أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - أيور















المزيد.....



أيور


محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)


الحوار المتمدن-العدد: 7572 - 2023 / 4 / 5 - 00:30
المحور: الادب والفن
    


كعادته كل مساء ،يجلس في مقهى المحطة، قريبا من بيته، حيث يحتسي قهوته، بعيدا عن ضوضاء المقاهي الكبيرة ، التي ما عاد فيها غير كلام يجتر الفراغ ،ونميمة لبوس من جمرات ،شراراتها تلحق المارة ، كما تصيب الغياب، متاسفا على زمن كانت هذه المقاهي ملتقى حوارات ثقافية،أنشطة سياسية ،واسترجاع لموروث التاريخ الثقافي ...
لا يستغرق زمن جلوسه أكثر من وقت يشرب فيه قهوته ،ثم يعود لبيته بعد أن يقوم بجولة في الأسواق القريبة ، سالكا أطول طريق للعودة كوسيلة للمشي والراحة من عناء القراءة والكتابة، وهندسة أفكارلما يخطط من أدوارلشخصياته
كثيرا ما كان يخترق أزقة جانبية حيث بعض دكاكين الكتب القديمة تقاوم الزمن، يندس بين كتبها الصفراء المتلاشية ، متلذذا بعبق التاريخ المنسي ،و حكايات الأدب القديم ...
ذاك دأبه اليومي مذ غادر الوظيفة إثر تقاعد نسبي ، بعد أن أدرك ان بيئة العمل ما عادت مريحة : مزايدات نقابية تتلون بتلوينات السياسة ،إضرابات ووقفات احتجاجية ، وانفلاتات تلاميذ يحضرون الثانوية مخدرين أو مدججين بأسلحة بيضاء ، فأمام هذا التحول المتسارع في حياة المؤسسة المدرسية والتي صار فيها رجل التعليم متهما بالتقصير لاعتبارات كثيرة وسلوكات لا تخفى ، فلن يستطيع تنمية قدراته الأدبية والابداعية ، فولعه بالقراءة والبحث ، وقناعته بما توفره له كتاباته من التأليف ومما يساهم به في وسائل إعلامية متنوعة جعله يبادر الى التنازل عن الاستاذية والانضمام الى أكثر من منتدى وجمعية للابداع الادبي والفني بعيدا عن ضغوطات العمل اليومي ومحاولة لاستعادة ذاته وقدراته ؛حتى الزواج عزف عنه ، بعد أن فقد الأمل في تلميذة كانت تخطف قلبه بخفة روحها، وتبهره بأناقة مظهرها ،انبهاره بذكائها واجتهادها وثقافتها ..كان يترقب ان تنال شهادتها الثانوية ،وتصل سن الرشد ،ثم يتقدم لخطبتها ، فثقافة المرأة وفكرها بالنسبة اليه يمنحان الحياة الزوجية نعمة الحواروالتفاهم.. هي غابت عن الثانوية بعد عطلة ، وهو غاب متأثرا بانفلات القيم المدرسية، وفساد المناخ المدرسي بعد طغيان اضطرابات سلوكية أبعدت المدرسة عن أهدافها ..
وهو في حديث هاتفي مع أحد الناشرين ،تفاجئه أنثى تقف ماسحة وجهه في تمل منبهر باسم ، تتريث ان ينهي مكالمته وكأنها تسافر من خلال ابتسامة على خريطة ماض أحيته المصادفة ، تحمل مفاجأة تركب على محياها لهفة ..
تبادره بالتحية ،فيتفجر خياله عن أنثاه التي تسكن وجدانه، ، حضور لها راسخ لن يغيب ؛ هي اللحظة أمامه حقيقة وجود ، أكمل أنوثة واوفر جمالا، يشرع في تسلق وجهها بارتباك بيِّن وانبهار لايخفى ، يزداد ارتباكه وهي تبادره السلام بعناق و قبلتين على خديه وكأنها تطلق زورق شوق يمخر وجنتيه بلهيب ..بسماتها تأكل كل سنوات عمره الماضية وهي تبادره :
ـ هل عرفتني ؟
يهب اليها في ارتباك مفاجئ :
ـ كيف لا اعرف تلميذتي ولو أنها قد تحدَّت الزمان،وامتطت صهوة الفتنة بطغيان أنوثة ؟
تغسلها راحة نفسية ، وكلماته تنصب عليها و كأنه يبادرها بأشواقه وخفايا أحاسيسه القديمة حيث كان يكتفي بنظرات مسروقات من حيائه ومسؤولياته ..
بكل تلقائية تجر كرسيا وتجلس ، تصر رغم محاولته اقناعها بتغيير المقهى ..
ـ هنا أحسن ، المقاهي الكبيرة كلها عيون تلتهم غيرها ، اما العيون هنا فهي تهرول للخروج او اللحاق بالقطار ،ولا أحد يهتم بغير نفسه..
تتطلع الى صبي يعرض عليها منادل ورقية باعتذار قبل أن تتابع كلامها :
ـ ست سنوات انطفأت من عمرنا لم أرك فيها ..هل مازلت في نفس الثانوية ؟
بسمة انبهار تكتسح وجهه بجمال كم رسم من دوائر ونقط ، كان يقاوم جموحه وطغيانه ، فيغض عنه الطرف ،وها هو اليوم أقوى وأعنف يجالسه دارسا بيادر نفسه بطول أكثر مما كانت عليه ،وسمنة خفيفة جعلتها أشبه بآلهة الجمال الإغريقية:
تتمسح عيناه بشعرها الطويل المسترسل على كتفيها وهو يرد:
ـ لا.. غادرت المهنة كلية ،وقد صارت لي انشغالات أخرى..
بين إشراقة وجهها وافترار ثغرها عن ابتسامة ،تفاجئه :
ـ الكتابة أليس كذلك ؟
يندهش لردها ، هو ذكاؤها ، عنها لم يتلاش أو يفتر :
- كيف عرفتِ ؟ !! ..
ترتاح عيونها على وجهه ، ثم تجيب بتنهيدة وكأنها تستعيد ماض قريب :
كل تلميذاتك كان يبهرهن ما تكتب ، وكنت أكثرهن ثقة بك ، كونك أكبرمن أن تظل محصورا في شرنقة التدريس، وانت تتذمر مما كان يقع حولك من مشاكل صارت جديدة على المؤسسة المدرسية ، كما كنت أكثرهن انبهارا وحفظا لكلماتك، " ياإلهي !! ..من أين يأتي هذا الرجل بكل هذا الجمال،وكيف يستطيع ان يوفق بين عمله وقدرة الإبداع لديه ً" ؟ !!.. تميل برأسها قليلا، تصب عينيها في عينيه ،ثم تردد بصوت خفيض رخيم :
"اليها لا تكتبوا..
قد تكون لها روابط مانعة
فيسمع همساتكم وشاة المطر
ولحرفكم ينتبه حفيف الشجر
كلماتي سارت اليها قوافل..
ومنها لم يتحرك أثر !! .."
أليست هذه كلماتك ؟
يتفاجأ بما قرأت ، وكأنها تكسر اللحظات المتسارعة ،معناه تركب قطار رحلته الأدبية ؛ها هي بعد ست سنوات تستظهر كلماته كما كانت تسير حذوه وهو خارج من بوابة الثانوية ، كان لايدري لماذا تتعمد ذلك ؟ هل تقربا منه وعيا باحساساته نحوها ،ام احتماء به ؟ كان احترامه لها كتلميذة وحياؤه يمنعانه أن يكلمها والعيون سهام مصوبة اليهما ..
تتابع وهي تضحك :
ـ فعلا انت لم تكتب لي، بل لم تحاول ان تكتب ، فحياؤك واحترامك لطالباتك كان أكبرمن إحساسك، كنت تتجاهلني حذرا من العيون والألسنة ..
تصمت قليلا وهي ترسم على وجهها ابتسامة حيرة تصير غصة ثم تسترسل :
لكن كنت لسانا يعبرعن غيرك ممن كان يكتب ؛ كم بعثوا من رسالة !! ..
يستغرب قولها ،كيف يجرؤ أستاذ ان يتطاول على تلميذة هو عنها مسؤول ؟..لم يصدق ما يسمع، ربما ادعاؤها مجرد امتطاء وهم من إحساس مبالغ بجمالها ان الكل ينظر الى فتنة قوامها بعيون الطمع في جسدها .. يحاول ان يغير الحديث:
ـ اعتذر ماذا تشربين ؟
ـ ليس ضروريا لكن اذا أصررت أفضل "أتّاي.."(شاي)
كلامها عن الأساتذة يجعله يتحرج في النظر اليها، حذرا من متابعة الحديث معها ،خوفا من ان يصير هو نفسه حديثا لرواج الريح بعد ان تغادرالمقهى .. هل هي خصلة سوء الظن بغيرها أو مركب الغرور بجمالها ؟ أمر لم تكن له به دراية من قبل.. !!
بذكائها وقراءة سحنات وجهه ، تدرك ما يحرك عقله بعدم تصديق :
ـ مابك استاذي ؟انا لم ابح لك بسرأصدقائك للتشهير،أوالادعاء او لتخيلات وهمية ،حاشا، كلهم كانوا أساتذتي أكن لهم الاحترام والتقدير، انا فقط ضربت مقارنة ، وحتى أطمأنك، فأحد أساتذة الرياضيات هو طليقي..
يفاجئه تصريحها !! .. وبسرعة يبادرها بلا تعليق وكأنه يريد ان يبعدها عن استنتاجها :
صحيح !! ..من فيهم ؟
تضغط على فكيها وكانها تمنع ألما نفسيا من الظهور في عينيها :
ـ عبد الصمد !!..تقولها بنوع من مقت واحتقار لم تستطع اخفاءهما ..
ما كان يعرفه عن عبد الصمد أنه أستاذ كفء لكن نزق متقلب، مصاب بالأنفلونزا المادية تطغى على عقله ونفسه ، هيمنة واستحواذ ،و مبالغة في مزاولة الساعات الإضافية بالبيوت، والاشتغال بالسياحة في العطل المدرسية، مستغلا اناقته وتحرره المتوحش في اغراء فتيات بجدوى العمل السياحي مقابل عمولات يتسلمها من شركات سياحية،وكم أثار بمظهره وأناقته من فتاة كانت تريد الاستمتاع بالحياة ... والتي أمامه جمال طاغ ،حتما فتنتها هي ما اثارت عبد الصمد .. يبادرها وكأنه يتأسف لكلمة طلاق :
وهل بسرعة تم الزواج والطلاق ؟ !! ..كيف؟..
ترد ومن عيونها تتنافر علامات من كراهية تسبح في بركة دمع متحجرة :
لم يكن رجلا ،كان لئيما ، من اليسر أن يبيع نفسه وعرضه مقابل دولارأو أورو ، وقد حاول أن يبيعني ،فلقنته الدرس الذي كان يلزمه..
يهتز لما تقول ، ويغمض عينيه خوفا من ان تتسلل لهما صورة من مروياتها.. هل تركب بساط الريح .. خيالا يطويها؟ ..كيف لرجل ان يتاجر أو يقايض بزوجته ؟ ..لم يحاول ان يسألها كيف ولماذا ؟ فما تتفوه به يبعث على الاشمئزاز والغثيان .. لا يقبله دين ولا خلق إنساني ، سيان كان من قبل من يبيع أومن يشتري .. يتفرس فيها مشدوها ، وكأنه لا يصدق ما تقول .. تركز فيه النظر ، واعية بشكه في أقوالها .." معذور فهو ليس من بيئة عبد الصمد ولا يحمل أدنى ذرة من موروثاته واهتماماته "..
يطول صمته ،فتسترسل متحدية دمعة تعاند صبرها :
كنا نقضي شهر العسل في لندن حين تعرف عبد الصمد على أحد الخليجيين ، أو كان يعرفه من قبل ، وفي لندن كان اللقاء مدبرا ، وقد ادركت من غياباته وابتعاده عني كل ما التقينا بالخليجي انهما يدبران صفقة تجارية أو يحيكان مؤامرة ما؛ وما تصورت أن أكون أنا سلعة الصفقة ، وكلما غاب الخليجي حضرت عجوز استرالية يفوق عمرها الستين ، متصابية داعرة ، وجدناها في الانتظار لحظة وصولنا مطار لندن ، مظهرها يوحي بالغنى ، كما يوحي بالاستهتار والغرور ، كانت به معجبة ، فصارت لنا ظلا ، تتحداني بحضور يومي الى الفندق الذي كنا ننزل فيه ، تقبله أمامي بلا حرج ، وما غابت الا وغاب عبد الصمد معها ، فيعوضه الخليجي بحضور كم رابني ،اقلقني، وضاقت له نفسي خصوصا حين كان يلح في دعوة الى رحلة او نزهة سياحية..
تصمت قليلا محاولة لتسكين ألمها النفسي وكأنها تكبته كبتا حتى لا يصحو بعد سبات ثم تتابع :
قمطني خوف على نفسي من ان اضعف كأنثى، ضغوط من زوج حقير يتغاضى عما يمارسه دحداح دنيء على زوجته وفي حضوره ، ولا يحرك ساكنا ، وسلوكات عجوز ساقطة وجدت في شخص زوجي شخصا حقيرا يتملكه حب المال فيبيع كرامته بلا اعتبار لزوجته..و صار يلزمني أن أتصرف بذكاء فانا في دولة أجنبية بعيدة عن أهلي ولا اعرف أحدا قد يسعفني .. فقد يتم قتلي بمؤامرة محبوكة لا تثير زوبعة من بعد موتي ..
هاتفت أمي، وأقنعتها ان تخبر عبد الصمد هاتفيا ان والدي مريض في حالة حرجة ، كانت المسكينة تنفجر كبالون من وراء هاتفها حتى أني خشيت عليها من نوبة القلب التي تصيبها : لماذا؟ فوعدتها بالتفاصيل حين أعود الى وطني .
يصغي وكأنه يجذف في أعماقها ، ويدقق في كل عبارة تتلفظها شفاهها ، فما يسمعه معاناة حقيقية تخرسه ، معجبا بذكائها وتحكمها سيرا في الاتجاه المضاد لما أريد بها، وبقدرتها على التحمل والصبر برزانة وثبات ..
يتلفظ وكأنه يهمس : وبعد ...
تتنفس بعمق ثم تتابع :
صحوت ذات صباح على رنين هاتف عبد الصمد يطلبني للنزول لتناول الفطور في مطعم الفندق ، لم أدر كيف تسلل من سريري ولا متى خرج ..لم أجده في المطعم فجلست في مكان أستطيع رؤيته منه اذا اقبل ؛تفاجأت بالخليجي يقتحم مائدتي بجرأة ووقاحة ولا استئذان.. صار يتغزل في وجهي، عيوني وقدي وانا صامتة أتصنع الغباء والبلادة .. قال وكأنه يطمئنني بعدم عودة عبد الصمد :
ـ لا تخشي زوجك ، فلن يعود ، اتسلي وفرفشي وأمري يا ملكتي ، فخديمك الهران طوع بنانك !! ..
سألته بجفاء :وأين غاب عبد الصمد ؟
رد بلهجة شماتة :
راح مع عشيقته الأسترالية ، اقبلت خصيصا الى هنا لتلقاه ، هو أنت لا تدرين !! ..زوجك ثعلب شاطر ...
لم يكد يكمل عبارته حتى رأيت عبد الصمد مقبلا و خلف عينيه غضب يتطاير ينعقد على أسارير وجهه كشرر ناري، قال بلهجة آمرة :
يلزم أن نعود عاجلا الى المغرب ..
تلبست قلقا وهميا وأنا أستفسره عن سبب هذه العودة المفاجئة،
فاخبرني بلهجة حاقدة والغضب شرارات على لسانه أن والدي مريض ..
بسرعة قفزت من مكاني وأنا أتعمد دلق كوب عصير على الخليجي، وكموجة قوية ركضت الى الغرفة لالملم حقائبنا ...
مأخوذا بما تحكي ، كل الاضاءات النورانية التي أرسلتها بسماتها عند اول لقائهما تصير عتمات لعينين يزيدهما الحزن جمالا، لكن اهتزازات يدها وانفعالها كل ذلك يحوله الى قلق ، فتباغثه الذاكرة بسلوكات ماضية كم مارسها عبد الصمد بلا حياء من أحد ، وما تحكيه ليس غريبا عن كائن مهووس لا يملك أدنى مقاومة أمام رنة النقد حتى ولو كان درهما ، يتخفى وراء عبوديته للمال بمظهر عصري وطلاقة لسان وجمال صورة من عطاء الرحمن ..
صار يتحرق لمعرفة النهاية ، و شكه السابق في اقوالها يتفتت، تغسله صرة الغيم التي تنفجر في عيونها ،وصدرها الصاعد النازل، واهتزازات يديها وهي تمسح دمعات تتدحرج على خديها :.
ـ تفاجأت وانا في مطار لندن بالخليجي يلحق بنا ، حين سالت عبد الصمد عن سبب وجوده ،صاح في وجهي بوقاحة:
ــ أراد أن يزور المغرب..هو حر ،هل عندك مانع ؟
ازددت يقينا بما يدبره زوجي الديوت ، بعد أن استشاط في وجهي غضبا و بكراهية كشفت طويته ، وكأنه ما تزوجني ورحل بي بعيدا عن أسرتي بحجة شهر العسل الا صفقة أخذ ثمنها مقدما .. جعلت من نفسي كرة ثلجية أتحمل نيران الإهانة الى حين الوصول الى وطني..
تفاجأ عبد الصمد حين وجد والدي هو من ينتظرنا في المطار ، ارغى وأزبد وفار غضبه في وجهي، فابتعدت عنه صماء بكماء لا ابالي، أعانق والدي ببرودة دم ،وبه أحتمي في سعادة لاتوصف ، تعمدت أن أنشرها على ذاتي طغيانا يقهره ، ويلطم من يرافقه ، فقد صرت محمية بأسرتي ، تتلبسني قوة اشد مما كنته خارج وطني .. تقدمنا الخليجي وقد لحق به عبد الصمد وكلاهما يتساءل عما وراء ادعاء مرض والدي وحضوره الآن في المطار...
في بيتنا حاول عبد الصمد أن يتلبس رجولة يفتقدها وشرفا لايملكه، و إنسانية ان كانت لها بقية عنده فهي ما يؤرق وجوده الفعلي ، فكان تعليلي الظاهر أني لاحظت علاقته بالاسترالية ففضلت العودة الى وطني دون أن أثير مشكلة الخليجي ..
كم أقسم كذبا، وكم حاول تبرير مواقفه لوالدتي كوني أنثى "بلدية" أجهل ايتيكيت الحضارة الأوروبية ، ولقد اخرسته أمي تخلصا من أيمانه الكاذبة بعبارة ارتاح لها : لاشيء وقع، هو سوء تفاهم يقع بين كل العرسان الجدد..
أصر على أن نروح لقضاء الليل في بيتنا ، فتمسكت بالرفض ، فماعدت أثق بخلوة معه ،غضب وهدد ثم خرج للمبيت عند أمه ..
اختليت بوالدي وحكيت له بالتفصيل ما كان يدفعني اليه عبد الصمد ..نصحني أبي أن أظل على علاقة عادية به ، مع الاحتراس من اللئيم الذي تبعنا الى المغرب والذي يعد حضوره الدليل على سوء نية عبد الصمد ..
حين عاد ابي مساء طلب مني ان اجد وسيلة لزيارة الوكيل العام دون ان يشعر زوجي ..كانت الخطة أن أقوم باغراء الخليجي خلال عشاء يقيمه والدي ، ويحضره الخليجي ،ثم أحاول جره الى احدى غرف النوم ..
مثلت دوري باقتدار، فكان لزاما ان أخرج من مجرة زوجي بشرفي وشرف عائلتي ، منتقمة لكرامتي التي حاول أن يدوسها شبه رجل ديوت ،وبدوي سافل نجس .. كراهيتي لهما قسم ان ارميهما معا في أتون يحترقان قبل أن اسقط عبد الصمد من سجل ذاكرتي ..
الكل لاحظ حقارة عبد الصمد من خلال السعادة التي غمرته بعد معارضة صورية ،ثم إذعان لرغبته باستدعاء الخليجي الى عشاء في بيتنا احتفاء بالعودة والصلح الذي أوهمه به والدي ،وقد لاحظ الكل ليلة العشاء انه كلما تقرب مني الخليجي يبتعد عبد الصمد ويترك له فرصة للتحرش بي..
في احدى زوايا بيتنا انحنيت على الخليجي وهمست له :
- انك تحرجني بالتقرب مني والكل صار ينتبه لنا
بادرني : عاشق ورب الكعبة عاشق !! ..
- لكن انا متزوجة كيف تجرؤ على ذلك وزوجي يحبني
رد وقد اهتز من مكانه كثعلب يتربص إغراء بفريسة :
والله ما يحبك ، هو يحب المال ، وقد عقدت معه صفقة تسلم نصفها، يطلقك وانا اتزوجك اذا لم تنجح فكرة إغرائك ،متيم بك ورب الكعبة..
غلى الدم في راسي ، وصرت ارتجف ، اية نرجسية، وأية دناءة ارتبط بها مصيري وانا لا ادري ؟
تتنهد بغصة ألم وهي تسترسل :
ـ كيف وقعت في رجل لايعرف معنى للكرامة الانسانية، خطبني وهو يدعي هيامه بي، ومن صاحبوه لخطبتي كانوا من أشهرأعيان البلد، فكيف يبيعني؟ ولمن ؟لرجل نجس !!... يتاجر في اللحم البشري بلا رقابة دين ولا ضمير ،هل أنا رخيصة لهذه الدرجة ؟ تجلدت ، لابد أن اتحمل ما اسمع ويلزم أن اؤدي مهمتي كما اتفقت مع الوكيل العام.. والله لن أترك أيا منهما يخرج سالما بلا جزاء يشفي غليلي وما عانيته من خوف وألم وغبن وتحقير ..
همست لابن الكلب الذي يلازمني كظلي بلاحياء ولا اعتبارلأفراد اسرتي و الذي كان ينتفخ بينهم كطاووس مريض يركبه غرور من لا اصل له، يوهمه أن بماله قادرعلى اخضاع كل الرقاب تحت قدميه ، " لا غرابة ، غرور الناقص حين يتوهم نفسه بلغ كمالا لا يستحقه ،همست له :
ـ انتبه انا ساتجه الى السلم المقابل لك ،بعد ان أغيب ، اِلحق بي وكانك تريد الحمام ..يجب أن نتفاهم قبل أن نغامر ..
تململ الغبي الضُّحكة في مكانه كدحداح يزهو بقصره ، وكانه بلغ سدرة المنتهى ، تركته وقصدت غرفة نوم ماما ..
كان مستعجلا فلحق بي في اقل من دقيقتين ، ارتمى علي ليقبلني فكانت يدي لخده سخاء بلطمة قوية أطارت الشرر من عينيه ، وانتزعت منه صيحة ألم شرع يترنح بعدها ويدور حول نفسه ، وقبل ان يستعيد توازنه وجد شرطيتين تقتحمان الغرفة ، تطوقانه ، لحقت بي أمي وأبي الذي تقدم منه وبصق على وجهه ..ساقته الشرطيتان الى مركز الشرطة وقد سبقنا شرطيان آخران يرافقان عبد الصمد ...
يستمع اليها و نفسه تنشطر بين هواجس واشمئزاز لما ترويه بحرقة تأكل صدرها، زوج يحتال على زوجته بمظاهر الخداع والكذب، يشتريها بمهرثم يقايضها بكرامته، فيبيعها سلعة أحط من سلع اسواق النخاسة ، وكائن نجس لئيم يتمظهر بالدِّين والتشدد الديني في وطنه ويرتدي حلله مظاهر وطقوسا، وهو خارج الوطن مشدود الى غرائزه الحيوانية ينفق عليها بلا رقابة ضمير..أي عالم صرناه؟ واي خواء صاره مثل هذا الخنزير الذي لم ينسلخ من سطوة التمركز حول ذاته .. عقلية فارغة جوفاء لاتهتم الا بما تأكل وما تربح وماتقايض وتقامر .. أليس هذا اغترابا وفقدانا للامان حين لا يرتاح أنسان الا بين أوكارالانحراف الجنسي وزوايا الدسائس وتركيع الغير؟..
تنتفض أمامه حينا وتهتز أخرى؛ يقترب منها أكثر،ويضع رأسها على كتفه ككتلة حزن تلفت لحشرجتها بعض من في المقهى ، يربت على كتفها :
ـ لماذا البكاء ؟ ماذا ضاع منك ؟ تجربة غيرت اسطورة الثقة بالمظاهر في نفسك ، أنت الآن اقوى وأمض .. لم تتمرغي ضلالا أو ترتكبي معصية ، هي أوراق تناثرت وعرت حقيقة بعض الناس ..
يخرجان معا من المقهى وقد هدأت ، يده على كتفها كحماية وحنو ، ورسالة عنها لن يغيب معناها ..تسير معه خطوات ثم يفترقان على أمل اللقاء يوم غد في مقهى اتفقا عليه..
....
تقبل نحوه تتئد في خطوها،تسبقها اليه ومضات من شغاف القلب .. زينة ليست اكثر مما كانت به أمس ، فلم تغير سوى فستانها ، يستقبلها فتعانقه كما عانقته أمس ،قلب رفيف وسلام بقبلات على الخد ..، بنفس العطر يعبق منها ، بهاء وجه كصباح وضيء في يوم ربيعي ، وعيون ناعسة خلفها يتمطى الهدوء وترتاح السكينة ..
يسحب الكرسي الى الخلف ثم يدعوها للجلوس وهو يسألها :
كيف صرت اليوم ؟
بعفوية ترد : الحمد لله .. إشراقة من ليلتي براحة نفس، كراحتنا لعودة غائب نستعيد بعودته هدوءنا النفسي .. .
بسمة ارتياح تتربع على وجهه ، تعجبه تعابيرها فيصغي اليها بانتباه، يستشعر سعادة ترتديها اليوم وهي تلبي موعده ..
عيناه تتركزان على وجهها وهي تستقيم في جلستها ..كل ما فيها يعلن عن أمل ينبثق أمامها...
تقرؤه بخبرة ما كانت لتملكها لولا تجربتها السابقة ؛ تقرأ كل حركة منه ، نظرته اليها بوداعة وهو يتأملها ويتابع حركاتها ، نظرة تعكس هدوءه النفسي بلا تلوينات مثل التي كانت تصبغ طليقها كلما انتقل من موقف الى موقف ،و بين كلمة وأخرى، فيصير مزيجا من التعالي ،السخرية والقسوة، وأحيانا من عنصرية كم أدمت مشاعرها ...
تتعمق في عينيه..رجل لا يتصنع، يتصرف بعفوية، تكلمه فيصغي اليها وكأنه يذيب نفسه فيها ،ومع نفسه يذيب فوارق كانت تطغى عليها من قبل، هي إحساس الفارق بين أستاذ وطالبة ....
تشعر بنفسها وكأنها فراشة طوافة حوله ، تستنشق كل ما تقذف به دواخله الى بصرها ، تبحث فيه عن قطرات من ندى ، تسأل ربها أن تحظى بواحدة تغسل بها بقايا صور عن رجل مر بحياتها ..
يقول وكأنه ينزعها من تفكيرها :
مابك ؟ انت معي ام مع أمسك ؟
تتطلع اليه في ثقة :
أمسي مات ،و أنا معك بهبات من ستائر الطمأنينة تنفتح في وجهي؛ بصراحة انا كنت قد خلعت كل ما مضى من ذاكرتي، لكن حين صادفتك، احببت ان أجعلك في صورة صادقة لما وقع ..
تضحك وكأنها تريد ان تطوي كتاب ماض قد أندرس ثم تقول :
المهم انا معك ،احك لي عن نفسك كيف غامرت بمغادرة الوظيفة من اجل معشوقتك!!..
تقولها برنة اعتزازوارتياح أنها مع رجل يجيد كتابة الحرف ..
يقبل النادل ، يسجل الطلبيات ثم ينصرف ، فيعيدها اليه ضاحكا :
ـ هي فعلا معشوقة..في رأيك ألا تستحق التضحية؟ ..يتحرك رأسها كتأييد لرأيه فيتابع :
أن تسكنك الطمأنينة وتتدثر براحة البال فذلك نصف الإبداع، والنصف الثاني حرية وصدق مع النفس.. هي فكرة تولدت بعد مخاض وما أحاط بها كان حافزا ، وحين قررت لم اصغ لقرارات عقلي الباطني ، وبعد أن نفدت أولى تجاربي تولد لدي شعور بالرضا والتقدم ..احس اليوم قوة اختياري وصدقي مع نفسي ، فمهنتي السابقة لم تعد توفركرامة الانسان التي لفتنا عند الاختيار لا مع مسؤولين ولا بين تلاميذ ..
تهز رأسها كتأييد لقوله ثم ترد :
قليلون من صاروا يبحثون عن كرامة الانسان و راحة البال ، عيون شرسة ونفوس لاترتوي ، تكالب على الدنيا بلا قناعة ، الكل ساخط متذمر يشكو ويبكي،لاهث بعد ان فقد قناعة عمره.
يمسح الطاولة بعينيه ، متمليا في استنتاجاتها عن الحياة وهي لا تزال شابة في عمر الزهور ،فكيف بها لو غطست اكثر في تخريجات السياسة، وخوافي الاقتصاد..لحظة صمت قصيرة ترين بينهما فيقول بعدها :
سأسألك سؤالا واعتذر مسبقا..
ـ كيف لأنثى بذكائك ان تنسى اكثر من حادثة عاشتها المؤسسة وعبد الصمد من كان وراءها ؟
تعب الهواء بقوة ثم ترد وكأنها تحفرفي أيام الدراسة :
لم أكن مثل بعض البنات، ممن كانت لهن حرية السفر بلا رفيق ولا رقابة، فيغريهن العمل السياحي ، لهذا فما كنت بمن يهتم بعبد الصمد وما يمارسه خارج نطاق المؤسسة ، كما لست الأنثى التي قد يولد الجمال فيها كبرا او غرورا أوطمعا وحب الظهور،ولا انتمي لعائلة لها ماض من غنى ذائع في قبيلة ،او صيت سياسي، او اجتماعي ؛ جدي لم يكن غير أمازيغي نزح من جبال الاطلس، ضاقت عليه رقعة جبلية لا تنتج غير الدوم ، فنزل للمدينة . ومعه جدتي بوشم هو أغلى ماعندها وبه تفتخر ،وأبي طفل حرمه محترفو السياسة وسماسرة الانتخابات كما حرموا غيره من أبناء القرية من اعدادية يتابع فيها دراسته بعد الابتدائي ، أو طريق توصل الى اعدادية ولو كانت بعيدة .. تقلب في أكثر من عمل قبل أن يتوسط له احد أبناء العمومة عن مهنة شاوش ،من حسن حظه أنه بذكائه وأمانته ترقى فيها بسرعة الى أن أوصلته الى بوابة الوكيل العام الذي أغدق على ابي الكثير بعد ان خبر وفاءه وإخلاصه له ،ثم زوجه بخادمة كانت في بيته وملكهما سكنى اقتصادية فيها ازداد اخي ثم انا من بعده ، غيرها والدي بسكنى أكبر وأحسن بعد هبة من أحد منعشي العقار من عائلة زوجة الوكيل العام ..
انبهار امي بعبد الصمد كأستاذ ،وبحالته المادية امام تواضع ذات يدنا كان المحرض على القبول ..
يسمعها ولها يصغي بانتباه وهي تحكي عن حياتها ببساطة وعفوية بلا مركبات ولا ادعاءات ، غيرها بنفس جمالها او اقل كانت ستجعل من جمالها اسطورة نسب وشرف وانتماء سوسيوثقافي ..
يقبل النادل بالطلبيات وما ان يستدير حتى يقول لها :
هل تعلمين أني أكبر عفويتك وأحس صدقك وأنت تحكين ؟ أنثى من صراحتها وقبول نفسها لا تحاول إخفاء فقرها ..
تحدق في وجهه ثم تقول :
كل قشرة مهما سمكت ،بهبة ريح تتلاشى ، فهل يفيد بعد التلاشي ترميم ؟
هو ذا نضجها الذي كان يستشعره وهي طالبة ، يتجلى في بساطة لباسها، عدم التطلع الى ما في يد غيرها ،عفوية ردودها ..تأخذ جرعة من كأسها ثم تتابع :
عبد الصمد صادفني مع امي في احد الاسواق التجارية، فارتمى علي وكأنه وجد ضالة قد خطط لها ، أو كان اللقاء صدفة فتصنع اللهفة، وكحلاف محترف مهين أقسم بأيمان مغلظة انه داخ في البحث عني خلال العطلة ، ثم قال لوالدتي بكل جرأة :
والله يا امي أني اعشقها مذ كانت في المستوى الاعدادي ، لكن كنت احترم نفسي كأستاذ خوفا من ان اتهم بالتحرش بها ، أتوسلك زوجينيها ؛اني ابن عائلة وجاهزعلى الآخر، لي بيت في ملكي وسيارة ،ولا املك غير والدة ارملة هي ما اسأل الله ان يحفظها ..
لم يأت لخطبتي وحيدا كان معه رهط من كبار القوم وأعيان البلد،كيف لمَّهم، وكيف انساقوا معه ؟لا ادري ؛لكن ليس غريبا ،فمن كان جده عميلا للاستعمار وابوه سمسارا في كل شيء فلن يكون الا حربائيا كعبد الصمد ،وهذه أشياء لم أعرفها الا يوم طلاقي، سمعها أبي من أحد المحامين الذي لام أبي موافقته زواجي من عبد الصمد ..
قبل زفافنا أخبرته بحالنا كأسرة تعيش على الكفاف والعفاف، ولا طاقة لنا بأعراس الكبار : قاعة حفلات، وموائد وأجواق، اذكر انه مثل عليّ غضبة شككت في صدقها إذ لم تكن غير كرة ثلجية أذابها واقعي الذي عشته معه ، قال لي :
تزوجتك انت ولا علاقة لي بوالديك !! ..لكني أوقفته بتوضيح :
انا قطعة من والدي وبهما افتخر ، انا أمازيغية يا عبد الصمد، ولا احد يستطيع ان ينتزعني من انتمائي لهما،أو من تربة الأرض التي تمرغت عليها بينهما ...
قال وقد حاول ان يخمد غضبته :
لا تفهميني خطأ ،اعرف هذا، ولكن لنا فكرنا ولهم فكر، ولنا حياتنا ولهم حياة.. هذا ما أقصد ..
لم أحلل العبارة كما ينبغي فأخذتها على ظاهرها بطيبة نفس ، ومنطق الولاء للوطن كلحمة واحدة بين كل أطيافه.. لو حللتها لما أمَّنتُ على قوله ، ولأدركت انه ارتمى علي بعد ان خطط متوهما ان انتمائي وفقري طريق للاتجار بجمالي ،كم أرتعد وانا أتخيل لو استطاع ان يوقع بي ، ويهيئني لأصير رأس ماله في تجارة حياة الدعارة ،ربما كان يفكر ان أمازيغيتي لا تعبأ بشرف ولا تتسلح بذمة، حقير ونظرته لغيره نظرة محتال يتعالى بكبر وعجرفة وفكر مصلحي،لا يهمه غير ما يربحه ويغتصبه ويجمعه ولوعلى رقاب الغير ..
يلا حظ أنها بدأت تنفعل فيبادر الى تغييرالحديث :
ما رأيك لو نتمشى قليلا فقد غصت المقهى بروادها ؟
توافق وهي تقول :
أحسن فالضجيج يعلو، والحرارة ترتفع ...
تهزها رجفة تكتسح كل جسدها ويدها تلامس يده صدفة ، لم تستشعرها وهي تسلم عليه بعناق حين صادفته أول مرة و لاحين أقبلت اليه اليوم ، هبة برد تلفها ، توقظ في نفسها ذكريات حنين الى أمسيات ثقافية كان يلقي فيها قصصه واشعاره ، حنين لم تستطع كبحه في نفسها ،تستعيد عيونه التي كانت تتطلع اليها في صمت، تتناقرمع عيونها النظرات ، وبالحس تبادله جمال مايقرأ ، كصلاة استصفاء تفضح الحنين ، فهل لقاؤهما هذا يحيي أملا كان يخامرها وهي تلميذته ؟
وهل حقا لازال يحفظ لها كل ما كانت تراه في عيونه ؟ هي غادرت الثانوية بعد زواج متعجل فاشل قضم كل ما توسلته من دراستها، تلبية لرغبة أمها التي تؤمن ان الخاطب الاول إشارة قد لا تتكرر،"السوم الاول عليه تعول" والبنت مآلها الزواج وهو أحسن لها من تعليم ما عاد يؤهل لوظائف مربحة، والدليل أخوها الذي تجده أمامها بلا عمل ، وبهذا المنطق أقنعت الأم الأب على القبول ،اما هو فقد غادر بعدها التعليم ليخوض تجربة جديدة هي عشق الكتابة الذي يسكنه ..
تنتبه على صوته وكأنه يستعيدها اليه :
نحن هنا ، فيم غابت ايور؟؟..
تهتز برجفة ثانية ، تتمسك بذراعه كطفل به يعلق ،تتعثر وكأنها ستسقط ، تتنفس بقوة ،كمن يريد أن يجدد الهواء في صدره ..
لا زال يحمل لها ودا ويتقرب اليها باسمها الذي مافتئ يذكره . الاسم الذي اصرعبد الصمد ألا يناديها الا" بزهور" بدل أيور اسمها الامازيغي الذي به تعتز، تقول وهي تضحك :
معك أستاذي إدريس أيمانو ..
تتمنى لو يلمح حنينا اليه يسكن جوانحها ، لو ترتعد اوصاله فيضمها؛يفاجئها :
ـ أيور !! ..
للمرة الثانية يتلفظ باسمها كأنه لحن عذب من بين شفتيه، ودون تفكير ترد وهي تشعر به حقيقة وجود :
أستاذ أيور ، أحبيبونو ، كلي آذان لك صاغية ..
يشابك أصابعه بأناملها وهو يقول :
انا لست أستاذك ، انا حبيب، احس روحي قريبة منك ،هل ممكن ان تحددي لي موعدا مع أبيك ، اريد مقابلته..
تلتصق به أكثر،تشهق و الدموع من عينيها تطفر .. ينتبه الى شهقتها و انسياب دموعها..
ــ ما بك أيور ؟
- لا شيء ،فقط فرحتي بك ،انك لست شبيه القلوب ،أصيل و جوفك أبيض من نقاء الثلج ، بلا دناسة، لا يذوب بهبات نفاق
يصمت قليلا ثم يقول :
أيور !! .. انت لاتعلمين شيئا عني ، أنت تعرفينني كأستاذ سابق كما تعرفين اسمي وحوارات تبادلتها عيوننا في صمت ..أنت عشت تجربة أليمة ولا اريد ان تعاوديها في صور أخرى.. وتجربتك غنية ،صارت تمرن شهيقها على فك الالغاز ،قادرة أن تكفر بالصوت الكاذب الزنيم ،تميز " بين صادق لسانه من نور ، وكاذب يوغل الصدر بدناءة الفجور "..أعي ان كلا منا يحس عاطفة حب قد تؤلف ما بيننا لكن الحب وحده غير كاف في حياة تعقدت وصارت تفرض مطالب جديدة قد لا نستطيع بلوغها وتحقيقها ..
ترد وهي تكفكف دمعاتها :
سأكون صريحة معك ،لن أطمع في اكثر من حياة بسيطة استرجع بها طمأنينتي وثقتي بنفسي وبرجل يكون شريك حياتي ، لا يغريني ما وهبني الله ،أعيه وأدركه ، وهبة الله لن تحرضني على عصيان ربي، وهذا من قناعاتي ،اما اقتناعي فأنت وحدك بما استبطنه لك قادر على إسعادي بما وهبك الله من خلق وصدق وايمان..عقدتي يا ادريس عقدة من تلقت صدمة بدس وخديعة أوقفتني عن دراستي ، وهدمت كل أحلامي ،انا لا ألوم أمي التي انساقت مغترة بتمثيلية بهلوان حقير ، فأمي كانت تستجيب لمخزونات زمانها والتي تفرض على الأنثى الزواج بدءا من سن مبكرة جدا ،وإذا ما تجاوزته عدت بائرة ومضغة في الأفواه ،أنا ألوم نفسي لانه كان بإمكاني ان أقاوم ،وان أستشير غيري وان ادرك ان زماني ليس هو زمن امي وان الآتي يفرض على ان أكون انثى متعلمة بوعي أكبر، ازاحم بوجودي وجودا ذكوريا يستغل جنسي ارضاء لأنانية ممقوتة ،لكن ضيق اليد يا إدريس دفعني للرضوخ بثقة في رجل مظهره كان لا يدل على حقيقته..
يتابع حديثها بإمعان ، تنتقد نفسها عن اقتناع بما توصلت اليه بعد تجربة ،انثى تستدرك هفواتها بندم وحسرة .وقراءة واعية.
يطوقها بذراعه وكأنه يحسسها بحماية قوية بعيدة عن الوعود والادعاءات ...
يوصلها الى باب البيت بسيارته ..كان الباب مفتوحا على غير عادته ، واحدى الجارات تلجه مهرولة .. يركبها فزع مقلق .ماذا وقع ؟ تباغته :
ـ شيء ما غير عاد في بيتنا!! ..
يركن سيارته على جانب من الطوار ويتقدم معها الى البيت،حذر لا يدري ما يفعل، هل يتقدم ؟ وفي هذا نوع من التطفل قد لايقبل به غيره ، أم يتركها تواجه الأحداث ؟ أصوات بكاء ونحيب تشيع أم أيور الى سيارة الأسعاف ، تبادر الى أبيها الذي يهرول الى الباب
ماذا وقع لها بابا ؟
ـ عاودتها النوبة القلبية ..
يضع ادريس يده على كتف أيور يهدئ من روعها وهو يسالها :
الا نلحق بسيارة الإسعاف الى المشفى حتى تطمئني ؟..
بعد أيام قليلة انتقلت أم أيور الى رحمة الله ..ما ان بلغه الخبر حتى هب الى بيت المتوفاة يقدم التعازي ، رأى اقبالا واهتماما من قبل والد ايور واخيها ، كما أن ايور كانت لا تسعها أرض بوجوده ودعمه لها بحضوره ، لم يغب عنه أن ايور قد اخبرت والدها بعلاقتهما لهذا لم يتوان الوالد لاستدعائه الى عشاء اليوم الثالث من الوفاة ، لبى الدعوة وقام بواجب العطية المتعارف عليها (إغرم) في مثل هذه المناسبة الأليمة ..وهو يغادر بيت العزاء ليلا تلحق به أيور الى الباب وتشكره ثم تقول له :
اياك أن تغيب عنا ادريس ، يرفع يدها الى فمه ويقبلها ثم يقول :
ـ لا تهتمي باي شيء لست من يغيب عنك في لحظات اسى، فقط أهتمي بوالدك أكثر، فقد لاحظت تعبه وألمه من جراء الفقد..
تتنهد : صحيح كانت لديه اثيرة حتى على أبنائه ...
خلال ثلاثة اشهر لم يكتف ادريس بزيارة والد أيورمرات متعددة، بل صار يبعث بكل مايلزم بيتا قد فقد أحد أعمدته ، والعمود الثاني صار هزيلا وقد خارت قواه لا يركز في من حوله ،وكأن زوجته المتوفاة قد أخذت معها فرحته وحيويته؛ وقد أخبرته ايور انه صار يعيف الطعام ويرفض أن يأكل أي شيء ..
الحزن الذي ركب والد ايور على رفيقة عمره قد عصر ه باسى لم يمهله طويلا حتى ألحقه بها ، لم تجد ايور غير ادريس عونا وسندا ،وقف الى جانبها ،كأن المتوفى والده الذي مات ولا يتذكر جنازته .. تتيقن ايور أن ادريس هو نصفها المكمل لحياتها وانها ما كانت و لا أخوها ليقاوما مناسبتين للحزن والاسى وسد الخصاص من غير معين وفيّ هو إدريس الذي وقف بجانبها وقفة رجل شهم بعرق متأصل ،لقد تأكدت من إنسانيته التي رمت عليها وعلى أخيها عطفا وحنانا أنساهما مصيبة هي قدر وقضاء كانت اختبارا لرجل بعد مؤامرة من غيره ..قضية ونقيض ...
تجلس أيورالى أدريس بعد أربعينية أبيها وتقترح عليه استدعاء عدلين يوثقان علاقتهما ، فما عادت تستطيع ان يبيت بعيدا عنها ، ثم ينشغل بها يوميا عن التزاماته الإبداعية ، اذ يلزمه استقرار حتى يعود لنشاطه . فانشغاله بها قد افقده حريته وراحة باله ؛ حقا ان أخاها يثق بها وبعفتها ، كما وثق بإدريس وشهامته ، لكن قد يكون للجيران ولمن يزور البيت للاطمئنان عليها وعلى أخيها رأي آخر،ظاهره بسمة رضا ، وباطنه سوء ظن وتأويل ،اتى رده مباشرا:
ـ كنت اخشى اقتراح الامر عليك لكن خفت ان تفضلي التريث الى ان تتمكني من إقامة حفل زفاف..
وكمن لسعتها عقرب تشد على يده:
ـ حرام عليك ،هل تتصور اني حقا اريد حفلة زفاف " للي غادي يأكله الطبيب أولى أن يأكله المريض " أمامنا ما هو أوكد من حفلة نسعد بها غيرنا ..
يضمها اليه فترفع يده وتقبلها ، وهي تحس بدفء أحضانه إحساس صدق وأمن وأمان ، وبتعلقها به قدر حنوه عليها وعلى رعاية أخيها ..
تقول له ذات ليلة وهي متكومة بين احضانه :
ماذا كان سيحل بي وبأخي لو لم نلتق ؟
يشد عليها بين أحضانه :
ـ حين تكون مضغتنا سليمة حاشا الا يعوض الله البديل بما هو أبرك وأحسن ..
انت كنت لي املا ايور فبلغته ، وكنت لك مبتغى قد ضاع فأعادني الله اليك بعد احداث مؤلمة



#محمد_الدرقاوي (هاشتاغ)       Derkaoui_Mohamed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كنت أفر من أبي
- لو يمهلني عمري !!..
- أنثى من عهد الشباب الأول
- أنثى مغربية
- هوس
- طرحة سوداء
- خجل
- بتلة ورد
- أنفاسها ترعف طيبا
- لحمة الشتات
- جمع الشتات : المقطع ماقبل الأخير من انغماس
- لحمة : المقطع الثالث من انغماس
- مرايا بيتنا
- مضيف قريب
- قناديل الوجع (التمفصل الثاني من قصة انغماس)
- موزونة ديال الجاوي تبخر المدينة
- هل حقا ماتت ضحى ؟
- يد رفضت أن تكون سفلى
- أمر سلطوي
- انغماس


المزيد.....




- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...
- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...
- تردد قناة mbc 4 نايل سات 2024 وتابع مسلسل فريد طائر الرفراف ...
- بثمن خيالي.. نجمة مصرية تبيع جلباب -حزمني يا- في مزاد علني ( ...
- مصر.. وفاة المخرج والسيناريست القدير عصام الشماع
- الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن ال ...
- بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - أيور