون فيه رجلا صريحا مستقيما متعلما ذكيا بارعا وسيما بقامته الفارهة السمهرية وهندامه الأنيق المنسجم الذي يرتديه في فترات الراحة. مثله كان جدير به أن يعمل بإحدى جامعات البلد الكبيرة، لكن حبه للمغامرة والحركة وأشياء أخرى من صميم شخصيته جعلته لا يكمل دراسته ليستغل مواهبه الكثيرة في عدة مهن يخدم بها أناس بلدته والجوار، لعل آخرها قيادة السيارات والشاحنات التي آكتسب دربتها ومهاراتها من خدمته في الجيش طيلة سنوات خلت من شبابه اليافع .. ومع توالي الأيام، غدا علامة بارزة وشخصية مرموقة في أوساط الذين يتعاملون معه، خاصة أولائك الذين يطمحون إلى قطع الحدود من أجل لقمة عيش سائغة أو ضمان دريهمات قارة تغطي مصاريف العوائل المشتتة هنا هناك .. وكان كل شيء يسير على مايرام، إلى أن حدث ذلك الحادث المشؤوم الذي غير كل حياته ...


رَفَّتْ عيناي بشيء مهول كالمصيبة .. الرائحة الزنخة بلون تفسخ الجثت .. قطران كثيف ينصب عموديا من سماء فارغة .. الشمس تأكل نفسها .. تتلذ بحريقها .. الأرض المرملة تميد كالزلزال .. رَجْعُ صدى هدير الشاحنة المثقلة بالخزان الفارغ إلا من تلك الذكرى الشاحبة، من تلك الصور برائحة بقايا الموت .. الماضي؟ الذكرى؟ مجموعة كليشهات محروقة لا تصلح للنسخ أو الإبصار .. لماذا تتذكر الحرقَ دائما؟ لماذا تبدو كل الصور سوداء قاتمة؟ لماذا هذه الرائحة المطاطية؟؟

صــرخ الصوت :
_ مهنتك ؟
أجبت :
_ أشحن البشر وأفرغ الجثت
_ لِمَ قذفتَ بهم؟
_لماذا قذفتم بكينونتي في سلة المهملات؟
_ لماذا قتلتَهم ؟
_ لماذا قتلتموني ؟

غير حليق الذقن.مشعثا كنتُ وفي عيني تعبير حيواني قلق.الغرفة التي تطوقني معتمة تعتيما تاما.الدم يخفق خفقات كبيرة في القلب وفي الرأس .. ذلك الضوء الذي عهدته هناك .. في ذلك المكان والذي كان ينور ظلمات حياتي، انطفأ آنقضى هكذا على حين غرة، بل على حين إصرار وتربص وضغينة .. أولاد ال ... لقد فعلوها بي .. لم يتركوا لي شيء .. أخذوا عمري قالوا لي .. لقد نجوتَ، سرحناك الآن .. سِرْ فالحياة أمامك، لا تلتفت .. عش كما يحلو لك أيها المغامر ..تبا..!!..
ولأني لا أحب صورة السرير، ولا هيأتي فيه منبطحا عاجزا كعجوز مهترئة، ولأني ضقتُ ذرعا بتلك الجثث التي تزورني .. قررتُ حرقها من جديد...

الضوء ينسكب على رقبتي على وجهي مباشرة.أشعة الشمس السافرة في نهار قائض من نهارات الصحراء تقرف الروح والبدن.المسافر التائه التالف الذي تحمل رأسه صداع السنين وهزيم اللحظات.. فلْيَمُتْ هذا الصداع .. فليتلاشَ .. ليتشققْ .. وليتشظَّ معه كل الحريق .. ولأنسلخ كما تنسلخ كل الزواحف لا تبالي .. لتكن يا خيزران أفعى .. فليس ثمة في الأفق الا مزيد من الانحدار...

وضع في فمه لفافة.زندها بطريقة خرقاء بسبب يديه المرتعدتين .. الشاحنة بصهريجها الفارغ لم تعد تطاوعه .. دوامة .. يغيب لحظة .. يحلم .. تنحرف الشاحنة عن طريقها .. يحلم .. تنقلب .. غشى عينيْه ضباب وغبار .. حاول فتحهما على آتساعهما، فأصبحتا جاحظتيْن .. يفركهما، فيزداد جحوظهما .. بنات آوى من كل مكان تعن تطارده تحت نغمات صاخبة .. تلاحقه .. تطوقه .. ينحبس ما بين الشهيق والزفير فيه .. تهجم الصور .. يغيب العالم .. يلهث اللهاث .. جثت تفتح أشداقها .. كانت جائعة .. أخذَتْ شيئا ما عزيزا غاليا وانصرفت .. تذكرَ لوهلة تلك الناحية من بدنه فسخر من نفسه.حاول النهوض. انتابته نوبة من سعال سمج حاول مقاوتها بتنفس شاق صعب .. يسعل .. يبصق يتأفف .. يصرخ صراخا حارا ملتهبا يضيع صداه في الصحراء .. ينفجر السعال .. يصمت هدير الموتور المريض بالزكام بالربو بألف لعنة بألف داهية .. تنطفئ الروح .. ثم يغيب العُمر وراء أسوار مُسَيَّجَة بجثت لا أعمار لها.. وفي الأفق هناك ليس ثمة الا البوار ومزيد من الانحدار ...

... يوم آخر لي مع الحياة، لا غير ... بل هي لحظات معدودات.إني أحس بذلك. أحس بتلك الأقدام قادمة.خفية هي كالفراغ آتية تريد آغتيالي.لم يعد شيء يهمني. إني مستعد الآن .. فلينته العمر وإلى الأبد .. إنها لحظات مثل باقي اللحظات ..لكن.. تبا.. تلك الأقدام لا تريد أن تصل.منذ مدة غير وجيزة وأنا أصخي الى صدى قرقعة الحذاء ذي الكعب العالي.رجع صداه يسكن رأسي .. لكنه لا يريد أن يصل ..تبا.. إني أعيش دائما .. لازلت أتنفس، ولازال الرمل يدخل أنبوبتي أنفي فيعتريني عطاس .. لازلت إذن أعطس أسعل .. وتلك الشمس الداعرة "سافو" تُسَوِّفُني، تسحقني ولا تقتلني.تنشر في أحشائي صلافة العهر. إنها تهزأ من شيبتي.تصب عليَّ جم غضبها تسخر.أرد عليها بلعنات خائبة. تخرج شتائمي مخلوطة بمخاطي وبصاقي .. ألعن الأيام والليالي.ألعن كل ما يصادفه لساني.أعطس لا أشمت.يزداد الزكام.لا أتجرع عقارا ولا هم يحزنون .. الزكام ..هيهه.. داء"الشمايت" الجبناء كان يقول جدي ... صَدَقْتَ جدي .. أنا سخيف مُجَوَّفٌ الآن وفي كل آن .. لقد شوهتُ تاريخ السلالة العريقة بدمي الفاسد .. كما كنتَ تقول .. فعلا أنا كذلك .. هواء فارغ من كل محتوى .. جرو بقايا دُنيا تاهت عنه الجراء، فتاه هو عن العالمين في صحراء لا قرار لامتدادها السحيق .. أتيه فيها أُقْبَرُ ... وهذا العطاس اللعين يذكرني بشيء آسمه الحياة .. شيء آسمه القرف .. شيء مقزز قميئ ... الصدى من بعيد لازلتُ أسمعه .. أخاله قريبا يصخ أذني .. لكن تلك الأقدام لا تريد أن تصل...

كَـمْ أنت سخيف أيها الموتُ .. تكرر نفسك بالطريقة نفسها أو بطريقة مختلفة .. لا يهم .. المهم أنك تتكرر .. تلف تدور كخذروف قَدَرٍ معتوه تدور بدورانك عاداتك الرتيبة المفعمة بالسخف والاجترار كعجلة تشتعل حوافها نارا لا تخمد .. جمرة كبيرة تتكور على نفسها تأتي على الأخضر واليابس .. هههه .. إني أسخر منك .. غيِّرْ طباعك البغيضة التي تسكن حلقتك الفاسدة .. تجددْ .. اركب موجة الجديد أنت الآخر .. كُنْ كما كل الأوباء تكون .. اخلق عادات جديدة .. لا تستكنْ.. لا تألف ما عهدته منذ غابر أزمانك .. كفاك رتابة اللَّف الذي لا يفضي الا الى النتيجة نفسها المعهودة المعروفة مذ خُلِقَتْ النتائج والأسباب .. ما عُدْتَ تخيف أحدا اليوم ..الكل يموت الآن أو غدا.. فرادى أو جماعات .. بحرب .. بجائحة .. برقدة في سرير مٌهْمَل التفاصيل بين إليتيْ مغناج لا تتأفف من درن الذكور أو داخل خَزَّان يحترق من لظى شمس آب لا ترحم في صحراء بلا نهاية .. أو تحت وطأة عجلات شاحنة مجنونة .. إنه موت واحد يضحك بنا حولنا علينا .. تضحك على نفسك أيها الرذيئُ تُضْحِكُ الذين قتلتهم وتقتلهم .. تلك الجثت داخل الخزان، لم تكن ضحاياي .. إنها ما قدمت يداك، قدماك، هواك، نتنك، جذامكَ المعَصْفَر بيباب هو الذي أودى بها .. وهي الآن في تخشبها الأبدي تسخر منك أيها المعتوه .. يا خادم الأقدار والأباليس، لم يعد أحدٌ يخشاك بعد أن يسحقه بغضك اللعين .. الكل هناك لا يجد فرصة للخوف، بل يعثر على مجال واحد فقط، هو مجال آحتقارك.. يفقد الناس هناك الشعور بالكراهية اتجاهك أو اتجاه غيرك .. عاطفة واحدة تشغل قلوبهم هي آزدراؤكَ .. أنتَ حقير مقيت ضئيل كقملة قميئة .. القملة تثير الهرشَ يُدمي صبؤها قشرة الرأس وفروتها .. أما أنت فقراقوز، خرقة بالية مهلهلة، تجتر ما تبقى لك من أويقات تكركبها بحقد وصلافة .. حركاتك الخرقاء تثير الضحك، تثير الاشمئزاز .. لم يعدْ شيء يهمني الآن .. بين فخذيَّ المعروقين حفروا فوهة عميقة الغور، وقالوا .. ادفن نفسك هناك .. ففعلت.. نعم .. فعلتُ .. لم أتردد .. لم أتوجس ..أيها البصاص المتربص .. ألا زلتَ ترنو اليَّ؟ ماذا دهاك .. اقترب .. تحفز .. انطلقْ .. اتخذْ قرارا اقبض ما تبقى فيَّ من روح تركتْ دياجيري وارتاحت من عتهي .. مازلتُ أنتظرك .. أعرف أنك هنا في مكان ما .. تراني .. تسمعني تشم رائحتي التي تشبه رائحتك المقززة .. فاقبل .. لا تتردد .. لقد ذُقتُكَ مرارا، عرفتكَ، ليس ثمة جديد فيك .. إني واهن الآن .. مريض.. منهك عجوز تعب بأسبابك التي لا تنتهي لواعجها .. منكفئ على ذاتي في عزلتي .. محشو في برميل من خشب أثرَتْ فيه رطوبة أزمنتك يتدحرج في الخلاء كما عجلات الشاحنة المطاطية تدحرجت قطعت ذلك الطريق الصحراوي دون أوبة .. كنتُ في ذاك الصقيع الأصفر أجازف في جحيم بلا قرار .. أجر ورائي نهر جهنم .. الأكيرون .. مَنْ يدخله لا يخرج منه .. وكنتَ صفيقا في تواطئك معي .. لقد فعلتَها لوحدك .. أنجزتَ التفاصيل كلها بحرفة ودربة متقنة، فسحقتَ قتلتَ فتكتَ وألقيتَ كل التبعات عَلَيَّ .. تبا لك يا جبانُ .. لقد حاكموني ونفذوا الحكم .. وتركوني لا ألوي على شيء .. لا شيء فيَّ .. لا شيء لَدَيَّ .. لا أنا حي أستحق كرامة ولا أنا ميت أستحق ترحما .. فراغ .. مجرد ثقوب تملأ الفضاء المعتوه .. خواء بداخلي.سديم.بوار.مُقْعَدٌ.كسيحٌ. مُقْصًى بعُنَّتي وعتادي الذي ليس لديَّ منه الا الألم الكئيب وكثير من لوعة الذكرى .. إني أتذكر ذاك الزمن الغابر، حيث كانت عنترياتي تخول لي تحقيق الكثير من الأمجاد في أسواق الحياة.فقد كنت من الذين لا يتوانون على فعل أي شيء سخيف من أجل نزوة عابرة أو علاقة طائشة .. وتشهد الذكرى، كم رميتُ من دراهم كم غنمت من غنائم دون أن أبالي بالأيام والليالي .. لطالما انتشيتُ بغزواتي .. كنتَ غائبا في ذلك الوقت .. لم تكن خلقتكَ المجذومة تعرف لي سبيلا .. أما بعد كل ما حصل، وأمام حالتي الراهنة التي تسببتَ فيها، وبعد زرعك الأشواك في الطريق الصحراوي، وطلائك وجه أولائك الأبرياء بالسخام والزفت، وبعد رميك لي كسيحا مهيضا في هذا السرير الأبيض بلون أكفانك، فلم يعد شيء يهمني .. واقعتك أفسدت الحياة .. قتلتني قبل القتل آلاف المرات .. دخلَتْ رصاصتكَ إليتيَّ شرخت الصفن، طفقت تمرق تمزق تخرق تفتق في جبروت عامر بالوبال والوهم وشطحات الخيال .. أنا رغم كل ما حصل ويحصل لم أتعهر .. أنا آنتكستُ ماتت آخر الزفرات من روحي الصغيرة، ولم يبق الا جسدي الضامر المقفر بأشواك صحراوية نتنة أدعوك لتأخذها وتخلصني ...

صدى الحذاء ذي الكعب العالي يقلقني .. لم أعد أحتمل .. خذ ما تبقى ارحني من قرفك .. أنا معتوه موبوء .. الذبحة والوهن في كل مكان .. هدير صوت الخزان يخترق حَنجرتي .. العجلات المطاطية المحترقة تطمس حبالي الصوتية، فلا أقدر على الكلام .. أسعل .. أقهقه ... سريري الأبيض الفاتر الباهت منقط بنقط دم حمراء لا أقدر على إزالتها لضعفي وعجزي، ولعلمي أني إذا فعلتُ، فإنها لا محالة ستعود، مادامت هذه الذبحة تعشعش في ذلك المكان لا تريد أن تبرح، ومادام هذا الصدى المقلق يَطَّرِدُ، تتابع ذبذباته بتواتر يثقب طبلة الأذن .. تعاودني النوبة .. أسعلُ .. وبصوت مبحوح أقهقه ساخرا منك ومن نفسي، فتخرج الديدان من حلقي في شكل جثت محروقة البدن مطموسة المعالم .. أرتاح للحظات ، أشهق ، أتنفس ، وأسلم نفسي للنوم في آنتظار نوبة جديدة ،، وفي آنتظار صفاقتك أن تعولني من جديد ...

_ تمت



#عبد_الله_خطوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَارِسِ آلْجُنُونَ قَبْلَ يُمَارسَكَ آلْجُنُونُ
- طَبْلُ أُوسْكَار
- وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى آلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى
- اَلزَّطْمَا
- ضُبَاح
- عَنِ آلْهِرَرَةِ وأشياء أخرى
- خَرَجَ وَلَمْ يَعُدْ
- رَذاذُ نِيسَانَ
- اَلْحُوذِيُّ وَآلْحِصَانُ
- ذُهَان
- تَادَوْلَى(العودة)
- عَطَبُ آلْوُجُودِ في قصيدة بَكيتُ عَلَى أَحِبّةٍ بَكوا عَلَي ...
- سلااااام
- ديستوبيا الحاضر
- قَلَانِسُ نِيسَانَ
- وَجَدْتُهَا
- رَحِيقُ آلْجِبَالِ
- تِيفْسَا
- قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
- حُرَّةٌ هِيَ أمِّي هُناكَ


المزيد.....




- أول حكم على ترامب في قضية -الممثلة الإباحية-
- الموت يفجع بطل الفنون القتالية المختلطة فرانسيس نغانو
- وينك يا لولو! تردد قناة وناسة أطفال الجديد 2024 لمشاهدة لولو ...
- فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن ...
- مغن كندي يتبرع بـ18 مليون رغيف لسكان غزة
- الغاوون ,قصيدة عامية بعنوان (العقدالمفروط) بقلم أخميس بوادى. ...
- -ربيعيات أصيلة-في دورة سادسة بمشاركة فنانين من المغرب والبحر ...
- -بث حي-.. لوحات فنية تجسد أهوال الحرب في قطاع غزة
- فيلم سعودي يحصد جائزة -هرمس- الدولية البلاتينية
- “مين بيقول الطبخ للجميع” أحدث تردد قناة بطوط الجديد للأطفال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله خطوري - مَوْتُ أَبِي آلْخَيْزُرَانِ