أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسر جاسم قاسم - ابن خلدون بين: علي الوردي ،عبدالرزاق مسلم الماجد، فالح عبدالجبار.....















المزيد.....



ابن خلدون بين: علي الوردي ،عبدالرزاق مسلم الماجد، فالح عبدالجبار.....


ياسر جاسم قاسم
(Yaser Jasem Qasem)


الحوار المتمدن-العدد: 7536 - 2023 / 2 / 28 - 20:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    




بداية علينا ان نتفق ان الدكتور عبدالرزاق الماجد له الريادة في رؤيته المعرفية لنظرية ابن خلدون وتطبيقاتها المادية في ضوء النظرية الاشتراكية في المجتمع العربي ككل ، وقد استثمر الدكتور الماجد في ابن خلدون واسس لمعرفة ضمنت له الريادة وجعلت المفكرين البقية يتوجهون لقراءة ابن خلدون قراءة اخرى بناء على مقتضيات المجتمع العربي وصيروراته المختلفة ....اما الدكتور الوردي فقد كان رائدا في قراءته للنظرية في ضوء المنهج الوضعي فلم يسبقه سابق في ذلك وقد سار على نهجه الدكتور فالح عبدالجبار كما علينا ان ندرك انه لم يشكل عالم اجتماع عربي ظاهرة كبرى كما شكل العالم ابن خلدون في عصرنا الحديث اذ تمت قراءته من عدة اوجه، لدى كثير من المفكرين العرب وما يهمنا في هذه الدراسة كيف تمت قراءته من قبل العلماء الثلاثة المشار اليهم وهم الدكتور عبدالرزاق مسلم الماجد الذي تبنى في قراءته لابن خلدون النظرة الاشتراكية ومفاهيمية تخص العقل والنظرة الى المعرفة وماهية الدولة والاخلاق لدى ابن خلدون، هل تتأتى من التجربة ؟ ام من الفطرة ؟ وكان سباقا فيها والدكتور علي الوردي الذي تبنى في مقاربته المجتمع العراقي نقطة انطلاق خلدونية تتمثل في صراع البداوة والحضارة وكان سباقا فيها ايضا ، وفالح عبدالجبار الذي قرا ابن خلدون من ناحية الدولة وتشكلاتها وعلاقتها بالبداوة وبذلك سار على نهج الوردي الوضعي في تلكم القراءة ، وسنأتي على كل واحد منهم وندرس كيف توقف عند ابن خلدون علنا نؤسس لدراسة مقارنة في هذا المجال...

نزع القدسية عن الدولة لدى الماجد مستندا على ابن خلدون...
ان للدولة حضورها في تعريفات الماجد وهو حضور مكثف ومهم ويستعير من ابن خلدون الفكرة حول الدولة اذ ان الدولة لديه هي ظاهرة انسانية لا الهية ولا تكتسب اية قدسية وان كان يراسها النبي نفسه، بمعنى انها ليست كيان مقدس وحدد ابن خلدون مهمة الدولة بالقهر وفرق بين نوعين من السلطة لدى الدولة سلطة رئيس العشيرة القائمة على الاحترام الطوعي وسلطة الملك القائمة على القسر ، يقول ابن خلدون: "ثم يقولون – اي : الفلاسفة، وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر ، وانه لا بد ان يكون متميزا عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه اذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم نفسه، او بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته"
لقد اشار الماجد الى اهمية فلسفة ابن خلدون في بناء الدولة ونزع قدسيتها فالماجد يضع حدا فاصلا بين الدولة والاله ويعتبر ان السلطة بشرية تماما. ويثير ايضا قول ابن خلدون" قدمنا ان الادميين بالطبيعة الانسانية يحتاجون في كل اجتماع الى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض فلا بد ان يكون متغلبا عليهم بتلك العصبية والالم، تتم قدرته على ذلك، وهذا التغلب هو الملك وهو امر زائد على الرئاسة سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في احكامه واما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر" (المقدمة ص)126.
كما وينتقد شكل الدولة الراسمالية التي تسبب بنظره الاحتكارات وطواغيت المال وغياب العدالة الاجتماعية .
كذلك يقارن ابن خلدون مع المفكر الايطالي فيكو(1668-1744م) اذ ان فيكو يذهب الى ان "المجتمع الانساني يمر اثناء تطوره بثلاث مراحل هي: الطفولة والشباب والكهولة، اذ ان مرحلة الطفولة تمثل المرحلة البدائية والثانية العصر البطولي/الارستقراطي، والثالثة بالعصر الانساني /البرجوازي وتنتهي الدورة بانهيار المجتمع فيعود الى المرحلة الاولى ويعتبر الماجد ان ابن خلدون كان قد سبق فيكو الى فكرة الدورات التاريخية في مقدمته الشهيرة ، حيث اعتقد بان اجيال البدو هم في رايه القوة المحركة في التاريخ الرامية الى الخروج من حياة الشظف الى حياة الترف تغزو البلدان وتقيم الدويلات وتشيد الحضارة ولكنها ما ان تعتاد على حياة المدن حتى تفقد بطولتها وعصبيتها فيخرج جيل قوي جديد من البادية يزيل الدولة القديمة ويبني على انقاضها دولة جديدة وهكذا يتجدد التاريخ. "حسب حتمية التطور التاريخي عند الدكتور الماجد



• اما نظرة الدكتور الوردي للدولة الظالمة وتشكلاتها وفق الرؤية الخلدونية فيتوقف الوردي عند اراء ابن خلدون في ضرورة زوالها عند توفر القدرة على ذلك مجتمعيا ، يقول الوردي منتصرا لابن خلدون في نظرة اخرى تؤسس لدولة العدالة الاجتماعية " مهما يكن الحال فنحن نستطيع ان نستنتج ان الخروج على السلطان الظالم كان امرا مقبولا الى حد ما في صدر الاسلام، ولهذا وجدنا ذلك العهد يعج بالثورات والدعوات المختلفة لكن هذه الثورات اخذت تقل شيئا فشيئا بمرور الزمن حتى وصل الحال بالفقهاء اخيرا الى ما يشبه الاجماع على تحريم الثورة ، وعلى وجوب طاعة ولي الامر مهما كان ظالما او فاسقا" .
وقد اشار الوردي الى اهم الثورات التي كانت آنذاك مثلا ثورة الحسين ضد يزيد ، ثورات العلويين التي تلتها بداية العصر العباسي وفي اواسطه سيما ثورة الزنج والقرامطة .
ويسلط الوردي الضوء على راي ابن خلدون في هذه الثورات بعيدا عن تجريم وجواز هذه الثورات وقراءتها دينيا فأبن خلدون حسب الوردي يرى ان المسالة ليست مسالة تحريم او جواز من الوجهة النظرية المجردة بل هي مسألة واقعية اجتماعية تتصل بالعصبية ،فمن كانت لديه العصبية الكافية التي تمكنه من الثورة والتغلب على السلطان جاز له الخروج عليه، اما من كان ضعيفا من الناحية الاجتماعية وليس له عصبية كافية تدعمه في خروجه ،فالاولى به الجلوس في بيته وتجنب اثارة الثورة حسب رايه، بالتالي يضع ابن خلدون الشرط في الثورة في القدرة عليها، والا بلا يقول " ومن هذا الباب احوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء، فان كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون الى القيام على اهل الجور من الامراء داعين الى تغيير المنكر والنهي عنه، والامر بالمعروف، رجاء في الثواب عليه من الله، فيكثر اتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء ، ويعرضون انفسهم في ذلك للمهالك واكثرهم يهلكون في ذلك السبيل مأزورين غير مأجورين، لان الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وانما امر به حيث تكون القدرة عليه قال الرسول" من راى منكم منكرا فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه" واحوال الملوك والدول راسخة قوية لايزحزحها ويهدم بناءها الا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر " فابن خلدون بالضد من الثورات الضعيفة بل يضع شرط القوة لقيامها والوردي قبل ان يستند على رؤية ابن خلدون في الثورة فهو يرفض رؤية الفقهاء الذين اجمعوا على وجوب طاعة السلطان وعلى تحريم الخروج عليه وان كان فاسقا ، ويؤيد من ذهب منهم بضرورة تغييره عند ظلمه، وهذا راي بعض ائمة الاسلام في العصر الاول اذ لم يلتزموا بهذه الاحاديث التزاما حرفيا فكان منهم من يرى الثورة على السلطان الظالم استنادا لقول الرسول لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ويضرب مثلا في الامام ابي حنيفة انه كان من اولئك الذين يرون الثورة على السلطان الظالم ويروى انه اثناء ثورة زيد بن علي على هشام بن عبدالملك ، قال عنه" ضاهى خروجه خروج رسول الله يوم بدر"

اذ يستند الوردي على هذه الروايات الى اهمية الخروج على الظلمة ، وتقويض دولتهم والمطالبة بالعدالة الاجتماعية ويؤكد رؤية ابن خلدون في اهمية العصبية التي هي في نظره شرطا اساسيا لتأسيس الدولة ويعتقد ان استخدام العصبية في مكانها لتاسيس دولة وتقويض دولة استبداد انما هي عصبية محمودة وليست مذمومة .
يشابه الوردي الدكتور الماجد في ضرورة الخروج على الدولة الظالمة وانهاء حكمها.


و يعد الدكتور علي الوردي في قراءته لفكر ابن خلدون وتطبيقاته داخل المجتمع مؤسسا فكريا فصراع البداوة والحضارة يمتد عند الوردي في الماضي الى اقصاه ووجد منذ ان ظهر الانسان فالصحراء حسب قول الوردي تنتج البداوة والبقاع الخصيبة تنتج الحضارة وهما في صراع متصل منذ ان ظهرا الى الوجود وهذه هي دورة الصراع الخلدوني وهي مستمرة في نظر علي الوردي وتقوم على هيمنة احادية :سيادة روح البداوة وانتقالها الى المدينة ضمن دورة خلدونية مغلقة ، والتضاد بين البداوة والحضارة عند ابن خلدون يشمل :القيم ، التنظيم، الانتاج، الخصال السايكولوجية ، والاخلاقية وانهما عالمين متعاكسين .
.


وياتي فالح عبدالجبار لا لينقدها بل ليفسر في ضوء السوسيولوجيا المعاصرة معنى ان يتجدد الصراع الدوري الذي يندفع من البادية الى الحضر ومعه صبغة دينية ويكون ندا للحضر ؟ اذن هو يكمل ما ابتدأه الوردي بايجاد تفسيرات لدورة ابن خلدون في تغلغل البدو في الحضارة ...
يعتبر ان اختلال التوازن بين الدائرة الزراعية agriculturism والدائرة الرعوية pastoralism لصالح هذه الاخيرة ، ويضيف عبدالجبار ان نمط العيش الرعوي ينمي بحكم تطبيقه بالذات الملكات العسكرية الاساسية في ذلك العهد اللاتكنولوجي : سرعة الحركة وخفة الانتقال والقدرة على الهرب سواء لتفادي القتال ام لتجنب خوضه في نقطة معينة ، يقول عبدالجبار " ان الرعوي لايحتاج الى انتاج وسائط الحرب هذه فهي جزء من حياته، وهو لايعيش مطمئنا بل يحمل السلاح في حله وترحاله" ويبرهن فالح عبدالجبار سيادة البداوة في مناطق العرب وبالتحديد شمال افريقيا وعدم وجودها في اوربا الساحل المقابل بسيسولوجيا حديثة كما اسلفنا " ان طغيان البداوة في شمال افريقيا وغيابها في اوربا على السواحل المقابلة يرجع الى تباين الوزن النسبي للاقتصاد الرعوي والاقتصاد الزراعي في المجتمعين" ويذهب علي الوردي الى " ان اعظم منطقة صحراوية على وجه الكرة الارضية هي هذه المنطقة التي تكتنف البلاد العربية ، فلو سرحنا نظرنا في خارطة البلاد العربية ، من المحيط الى الخليج نجد فيها صحراء مترامية الاطراف، حيث يخترقها بحر واحد هو البحر الاحمر وبعض احواض الانهار ، وسلاسل الجبال" ويضيف علي الوردي وبشكل اعمق من فالح عبدالجبار موضحا طبيعة المنطقة العربية التي افرزت البداوة وسببها" المعروف ان هذه المنطقة لم تكن صحراوية منذ بداية امرها ، انما كانت منطقة كثيرة المطر عامرة بانواع النبات والحيوان، ولم تبدأ الطبيعة الصحراوية تظهر فيها الا بعد انزياح الدور الجليدي الرابع نحو الشمال، وبهذا اخذ المطر يقل فيها وتزداد فيها القحولة تدريجيا" التي افرزت فيما بعد البداوة ، ويذهب كلا المفكرين الوردي وعبدالجبار في ان القبائل البدوية تعتمد على مساهمة الذكور الراشدين وتتميز عمليا باعلى نسبة من المساهمة الحربية من بين سائر الجماعات وهي بهذا المعنى تجمع حربي كما اسماه فالح عبدالجبار .
ويقول الوردي " ان الثقافة البدوية تقوم على اساس التغالب اي :الحرب والقتال، مركب اساسي فيها ولهذا كانت الحرب في البداوة دائما متصلة لا يخمد لها اوار ، فهي لا تتوقف فترة الا لتثور بعدئذ ، ان القيم البدوية بشتى مركباتها وخصالها تدور حول تمجيد الغزو والغلبة والفروسية والحمية المفرطة " ص77 ، علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ، بغداد، دار الحوراء، 2005م.
وكلاهما ينطلقان من رؤية ابن خلدون للبداوة "والبدو متنافسون في الرئاسة ، وقل ان يسلم واحد منهم الامر لغيره، ولو كان اباه او اخاه او كبير عشيرته الا في الاكل "(المقدمة) بمعنى ان التعصب واللاتسامح يسود في القبيلة البدوية حد القتال وهو الاساس في ذلك.
كذلك فان كلا المفكرين يذهبان الى ان الحضارة بمفرداتها الفنية هي التي غزت البداوة وغيرت من نمطها وهذا مما لم يلتفت اليه ابن خلدون ، يقول عبدالجبار" ان تعايش القبائل والمدن ظلّ مستمرا في العصر الزراعي في توازن مضطرب عجزت خلاله المدن عن السيطرة على البوادي اي :بقيت الغلبة للبدو ، وكان الثبات النسبي لهذه العلاقة مصدر الاعتقاد الخلدوني بأنه ازاء ظاهرة ازلية لافكاك منها ولاخروج، ان الدولة العثمانية كانت اول خرق في العصر الاسلامي /الزراعي للقانون الخلدوني خرق للقانون الاساسي لدولة الملك" اذ ان العثمانيين اندفعوا كقبائل بدوية ، رعوية ملتحمة بأواصر العصبية وفقا لكل مقتضيات ومتطلبات التحليل الخلدوني، واستولوا على الملك في الجيل الاول وقام الجيل الثاني كما في النموذج الخلدوني ولكن خلافا للحسابات الخلدونية دامت سلطة ال عثمان اربعة قرون بدلا من 120 عاما كان قد حددها ابن خلدون فلم تسقط خلافتهم على يد البوادي بل على يد قوة صناعية (اوربا) " هذا ما حلله عبدالجبار بأن البوادي لم تسقط القوة البدوية حسب رؤية ابن خلدون " ان البوادي والعصبيات والحروب هي التي تسقط البدو" ويتشارك علي الوردي في هذه الرؤية في قدرة الحضارة على اسقاط البداوة يقول الوردي وهو الاسبق في هذه الرؤية وقد يكون الدكتور فالح عبدالجبار قد اخذها روحا منه دون الاشارة اليه " ان المخترعات الحديثة من سيارات وطائرات ومدافع ورشاشات وغيرها جعلت في الامكان السيطرة على الامن في الصحراء والقضاء على الغزو ، والقتال فيها وقد اصبحت الحضارة الحديثة قادرة على التغلغل في اعماق الصحراء حيث اخذت تغري البدو على احتراف المهن الحضرية شيئا فشيئا" علي الوردي ، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ، م س ، ص 79
ويضيف الوردي "معنى هذا ان الثقافة البدوية سائرة في سبيل الاختفاء والزوال عاجلا او اجلا ، فهي لا تستطيع ان تصمد طويلا تجاه تيار الحضارة الطاغي " وهنا السؤال لماذا بقي العثمانيون كل هذه الفترة ، فالعثمانيون مثل غيرهم جاؤوا قبائل رعوية محاربة على غرار ما فعل العرب المسلمون الاوائل وكما فعل العباسيون ، من بعدهم او البويهيون ، فالسلاجقة ، وما ان استتب الملك وحصل الانفراد به حتى اصبح لزاما فصل الارستقراطية العسكرية عن القبيلة وعن نظام القرابة الذي يحيط بالسلطان ، اي : انشاء جهاز عسكري من العبيد ، بما في ذلك من غير المسلمين ، ان جهاز العنف هذا غريب عن قبيلة الحاكم ، وعن المجتمع وهو يدين بوجوده لشاريه.
سبق لمثل هذا الترتيب ان حصل في العهد العباسي ، انشاء جيش من الترك وفصله عن السكان بيد ان الدولة العباسية سقطت في يد الديلم بعد فترة كما يقول ابن خلدون نفسه ولم يحصل الشيء ذاته للعثمانيين رغم ان البوادي والقبائل البدوية استمرت في الوجود على سابق عهدها، والسبب هو "ان الدولة العثمانية ، دشنت عهد البارود ، لقد قلب المدفع العلاقة بين الحاضرة والبادية ، واوقف سير الدائرة الخلدونية ، ان المدفع غير العلاقة بين المدينة وقلاع النبلاء في اوربا " ويقرا عبدالجبار بصورة مغلوطة بأن مفهوم الوردي لتضاد الحضارة /البداوة لايشبه هذا التقابل القطبي الخلدوني، بل هو عسكه تماما ، ان البداوة عند الوردي هي نظم قيم واشكال تنظيم، تطغى على المجتمع وتنتقل الى المدن لا لتدخل فيها فحسب بل لتدوم في صورة ثأر ،غزو ، دخالة ، غسل عار ، انغلاق في عصبية محلية ، وكلامه هذا صحيح بدليل قول الوردي " تنتشر قيم البداوة وتؤثر في المجتمع العراقي وتحاول التغلغل في مختلف فئاته وطبقاته"
ثم يرجع عبدالجبار ليؤكد ما نذهب اليه من ان "الوردي يعيد انتاج صراع البداوة الحضارة الخلدوني، بصورة تناشز اجتماعي بين حضارة حديثة وحضارة تقليدية ، لكن هذا التناشز لم يعد حسب رايه هو نتاج انقسام المجتمع الى بدو وحضر " بل " يعاني الشعب صراعا اجتماعيا ونفسيا على توالي الاجيال فهو من ناحية لا يستطيع ان يطمئن الى قيمه الحضرية زمنا طويلا ، لان الصحراء تمده بين كل آونة واخرى بالموجات التي تقلق عليه طمأنينته الاجتماعية وهو من الناحية الاخرى لا يستطيع ان يكون بدويا كأبن الصحراء ،لان الحضارة المنبعثة من وفرة المياه وخصوبة الارض تضطره الى تغيير القيم البدوية الوافدة ، قد يجوز ان نصف الشعب العراقي شعب حائر، فقد انفتح امامه طريقان متعاكسان ، وهو مضطر ان يسير فيهما في آن واحد ، فهو يمشي في هذا الطريق حينا ثم يعود ليمشي في الطريق الآخر حينا آخر"
ان المجتمع الخلدوني يقف في المركز ليس وراءه سوى التوحش السابق للعمران، وليس أمامه سوى صورته الذاتية .
اما المجتمع الذي يعيد انتاجه الوردي خلدونيا فيقف حائرا بين بدويته وحضارة جديدة ، تخترق الاسوار , كما يعتبر عبدالجبار ان الوردي نسي استاذه الاول ابن خلدون وترك البداوة مضمرة ،فالبداوة لاشعور جمعي يستبطنه المجتمع رغم نشوء العصبية الجديدة . كما يشير عبدالجبار :ان عوامل الالتحام الحديثة ما تزال بعد واهنة فتزحف البداوة الخبيئة المضمرة زحفا وئيدا من زوايا اللاشعور الجماعي ويضيف: لو صحا ابن خلدون اليوم على واقع حالنا لهتف :ألم اقل لكم ان الرياسة في اهل العصبية ولقلنا نحن لعلي الوردي ولكنك لم تقل ان اللاشعور يطغى، وهنا فتح جديد يضعه عبدالجبار في قضية اللاشعور وهنا يعتبر (د فالح ) بأننا ازاء النبتة الاولى لمثقف الكلمة الحديثة المطبوعة ، ولنمو سلطة المعرفة الدنيوية بموازاة سلطة المعرفة المتسامية الدينية ، ان اندماج الاثنتين سيخرق اسوار العزلة ، السرمدية للطوائف والقبائل وسيجد في خدمته خطوط التلغراف انذاك وسكك الحديد والكلمة المطبوعة ، معتبرا ان الوردي يتحدث عن التفاعل الاجتماعي الجديد بين قبائل ومدن وقرى العراق ايام "ثورة العشرين" مركزا على فحواه :تكوين الهوية الجديدة العراقية دون ادواته :وسائل الاتصال الحديثة .
ان هذه الحقيقة من تاريخ العراق تشهد التمايز بين المقدس واللامقدس في علاقة جديدة .
...

• اخوان الصفاء وابن خلدون يسبقون فرانسيس فوكوياما في قراءة التاريخ:
اذ يشرح ابن خلدون شرحا اجتماعيا ، كيف يؤدي الترف بأصحابه الى التخلق بالأخلاق السيئة كالكذب والمقامرة والغش والخداع والسرقة والفجور ففي رأيه حسب الوردي "ان ذلك أمر طبيعي تؤدي اليه، عادات الترف من حيث التأنق في المطابخ والملابس، والمباني والفرش والانية فتتلون النفس من تلك العادات بألوان كثيرة لايستقيم حالها معها حيث تضطر النفس الى التفنن في تحصيل المعاش من وجهه وغير وجهه، وتنصرف الى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له، فلا تبالي عندئذ بالاخلاق الحميدة التي امرت بها الشرائع "
اي ان الترف ينسي الناس الدين والتدين يقول فوكوياما" ان المجتمع الحديث بتشديده على الحقيقة والشفافية قد قتل التدين ، لم يكن لديه ما يستعيض به عن التدين " وبالرجوع لابن خلدون " ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف ، فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ ، فافهم ذلك واعتبر به ان غاية العمران هي الحضارة والترف وانه اذا بلغ غايته فانقلب الى فساد واخذ في الهرم كالاعمار الطبيعية للحيوانات " ففي راي ابن خلدون ان الناس اذا وصلت الى قمة الترف ، هذا يعني انها مقبلة اي : دولها على الزوال ، هذا هو الطور طور الاستهلاك الذي يخشى معه هلاك الدول وخرابها، وهنا قد سبق ابن خلدون فرانسيس فوكوياما في رايه بالانسان الاخير او نهاية التاريخ ، الراي الذي سطره في كتابه الصادر عام 1992 : نهاية التاريخ والانسان الاخير .
يقول : " يغلب على السواد الاعظم من البشر في العصر الحديث كونهم محدودي الافق وأقزاما يثيرون الشفقة والرثاء، حيث يفتقرون الى الاحساس بكيفية بلوغ الشأن الرفيع وهم لايملكون سوى غريزة مراكمة الرفاهيات والكماليات التافهة والملذات الرفيعة في عالم مادي مسكون بهواجسه الذاتية ، فاذا كان فرط الرغبة في الهيمنة وحب الظهور قد تلاشى من حياة البشر ،فقد تلاشت العظمة لتبقى ضآلة وضيعة ولاشيء عداها " ( the last hollow laugh ,Aeon,2017 ، مقال مترجم ل بول ساغار، من يضحك اخيرا ..يضحك عميقا ، نشر في مجلة الثقافة العالمية ، مارس /ابريل/ 2019، العدد 198 ، الكويت، ص158-159) لقد برهن ابن خلدون قبل مئات السنين من فوكوياما الى ان الترف ونزعة الاستهلاك تهدم المجتمعات والدول ويصل بها الى نهاياتها ، فالتفنن في مذاهب الترف يقود الدول الى الخراب وهذا ما اوضحه فرانسيس فوكوياما ، في كتابه الانسان الاخير فقد كان تكهنه بملامح المجتمع الغربي ما بعد نهاية التاريخ ، انها ملامح سيئة ، اذ كان من الممكن ان ينزلق ما أسماه " الرجال الاخيرون" عند نهاية التاريخ الى درك الرضا البهيمي بالمباهج المادية ، كأشبه ما يكونون بكلاب قد استرضت تحت شمس ما بعد الظهيرة ، وهكذا فان فوكوياما بين بأن الرجال الاخيرون والنساء الاخيرات، غير راضين البتة بما نالوا من رفاهية وتنعم غير مسبوقين ، لكون تلك الرفاهية وذلك التنعم قد اخفقا في اشباع رغبتهم في الهيمنة وحب الظهور ، فاذا ما سلك الرجال الاخيرون هذا المسلك فسيضحون ضجرين بما أطلق عليه"فوكوياما" (العبودية من دون اسياد) وهي حياة الاستهلاك وقد تكهن فوكوياما بأن هذا الضجر والتململ من الحياة الجديدة ستكون في النهاية بحاجة الى متنفس سياسي والذي سيكون كحمم بركان في فورته، فوكوياما وصف الحضارة بالمبهرجة الجوفاء، ذلك الملاذ الجدب للانسان الاخير كذلك وصف ابن خلدون قبله بقرون ان من مفاسد الحضارة الانهمال في الشهوات كما مرّ بنا، واعتبر انه اذا بلغت الحضارة هذه المفاتن فهي الى زوال ، اما فوكوياما فقد عبر عن نهايتها بأنها بحاجة الى متنفس سياسي سيكون كحمم بركان في فورته، وهكذا سبق ابن خلدون فوكوياما بأشارته الى نهاية الحضارة اولا بعد بلوغها مرحلة الترف وكيف ان الترف والحضارة تسلب الناس التدين، من دون بديل، كما عبر عن ذلك فوكوياما مع اختلافات الزمن والمكان وليس من المستبعد ان يكون فوكوياما قد اطلع على الفكر الخلدوني في هذا الباب حتى قال به في كتابه" نهاية التاريخ والانسان الاخير" .

ويتوقف الوردي عند اخوان الصفا الذين سبقت اشاراتهم بانحطاط الدولة قبل ابن خلدون وفرانسيس فوكوياما ، اذ " تضمنت رسائلهم كثيرا من الافكار التي لها صلة بالامور الاجتماعية ومن هذه الافكار قولهم بان الدولة لها عمر تنتهي بانتهائه ، ففي رايهم ان ليس هناك دولة تبق للابد ، فكل دولة لابد ان تميل الى الهبوط بعد ارتفاعها انها تبدأ في اول امرها نشيطة قوية ثم تاخذ بالانحطاط والنقصان شيئا فشيئا حيث يظهر على اهلها الشؤوم والخذلان ولابد لها في النهاية من حد تقف عنده ( هذه العبارات وردت في الرسائل ، الجزء الاول ، نقلا عن منطق ابن خلدون ، الوردي ، ص162).
الملاحظ ان ابن خلدون جاء بمثل هذه الفكرة في مقدمته حيث شبه اطوار حياة الدولة باطوار حياة الانسان من فتوة وكهولة وهرم ولكن ابن خلدون يختلف عن اخوان الصفاء من ناحية التعليل لهذه الظاهرة وهنا يظهر الفرق الكبير بين منطق اخوان الصفاء ومنطق ابن خلدون " باختلاف الضروف طبعا والبيئة والزمان وهكذا فان منطق فرانسيس فوكوياما يختلف عن كليهما الا انه يمر بنفس الفكرة تماما.
ويكمل الوردي في اطار مناقشاته لاخوان الصفاء انهم يحاولون تعليل الظاهرة تعليلا صوريا اذ هم يرون ان الدول تدور تدور في الارض على منوال ما تدور الافلاك في السماء، وذلك تبعا لقانون عام يشمل الكون كله، فهم يقولون ان الزمان نصفه نهار مضيء والنصف الاخر ليل مظلم، والزمان ايضا نصفه صيف حار ونصفه شتاء بارد وهما يتداولان في مجيئهما وذهابهما كلما ذهب هذا رجع ذاك، وكلما نقص من احدهما زاد في الاخر بذلك المقدار . هذا ما يورده الوردي من خلال رسائلهم .
ويكمل الوردي الى ان هناك من سبق اخوان الصفاء الى مثل هذه الفكرة ، على وجه من الوجوه وهي في الواقع فكرة قديمة نشأت من ضمن الاساطير الشعبية لدى كثير من الامم القديمة، في العراق ومصر وايران والهند والصين وغيرها.
وسبب نشوئها فيهم انهم كانوا يأملون ان تتبدل احوال الظلم والفساد التي كانوا يعانون منها ، فدفعهم الامل الى توقع مجيء عهد جديد كمثل ما يجيء النهار بعد الليل والصيف بعد الشتاء ، ومن هذه الاسطورة نشأت فكرة المسيح لدى العبريين والمهدي لدى المسلمين وجاء اخوان الصفاء اخيرا فاتخذوها شعارا لهم ليوحوا لاتباعهم بأن دولة الخير التي هي دولتهم اتية لاريب فيها.
ويكمل الوردي " ان اخوان الصفاء يصنفون الدول الى صنفين لا ثالث لهما هما : دولة الخير ودولة الشر ، وهم في ذلك يجرون على قانون الوسط المرفوع الذبي هو من قوانين المنطق القديم كما اسلفنا فاية دول من الدول كما يقول الوردي في رايهم هي منذ البداية ، اما ان تكون خيرة او شريرة ، وهي تبقى كما بدأت الى النهاية ، والتاريخ ليس سوى دورات تتعاقب فيها دول الخير والشر .
ويقول الوردي " يغلب على ظني ان ابن خلدون قد استمد فكرته عن الدور الاجتماعية من اخوان الصفاء ، انما هو قد طورها واخضعها لمنطقه الجديد، فهو اولا لا يعترف بوجود صنفين متمايزين من الدول ، ان كل الدول في رايه متماثلة تقريبا حيث تبدأ في اول امرها صالحة ثم تنحدر في طريق الفساد تدريجيا وابن خلدون لا يعلل ذلك على اساس ميتافيزيقي كما فعل اخوان الصفاء، بل هو يعلله تعليلا اجتماعيا ، فهو يعزو انحدار كل دولة في طريق الفساد المحتوم الى الترف الذي يصاحب ازدهار الدولة عادة ، وبهذا يفقد الحكام خصالهم القوية التي كانوا يتخلقون بها اول الامر ، فينهارون وتنهار الدولة معهم ، حيث يحل محلهم حكام جدد من اولي الخصال القوية .يروي ابن خلدون انه عندما وقع الحريق في الكوفة في عهد عمر بن الخطاب، استأذنه الناس في بناء الكوفة بالحجارة فقال: افعلوا ولايزيدن احد على ثلاث ابيات ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة " يبدو ان الفقرة الاخيرة من كلام عمر كان لها الاثر البالغ في تفكير ابن خلدون، يقول عمر : الزموا السنة تلزمكم الدولة ، وياتي ابن خلدون ليقول ان الناس لايستطيعون ان يلتزموا بالسنة بعد ان يأتيهم الترف، ولهذا فلا بد ان تضيع الدولة منهم ، في نهاية المطاف" ص163، م س .

عموما اثبتت دول العالم الحديث ، انها وبعد ان تسير في مسيرة الترف والطغيان التي ترافقها غالبا دون ان ترعوي لمفهوم حقوق الانسان وغيرها من المفاهيم المهمة تبدأ هذه الدول بارتكاب الاخطاء الفظيعة وهكذا تنحدر شيئا فشيء الى ان تدمر نفسها بنفسها او ان ترتكب اخطاء كبيرة تؤدي بها الى الزوال والامثلة لدى كل منا كثيرة جدا جدا .



• الماجد والوردي يؤكدان كلاهما فكر ابن خلدون حول الماديات والعقل بعيدا عن المثاليات
ان رؤية ابن خلدون لنظرية المعرفة من مواقع حسية مادية يشكلها الماجد وفق رؤية الدور الذي يعطيه الفيلسوف للعقل وبالثقة الكبرى التي يمنحها له في التوصل الى الحقائق عن الكون يقول الماجد " ان هذا الايمان بقوة العقل الانساني انما يصدر من الاعتراف بوجود قوانين موضوعية للطبيعة وبأمكانية انعكاسها في دماغ الانسان . وقد نظر الماجد لابن خلدون وشخص عظمة ما توصل اليه في الجانب المادي الفكري ، اذ ظهر ابن خلدون في عصر كانت السيادة فيه في الحقل الفكري للنظر الميتافيزيقي ، فلم يعد كما يقول الماجد للبحث في ظواهر الطبيعة والمجتمع على اساس علمي اي محل في دراسات مفكري العصر هكذا جاء ابن خلدون وشكل اهمية ف الدراسات التي اوجدها ، والسبب انه بحث في قوانين التطور التاريخي في طيعة المجتمع ذاته وكان منطلقه في ذلك افكار ابن رشد المعلم وشروحه لمؤلفات ارسطو ، يقول الماجد " لقد وجد ابن خلدون في نظرية ابن رشد والمعروفة باسم الحقيقتين المنطلق الوحيد لاستخلاص معرفة علمية عن الكون" وهذا يشابه ما توصل اليه الوردي عن هذا التاثر الكبير ، يقول الدكتور الوردي" كان ابن خلدون مطلعا على فلسفة ابن رشد ولعله كان في ايام شبابه مولعا بها ، بدليل انه الف حينذاك كتابا لخص فيه تلك الفلسفة " ويضيف الدكتور الوردي " يخيل الي ان ابن خلدون وقف يتأمل عند قراءته لرأي ابن رشد الذي يقول : ان العامة يجب ان تكون لهم اهمية في تفكير الفيلسوف ، انه يعتبرهم مرضى في عقولهم ولكن المرضى لايجوز ان يتركوا ليهلكهم المرض فهم يجب ان يعالجوا بالدواء الذي يلائم مرضهم " ويضيف د الوردي "يريد ابن رشد من الفيلسوف ان يساير العامة في تفكيره الماعة فكرية نلاحظها لاول مرة في التاريخ الفلسفي بهذا الوضوح واكاد اعتقد انها كانت ذات اثر كبير في تفكير ابن خلدون " ويضيف الوردي" لعله اخذ يتسائل : اذا كان العامة مرضى والفلاسفة اصحاء حسب راي ابن رشد الا يجوز ان نقلب الاية فنقول : ان الفلاسفة هم المرضى والعامة اصحاء؟ واذا كان الانبياء قد سايروا العامة في تفكيرهم فلماذا لم نسايرهم نحن كذلك؟ " وهكذا ربط الوردي كذلك منطق ابن خلدون بمنطق ارسطو وافرد في كتابه " منطق ابن خلدون" فصلا للحديث عن منطق ارسطو وبذلك تشابه مع د عبدالرزاق مسلم الماجد في ذهابه للقول بتاثر ابن خلدون بشروحات ابن رشد على منطق ارسطو كما اشرنا اليها، ويشير الماجد ان ابن خلدون بدأ من التمييز بين مسائل العلم ومسائل العقيدة وحدد مصدر كل منهما كما نفى اية امكانية للتداخل بينهما ، فالمعرفة العلمية حسب الماجد ممكنة فقط بالنسبة للعالم الواقعي –الطبيعة والمجتمع- لأن هذا العالم –على حد تعبيره- «وجداني مشهود في مداركنا الجسمانية والروحانية»( )، أما الروحانيات وغيرها من مسائل العقيدة فليست مما يدخل في اطار المعرفة العلمية لانها ليست مما يقع تحت طائلة الحس والتجربة ولا مما يخضع للعقل، ومصدرها وبرهان صحتها الشرع فقط: «وما يزعمه الحكماء والالهيون في تفصيل ذواتها (يقصد الروحانيات) وترتيبها المسماة عندهم بالعقول فليس شيء من ذلك بيقيني لاختلال شرط البرهان النظري فيه كما هو مقرر في كلامهم في المنطق. لأن من شرطه ان تكون قضاياه أولية ذاتية، وهذه الذوات الروحانية مجهولة الذاتيات فلا سبيل للبرهان فيها. ولا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم الا ما نقتبسه من الشرعيات التي يوضحها الايمان ويحكمها»( ).
• ابن خلدون يعترف بالمادة والحس في نظرية المعرفة ....
يقول الماجد ان ابن خلدون ينطلق في نظرية المعرفة من مواقع حسية مادية ، تعتبر الاحساس نقطة البدء في المعرفة العلمية ، وتعتمد التجربة الخارجية اساسا لنشوء هذا الاحساس ، فلم ير ابن خلدون كما رأى بعض الفلاسفة الحسيين كهيوم مثلا ، في الاحساسات معطيات ذاتية لاشيء وراءها ، بل انه اوضح بجلاء ان اعضاء الحس لايمكنها ان تولد الاحساسات من تلقاء نفسها ، بل ينبغي توفر المؤثر الخارجي الذي يفعل فيها فيستثيرها وما تعدد الاحساسات وتنوعها الا نتيجة لتعدد صور الوجود وتنوع حضارتها .
هكذا يؤمن ابن خلدون كما لاحظ الماجد من ان نظرية المعرفة تنطلق من مواقع مادية بحتة وتعتمد التجربة للوصول الى معطيات حقيقية واقعية ...
وهذا ما رآه الوردي كذلك يقول" كان ابن خلدون يؤكد على وجود القوانين التي تتشابه في كل زمان ومكان " ويؤكد مرة اخرى على مادية ابن خلدون قائلا: " ابن خلدون ينعى على المؤرخين الذين يبالغون في نقل الاخبار فيذكرون حوادث عن بعض الامم القديمة لا يمكن ان تحدث لبشر مثلنا " ويضيف الوردي : ان الامم القديمة في رأيه ، تجري في حوادثها الاجتماعية على نفس القوانين التي تجري عليها الامم الحاضرة ، ولهذا وجب على المؤرخ ان يقيس الغائب منها بالشاهد والذاهب بالحاضر " كذلك يعبر الوردي عن مقولة ابن خلدون في هذا الباب " يقول ابن خلدون: وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وائمة النقل المغالط من الحكايات والوقائع لاعتمادهم على مجرد النقل غثا كان او سمينا، لم يعرضوها على اصولها ولا قاسوها بأشباهها ولاسبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات ، وتحكيم النظر والبصيرة في الاخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط" ويعلق الوردي على كلام ابن خلدون قائلا : " مما يلفت النظر في هذا الصدد ان ابن خلدون حين يؤكد على هذه القاعدة في قياس الغائب بالشاهد من الحوادث على راي الوردي يقول الوردي: نراه يؤكد على قاعدة اخرى يبدو عليها انها على النقيض منها ، ويستشهد بقول ل طه حسين " ان ابن خلدون يستكشف في المجتمع قانونين يتعارضان دائما ، ويمكن ان نسمي اولهما بقانون التشابه ونسمي الثاني بقانون التباين. ان خلاصة راي ابن خلدون في هذا الصدد يلخصها علي الوردي " ان للمجتمع البشري قوانين تتشابه، في كل مكان وزمان ، كمثل ما تتشابه قوانين الطبيعة ، ومن بين تلك القوانين هو ان المجتمع يتغير او يتقلب صاعدا ونازلا من جراء توالي الدول المتتابعة عليه، ولهذا يدعو ابن خلدون المؤرخين الى النظر المادي الدقيق عند المقارنة بين احوال المجتمعات المختلفة ، اذ لا يجوز لهم ان يقارنوا احوال مجتمع في مرحلة نشاطه وازدهاره باحوال مجتمع اخر وهو مرحلة هرمه وتدهوره، دون ان يأخذوا بعين الاعتبار الفرق الكبير بين المرحلتين ، ان ابن خلدون بعبارة اخرى يريد من المؤرخين ان يقيسوا الغائب من الحوادث الاجتماعية بالحاضر منها، وهو يريد منهم في الوقت ذاته ان لا يغفلوا عن ادراك الفرق بين المراحل الاجتماعية التي تظهر فيها تلك الحوادث فرب حدث عظيم يحدث في مجتمع مزدهر ولكن الناس لا يصدقون به لانهم يقيسونه بمقياس المجتمع المتدهور الذ1ي يعيشون فيه" منطق ابن خلدون ، ص167. وهذه المادية التي يصر عليها ابن خلدون يتضح منها ان ما كان منطبقا على الماضي يجري على سنن الحاضر ، فلا معجزات مثلا حدثت في الماضي لانها لو كانت قد حدثت لحدث مثلها في الحاضر . هذه واحدة من المقاصد التي اذهب اليها في تحليلي لقول ابن خلدون وهو مما لم يقل به الوردي او الماجد .
كما يتوقف الماجد عند مادية ابن خلدون الذي سفه حسب رؤيته راي المثاليين ، فالوجود لدى ابن خلدون ، يتعلق بالتجربة المادية البحتة ليس فقط كما اشار الوردي الى المادية اجتماعيا لدى ابن خلدون ، بل المادية في الوجود ككل وينقل الماجد النص التالي الذي يثبت ايمان ابن خلدون بالتجربة المادية البحتة كما ذهب لذلك الوردي فيما اشرنا اليه من القوانين التي تجري على الامم الحاضرة هي نفسها قد جرت على الامم الماضية ، بعيدا عن خرافات الرواة ، وقصصهم اللاحقيقية ، تعود الى نص ابن خلدون الذي ينقله الماجد في مقاله اليتيم المنشور في مجلة المربد البصرية 1968م " وكذا عندهم الموجودات المحسوسة ، كلها مشروطة بوجود المدرك العقلي، فاذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك العقلي، فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هنالك تفصيل الوجود بل هو بسيط، واحد فالحر والبرد والصلابة واللين بل والارض والماء والنار والسماء والكواكب ، انما وجدت لوجود الحواس المدركة لها، ولما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الوجود، وانما هو في المدرك فقط فاذا فقدت المدارك المفصلة ، فلا تفصيل انما هو ادراك واحد أنا لا غير " ويعلق الماجد على ذلك قائلا" يؤكد ابن خلدون بشكل لالبس فيه ولا ابهام باسبقية موضوع المعرفة على المعرفة ذاتها وبتحويل المسالة من دائرة المعرفة ابستمولوجيا الى دائرة الوجود انتولوجيا ، يكون ابن خلدون قد حل المسألة الاولى في الفلسفة أي علاقة الفكر بالطبيعة حلا في صالح المادية وهذا امر يؤكده ايضا اعتبار ابن خلدون الانسان ووعيه اعلى نتاج للطبيعة واقراره لموضوعية الحركة والسببية والضرورة وغيرها من صفات الواقع الجوهرية قبل ان يكتشفها الفكر الانساني، ويصل الماجد الى اعتبار مهم وهو ان المنطلق الحسي المادي في المعرفة كان الاساس الذي اعتمد عليه صاحب المقدمة في صياغة مذهبه في الاجتماع والاخلاق.
وبالعودة الى مذهب ابن خلدون الاجتماعي فيشير الماجد الى ان التطور التاريخي حسب رؤية ابن خلدون يخضع لاحكام قوانين الضرورة ، وان مهمة العلم تقوم في اكتشاف هذه القوانين على اساس استقراء الحوادث ، أي: على اساس تجريبي ، اما الاخلاق فقد عدها ابن خلدون اجتماعية المنشأ فليست هنالك غريزة يميز بها الانسان الحسن من القبيح تعمل قبل التجربة وانما تقام القواعد الاخلاقية على المصلحة وتتعلق بالظروف التي تعيش فيها الجماعة ، يقول ابن خلدون: وربما تفضى المعاملة عند اتحاد الاعراض الى المنازعة والمشاجرة فتنشأ المنافرة والمؤآلفة والصداقة والعداوة ويؤول الى الحرب او السلم بين الامم والقبائل، وليس ذلك على أي وجه اتفق كما بين الهمل من الحيوانات بل للبشر بما جعل الله فيهم من انتظام الافعال وترتيبها بالفكر كما تقدم جعل منتظماً فيهم ويسرهم لايقاعه على وجوه سياسية وقوانين حكمية ينكبون فيها عن المفاسد الى المصالح وعن الحسن الى القبيح بعد أن يميزوا القبائح المفسدة بما ينشأ عن الفعل من ذلك عن تجربة صحيحة وعوائد معروفة بينهم فيفارقون الهمل من الحيوان وتظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الافعال وبعدها عن المفاسد. هذه المعاني التي يحصل بها ذلك لا تبتعد عن الحس كل البعد ولا يتعمق فيها الناظر بل كلها تدرك بالتجربة وبها يستفاد لانها معان جزئية تتعلق بالمحسوبات وصدقها وكذبها يظهر قريباً له منها مقتنصاً له بالتجربة بين الواقع في معاملة ابناء جنسه حتى يتعين له ما ينجب وينبغي فعلاً وتركاً ...». انظر المقدمة طبعة باريس، الجزء الثاني الصفحة 363.
ويشترك الانسان مع الحيوان بالتجربة الحسية ولكن يأتي الانسان ليتميز بمرحلة التفكير المجرد وهذا هو هدف المعرفة العلمية ، وينقل الماجد هذا النص عن ابن خلدون لهدف المعرفة العلمية واما الافعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل على الترتيب فيما يفعل اذ الحيونات انما تدرك بالحواس ومدركاتها متفرقة خلية من الربط لانه لا يكون الا بالفكر. ولما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة وغير المنتظمة انما هي تبع لها، اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها، فكانت مسخرة للبشر، واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث بما فيه، فكان كله في طاعته وتسخره... الخ( ).
وهذا كله تركيز من الماجد على الجانب المادي لدى ابن خلدون.

خوف ابن خلدون من الفلسفة :
وهذا ما ذهب اليه كل من الوردي والماجد فيضع الوردي وتحت عنوان " خوفه من تهمة الفلسفة" اذ ان ابن خلدون لم يذكر في كتاب التعريف أي ذكر للعلاقة الفلسفية مع العلم حسب الدكتور الوردي ، انه ذكر امورا اقل اهمية ويأتي الوردي ليعلل سبب ذلك قائلا " يخيل الي ان ابن خلدون انما اغفل ذكر تلك الكتب الفلسفية في كتاب التعريف لئلا يقول الناس عنه انه فيلسوف زنديق، فهو قد جعل كتاب التعريف في الجزء الاخير من تاريخه العام ولعله كان لا يحب ان يرى القارئ فيه انه الف كتبا فلسفية بينما يرى في مقدمة التاريخ نقدا شديدا للفلسفة وكيف انها تؤدي بصاحبها الى الكفر "وذكر ابن خلدون في كتاب التعريف شيئا كثيرا عن الدروس الفلسفية التي قرأها على استاذه الابلي ، وكان يفتخر بها والظاهر انه اراد بذلك ان يقول بانه درس الفلسفة دراسة مستفيضة في ايام شبابه، واستفاد منها في شحذ ذهنه وترتيب ادلته، ولكنه لم يؤمن بصحة ما جاء فيها من آراء مخالفة للشريعة " منطق ابن خلدون ,
ويسجل الوردي خلاصة راي ابن خلدون في الفلسفة انها ليست "سوى ثمرة واحدة هي شحذ الذهن في ترتيب الادلة ، وهو ينصح الناظر في الفلسفة ان يكون متحرزا جهده من معاطيها فلا ينظر فيها الا بعد الامتلاء من العلوم الشرعية ، يبدو ان ابن خلدون جاء بهذا الراي لكي يشير به الى نفسه، وكأنه اراد ان يقول انه درس الفلسفة بعد ان امتلأ من العلوم الشرعية ، وانه اخذ من الفلسفة محاسنها ونبذ مساوءها. " ويكمل الوردي" ان ابن خلدون كان يخشى ان يتهمه الناس بأنه فيلسوف وهذه تهمة لها عواقب وخيمة في ايام ابن خلدون، ولكي ندرك مغبة تلك التهمة يجدر بنا ان نطلع على ما جرى لابن رشد في اواخر عمره، ذلك انه هو وتلاميذه حوكموا بتهمة الفلسفة ثم صدر الحكم عليهم بنفيهم وباحراق كتبهم، وفي اعقاب ذلك أصدر ابو يوسف المنصور ملك الموحدين انذاك منشورا حذر الناس فيه من الفلسفة وانذرهم بالعقاب الشديد ومنها ما يقول فيه" فلما وقفنا منهم على على ما هو قذى في جفن الدين ، ودكنة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم في الله نبذ النواة ، وأقصيناهم حيث يقصي السفهاء من الغواة ، وابغضناهم في الله، كما انا نحب المؤمنين في الله، وقلنا: اللهم دينك هو الحق المبين، وعبادك هم الموصوفون بالمتقين، وهؤلاء قد صدفوا عن آياتك وعميت ابصارهم وبصائرهم عن بيناتك، فباعد اسفارهم ، والحق بهم اشياعهم حيث كانوا انصارهم ، ولم يكن بينهم الا قليل وبين الالجام بالسيف في مجال السنتهم ، والايقاظ بحده من غفلتهم وسنتهم، ولكنهم وقفوا في موقف الخزي والهون، ثم طردوا عن رحمة الله، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون، فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة على الايمان حذركم من السموم السارية في الابدان، ومن عثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي يعذب بها اربابه واليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومىبه ومن عثر منهم على مجد في غلوائه، عم عن سبيل استقامته واهتدائه فليعاجل فيه بالتثقيف والتعريف" نقلا عن منطق ابن خلدون، م س .
اما الماجد ففي مقاله الوحيد الوارد في مجلة المربد البصرية فقد تحدث عن أهمال الكثيرين من الذين بحثوا ابن خلدون التطرق الى دراسة أفكاره الفلسفية، كما عده البعض رجعياً في هذا الميدان. وقد اعتمد هؤلاء على فصل في المقدمة كتبه ابن خلدون تحت عنوان «أبطال الفلسفة» الذي لم يكن في جوهره الا انتصاراً للفلسفة وابطالاً للافكار الميتافيزيقية والتأملية الشائعة في ذلك العصر – انظر المقدمة ص514، ولا ادل على تثمين ابن خلدون للفلسفة اعتباره العلم الذي ابدعه (علم الاجتماع – او علم العمران كما يسميه هو) فرعاً من فروع الفلسفة. أما لماذا اختار ابن خلدون تلك التسمية للفصل المشار اليه فليس من الصعب تبيانه اذا أخذنا بعين الاعتبار الحالة السياسية والفكرية التي كانت تسود المغرب في القرن الرابع عشر الميلادي.فقد تكون هي السبب في انكاره على الفلسفة وتسميتها والتزامه الكبير بوضع رؤى ضبابية حولها خوفا من التنكيل به ومحاربته ، كما بين الوردي في اعلاه مقولة ملك الموحدين انذاك حول الفلسفة والفلاسفة ومحاربته لهم .
ويذكر ابن الخطيب ان ابن خلدون كتب عدة تعليقات على مؤلفات ابن رشد الفلسفية، كما ألف بعض الكتب في المنطق. أنظر المقرى – نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب – الجزء الرابع طبعة القاهرة سنة 1302هـ الصفحة السادسة. هذا ما ذكره الماجد وبذلك يتضح ان كلا المفكرين قد ايدا ان ابن خلدون كان فيلسوفا ، الا انه ما كان يريد ان يوصم بالزنديق اذ وصف الفلاسفة بهكذا اوصاف في ذلك الوقت ، وكان لابن خلدون عبرة فيما جرى لابن رشد قبله من ضرر كبير هو وتلامذته بسبب الفلسفة وتصديه لها كما وصفه علي الوردي في منطق ابن خلدون. وفي سياق اعتبارات ابن خلدون المادية نراه يعتبر ان كل ما يحصل عليه الانسان هو بالتجربة وان الفطرة لاتكسبه شيء واعتبر جميع المعارف العلمية مكتسبة يقول نقلا عن الماجد" هذا الفكر انما يحصل له بعد اكمال الحيوانية فيه ويبدأ من التمييز ، فهو أي : الانسان قبل التمييز خلو من العلم بالجملة معدود من الحيوانات لاحق بمبدئه في التكوين من النطفة والعلقة والمضغة ، وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحس والافئدة التي هي الفكر " ويعلق الماجد على هذا المذهب المادي الخلدوني قائلا :
" ما من شك في ان نظرات ابن خلدون التجريبية والتصورية كانت ردا بليغا على اراء بعض الفلاسفة المسلمين الذين انتهوا تحت تاثير المذاهب التالية اليونانية الى التزام مواقف الشك واللاأدرية على ان ابن خلدون وهو ابن عصره لم يستطع ان يتخلص تماما من تاثير الافكار الافلاطونية والصوفية وان يتمسك بموقفه المادي في المعرفة حتى النهاية " وهنا بالرجوع الى علي الوردي فنراه يشير اشارات مهمة الى تأزم ببعض الافكار الروحية سيما ما يتعلق بها بأهل البيت مثلا فنراه يقول في دفاعه عن نسب الادارسة ، فهو يؤيد صحة هذا النسب تاييدا حارا كما يقول الوردي ثم يختم تاييده قائلا " ان الذي يقرأ هذا القول من ابن خلدون بمعزل عن بعض اقواله الاخرى يحسب ان قائله رجل من خلص الشيعة والمتعصبين لاهل البيت وهكذا في دفاعه عن نسب الفاطميين " فعلى الرغم من كل الاثباتات على عدم صحة نسبهم وضمن رؤية بعيدة عن العلمية المعهودة عنه ومتصلة بالافكار الروحية له حول اهل البيت يقول عن الفاطميين " ومن الاخبار الواهية ما يذهب اليه الكثير من المؤرخين والاثبات في العبيديين خلفاء الشيعة بالقيروان والقاهرة من نفيهم عن اهل البيت صلوات الله عليهم والطعن في نسبهم الى اسماعيل الامام بن جعفر الصادق، يعتمدون في ذلك على احاديث لفقت للمستضعفين من خلفاء بني العباس تزلفا اليهم بالقدح فيمن ناصبهم وتفننا في الشمات بعدوهم" ابن خلدون ، المقدمة.
طبعا هنا ابن خلدون يثبت صلة العبيديين باسماعيل بن جعفر الصادق ، وقد اثبتنا وبالدليل القاطع نسبتهم الى ميمون القداح الديصاني وانهم ماكانوا بذي صلة باسماعيل بتاتا ، انما نسبوا انفسهم لكسب تعاطف الناس معهم كونهم من اهل البيت ، ويبدو ان ابن خلدون كان متعصبا تجاههم لدوافع ايديولوجية ، اذ يؤكد على اثبات نسبهم بعيدا حتى عن الرؤية التاريخية الحصيفة وقد اثبت في كتابي الموسوم" القرامطة والعدالة الاجتماعية " الطبعة الاولى الصادرة عن دار ضفاف في الشارقة سنة 2018 وبشكل علمي دقيق اثبات نسب العبيديين الى ميمون القداح ،وعدم صلتهم بجعفر الصادق ولا بولده ، فلمن اراد الاستزادة عليه المراجعة هناك . كي لا نقع بالتكرار .
وكدلالة على تناقض ابن خلدون وايديولوجيته المتحكمة به في هذا الباب يقول الوردي تعليقا على ما مر في اثباته لنسب الفاطميين/العبيديين لاهل البيت قائلا" نجد ابن خلدون هنا يأتي بعبارة (صلوات الله عليهم) عند ذكره لاهل البيت ، وهي عبارة يندر ان يأتي بها احد غير الشيعة عند ذكر اهل البيت، فالمعروف عن اهل السنة بوجه عام انهم يقصرون الصلاة على النبي وحده وهم حين يذكرون احدا من الائمة او الصحابة يأتون بعبارة رضي الله عنهم او ما يشبهها، والغريب ان ابن خلدون انه اذ يذكر اهل البيت بهذا التمجيد في هذه المواضع من مقدمته نراه في مواضع اخرى منها يذكرهم بشيء من الذم غير قليل انه يقول مثلا في فصل علم الفقه من مقدمته: وشذ اهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح وعلى قولهم بعصمة الائمة ووقع الخلاف في اقوالهم وهي كلها اصول واهية . يبدو ان ابن خلدون كتب فصول مقدمته وهو في اطوار نفسية وفكرية مختلفة كشأن اكثر المفكرين العظام الذين يقعون تحت تاثير نزعات متناقضة ، فهم يندفعون في احدى النزعات تارة وفي الاخرى تارة اخرى ، ولو انهم كانوا متزمتين لنزعة واحدة لا يعرفون غيرها لما استطاعوا ان يبدعوا شيئا جديدا ، اذ هم يسيرون في تفكيرهم اذ ذاك على الطريق المطروق" منطق ابن خلدون. ص 126 وهكذا نرى ان الدكتور الوردي يوضح ويحلل تناقض ابن خلدون وما وقع فيه من اشكالات عدة في ارائه مارة الذكر فليس من الممكن اعتماد رايه في نسب الفاطميين سيما انه ما قام على اساس علمي متين .
ومع تاثره ببعض الافكار المثالية حسب راي الماجد والوردي كلاهما ، الا ان له نقودا كبيرة على المتصوفة والشيعة كذلك نتيجة معتقداتهم ، فنراه يقول ص188 في منطق ابن خلدون ما يهاج فيه وبشكل علمي افكار صوفية وشيعية على حد سواء، لمثاليتها " وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ، ومعناه راس العارفين، يزعمون انه لا يمكن ان يساويه احد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثم يورث مقامه لاخر ، من اهل العرفان، وهو بعينه ما تقوله الرافضة في توارث الائمة عندهم، فانظر كيف سرقت طباع هؤلاء القوم هذا الراي من الرافضة ودانوا به، ثم قالوا بترتيب الابدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء
، حتى انهم لما اسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه اصلا لطريقتهم ونحلتهم وقفوه على علي رضي الله عنه ، وهو من هذا المعنى ايضا، والا فعلي رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بنحلة ولا طريقة في لبوس ولاحال، نعم ان الشيعة يخيلون بما ينقلون من ذلك، اختصاص علي بالفضائل دون من سواه من الصحابة ، ذهابا مع عقائد التشيع المعروفة لهم، والذي يظهر ان المتصوفة بالعراق، لما ظهرت الاسماعيلية من الشيعة وظهر كلامهم في الامامة ، وما يرجع اليها ، مما هو معروف فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن، وجعلوا الامامة لسياسة الخلق في الانقياد الى الشرع، وافردوه بذلك ، ان لايقع اختلاف كما تقرر في الشرع ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة لانه راس العارفين، وافردوه بذلك تشبيها بالامام في الظاهر وان يكون على وزانه في الباطن، وسموه قطبا لمدار المعرفة عليه، وجعلوا الابدال كالنقباء مبالغة في التشبيه فتأمل ذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في امر الفاطمي وما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي او اثبات، وانما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم والله يهدي الى الحق" ابن خلدون ، نقلا عن د علي الوردي .
والملاحظ لكلامه، أي : ابن خلدون تحامله اللامبرر على من يقف بالضد من افكاره ويوسمهم بابشع الصفات ومنها لقب الرافضة الذي لم يرتضه الشيعة لانفسهم مما يدلل على ان خط التعصب ورفض الاخر مستمر لدى العلماء المسلمين بعدم تقبلهم الراي المخالف.
وفي باب استمراره في الفكر المثالي كذلك، وبعد ان قرر : ان المعارف كلها تنشأ عن طريق التجربة والتفكير النظري عاد فاعترف للروح بالقابلية على الادراك المباشر ، بدون واسطة ، أي: بطريق الحدس، وهنا يعلق الماجد تعليقا مهما " ليس الحدس كما يفهم من كلام ابن خلدون قابلية عقلية على معرفة الطبيعة تتم دون مشاركة الحواس كما هي الحال عند المادي سبينوزا انما هو حالة تشبه الالهام تستثني مشاركة العقل والحواس معا" ويصل الماجد الى نتيجة مهمة حول مادية ابن خلدون واهميتها العلمية على الرغم من الاضطرابات التي اشرنا اليها وهذه الاضطرابات حسب تعبير الماجد لن تنقص من القيمة التأريخية لنظرية ابن خلدون في المعرفة والتي يبرز جانبها العلمي التقدمي مع تحفظنا على كلمة التقدمي لاعتبارات ان هذه الكلمة حديثة لا تنطبق تمام الانطباق على اراء ابن خلدون وافكاره، الا ان ابن خلدون اعطى العقل الانساني ثقة كبيرة في قدرته للتوصل الى الحقائق عن الكون ، يقول" ان هذا الايمان بقوة العقل الانساني انما يصدر من الاعتراف بوجود قوانين موضوعية للطبيعة وبامكانية انعكاسها في دماغ الانسان، " كل ما يقع في النفس من التصورات مجهول سببه اذ لا يطلع احد على مبادئ الامور النفسانية ولاعلى ترتيبها، انما هي اشياء يلقيها الله في الفكر ، يتبع بعضها بعضا، والانسان عاجز عن معرفة مبادئها، وغاياتها وانما يحيط علما في الغالب بالاسباب التي هي ظاهرة طبيعية ويقع في مداركها على نظام وترتيب ، لان الطبيعة محصورة للنفس وتحت طورها" مجلة المربد البصرية .-
كذلك يقول ابن خلدون عن العقل " العقل ميزان صحيح فأحاكامه يقينية لاكذب فيها"
ويتوقف ابن خلدون كثيرا عند مفهوم العقل حتى قال الماجد اننا لن نستطيع ان ننتهي مع ابن خلدون الى تحديد دقيق لمعنى العقل ،لانه استخدمه في معان متعددة ، فهو يطابق مرة بين العقل وبين التفكير الذي هو في رأيه أعلى وظيفة من وظائف الدماغ( )، وتارة يعده جوهراً خاصاً مغايراً للجوهر المادي يطلق عليه اسم الروح العاقلة، في حين يجزئه في أحد الفصول المذكورة في الطبعة الباريسية الى ثلاث مراتب: العقل التمييزي والعقل التجريبي والعقل النظري. ويبدو ان ابن خلدون لم يقصد بهذه التجزئة وجود ثلاثة جواهر خاصة وانما اراد ذكر المراحل التي تمر بها المعرفة الانسانية.
ويكمل فالعقل التمييزي عند ابن خلدون هو المرحلة الحسية من المعرفة ، والعقل النظري هو مرحلة التجريد ، اما العقل التجريبي فانه يكتسب مفهوما اخلاقيا ، ويعني المقدرة على تمييز قواعد السلوك في المجتمع الانساني، اذن نفهم من ذلك ايمانه بالمادة التي هي حسب الوردي المحتوى او المضمون ، لكي يكون هنالك عقل تمييزي اي : مرحاة حسية من المعرفة وليس خيالية ، يقول الوردي معضدا كلام الماجد ومتشابها معه كثيرا " هناك عبارة وردت في مقدمة ابن خلدون تدل على ذلك بوضوح أكثر ، انه فيها ينتقد المؤرخين المتأخرين ويصفهم بأنهم مقلدون بلداء الطبع والعقل يغفلون عما يحدث في التاريخ من تغيرمستمر ، ثم يقول عنهم "فيجلبون الاخبار عن الدول، وحكايات الوقائع في العصور الاول ، صورا تجردت من موادها وصفاحا انتضيت من اغمادها" ، معنى هذا – والقول للوردي- ان ابن خلدون ينعى على المؤرخين الاكتفاء من الاخبار بصورها الذهنية المجردة واهمال محتواها الواقعي ، وهو يشبههم بمن يهمل السيف اكتفاء بغمده، مع العلم ان السيف هو المقصود، وما الغمد سوى وسيلة لحمايته، ان هذه العبارة من ابن خلدون تذكرنا بعبارة لابن الهيثم العالم الفيزيائي ، يقول ابن الهيثم في كتابه المناظر ما نصه" فخضت لذلك في ضروب الاراء والاعتقادات فلم احظ من شيء بطائل ولاعرفت منه للحق منهجا، ولا الى الراي اليقيني مسلكا جيدا، فرايت انني لا اصل الى الحق الا من اراء يكون عنصرها الامور الحسية وصورتها الامور العقلية "" منطق ابن خلدون ، الدكتور الوردي ، م س ، ص 69
هكذا يتضح جليا ايمان ابن خلدون بالواقع المادي العقلي المحسوس يقول د الوردي" من مزايا ابن خلدون انه ينظر في الامور باعتبار محتواها المادي المتلبس بشبكة الحياة وليس باعتبار صورها المثالية المطلقة " م س ، ص 72
ويعتبر الوردي كيف ان ابن خلدون اعلن بوضوح وجود فرق كبير بين الصور الذهنية المجردة وبين الوقائع المادية الخارجية المحسوسة ، اي: العقل التمييزي الذي ذكره الماجد ، يقول الوردي "وهو يزيد بذلك توضيحا – يقصد ابن خلدون- في فصل اخر من مقدمته، حيث يقول : ان الرجل العامي الذي لم يعتد على التجريد الذهني كثيرا ما يكون اصدق حكما في الامور من المناطقة ، اذ هو "لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده اياه، يقتصر لكل مادة على حكمها وفي كل صنف من الاحوال والاشخاص على ما اختص به ولا يعدي الحكم بقياس او تعميم ولايفارق في اكثر نظره المواد المحسوسة ولايجاوزها في ذهنه كالسابح لايفارق البر عند الموج، فيكون مأمونا من الخطر في سياسته مستقيم النظر في معاملة ابناء جنسه، فيحسن معاشه وتندفع افاته ومضاره باستقامة نظره، وفوق كل ذي علم عليم ومن هنا يتبين ان صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس فانها تنظر في المعقولات الثواني ولعل المواد فيها ما يمانع تلك الاحكام وينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني" ص 70 ، م س .
وبذكر العقل التمييزي والنظري والتجريبي يعلق الماجد على ذلك قائلا : " وفي هذا الجزء من نظرية ابن خلدون تلتقى اراؤه مع اراء ابن سينا. ولئن اعترف ابن سينا والفارابي قبله من الفلاسفة المسلمين بوجود عقل فعّال يستمد العقل الانساني معارفه عن طريق الارتباط به، فان ابن خلدون نفى وجود مثل هذا العقل وأكد على دور التجربة والتفكير المجرد فقط في عملية الحصول على المعارف، وهذا أمر ذو قيمة علمية كبيرة، خصوصاً اذا كان صادراً من فيلسوف عاش في القرون الوسطى( )." الماجد ، دراسته الواردة في مجلة المربد البصرية . م س .
وبهذا فان كلا المفكرين الوردي والماجد يذهبان الى تشابه بن خلدون مع ابن سينا والفارابي اذ يفرد الوردي مبحثا تحت عنوان ( ابن خلدون وابن سينا) اذ بحث فيه دور المادة في تجسيد الحياة المحسوسة وليس الافكار المثالية فقط، يقول الوردي معضدا مقولة الماجد في رؤيته حول مادية ابن خلدون " كانت نظرته في الكون قائمة على اساس " ان ليس في الامكان ابدع مما كان" فالعالم في رايه على احسن ما يمكن ان يكون ، واذا كان في العالم شر فليس راجعا الى ارادة الله ، وانما يأتي من وجود المادة ، ان الله هو الخير المحض فلا يصدر عنه الشر ، ومن الموجودات ما هو خير مبرأ من الشر كالامور السماوية والعقلية ، وهناك نوع من الوجود هو الوجود الارضي والخير فيه غالب على الشر ، والشر فيه لاجل الخير ، وينبغي ان لا يترك خير كثير لتفادي شر قليل" (منطق ابن خلدون ، م س ، ص 160) .
يقول الوردي كذلك " يخيل لي ان ابن سينا لم يرتض السكوت ازاء مشكلة الشر في العالم على هذا المنوال، فقد اخذ يفكر فيها الى ان انتهى الى القول بأن الشر لابد من وجوده لضرورة تقتضيها طبيعة الخير ، وجاء ابن خلدون اخيرا يقول بمثل هذا الراي الذي انتهى اليه ابن سينا، لكنه حوله من مجاله الميتافيزيقي الى المجال الاجتماعي. يأتي ابن خلدون بالراي في معرض الحديث عن اهل الجاه واثرهم في المجتمع ، فهو يقول ان وجودهم ضروري للحياة الاجتماعية اذ هم الذين يحملون الناس عن طريق التسلط والقهر ، على دفع مضارهم وجلب منافعهم ، ولولاهم لتشتت شمل الناس واكل بعضهم بعضا ، لكنهم اذ يقهرون الناس على الاجتماع والتعاون قد يقهرونهم في الوقت ذاته على خدمة اغراضهم الخاصة ، ولكن الاول مقصود في العناية الربانية بالذات، والثاني داخل فيها بالعرض كسائر الشرور الداخلة في القضاء الالهي ، لانه لايتم وجود الخير الكثير الا بوجود شر يسير من اجل المواد ، فلا يفوت الخير الكثير بذلك بل يقع على ما ينطوي عليه من الشر اليسير وهذا معنى وقوع الظلم في العالم فتفهم" (منطق ابن خلدون ، م س ، ص 161.
هكذا فان هنالك تاثر كبير من ابن خلدون بأبن سينا في مجال الرؤية المادية حسب الماجد والرؤية العقلية كذلك عند الماجد وكما اوردناه، فالتشابه ليس فقط في المجال العقلي كما ذهب الماجد ، ان ما اورده الالوردي هو ايضا في المجال العقلي.
اما تاثر ابن خلدون بالفارابي فهو كبير جدا ، فالماجد يثير التشابه برؤيتهما للعقل ضمن مقال مختصر اما الوردي فقد توقف كثيرا عند ابن خلدون والفارابي ويعد الوردي ان ابن خلدون اطلع على كتاب الفارابي هذا واستفاد منه " على ذلك اننا نجد ابن خلدون يبدا بحثه في العمران البشري بعبارات تشبه عبارات الفارابي شبها غير قليل فكلاهما يقول : ان الفرد من البشر مضطر في حياته الى التعاون مع ابناء جنسه اذ هو غير قادر على القيام بمستلزمات يقائه بمفرده" فالماجد يشير الى تشابه كلا المفكرين حول رؤيتهما للعقل .
اما الوردي فيخوض في تفاصيل تشابهما في عمق مفهوم العقل وهنالك فرق في منهج البحث بينهما الذي اخذ بالظهور منذ البداية .
" فالناس في نظر الفارابي انما يتعاونون لكي يقيموا اود حياتهم اولا، ولكي ينالوا الكمال الذي من اجله فطرت الطبيعة البشرية ثانيا ، اما ابن خلدون فلا يعترف بهذا الكمال المثالي الذي يقول به الفارابي، ففي رايه ان البشر انما يتعاونون لكي يحصول على القوت اولا ، ولكي يتمكنوا من الدفاع عن انفسهم تجاه الحيوانات التي هي اعظم قوة من الانسان ثانيا " (منطق ابن خلدون ، م س ، ص 157) . فبسبب اختصار المقال اليتيم لدى الماجد فقد توقف فقط عند تشابه ابن خلدون والفارابي في رؤيتهما للعقل ، اما ما نخوض به فيما يخص رؤية الوردي فهو شامل اذ يدخل في تفاصيل تشابه كلا المفكرين ابن خلدون والفارابي في رؤيتهما للفكر عموما النابع من الرؤية العقلية .
والوردي يلاحظ ان الفارابي لا يعير اهمية كبيرة للناحية المادية من حياة الناس ، ولعله والكلام له يعدها الوسيلة للوصول بالناس الى الناحية المعنوية وهي الكمال المطلق الذي تتم به السعادة .
وابن خلدون يجعل الناحية المادية اهم من المعنوية في الاجتماع البشري وهو يعد السعادة التي تنشأ من توافر الناحية المادية للانسان اعظم من تلك التي تنشأ عند انغماس الانسان في التفكير المجرد ، ومن المقارنات المهمة التي يوردها الوردي :ان الفارابي يتخيل صفات مثالية للرئيس داخل المجتمع بعيدا وغير مبالي بواقع المجتمع الذي يعيش فيه ، لكن ابن خلدون يرى " بان الرئيس ليس كائنا قائما بذاته ، بمعزل عن ظروفه الاجتماعية ، انه في راي ابن خلدون نتاج المرحلة التي تمر بها الدولة في دورتها الصاعدة النازلة ، فعندما تكون الدولة في ابان نهضتها وازدهارها يكون الرئيس فيها صالحا الى درجة كبيرة ثم تبدأ صفات الرئيس بالانحطاط جيلا بعد جيل ، وذلك تبعا لانغماس الدولة في الترف تدريجيا " ص159 منطق ابن خلدون.
ويهيء لي ان الترف عندما يطال رئيس الدولة ينسحب ذلك الى الناس شيئا فشيء وتبدأ الدولة بالانحطاط حسب هذه الرؤى والترف هنا الطغيان. ومن مظاهر سقوط الدول التي يسوقها ابن خلدون عن نظام الوراثة
(فالانسان لا يستطيع ان يكون انيسا في البداية ، الا بعد ان يتصف بتلك الصفات الحسنة ، وعندئذ يكثر اتباعه وتقوى عصبيته وينفتح له طريق الملك ) ويعود ابن خلدون ليقول :بأن الملك بعدما يتأسس ويصبح وراثيا في البناء لايبقى على حاله، حيث ينشأ الابناء نشأة مترفة فيهملون ما كان لابيهم المؤسس من صفات حسنة ، وبهذا تنحدر الدولة نحو الضعف والتسفل شيئا فشيئا حتى يتأذن الله لها عاجلا او اجلا بالانهيار والسقوط " ص159 منطق ابن خلدون.
هكذا نجد دولا عدة اليوم تتأذن بالسقوط بسبب طغيان الابناء وشذوذهم عن قاعدة الاجداد، ومنها دول ما زال النظام الوراثي بها سائدا كالسعودية والكويت وقطر والبحرين وعمان والامارات وغيرها مع الاختلاف بين الماضي والحاضر فهذه الدول اليوم مدعومة من قوى كبرى لمصالح كبيرة .

وخلاصة القول بين المنطقين الفارابي وابن خلدون يلخصه الوردي ، ان الاول يبحث فيما هو واجب والثاني يبحث فيما هو واقع وذلك فرق عظيم بلا ريب ، وكلا المفكرين الوردي والماجد يعتبران ابن خلدون والفارابي يعملان العقل في دورهما البحثي والعلمي.

ابن خلدون يرد على هيجل: اذ يرد على الفلسفة التاملية لهيجل وهي فلسفة مثالية لا تعترف بمعطيات التجربة بل تنظر الى الواقع على ضوء الاسس القبلية التي يستخرجها الفكر بصورة اعتباطية ولهذا فان المصدر الوحيد للمعرفة هو "التامل الذهني الخالص" ويعتقد الفلاسفة التامليون ومنهم ديكارت وليبنتز وهيجل بان الواقع الموضوعي يجب ان يخضع في تطوره للقواعد التي يصوغها الفكر الانساني بارادته ونجد ان الدكتور الماجد يرد على هذه الفلسفة على ضوء فكر ابن خلدون: فزعم التأمليون يخالف المفهوم العلمي عن الواقع وانعكاسه في وعي الانسان اذ ليست المبادئ /القواعد نقطة انطلاق في البحث وانما هي النتيجة النهائية كما ان المبادئ نفسها التي يصوغها الفكر الانساني على اساس معطيات التجربة لا يحدد صحتها الا مقدار مطابقتها للطبيعة والتاريخ ويستمد الماجد ردا من ابن خلدون على دعاة التأملية ، يعني الذين كانوا يؤمنون بما يشابه ما ذهب اليه التأمليون في عهد ابن خلدون" اما ما كان منها في الموجودات الجسمانية ويسمونه العلم الطبيعي ،فوجه تصوره ان المطابقة بين النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والاقيسة المنطقية كما في زعمهم وبين ما في الخارج غير يقيني، لان تلك الاحكام ذهنية كلية عامة والموجودات الخارجية متشخصة بموادها ولعل ما في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي" .



#ياسر_جاسم_قاسم (هاشتاغ)       Yaser_Jasem_Qasem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الزهويون السياسيون في نظر الوردي
- متى يأخذ المثقف زمام المبادرة؟
- قيس سعيّد وعلمانية الدولة ...... الدولة – الأمة أ ...
- من سينقذ دجلة الخالد من سد أليسو؟ قراءة في كتاب -المفاوض الع ...
- الى المسؤولين في البصرة لماذا لا نحتفي بعلمائنا ؟نوري جعفر أ ...
- مفاهيم في الثقافة
- مقاربة لسمات التحديث في فكر رفاعة الطهطاوي الحداثة تشتبك مع ...
- الوعي بالعقل ، من سلسلة الوعي المجتمعي ، الكتاب الثاني ح 20 ...
- الوعي بالعقل ، دفاعا عن التنوير ح 19 من سلسلة الوعي المجتمعي ...
- الوعي بالاخر المختلف ، دفاعا عن التنوير ، ح 17 ، من سلسلة ال ...
- دفاعا عن التنوير ح 16 الوعي بالفلسفة وممارساتها
- دفاعا عن التنوير ح16 من سلسلة الوعي المجتمعي ك 2 - الوعي بال ...
- دفاعا عن التنوير ح 15 من سلسلة الوعي المجتمعي ، الكتاب الثان ...
- الوعي بالنص الديني دفاعا عن التنوير ح 14 من سلسلة الوعي المج ...
- الوعي بالاسلام السياسي والارادة لنهضة المجتمع ح 12 من دفاعا ...
- الوعي بجحرية المعتقد ح 10 من كتاب دفاعا عن التنوير من سلسلة ...
- دفاعا عن التنوير ح 9 - الوعي بالاستبداد ... ورسالة النائيني ...
- الوعي عبر الفن -ب- دفاعا عن التنوير الكتاب الثاني من سلسلة ا ...
- دفاعا عن التنوير .. ح 9 الوعي بقضاايا الانسان عبر الفن أ من ...
- دفاعا عن التنوير . ح 8، الوعي باللامساواة ب من سلسلة الوعي ا ...


المزيد.....




- العراق.. المقاومة الإسلامية تستهدف هدفاً حيوياً في حيفا
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسر جاسم قاسم - ابن خلدون بين: علي الوردي ،عبدالرزاق مسلم الماجد، فالح عبدالجبار.....