أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - مرايا الغياب/ أمينة3















المزيد.....

مرايا الغياب/ أمينة3


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 7426 - 2022 / 11 / 8 - 14:06
المحور: الادب والفن
    


4

لم يكن موتها هو فاتحة الموت الذي أعايشه في العائلة. قبلها ماتت أختي معزوزة. الطفلة قبل الأخيرة بين أخواتي الست. معزوزة لم تعش سوى عام واحد. لم أعد أذكر منها سوى رقدتها بجسد شاحب وعينين شاخصتين نحو سقف الغرفة، يزداد البياض فيهما، فأخاف من هذا المشهد. أبتعد. يزداد خوفي حينما أرى الرهبة تسربل أمي وجدتي وهما تبخران الطفلة لعلهما تنقذانها. لم يفكر أحد في الذهاب بها إلى طبيب. الطبيب في المدينة، والوصول إلى المدينة ليس سهلاً. البلاد تعيش وضعاً مضطرباً، والقلاقل تنتشر في كل مكان. البلاد على وشك أن تضيع، وأهلها على وشك أن يصبحوا مشردين. ونحن نعيش في بيت استأجرناه في القسم الشرقي من القرية، بعد أن هجرنا بيتنا القريب من خطر الهجمات الصهيونية التي اضطرتنا واحدة منها إلى مغادرة البيت.
ماتت معزوزة بعد يومين من المرض. قالت أمي إنها ماتت بسبب الحسد. حسدتها إحدى نساء الجيران، حينما جاءت إلينا ورأت البنت وأبدت إعجابها بها. أمي ما زالت مصرة حتى اليوم على أن لبعض النساء ولبعض الرجال، عيوناً حاسدة لا يمكن اتقاء شرها. حملها أبي، وركب حماره الأبيض واتجه بها إلى مقبرة القرية. ذهبت معه جدتي. ركضتُ خلفهما وذهبت إلى المقبرة لأشاهد جسد أختي الصغيرة وهو يختفي تحت التراب.
ماتت جدتي مريم بعد معزوزة بسنوات قليلة. مرضت ولم يأخذها أحد إلى طبيب. شهدتُ لحظاتها الأخيرة وهي على فراش الموت، شعرت بالأسى وأنا أرى الجدة التي لطالما احتضنتني وعطفت علي، تذوي أمام عيني. رأيت أمي تنقط الماء في فمها وتبكي إلى جوارها. بدا المشهد مؤلماً، وتمنيت لو أنني لم أجئ مع أمي إلى بيت جدتي. أمي حاولت منعي من ذلك، عاندتها، مشيت خلفها حتى وصلت إلى هنا. عاشت جدتي حياة شقية بعد أن لفظها جدي، أو ربما هي التي ابتعدت عنه بعد أن ظلمها كثيراً.
لي مع هذه الجدة ذكريات. كنت قريباً منها في سنوات الطفولة. اعتادت القدوم لزيارتنا بين الحين والآخر. تقيم معنا بعض الوقت ثم تغادرنا إلى مكان إقامتها في حي الصلعة، وهو أحد أحياء قريتنا التي تتناثر بيوتها على رؤوس الجبال وبين الوديان. كنت أنام بجوارها. تروي لي حكايات. تضحك بين حين وآخر بصوت يختزن ألماً وحزناً. لم تكن ضحكتها من النوع الذي ينم عن راحة بال. إنها ضحكة متقطعة لا تلبث أن تذوب. كانت تتبادل معي بعض أسرار العائلة، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بحمل أمي. تتوقع أن ثمة بنتاً أخرى في بطنها. صدقت توقعات جدتي غير مرة، وبدا هذا الأمر محيراً لي آنذاك.
كانت تنطوي على خجل شديد، تبكي لأقل هفوة تُرتكب بحقها. وهي مسالمة. ولم يكن يزعجني سوى شخيرها حينما تتركني يقظاً ثم يأخذها النوم مني. أتقلب في الفراش إلى جوارها وقتاً ثم أنام.
على العكس منها، جدتي لأبي التي لم تربطني بها إلا صلة واهية. ماتت العام 1958 موتاً مفاجئاً. كانت تجلس مع النسوة في ساحة البيت. دخلت غرفتها التي تتقاسمها مع جدي، ولم تكن مريضة. جلست في فراشها وماتت. كانت نحيلة هادئة الطباع. وأنا لا أحمل منها سوى القليل من الذكريات. أذكر ضحكتها الرقيقة وتمنياتها لي بالسلامة، كلما قدمت لها أو لجدي خدمة صغيرة. كانت هي الأخرى امرأة مسالمة.
جدي لأبي مات بعد مرض استمر ثلاثة أيام. لم أحضر جنازته. كنت في دمشق، أقدم امتحانات السنة الجامعية الأولى. كان حاد الطباع في أول حياته، وانتهى شخصاً معتكفاً في غرفته مترفعاً عن متاع الدنيا. قيل الكثير عن قسوته على زوجتيه، وعن ظلمه لأخويه ولبعض أبناء العشيرة. ربما وقعت مبالغات حول ذلك، وربما كان بعض ما قيل صحيحاً. مات قبل أمينة بخمس سنوات.
وحينما ماتت أمينة حفرنا لها قبراً قريباً من قبره. أخي الأصغر ابن السنوات الأربع، يجلس إلى جواري تحت البناء الحجري للقبر. والأقارب يهيلون التراب على جثمان أختي. أسأله: هل تعرف من هي التي ماتت؟ يقول: إنها أمينة! وهو لا يعرف الحزن في عمره ذاك.

5

لو أنها تركت جدتيّ تموتان. لو أنها تركت جدي يموت. لو أنها لم تذهب إلى الموت بعد جدي في مثل هذا التوقيت. لو أنها لم تظفر بقبر مجاور لقبر جدي. لو أنها بقيت معنا لترى الكثير، ولتشقى، وتسعد، ولتفرح وتحزن، ولتختبر المزيد من تفاصيل الحياة. لو!

6

لم أزرها سوى مرة واحدة أثناء إقامتها في الزرقاء. لو أنني ذهبت إليها مرة أخرى، وسألتها انطباعها عن المدينة التي عاشت في أحد أحيائها ذي البيوت المتلاصقة. لم أذهب، فهل كنت مشغولاً إلى هذا الحد؟ أم أنني كنت أؤجل الأمر إلى أن تحل عطلة المدارس الصيفية، فأتخفف من دوامي في المدرسة ومن ثم أذهب إلى بيتها لأقيم عندها بضعة أيام؟ لم أذهب، ربما لهذا السبب أو لغيره.
حياتها في المدينة ظلت سراً مكتوماً بالنسبة لي. والزرقاء من وجهة نظرها ظلت ملكاً لها وحدها. والزرقاء لم تكن من وجهة نظري مدينة مثل باقي المدن. إنها تجمّع بدو ٍكرماء قادمين من البادية، وفلاحين قادمين من الحقول، مستعدين لاستقبال الضيوف في كل الأوقات. ولا أذكر أنني رأيت فيها فندقاً واحداً. فلماذا الفنادق والناس يأتون إلى أقاربهم للنوم في بيوتهم؟ وإن لم يكن لهم أقارب في المدينة، فإن بوسعهم البحث عن معارف لهم، فإن لم يكن لديهم معارف في المدينة، فإنهم لن يعدموا من يقبل استضافتهم في بيته من باب الكرم وإيواء الضيوف.
جئت أول مرة إلى الزرقاء العام 1960. لم يكن لي أقارب في المدينة ولم تكن أي من أخواتي فيها. ولم أكن تعرفت إلى زوجتي وأهلها في بلدة صويلح. جئت إلى عمان من أجل السفر إلى دمشق للتسجيل في جامعتها. نمت ليلة في بيت أشخاص لهم صلة قرابة مع أمي (كانت في عمان فنادق عديدة، إلا أن التقليد القروي دفعني إلى تجنب النوم في الفندق، ربما من باب تقليل النفقات، وربما انصياعاً لطغيان هذا التقليد الذي لا يعني الحرج من النوم في بيوت الأقارب والمعارف والأصدقاء)، وفي الليلة التالية ذهبت أنا واثنان آخران من أبناء القرية التي عملت فيها مدرساً في ريف رام الله، إلى مدينة الزرقاء للمبيت في بيت شيخ من عائلة معروفة في القرية، وهو يمتهن الطب الشعبي ويعتاش مما تدفعه له نسوة يأتين إلى بيته، لغرض التداوي للحبل أو للحصول على أحجبة ضد الحسد أو لجلب الحظ وتليين قلوب الأزواج. وكنت على علاقة طيبة مع أبناء عائلته. رحب بنا، وقدم لنا طعام العشاء. نمنا في بيته معززين مكرمين، وفي الصباح تناولنا طعام الفطور، وغادرناه شاكرين له فضله وكرمه، وهو يستعد ليوم جديد يستقبل فيه مريضاته ومرضاه.
كانت أمينة آنذاك في الخامسة عشرة من عمرها، ولن تذهب إلى الزرقاء إلا بعد خمس سنوات.
يتبع...



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرايا الغياب/ أمينة2
- مرايا الغياب1
- ظل آخر للمدينة61
- ظل آخر للمدينة60
- ظل آخر للمدينة59
- ظل آخر للمدينة58
- ظل آخر للمدينة57
- ظل آخر للمدينة56
- ظل آخر للمدينة55
- ظل آخر للمدينة54
- ظل آخر للمدينة53
- ظل آخر للمدينة52
- ظل آخر للمدينة 51
- ظل آخر للمدينة50
- ظل آخر للمدينة49
- ظل آخر للمدينة48
- ظل آخر للمدينة 47
- ظل آخر للمدينة46
- ظل آخر للمدينة45
- ظل آخر للمدينة44


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - مرايا الغياب/ أمينة3