أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - صدرية صفراء وخاتم ذهبي















المزيد.....

صدرية صفراء وخاتم ذهبي


محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)


الحوار المتمدن-العدد: 7580 - 2023 / 4 / 13 - 20:57
المحور: الادب والفن
    


لا يذكر سالم بالتحديد كم كان عمره حين غادر القرية، ما يذكره أن ذات مساء عاد ابوه بعد غيبة طويلة ومعه خاتم ذهبي وصدرية فضفاضة صفراء هدية لأمه ، أما حظ سالم من عودة أبيه فلم يتعد بعض الحلويات..
ذوب سالم خيبته في التظاهر بالتلذذ بها وهو يتابع عيون أبيه تكاد تلتهم أمه ، لا تتوقف يداه عن ملامستها ،أما اليه فقد اكتفى بقبلة ونظر؛ ليلتها رافق سالم أمه الى عين ماء قريبة ، تعرت في ظلام الليل رغم رياح الخريف الباردة، وبصابونة معطرة مما كانت تجلبه خالته من المدينة؛ اغتسلت أم سالم تحت بعض النجوم التي كانت تطل خجلى من بين غيوم تتبدد في حزن .. ثم عادا ،وأمه ترزم ثيابها الرثة بين أحضانها وكأنها تحتمي بها من رياح الليل بعد أن غيرتها بالصدرية الصفراء الفضفاضة ..وسالم خلفها يرافقها خطوة بعد أخرى متمسكا بطرف الصدرية يصغي الى مديح أمه ودندنات السعادة تقفقف على شفاهها من جو الليل البارد وكأنها تحاول أن تغيِّب عنه صوت عواء الذئاب البعيدة ..
بعد اطلالة على والده الذي غفا في ركن البيت، ضمته أمه الى صدرها ، وعلى خده طبعت قبلة حارة وناولته رغيفا وزيتونا، ،ثم حرصت على أن ينام بعيدا عن فراشها .وقد اثاره أن يرى لأول مرة كحلا في عيون أمه وصباغة حمراء تلون وجنتيها القمحيتين ..
تعوَّد سالم من أمه في غياب أبيه ما أن تضع راسها على الوسادة حتى تشهق بغصات وأحيانا تبكي قبل أن تضمه اليها وهو معها على نفس الفراش لاكما أبعدته اليوم ،وآثرت أبوه بمكانه بجانبها ..وبغطاء دافئ يقيه برد الخريف.. بعض القلق ما أستحوذ على سالم وغطاؤه المهترئ لايقيه من نسمات برد تخترق شقوق الباب والنافذة ..
عتاب قوي كان يسري في الظلام بين أمه وأبيه وحديث طويل عن المدينة وملاهيها ومغرياتها وبناتها اللواتي " كيطيحو الشهر بالنهار جهر" ، قبل أن يتحول الفراش الى معركة قوية من زفيروشهيق وكلمات لم يفهم لها معنى ..
كان ينام ثم يصحو وحديث الفراش بين أمه وأبيه كالقصص الطويلة التي ترويها جدة صديقه حسن والتي تتكرر يوميا ولا تنتهي ،الى أن ينام الأطفال من حولها دون أن يسمعوا للقصة نهاية أوختام ..
ما أن اصبح الصباح حتى وجد أمه قد بادرت الى إخراج كل ما استأثرت به ولديها مخزون من سمن وعسل وبيض ،واعدت حرشة ومسمن لم يتذوق مثلهما مذ غادر أبوه القرية ..
تمنى سالم أن تحدثه أمه عما وقع واي شيء جعلها أكثر حيوية ونشاطا كطير لا يتوقف عن الزقزقة والقفز لإرضاء أبيه والثناء على هديته اليها ..
"ماعرفتش واش هديتك باش تسكتني ولا كنت عايشة ف بالك "
لم يكن يهيمن على تفكير سالم بذكرى غير صبيحة خالته التي تخاصمت مع زوجها وأتت ذات ليلة للمبيت عندهم ، فارة من غضب زوجها بعد غياب دون إذنه ،فلحق بها ثم تصالحا بتدخل من أمه ،لكن ما أن هم بها وأطلق همسات في مسمعها حتى ركلته بقدميها وأطلقت قذائف لسانها في وجهه :
ـ حتى تكون أنت راجل عاد تكلم على اسيادك الرجال ..
تحول الفراش الى معركة من سب وشتم وضرب ،ثم خرج الزوج بلا عودة وقد ترك خالته وهي طالق..
تعمدت أمه أن تحمله ليلتها و بسرعة ثم تخرج به الى الحوش حيث أكمل الليل على تليس من الحلفاء ..
ظلت خالته شهورا بعد طلاقها تشاركه وأمه غرفة نومهما الوحيدة ، تعيش معهما دون أن تغادر القرية ، ثم رحلت أياما بعد نقاش حاد مع أمه التي حاولت أن تمنع خالته من السفر خوفا أن يضبطها زوجها في المدينة فيقتلها ،لتعود محملة بما لذ وطاب من فواكه وخضر، حلويات وألبسة ..
غصة تصعد الى صدر سالم وقد اكتشف أن لغة الحب لدى خالته كانت أقوى مما يملكه أبوه ..
صحا ذات صباح ليجد أمه قد أعدت رزما مما خف من الألبسة ، واهتمت خالته بتغيير ثيابه استعدادا للرحيل عن القرية.. كانت أمه تكح وتشكو ألما في صدرها ، يعاتبها أبوه لانها كثيرا ما تفرط في العناية بنفسها خصوصا في فصل خريفي يتقلب جوه بين لحظة وأخرى ..
كانت الرحلة شاقة متعبة والمسافة طويلة الى محطة صغيرة ثانوية لا يتوقف فيها القطارالا ثواني ..
لم يدر سالم كم مر من الوقت قبل أن يصل القطار الى محطة المدينة ، فبعد المسافة وتعب الطريق قد هدهم بعياء فخلدوا جميعا الى النوم ، داخل القطار... كان سالم لا يفتح عينيه الا على أصوات الكراسي التي تكركر كرحى طاحونة القرية ،و سعال أمه وقد راعه أن يصير وجهها ممتقعا شاحبا ..
لم يكن البيت الذي ولجوه بأحسن مما كان في القرية ، فالفرق كان في المساحة فقط ، غرفتان صغيرتان ضيقتان بسقف قصديري لا يتسع كل منهما لأكثر من فراش صغير محصور بين جدران الطوب الأربعة ، استأثرت أمه بواحدة مع أبيه والثانية كانت له ولخالته بعد ان تم اقتطاع زاوية منه لاستغلالها كمطبخ، اما الموقع فلم يكن غير درب طويل في حي هامشي غابت عنه نسائم القرية وحضرت روائح الصرف الصحي ..
خالته أول من اعترضت على السكن وموقعه:
" تسرعت يازوج أختي ،توجد هوامش بها مساكن أحسن وقريبة من مدخل المدينة "
ثم قطعت وعدا بتغيير هذا الجحر بما هو احسن، في حين أن أمه كانت راضية مستسلمة لا يهمها غير حضور أبيه الذي كانت تحرص ألا يغيب عن عيونها بالنهار وأحضانها بالليل ..
تفاقمت حالة أمه و اشتد داء صدرها حتى صارت تلفظ دما كلما سعلت ، لم ينفع معها علاج ولا افادتها إقامة في مشفى عمومي طيلة شهر فاسلمت الروح ..
بعد أيام تم الانتقال الى سكن جديد وفي موقع أحسن قريب من أحياء سكنية جديدة ،و بسرعة تقلدت خالته مهام أمه في كل شيء وكأنها ما فارقت زوجها الا استعدادا للاستحواذ على أبيه والاستلاء على مكان أمه ، وكأن أباه كان يترقب موت أمه ليبدا حياة جديدة مع خالته ..
كانت خالته تغادر البيت بمجرد خروج ابيه الى عمله كحارس في أحد الأحياء ثم لا تعود الا بعد منتصف النهار ومعها ما يكفي من طبيخ المطاعم ..
شتان بين أمه وخالته فلئن كانت هذه أصغر، وربما أجمل ،فهي أكثر اهتماما بنفسها وبأصباغ لا تخلو من وجهها تجاوزت ما وضعته المرحومة أمه فرحا بعودة أبيه الى القرية ، لكن سرعان ما تبادر خالته الى غسل أصباغها بمجرد رجوعها الى البيت وقبل رواح أبيه من عمله ..
لم يكن سالم كأبيه الذي صار يرى ،يتجاهل أو يتعامى، ربما لمسٍّ من عدوى أصابت اباه من أمه فصار تعبا منهوك القوة ، بل كان سالم كثير التساؤل عن خروج خالته اليومي ، أين تذهب ؟ وما عملها بالضبط ؟ هل حقا توزع وقتها بين العمل في بيت أحد الموسرين و مطعم شعبي كما تدعي كلما حاصرها سالم بأسئلته ؟ وهل العمل في البيوت والمطاعم يتطلب كل تلك المساحيق التي تداوم على استعمالها قبل الخروج للعمل ؟
كان استسلام أبيه لخالته وضعفه أمامها هو غير استسلامه مع المرحومة أمه التي كانت تؤثراباه عليه وعلى نفسها ، كان أبوه طيعا لدرجة أنه يلبي كل ما تأمر به الخالة، حتى حين أراد ان يسجله في مدرسة رفضت ،ونصحته بأن يبحث لابنه عن عمل في أي مكان يكتسب منه خبرة ويذر دخلا ولو قليلا الى أن تتدبر هي أمرتشغيله فخضع الأب لاقتراحها ..
كان سالم في دراز قديم لنسج الأغطية الصوفية حين وقف عليه ثلاثة من افرد الشرطة يسالونه عن ابيه وأمه، تملكه خوف لم ينقده منه سوى معلمه حين استفسر الشرطة عما وقع ..
"أمي ميتة من سنوات، وأبي تزوج خالتي بعدها.. يخرج باكرا الى عمله كحارس بالنهار في أحد الأحياء وخالتي تشتغل في أحد البيوت ،لا اعرف له عنوانا "..
من خلال حديثه مع رجال الشرطة أدرك أن خالته تشتغل بالدعارة كواجهة وتوزع المخدرات على من يطلبها بأوامر من مالك البيت الذي يأويهم ..
أصابه الذهول ، معاول تضرب راسه وتهدم كل ذرات نفسه ..كيف أحكمت خالته قناعها فتقبل كذبها حين أخبرته انها تعمل في أحد بيوتات الموسرين ؟ ...
صار يعيش وحيدا في البيت فخالته محبوسة بتهمة الدعارة وبيع المخدرات ، وأبوه محبوس على ذمة التحقيق حيث يشك في علمه بما كانت تقوم به زوجته ، بل وربما يساعدها في ترويج سموم ما توزع ..
متاهة مظلمة صار يحياها ، تدمر حياته ..باي وجه يقابل غيره ؟
صار لا يعايش غير طيوف امه أرقا بالليل وتفكيرا بالنهار..
"ماذا جنيت يأ امي من رجل نسي ابنه بلاهدية بعد غياب طويل ؟ ومن خالة استحوذت على من ابعدتني عنك من أجله ،وأثرته بدفء في ليلة خريف باردة ؟
"ماذا أعطتني المدينة من طفولتي الى لحظة شبابي غير البطالة والجهل ومزيد من الفقر والمذلة والعار ؟
"لو بقيت في مسكننا القروي لا نقد ت نفسي ولو كراع أجني قوت يومي" ..
ذات ليلة وقد هدَّهُ السهد ،هيمنت عليه فكرة العودة الى القرية فربما يجد عملا في معمل الدوم الذي انشئ مؤخرا ..
كان سالم يلملم بعض الثياب من خزانة البيت حين لفتت انتباهه صدرية أمه الصفراء مكومة في قعر الخزانة وكانها مليئة بتبن ، لما فتحها كانت المفاجأة ..عشرات الأوراق المالية من مختلف العملات الوطنية والدولية .. وخاتم أمه الذهبي ..
أعاد الأوراق الى حالتها مكومة في صدرية أمه، وأدخل الخاتم الذهبي في خنصره ،وضع كومة الصدرية في قفة بالية كانت في البيت وغطاها بثياب أخرى خفيفة ثم خرج الى محطة القطار عائدا الى قريته حيث طيوف أمه وحبها يهاتفه من أعمق أعماقه..



#محمد_الدرقاوي (هاشتاغ)       Derkaoui_Mohamed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أيور
- كنت أفر من أبي
- لو يمهلني عمري !!..
- أنثى من عهد الشباب الأول
- أنثى مغربية
- هوس
- طرحة سوداء
- خجل
- بتلة ورد
- أنفاسها ترعف طيبا
- لحمة الشتات
- جمع الشتات : المقطع ماقبل الأخير من انغماس
- لحمة : المقطع الثالث من انغماس
- مرايا بيتنا
- مضيف قريب
- قناديل الوجع (التمفصل الثاني من قصة انغماس)
- موزونة ديال الجاوي تبخر المدينة
- هل حقا ماتت ضحى ؟
- يد رفضت أن تكون سفلى
- أمر سلطوي


المزيد.....




- الغاوون ,قصيدة عامية بعنوان (العقدالمفروط) بقلم أخميس بوادى. ...
- -ربيعيات أصيلة-في دورة سادسة بمشاركة فنانين من المغرب والبحر ...
- -بث حي-.. لوحات فنية تجسد أهوال الحرب في قطاع غزة
- فيلم سعودي يحصد جائزة -هرمس- الدولية البلاتينية
- “مين بيقول الطبخ للجميع” أحدث تردد قناة بطوط الجديد للأطفال ...
- اللبنانية نادين لبكي والفرنسي عمر سي ضمن لجنة تحكيم مهرجان ك ...
- أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك..  تردد قناة توم وج ...
- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - صدرية صفراء وخاتم ذهبي