أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - ظل آخر للمدينة 47














المزيد.....

ظل آخر للمدينة 47


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 7224 - 2022 / 4 / 20 - 19:50
المحور: الادب والفن
    


عند اقتراب الفجر، جاء ضابط المخابرات الذي اعتقلني، وقد أرهقني الوقوف طوال ساعات في مواجهة السور. طلب مني أن أتبعه، كان طويلاً نحيفاً وعلى وجهه براءة لا تؤهله لمثل هذه المهنة اللئيمة، خصوصاً حينما لاحظت أنه يراقبني بحذر، ونحن نسير جنباً إلى جنب نحو سجن المسكوبية القريب. لم أكن متيقناً من حقيقة مشاعره تجاهي، هل كان يراقبني بطرف عينه خوفاً من أن أهرب؟ فيتحمل المسؤولية عن ذلك، أم إن نحافتي المفرطة التي كانت تفوق نحافته حدّة، كانت تشعره بالإشفاق علي مما سأكابده لاحقاً في السجن على أيدي السجانين والمحققين؟ أو لعله لم يكن مقتنعاً بأن شخصاً في مثل نحافتي، يمكن أن يكون خطراً على أمن إسرائيل، إلى الحد الذي يضطره إلى الابتعاد عن زوجته وأطفاله والانشغال بأمر اعتقالي كل هذا الوقت، لا أدري بالضبط. لكنني مضيت إلى جانبه، لا أسمع سوى طرقات أحذيتنا على إسفلت الشارع الصاعد من مكاتب التحقيق إلى الساحة الخارجية لسجن المسكوبية، الذي يقع على تخوم القدس الشرقية. كنت أسير في ذلك الفجر الصيفي الهادئ، وحيداً إلى جانب ذلك الضابط الإسرائيلي الذي يأخذني إلى السجن.
والقدس تنام الآن في سكون الفجر، وستصحو بعد قليل من نومها، فتعرف أنني لم أعد قادراً على التجوال في شوارعها وأزقتها، فتضيف إلى أحزانها المتراكمة حزناً جديداً. أسير صامتاً، متهيباً مما تبيته لي الأيام القادمة، ويسير الضابط صامتاً. نقترب من ساحة المسكوبية، التي لم تكن سجناً في الأصل، بل: "مؤسسة معدة لاستقبال الزوار الروس في الأعياد والمواسم، يديرها رهبان وراهبات من الروس أنفسهم، يحيط ببنائها الفخم وكنيستها الكبرى حدائق وكروم زيتون على التلال والأودية، يتألف من مجموع ذلك مناظر رائعة يرى منها جبل الطور والأبنية التاريخية البارزة بقببها ومآذنها وقواعد أجراسها، مما يضمن لكل زائر راحته وانشراحه مهما كان مثقلاً بالأتعاب فكراً وجسماً" وذلك كما يصفها مصطفى مراد الدباغ في كتابه "بلادنا فلسطين". الآن لا وجود لحدائق حول المكان. ولم أر سوى بناية قديمة متجهمة، تعلو السور المحيط بها شبكة من الأسلاك الشائكة.
انفتح الباب، فألفيتني بين حشد من رجال الشرطة. جردوني من بطاقة هويتي، ومن نقودي التي كانت في جيبي، ومن ساعة يدي، ورباط حذائي، وحزامي، ثم اقتادوني عبر ممر طويل إلى حيث توجد زنزانة انفرادية، مضاءة ليل نهار، "مما يضمن لكل زائر راحته وانشراحه"، فلم أذق فيها طعم النوم ليلتين متواصلتين، بسبب قوة الضوء المنبعث من سقفها، وبسبب القلق الذي يتنامى في القلب كلما طال الانتظار.

***
حينما تعرفت عليها، في ذلك المكتب قرب شارع يافا، حدثتها عما كابدته في السجن.
لم أكن من الراغبين في اصطناع البطولات. كنت واضحاً منذ اللحظة الأولى. قلت إن ما كابدته لا يساوي عشر معشار ما كابده غيري من المعتقلين، خصوصاً أولئك الذين كانت توجه لهم تهم المشاركة في العمل المسلح ضد الاحتلال. وضعت في زنزانة لا يزيد طولها عن 90 سنتيمتراً، ولا يزيد عرضها عن 80 سنتيمتراً، في سجن صرفند العسكري. لم يكن ما واجهته أثناء ذلك على أيدي المحققين شيئاً يذكر، إذا ما قيس بما واجهه ذلك المعتقل الذي لم أعرف عنه شيئاً، سوى صراخه الرهيب الذي كان يطلقه دون توقيت معلوم. يأتي المحققون إليه في أية ساعة يشاؤون، يبدأون حفلتهم المفزعة معه، فيبدأ صراخه الذي يثير الرعب في النفوس.
رويت لتميمة كل شيء. كانت تحب أن تسمي نفسها "تمام" لكي يكون اسمها مألوفاً لدي. تميمة تتألم لما ألمّ بي من أذى، أخبرها بأن أجمل أوقاتي في سجن صرفند العسكري كانت تبدأ من بعد ظهر الجمعة إلى مساء السبت، حيث يعود المحققون إلى بيوتهم، لقضاء عطلة السبت بين زوجاتهم وأطفالهم، فلا أستدعى للتحقيق، أشعر بمتعة متحررة من القلق، أنهمك، أنا وجاري في الزنزانة المجاورة في الغناء، ونظل كذلك حتى يدركنا النعاس. أنام وأنا أطوي ساقي وجذعي على أرضية الزنزانة الضيقة الخالية من أي فراش، ولا أصحو إلا على صوت العسكري الذي يمد يده في الصباح من تحت باب الزنزانة، ليقدم لي طعام الفطور، المكون من الخبز، وعدة حبات من الزيتون، مع قطعة من الجبن. ولا تلبث تميمة أن تشعر بالخجل مما يجري داخل السجون الإسرائيلية من عسف وتعذيب. كانت لها أفكار أخرى وقناعات دفعتها إلى الهجرة خارج البلاد في سنوات لاحقة.
تعرفت إليها في مكتب المحامية الإسرائيلية فيليتسيا لانغر، الذي يقع قريباً من أول شارع يافا. كانت تتعاطف مع قضيتي، وتعلن رفضها للاحتلال، لذلك وجدتها تروقني وهي تعمل في المكتب بوحي من قناعاتها السياسية (كانت هي وزوجها عضوين في حركة يسارية اسمها "مأفاك"- صراع). كانت في السادسة والعشرين أو السابعة والعشرين من عمرها، شقراء، لها شعر ناعم ينسدل على كتفيها، طويلة القد في اعتدال، نحيفة في غير إفراط، ترتدي بنطالاً تحرص أثناء العمل على ثنيه ورفعه عن ساقيها إلى حدود ركبتيها، وتجعل فوقه قميصاً تنفك أزراره دون قصد عن محيط بطنها، فتبدو في بساطتها تلك شديدة الفتنة.
دعوتها ذات مساء إلى جلسة في أحد مطاعم القدس، للتحرر من ضغط العمل اليومي، فاقترحت عليّ استشارة زوجها في الأمر، فاتجهنا معاً إلى بيتها الذي لا يبعد كثيراً عن مكتب فيليتسيا لانجر، وهناك وجدناه يأخذ قسطاً من الراحة، ثم خرجنا معاً في سيارته إلى مطعم في القدس الغربية، وأمضينا أمسية طيبة، عرجنا في جزء منها على السياسة، وكنا اتفقنا على بعض القضايا السياسية، ولم نتفق على بعضها الآخر، وافترقنا، على أمل أن نلتقي من جديد (حينما عدت إلى الوطن علمت أنهما انفصلا أحدهما عن الآخر لأسباب لا أعرفها).
يتبع..



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظل آخر للمدينة46
- ظل آخر للمدينة45
- ظل آخر للمدينة44
- ظل آخر للمدينة43
- ظل آخر للمدينة42
- ظل آخر للمدينة41
- ظل آخر للمدينة40
- ظل آخر للمدينة39
- ظل آخر للمدينة38
- ظل آخر للمدينة37
- ظل آخر للمدينة36
- ظل آخر للمدينة35
- ظل آخر للمدينة 34
- ظل آخر للمدينة33
- ظل آخر للمدينة32
- ظل آخر للمدينة31
- ظل آخر للمدينة30
- ظل آخر للمدينة29
- ظل آخر للمدينة28
- ظل آخر للمدينة27


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - ظل آخر للمدينة 47