أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي فضيل العربي - يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 5 )














المزيد.....

يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 5 )


علي فضيل العربي

الحوار المتمدن-العدد: 7482 - 2023 / 1 / 4 - 00:41
المحور: الادب والفن
    


قال لي صديقي المعلّم ( ج ) ، و هو يغرف من بحر ذاكرته العامرة بالأحداث ، كأنّها سنابل قمح أدركتها ساعة الحصاد :
- فاجأتني حياة أهل الريف في الدوار . فقد رأيتهم طوال فترة مقامي بينهم كالجسد الواحد ،إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى و السهر . رأيتهم كالعائلة الواحدة ، أكواخهم متناثرة هنا و هناك على الروابي و سفوح الجبال ، لكنّ قلوبهم مجتمعة في كوخ واحد . كان لهم وليّهم الصالح ، سيدي معمر بومكحلة ( بندقيّة ) ، يجمعهم تحت عرف واحد ، في مسائل الزواج . و كانوا يقيمون له في كل خريف من السنة وعدة ( احتفال ) ؛ لمدّة ثلاثة أيّام ، و قيل لي أنّها كانت تدوم أسبوعا كاملا في زمن الأسلاف ، و لكنّها قُلّصت إلى ثلاثة أيام .. و في الوعدة يصنعون الطعام ( الكسكسي ) باللحم و المرق و العسل و الزبيب و الدهان البلدي ( الزبدة ) و العنب اللذيذ ، الذي لا مثيل له في الدواوير المجاورة ، ذي الرائحة الفوّاحة من نوع ( الميسكا ) ، و فيها – أيضا – تجري سباقات الخيل الأصيلة ( الفانتازيا ) ، و يُطلق البارود ، و تزغرد النسوة ، و يخرج الأطفال شقاواتهم للعلن ، و يأكل الزوار كلهم ؛ الفقراء و الميسورون ، الكبار و الصغار ، و حتى كلاب الدوار ..
و أردف صديقي المعلّم ( ج ) ، قائلا :
- أصابت كلمات المدير شغاف قلبي . منحتني ثقة أكبر ، بأنّ رحلتي إلى الدوار ، لن تضيع سدى ، و في مهب الريح و السراب . أحسست أنّ مكاني في الدوار ، كمكان البدر في الليلة الظلماء . وطّنت نفسي على البذل و العطاء قدر المستطاع . لقد أرسلتني الأقدار إلى حيث يجب أن يكون المرء النافع ، كما تزجي الرياح المزن و تنزل الغيث على أرض عطشى . كان الدوار في أشدّ الحاجة إلى معلّم ، يبعث في جوانحه الحياة ، و ينير دروبه التي اكتنفتها الظلمة منذ زمن الاحتلال الفرنسي البغيض ..
و بعد يومي الأول في الدوّار ، تعرّفت على المدرسة ، و على معالم الطريق المؤديّة إليها .. و تنسّمت هواء الريف النقيّ ..
و عندما هممت بالانصراف ، و العودة إلى مدينتي ( س ) ، دعاني حارس المدرسة ، بل أصر على دعوتي إلى كوخه لتناول الغذاء – و قد كانت الساعة قد جاوزت منتصف النهار – لكنّني اعتذرت منه بكل لباقة و لطف ، و وعدته أنّ البّي دعوته في المستقبل .
صادفت في طريقي ، و أنا أغادر المدرسة و ( الدوار ) وجوها ريفيّة لفحها قيظ الصيف و شمس الخريف ، و جوها ناطقة ، تشكو الحرمان ، و أجسادا متعبة ، فاقت ، في العمر ، سنّها البيولوجي ، لقد أنحلها الشقاء و قلّة المؤونة ، و عيونا ضيّقة الجفون و المآقي ، لكّن خلف مقلها تسكن الألفة و حبّ الغريب دون تكلّف .. رأيت على جانبيّ الطريق ، التي سلكتها ذهابا و جيئة ، أطفالا صغارا ، ذكورا و إناثا ، لم يمّر على فطامهم وقت طويل ، بل بدا لي أنّ قسوة حياة الريف فطمتهم قبل الأوان ، رأيتهم سارحين بقطعان صغيرة من الماعز و الأغنام و بعض البقرات المحليّة ، بألوانها الدكناء و بيضاء و الشهباء ..
توقّفت عند رهط من الأطفال الرعاة . رفضوا ، في البداية التحدّث معي ، إلاّ بعد إلحاح ، و تدخّل أحد الشيوخ . فمن عادتهم و طبعهم أن لا يأمنوا للغريب ، و لا تغريهم قطعه من الحلوى أو الشيكولاطة . فقد تربّوا منذ الصبا على الأنفة و القناعة و الحذر من الغرباء و رفض الحديث معهم ... لقد قيل لي ، فيما بعد ، أنّها النفور من الغرباء عن الدوار ، عادة موروثة عن الكبار للصغار ، و وصيّة موشومة فيهم زمن الاحتلال الفرنسي .. فقد كان جنود الاحتلال الفرنسي و مظليّه بتواطؤ من الحركى ( الخونة ) ، عندما يقومون بعمليات التمشيط بحثا عن المجاهدين و المسبّلين ( مقاومون مدنيّون ) ، يغرون الأطفال بالحلوى و الشيكولاطة و الكاتوه و البسكويت ، و يسألونهم الأسئلة التالية :
- من زاركم بالأمس ليلا ؟ من تعشّى عندكم ؟ هل رأيتم الفلاقة ( المجاهدين ) و هم يحملون البنادق ؟ لكنّ الأطفال يجيبون دوما بالنفي . لأنّ الآباء و الأمهات و الأجداد و الجدات ، يقومون ، قبل وصول المجاهدين ، بتنويم الأطفال أو إبعادهم إلى مكان ، كي لا يروا المجاهدين ، حفاظا على أسرار الثورة ، و سلامة الدوار من بطش المحتل و انتقامه ..
ناديت أحد الأطفال الرعاة ، و بادرته قائلا :
- تعال ، يا بني لا تخف .
و اقترب منّي بضع خطوات ، و وقف زملاؤه وراءه ، و كأنّهم في طابور . سبقت نظرات عيونهم لغة ألسنتهم . كانت تحكي شريطا من الحرمان .. ملابس رثّة .. حفاة ، شبه عراة .. سحنهم تروي مأساة أهل الريف بعد عقود سوداء ، مظلمة ، كالحة من قسوة الاحتلال الغاشم و ظلمه . إنّهم امتداد طبيعيّ و فطريّ و بيولوجيّ و نفسيّ للتعاسة الإنسانيّة ، بل كأنّهم قادمون من حفر الموت لا من حدائق الحياة ..
قلت له ، و قلبي يرتجف من هول المنظر :
- ما اسمك ؟
تردّد هنيهة ، و كأنّه بصدد البوح بسرّ خطير :
- إسماعين ( إسماعيل ) .
- اسمك جميل . كم عمرك ؟
- لا أعرف .
- في أيّة سنة تدرس ؟
- لا أدرس . أسرح معزاتنا و معزات جارنا .
ثم ناديت طفلة في عمر الزهور ، لكنّها رفضت الحديث معي ، و ركضت بعيدا عنّي ، و عن رفاقها .
فقال لي أحدهم :
- ماذا تريد منها ؟ بنات الدوار لا يتكلّمن مع الرجال الغرباء . و إذا خالفت العرف ، سيذبحها أهلها من الرقبة .
- كنت أريد أن اسألها ، هل تذهب إلى المدرس أم لا ؟
- كلنّا لا ندرس ، لو دخلنا المدرسة ، فمن يسرح مال ( حيوانات ) أهالينا ؟
و عندها توقّف صديقي ( ج ) ، عن البوح بتفاصيل يومياته الريفيّة برهة من الزمن ، ثم أردف :
كان أولئك الأطفال الرعاة ، المحرمون من المدرسة قسرا لا طوعا . و علمت فيما بعد ، أنّ البنت في الدوار محرّم عليها التعلّم في المدرسة ، و سنّ زواجها لا يتعدّى اثنتا عشرة سنة . و كلّ بنت تعدّت ذلك السنّ ، فقد وضعت قدما في سوق العنوسة



#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 4 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 3 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 2 )
- يوميّات معلم في مدرسة ريفيّة ( 1 )
- فلسفة الوقت في حياتنا
- أكتب لكم من الجنوب ( 10 )
- التعليم قبل الديمقراطيّة .
- أكتب لكم من الجنوب ( 9 )
- بين المونديال الكروي في الجنوب و المونديال الحربي في الشمال
- أكتب لكم من الجنوب ( 8 )
- أكتب لكم من الجنوب ( 7 )
- قمّة المناخ في شرم الشيخ وما تنتظره البشريّة منها .
- أكتب لكم من الجنوب ( 6 )
- أكتب لكم من الجنوب ( 5 )
- أكتب لكم من الجنوب ( 4 )
- أكتب لكم من الجنوب ( 3 )
- أكتب لكم من الجنوب ( 2 )
- أكتب لكم من الجنوب
- ليلة إلقاء فاطمة بيدار في نهر السين
- حديث عن أم ريفيّة ( 5 )


المزيد.....




- -جَنين جِنين- يفتتح فعاليات -النكبة سرديةٌ سينمائية-
- السفارة الروسية في بكين تشهد إزاحة الستار عن تمثالي الكاتبين ...
- الخارجية الروسية: القوات المسلحة الأوكرانية تستخدم المنشآت ا ...
- تولى التأليف والإخراج والإنتاج والتصوير.. هل نجح زاك سنايدر ...
- كيف تحمي أعمالك الفنية من الذكاء الاصطناعي
- المخرج الأمريكي كوبولا يطمح إلى الظفر بسعفة ذهبية ثالثة عبر ...
- دور النشر العربية بالمهجر.. حضور ثقافي وحضاري في العالم
- شاومينج بيغشش .. تسريب امتحان اللغة العربية الصف الثالث الاع ...
- مترو موسكو يقيم حفل باليه بمناسبة الذكرى الـ89 لتأسيسه (فيدي ...
- وفاة المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد عن 70 عاما


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي فضيل العربي - يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 5 )