|
تغيير المجتمع
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
الحوار المتمدن-العدد: 7451 - 2022 / 12 / 3 - 18:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هل من الممكن تغيير المجتمع ؟ وإذا كان التغيير مطروحا لتغيير نمط حياة المجتمعات ، فكيف يمكن التغيير . هل سيكون تغييراً أفقيا او سيكون تغيير عموديا ؟ ، وما هي الجوانب التي سيشملها التغيير ، ومن هي الفئة أو الطبقة حاملة مشعل التغيير ، وفي أي إتجاه ، وفي أي أفق سيُدفع بالتغيير للوصول الى مجتمع الحلم والفضيلة .. لكن السؤال وفي المجتمعات الراكدة والمتخلفة كالمجتمع المغربي ، هل سيبدأ التغيير من فوق ام سيبدأ من تحت ؟ عندما يتحدث علماء والمشتغلون بعلم السياسية ، وبالعلوم السياسية الحقة ، والمشتغلون بعلم الاجتماع السياسي ، وبالعلوم الاجتماعية ، والأنثروبولوجيون .. عن تغير المجتمع او تغيير المجتمعات ، فذلك انّ تمة معضلة معطِّلة للنمو ، ومعرقلة للجديد ، تقتضي التغيير ، وتقتضي التظافر والابداع في خلق الجديد الإيجابي ، المعوض للقديم السلبي الذي أنهك الجميع ، وفقّر الجميع ، وخدم الأقلية المترفة الجشعة التي تسيطر على الدولة ، للمزيد من الإغتناء الفاحش ، وللمزيد من القمع واللّجم ، لتكميم الافواه المعارضة المُنادية بضرورة التغيير ، لخلق التوازن المادي والسيكولوجي داخل المجتمع ، بنوع من الشفافية والدمقرطة التي تستلزم التنازل ، للحفاظ على وحدة المجتمع الراكد ، المهدد بالتمزق في كل وقت وحين .. أحيانا يعتقد بعض دعاة التنوير المتنورين ان أساس الازمة العامة التي تضرب كل النواحي والميادين ، هي ازمة بنيوية في صلبها ، ومن ثم فمجرد القيام ببعض الرتوشات في الضفاف وليس في البناء ، وحده كافي لإحداث التغيير المنشود الذي سيستجيب لتطلعات الجميع ، ويحقق رغبات الكل ضمن الوحدة والانسجام المجتمعي التام . لكن هل يعتبر تغييرا القيام ببعض الإصلاحات الثانوية ، في الوقت الذي يكون أصل الازمة عقيدة أو أيديولوجية ، تتطلب التغيير بالإصلاح ، او بالتجاوز لفائدة الجديد المنتظر . ان تغيير المجتمع وتغيير المجتمعات ليس بالأمر السهل ، لان التغيير ليس بنزوة لذا دعاة التغيير ، بل هو اقتحام ثوري للطّابو المغلف للعقول ، والحائل دون التغيير . فالدعوة للتغيير من دون استيعاب أصل المشكل الذي هو التقاليد ، والطقوس ، والأعراف البالية ، سيجعل من اية عملية للتغيير عملية جوفاء ستنقلب على الواقفين وراءها ، ولو لوّحوا بالشعارات الرنانة المثيرة للإنتباه من كل حدب وصوب . ان جميع المجتمعات مُتحضّرة ، لها حضارتها التي تتميز بها . فشعوب الإنكا هي شعوب لها حضارة كالشعوب الافريقية ، لكن المصيبة انّ هذه الشعوب ليست متمدنة ، بخلاف الشعوب الاوربية التي هي شعوب متمدنة واحدة ، لكن لكل شعب حضارته المتميزة التي تميزه عن غيره من الشعوب ، فالشعب الإنجليزي ليس هو الشعب الفرنسي ، والشعبان معا ليسا هما الشعب الاسباني او الإيطالي حيث مقر الفاتيكان . ففرق بين المدنية وبين الحضارة ، وهنا وبالنسبة للمجتمعات الغير مدنية ، هل جائز عقلا وإنسانيا تغيير التقاليد العامة والخاصة لمجتمع ما ، ولو انها تكبل التغيير وترفض الجديد ، وتنفر من التطور ، الامر الذي سيحرم ذاك المجتمع من التاريخ المتوارث الغير مكتوب ، الذي يميز كل شعب عن الشعوب الأخرى . لقد حصلت أحداث في الماضي بسبب عدم الاقتناع بالواقع المُعاش ، وهدفت إحداث التغيير لتغيير المجتمعات ، وكان البدء في عملية التغيير ، الترويج لشعارات التحفيز والتهييج ، والاقناع بصحة الخط ، وبصحة الجديد الذي سيكفينا شر البلية ، ويخلصنا من أثقال سنين الانحطاط ، والتخلف ، والاجترار . فتم تهييج الساكنة العامة التي انخرطت بدون مقدمات في موجة التهييج والتحفيز مسايرة للموجة ، وليس قناعة ، أيْ دون اقتناعها بضرورة القطع مع التقاليد والطقوس البالية ، التي تجد نفسها فيها دون غيرها من المراجع المُنزلة من فوق ، ولم تأت من تحت .. لكن رغم الحملة التي كانت قوية الدعاية والخطابة ، فهل نجحت في تغيير أصل المجتمعات التي ظلت تحافظ على نمط عيشها ، ومجترة لتقاليدها ، ولو اختلفت مع صدى الشعارات المرددة ، وهل نجحت كل تلك الحملات في احداث التغيير الموعود ، ومن ثم حصل تقدم المجتمع الراكد العصي عن التغيير ؟ عندما جاءت الثورة الروسية ، جاءت بشعارات التغيير التي لعبت في وقت من الأوقات ، دورا في تغيير المظاهر التي سادت تاريخ روسيا القيصرية ، وعندما تم انشاء جمهوريات الاتحاد السوفياتي بشعارات الثورة الروسية ، حصل تغيير على نمط عيش تلك المجتمعات الغارقة في الاستبداد الشرقي ، وفي ثقافة التحنيط الثيوقراطية للكنسية الأرثودوكسية . فسادت فترة من الوقت جاوزت السبعين سنة ، كلها كانت تتفاعل مع الشعارات المُروجة والمُرددة التي كانت كلها تدور حول الانسان ، وحول التحرر ، والمساواة ، وتلكم الأركان الأساسية لأيّ تغيير .. لكن هل نجحت الثورة الروسية في تغيير المجتمع بالقطع مع ثقافة التحنيط ، وبالقطع مع تقاليدهم المرعية ، لان لكل شعب اصوله ، وطقوسه ، وتقاليده المرعية يظهرها في أوقات الرخاء ، ويخفيها في أوقات الشدة والخطر المحدق به . طبعا كانت تلك الشعوب كغيرها من الشعوب اللصيقة بالتقاليد المخفية ، تعيش إسكزوفرنيا التي فرضها النظام المجتمعي القمعي الجديد . من جهة تظهر انغماسها في الجديد الذي جاءت به تلك الثورات ، لكنها من جهة أخرى ، كانت تعيش في داخلها ، حقيقتها ، وتقاليدها المرعية ، وطقوسها ، وثقافتها الشرقية في طابعها الاستبدادي المفروض بقوة الأنا التي ليس لها تفسيران ، وتفسيرها هو غلبة التقليد والأصول على الجديد الساقط بالفوضى بعنوان الثورة من فوق . لذا عندما خرّ الاتحاد السوفياتي ، وتقوقعت كل جمهورية في صدفيتها ، وحُشرت في ركنها ، حتى تفجرت بكل قوة خارقة ، المكنونات التي ظلت مجمدة وليس جامدة ، طيلة سنين الوصاية والسيطرة ، فطفح وطفى على السطح المشاعر القومية ، وحصلت هجرة قوية من الشعارات التغييرية الثورية التي فشلت في تغيير المجتمع ، لفائدة حضارة كل مجتمع من تلك المجتمعات ، وليس لفائدة مدنية كانت مزورة كاذبة ، وفشلت في محو الحضارات المتناقضة مع مظاهر المجتمع المدني . انّ التسونامي الذي أدهش العالم ، وأدهش المنظرين الذين وصلوا الى نتيجة نهاية عصر الأيديولوجية ، هو انتصار عصر العقيدة على عصر الأيديولوجية ، فحصلت هجرة شعبية من الالحاد الذي كان مفروضا من فوق وبقوة السلطة ، الى الكنائس الأروثودكسية الشرقية الأكثر تخلفا من الكنسية الكاتوليكية ، وطفت وطفحت على السطح ، المساجد التي كانت ممنوعة ومغيبة باسم التغيير الذي فشلت فيه شعارات الثورة الأيديولوجية ، فتم العودة من الالحاد الى الايمان .. فالكنسية الأرثوذكسية عادت بقوة الى قاعدتها الشعبية ، والمساجد عادت هي كذلك بكل قوة ، الى تلك المجتمعات التي اعتبر مسيروها انّ الدين أفيون الشعوب .. فهل ضاعت سبعون سنة من العمل الأجوف ،عندما فشلت الشعارات في تغيير المجتمعات الشرقية التي تحن الى استبداها الشرقي ، وبما فيه الاستبداد الديني المتخلف ، ورفضت وترفض أي تغيير اذا مس معتقداتها ، وتقاليدها المرعية ، وطقوسها التي ترى فيها سر وجودها ، والاّ لَمَا كانت شعوبا كسائر الشعوب بها حضارتها الخاصة بها ، وليس بها مدنيات تنتصر الى القيم ، والعقل ، والى السلوك ، ونمط الحياة اليومية .. اذا كان تغيير المجتمعات من تحت ( الثورة ) قد فشل في تغييرها ، وفشل في دفعها لتقطع مع تقاليدها المرعية ، فانّ نفس الفشل حصل لمن حاولوا تغيير المجتمع من فوق . فرغم شعارات العهد الجديد الذي جاء مع انقلاب عسكري وصفوه بالثورة ، بقيادة العقيد جمال عبدالناصر ، ورغم المحاولات التي قام بها لغرس ما كان يسميه بالاشتراكية الإنسانية الناعمة ( سانسيمون العربي ) ، التي تناقض الاشتراكية في أوجهها المختلفة من ماركسية ، ولينينية ، وستالينية ، وماوية ... ، فان الرئيس جمال عبدالناصر فشل في تغيير المجتمع المصري ، الذي ظل صعيديا تقليدانياً ، ولم يرتقي يوما الى درجة المجتمع المدني ، الذي يزاوج بين المدنية وكانت فوقية شكلية ( السينما والمسرح والممثلين ... ) ، وبين حضارة مصر الفرعونية القباطية ، التي غرقت في تولي الوظائف العامة ( بطرس غالي ) ، وبين المجتمع الصعيدي التقليدي الذي ظل غارقا في التقاليد المصرية القرشية ، لان أهل الصعيد جاؤوا من الطائف ، والمتشبث بالإسلام كدين ، سيفرخ بعد وفاة الزعيم جمال عبدالناصر جماعات التكفير والهجرة ، وجماعة الاخوان المسلمين ، وهي الجماعة نفسها فشلت في عملية اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر .. فهل شعارات الثورة ذات الطابع الاشتراكي الإنساني الناعم التي لوح بها جمال عبدالناصر ، والتغييرات التي حاول إدخالها من فوق على مجتمع قاعدته صعيدية غارقة في الماضوية ، نجحت في تغيير الأصل المصري ، ونجحت في احداث ثورة عقلية ومفاهيماتية ، لِمَا ساد مصر من تحجر وتخلف ، قبل واثناء فترة حكم الزعيم عبدالناصر . واعتقد ان الوضع الذي وجدت فيه مصر نفسها بعد وفاة الرئيس ناصر ، خاصة مع محمد انوار السادات الذي قتل على يد الصعيديين التكفيريين المتعصبين ، وخلفه مبارك الذي كان يلعب على الصورة لتعظيم نظامه الضعيف ، كان اكثر تخلفا من وضع مصر زمن عبدالناصر ، الذي كان يحارب وعلى جميع الواجهات ، فقط بالشعارات الذي يؤكد فعلا أننا أمة الشعارات ، ومن دون الشعارات لن تقوم لنا قائمة تفقأ الأعين بسبب خواء وجوفاء الشعارات ، التي لم تكن تعكس حقيقة العقلية والمجتمع المروجة فيه .. والسؤال ومن دون المظاهر البراقة والخادعة . هل نجح دعاة التغيير بالشعارات في خلق مصر جديدة ، مصر الحضارة الفرعونية المسيحية القبطية ، ومصر شعب الصعايدة المسلم ، ومصر المدنية التي تثور على التقاليد المرعية ... ان وضع مصر أيام الملك فاروق ، كان احسن بكثير من وضع مصر زمن جمال عبدالناصر ، وزمن محمد انوار السادات ، وزمن حسني مبارك ، وزمن السيسي ... والسؤال . هل السبب في ذلك يرجع الى نوع العقلية ، او الاعتقادات ، او التقاليد وبما فيها الخرافة ، او ان السبب في البضاعة التي تم ترويجها ، وظلت حبيسة مخططات أصحابها ، ولم تنفد الى المفروض انهم المخاطبين بها ... ان نفس فشل تغيير المجتمع من فوق الذي صاحب التجربة الناصرية رغم بناء السد العالي ، سيصاحب تجربة الماركسيين الذين حاولوا تغيير المجتمع الافغاني المحافظ ، والتقليدي ، والإسلامي . فلا محمد نورالدين تراقي ، ولا حفيظ الله امين ، ولا بابراك كارمل ( حزبي خلق وبارشام ) ( الشعب والراية ) ، نجح في تغيير المجتمع الافغاني ، الذي ظل ثابتا ومحافظا على اصوله التي استعمل الإسلام في استنهاضها ، بدعامة سعودية ، وخليجية ، وامريكية ، وبريطانية ، بدعوى مواجهة الشيوعية والالحاد .. ان وضع أفغانستان اليوم هو وضع مشفق عليه ، فبعد الحروب باسم الإسلام بين الطوائف والأحزاب الإسلامية ، تنتهي المعركة في يد حركة طالبان المدعومة من المخابرات الباكستانية ، ولتجعل من أفغانستان دولة لا مثيل لها في العالم .. ومثل فترة حكم الملك فاروق في مصر ، فان فترة حكم الملكية في أفغانستان ، كانت احسن بكثير عن مثيلتها في ظل حكم حركة طالبان ، وفترة حكم ( خلْق وبارشام ) ، كانت احسن بكثير من الفترة الحالية لحكم حركة طالبان . والسؤال . لماذا فشل ( الشعب والراية ) في تغيير المجتمع الافغاني الذي ظل تقليديا محافظا متخلفا ، ورفض التغيير بالانتقال من مجتمع متخلف الى مجتمع متقدم ؟ . هل السبب في قصور اللاّئيكيين الشيوعيين الذين كانوا في وادٍ ينظّرون للمجتمع ، في حين انّ الحقيقة والواقع كانا شيئا اخرا ؟ ام ان السبب كامن في الطقوس ، والأعراف ، والتقاليد المرعية التي عارضت حتى شاه مسعود ، فأحرى الشيوعيين الذين تم اعدام رؤساءهم بدون رحمة ، بالمشانق في الساحات العمومية .. ولماذا رغم تفتح النظام الملكي الافغاني ، واقراره بالحريات ، خاصة حرية المرأة ، لم يثُرْ الأفغان على النظام الملكي ، كما ثاروا على النظام الماركسي ؟ ، أم انّ ما كان يطبخ تحت الرماد في الحقبة الملكية ، كان سينتهي بثورة إسلامية كان يحضر لها ضد النظام الملكي ، وعجل بإشعالها في شكل حرب تحرير ، الانقلاب الماركسي ل ( خلْق وبارشام / الشعب والراية ) ، ودخول الجيش الأحمر الى البلاد ، لمساندة الانقلابيين الشيوعيين الجدد ؟ وكما فشل ( خلْق وبرشام ) من فوق في تغيير المجتمع الافغاني الذي كان محافظا ، وزاد محافظة بدخول السوفيات الى البلاد ، سيفشل الحزب الاشتراكي اليمني الماركسي الذي كان يحكم اليمن الجنوبي ، في تغيير المجتمع اليمني الذي ظل محافظا ، رغم الشعارات التي كانت تردد في كل البلاد ، وقد ظهر الرفض للاشتراكي في حرب الوحدة ، عندما حاول الحزب الاشتراكي العودة الى الوضع الذي سبق توحيد الدولتين اليمنيتين الجنوبي مع اليمن الشمالي . فالشعب اليمني المحافظ والمتأسلم ، حارب الى جانب الشمال لنصرة الوحدة ، رغم ان موقف اليمنيين الجنوبيين من حكم علي صالح كان واضحا .. فرغم وجود الحزب الاشتراكي اليمني على رأس الدولة في اليمين الجنوبي ، ورغم سيطرة السوفيات على البلاد باسم العلاقات الثنائية والاستراتيجية ، ورغم شعارات التغيير التي تم رفعها لتغيير المجتمع ، فهذا لم يتغير وظل محافظا ، وكانت النتيجة ، الفشل في تغيير المجتمع الذي يستند على الموروث العقائدي ( الأحزاب الإسلامية ) والموروث الايديولوجي القومي ( الأحزاب الناصرية والأحزاب البعثية ) .وطبعا سيشهد الحزب الاشتراكي في اليمن الجنوبي ، حرب التصفيات والتصفيات المضادة ، فتم اعدام الرئيس سالم ربيع علي بدعوى الارتداد على الستالينية واعتناق الماوية ، واغتيل الرئيس عبد الفتاح إسماعيل ، تم الانقلاب على علي صالح الستاليني ، كما تم ابعاد ابوبكر العطاس .. وقائمة مناضلي الحزب الاشتراكي اليمني كحزب ماركسي يقود دولة اليمن الجنوبي الماركسية تطول وتطول ، لكن الحقيقية التي تجاهلتها قيادة الشعارات ، ان شعب اليمن الجنوبي لم يتمركس ابدا ، ولم يتغير ، فظل وفيا لتقاليده المرعية ، وبما فيها الوفاء لاستهلاك القات المخدر .. المغرب كغيره من البلاد العربية ، بلد محافظ وتقليدي ، يحكمه سلطان على رأس الدولة السلطانية ، التي تبني نظام حكمها ، ومشروعية سلطتها ، ومؤسساتها على الطقوس والأصول والتقاليد المرعية ، وتبني كل هذا الإرث ، على المشروعية الدينية ، وبانتساب السلطان الى النبي ، أي انه احد احفاده . انطلاقا من هذه الحقيقة ، خاصة طبيعة الدولة الحاكمة ، فمن الطبيعي ان يكون الرعايا الذين يرعاهم السلطان ، ويشكل إمامهم ، وأميرهم ، لن يكونوا غير تقليديين في مجتمع اكثر من تقليدي ، بل ماضوي ، لان عند تطليق الحاكم للطقوس ، والتقاليد ، وتأكيد الانتساب الى النبي ، مع التشبث بتمثيلية السلطة الدينية التي تعطيه مشروعية الحكم ، يكون بمن يحفر قبره بيده ، ومن تلقاء نفسه ، أي يؤجل الثورة بمفهومها الثيوقراطي ، وليس بمفهومها الأيديولوجي .. وتمت الخطأ الكبير الذي سقط فيه حاكم ايران السابق الامبراطور محمد رضى بهلوي ، عندما تجاهل تمثيله للدين بدعوى لائكية مشوهة ، وترك رجالات الدين يستأثرون بالساحة التي تحكموا فيها دينيا ، مما عجل بسقوط نظام بهلوي الامبراطوري ، وتأسيس جمهورية إيران الإسلامية . فطبيعة المجتمع المغربي الذي يتكون من الرعايا في دولة رعوية بطريركية ، دفع بالحسن الثاني الى التفطن بهذا الخطر المهدد على الأمد المتوسط للدولة السلطانية ، فكان التحدي هو عندما تم التنصيص في اول دستور على طابع الامارة ، والتأكيد على الطابع الإسلامي للنظام كسبط الرسول .. وقد تجلى هذا الخطر ، في رسالة الأستاذ عبدالسلام ياسين الى السلطان الحسن الثاني شخصيا بعنوان " الإسلام أو الطوفان " ، وتجلت في الشعارات الإسلامية الشيعية التي رددها المتظاهرون في كل مدن الشمال غداة انتفاضة يناير 1984 .. اذن في مجتمع تقليدي وخرافي ، ومخزني اكثر من المخزن ، حيث يحيي طقوسه المخزنية في افراحه ، وفي مآتمه ، كان لزاما على الدولة ان تجتهد بما يزيد من تعميق التقليدانية والطقوسية التي تنهل من الأصل ، ومن الموروث العقائدي ، ومن ثم الربط بين النظام والدين ، وبين الرعية المتشبثة بالدين ولو نفاقا . ان هذه الحقيقة ، وهذا الوضع سرّع في الفرز بين المجتمع التقليدي في الدولة الإمامية الرعوية الأميرية ، بين الإمام والراعي والأمير والرعايا التابعة للراعي ، وبين المشاريع الأيديولوجية الواردة من خارج المغرب ، لمحاولة احداث التغيير المنشود داخل المجتمع ، بغية التوعية والاستنهاض لبلوغ الحكم . فكان لتمسك المجتمع بالقيم السلطانية المخزنية التي تحيل الى كل ما هو ماضوي ، الصخرة التي تحطم عليها المشروع البرجوازي الصغير ، وتحطم عليها المشروع الحداثي خاصة الماركسي ، الذي فشل في اختراق المجتمع ، وفشل في التحكم فيه ، بل سنجد انه كلما تقوت هذه التيارات الداعية لتغيير المجتمع كآلية ميسرة للوصول الى الحكم ، كلما زاد تباعد هؤلاء عن المجتمع الذي يرتلون اسمه صباح مساء ، وكلما زاد ابتعاد المجتمع عنهم ، وكلما زاد ارتباط الرعية بالسلطان الإمام الأمير والراعي والبطريركي ، في دولة لا يمكن ان تكون غير دولة بطريركية ورعوية ، وسكانها الذين يمثلون المجتمع ، هم رعايا تقليديين ، بل رعايا ماضويين ، بقدر ما يلتصقون بالتقاليد ، ينفرون من التغيير ومن الجديد ، لأنه يؤلمهم في رأسهم ، وهم المتعودين على حياة الرعية ، مهما كان الراعي قاصيا معهم ، أي حتى وانْ جوعهم ، وهشم رؤوسهم ، وانهال عليهم بعصاه التي تصبح عند الرعية بركة مولوية ، لن ينالها الاّ من رضي الله عنه واحبه .. ولنا ان نطرح السؤال . لماذا رغم موجة التنوير التي سادت اوربة الغربية خلال الستينات ، وخاصة السبعينات من القرن الماضي ، فشلت تلك الموجة في إزاحة المجتمعات الاوربية عن تقاليدها وثقافتها الخاصة بها ، وانتهت بسيطرة الطقوس الاوربية على العقل الأوربي الذي مثله العديد من الرواد أمثال Jean Paul Sartre ، و Simone De Beauvoir ، و Maxim Rodinson ... الخ .. والسؤال بالنسبة لمن يرفع شعار تغيير المجتمعات ، لماذا كل محاولات تغييرها فشلت ، وظلت الشعوب لصيقة بموروثها ، وبطقوسها ، وبعاداتها ، وباعتقاداتها ، بل كيف نفهم تحول الايمان الى الحاد عند بداية الثورة ، وعند استنفاد حكم الثورة لمقومات الثورة التي هي تغيير المجتمع ، يعود هذا في شكل موجات طوفانية الى الايمان والعقيدة ، بعد سنون من العيش في الالحاد . وكيف فشلت كل محاولات التنوير في المجتمع المغربي ، الذي بقي مجتمعا تقليديا ومتخلفا . فكلما نفر من الجديد ، كلما زاد تمسكا بالطقوس والتقاليد ، وكلما عاد المواطنة ، كلما تمسك بعيش الرعية ، وزاد التصاقه بالسلطان ، وبعده عن دعاة التغيير .. ان خروج الرعايا وهي جائعة تحتفل بفوز المنتخب المغربي ، لهو اكبر مشهد جسد هذه الحقيقة ، التي هي تقليدانية المجتمع التقليدي ، وغربة دعاة تغيير المجتمع العصي عن أي تغيير .. فهل رفض الشعوب للتغيير سببه العقلية ، التاريخ ، الالتصاق بالماضوية التي تجسد المجتمعات البطريركية والرعوية .. وهنا ألا تعتبر المجتمعات الاوربية في جزء من أصولها التي تحن اليها وتلتصق بها ، هو تجسيد للرعوية وللبطريركية الاوربية كما يعكسها سكان قصر الشرق في اسبانية ، و تعكسها البنية البوليسية الطاغية في الدول الاوربية .. فعوض شعار البوليس في خدمة المواطن ، تصبح الحقيقة انّ المواطن في خدمة البوليس .. لن يتغير أي شيء ، ولن يكون هناك تغيير أي شيء ، لان العِلة في الرعايا في الدولة السلطانية ، وفي الشعوب الاوربية التي ترفض التغيير .
#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)
Oujjani_Said#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل الدولة السلطانية المخزنية العلوية البوليسية قابلة للإصلاح
...
-
مستقبل العلاقات المغربية الاسبانية
-
البوليس السياسي
-
( الجريمة ) السياسية
-
أنا جمهوري . أنا ملكي – أنا ملكي . أنا جمهوري
-
معارضة ومعارضة
-
أول معارضة ظهرت كانت اسلامية قبل ظهور ماركس ، ولينين ، وماو
...
-
ثمانية عشرة سنة مرت على تسميم ياسر عرفات
-
14 نونبر 1975 -- 14 نونبر 2022 .. ذكرى إتفاقية مدريد المشؤوم
...
-
الصراع ( السني ) ( الشيعي ) على نظام الخلافة الاسلامية .
-
الثقافة قضية والقضية هي التغيير
-
النظام السياسي المغربي نظام سلطاني مخزني وبوليسي بامتياز
-
عودة اليمين الى الحكم في الولايات المتحدة الامريكية ، وفي اس
...
-
إدارة الفايسبوك
-
إعلان طنجة لطرد الجمهورية الصحراوية من الاتحاد الافريقي . رق
...
-
دور ووضع الجيش من دور ووضع الشعب .
-
نحو بديل سياسي إسلامي لتسيير الشأن العام – دولة الشورى . الش
...
-
المؤتمر السادس عشر لجبهة البوليساريو . 13 و 14 و 15 و 16 ينا
...
-
تحليل قرار مجلس الأمن رقم 2654 الصادر يوم الخميس 2022/10/27
...
-
خبر . المغرب يتجهز لاستقبال لقاء مغربي ، اسرائيلي ، امريكي ،
...
المزيد.....
-
ارتطمت ثم انفجرت.. لحظة اصطدام طائرة روسية بدون طيار بمبنى س
...
-
الجيش الإسرائيلي ينشر لقطات لقصفه أهدافا إيرانية
-
مصدر في قوات الأمن الإيرانية: إسرائيل سترى قريبا ورقة طهران
...
-
ترامب: -على الجميع إخلاء طهران-
-
ما الذي يجعل منشأة فوردو النووية في إيران عصية على الهجمات ا
...
-
حرب إسرائيل وإيران.. هل أسقطت إيران طائرات -إف 35- إسرائيلية
...
-
هل تشي تغريدات ترامب وتصريحاته بهجوم أمريكي وشيك على إيران؟
...
-
شركة -رافائيل- الإسرائيلية تهدد برفع دعوى ضد فرنسا بعد إغلاق
...
-
قمعٌ وضربٌ واعتقالاتٌ وترحيل: الأمن المصري يحتجز نشطاء في -ا
...
-
تقرير: مستوى مقلق جديد للحوادث المعادية للمسلمين في ألمانيا
...
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|