أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - ظل آخر للمدينة31















المزيد.....

ظل آخر للمدينة31


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 6847 - 2021 / 3 / 21 - 12:55
المحور: الادب والفن
    


داوم جدي لأبي على الذهاب إلى المسجد الأقصى لأداء الصلاة. لم يعد يعنيه من أمر الدنيا شيء. قرر الذهاب إلى مكة لأداء فريضة الحج مرة أخرى. كانت العائلة تعيش أياماً عادية باهتة، وكانت أيامي كذلك إلى حد ما.
ذهب جدي مع عدد من الرجال في شاحنة صغيرة، لم يحمهم "الشادر" المنصوب فوق صندوقها الخلفي من رمل الصحراء. غاب جدي بضعة أسابيع وعاد بعد أداء فريضة الحج معفراً بالرمل، فحمدنا الله على سلامته، ثم إنه سلم أمر معيشته لعمي الكبير، وأصبح ينتظر وجبات طعامه التي تقدمها له زوجة عمي، ولم يكن يشكو من شيء، وأعطى ما تبقى له من متاع الدنيا لعمي لقاء خدمته وإطعامه، وكان آخر شيء لديه سيف معلق على الحائط، انتزعه من موضعه وأعطاه لعمي الذي علقه في مضافته.
انتقلت مضافة العائلة من بيت جدي إلى بيت عمي الكبير. قام جدي بآخر مأثرة دنيوية له، وهي تحريضه العم عايد على الزواج من جديد لعله يرزق بولد يرثه من بعده (عايد هو ابن عم لجدي، تزوج جدي أمه التي هي جدتي حلوة بعد وفاة عمه. كان التقليد السائد أن المرأة التي يموت زوجها، يتزوجها أخوه أو أحد أفراد العائلة، وذلك لحمايتها وحماية أطفالها من تقلبات الزمان. وثمة سبب آخر لذلك رواه لي أبي، قال: كانت النساء أقل عدداً من الرجال آنذاك، فما إن تترمل امرأة حتى يأتيها الخطاب). تزوج هذا العم من نساء عديدات، وكان كلما رزق بولد مات (من بين النساء اللواتي تزوجهن، فتاة من إحدى عشائر العبيدية، المجاورة لعشائر عرب السواحرة، ولم تكن من عادة العريس آنذاك أن يعرف عروسه إلا ليلة الزفاف، خطبها عمي دون أن يراها، ثم تزوجها، وفي ليلة الزفاف اكتشف أنها تعاني من خلل عقلي. هربت في تلك الليلة نفسها عائدة إلى بيت أهلها، فانتهى زواجه منها قبل أن يبدأ. وتزوج امرأة سوداء البشرة، ولم يلبث أن طلقها بعد أشهر من زواجه منها لسبب ما)، فاستمع إلى تحريض جدي، وقبل نصيحته، فتزوج امرأة من بنات عشيرتنا تصغره في العمر بعدد غير قليل من السنوات، فأنجبت له وهو في الثمانين من عمره ولداً وبنتين.
ولم يعد العم عايد قادراً على الذهاب كل يوم إلى متجره في البلدة القديمة، بسبب التقدم في السن، فآثر أن يبيعه لأحد التجار، وعاد إلى القرية، وشيّد على أرض تخصه في قمة الجبل غرفة من الإسمنت، جعلها حانوتاً يبيع فيه لأهل القرية بعض احتياجاتهم من القمح والطحين والأرز والعدس والسكر والشاي، وبعض السلع الصغيرة مما يثير اهتمام الأطفال. ولم يعد يذهب إلى القدس إلا لأداء صلاة الجمعة، فظل مداوماً على هذه الحال حتى مات وله من العمر مائة وعشر سنوات، وذلك في السنة الثانية للانتفاضة (العام 1988)، ولم أسمع بوفاته إلا بعد أسابيع، حينما كنت منفياً في مدينة براغ، فكتبت قصة قصيرة عنه، ظهرت فيما بعد في مجموعتي القصصية "صمت النوافذ".
كان العم عايد مسالماً لا يؤذي أحداً، وفي سنوات الثورة التي سبقت النكبة، كانت له مشاركة محدودة في العمل الوطني، لا تتعدى قطع الطرق التي تسير فوقها دوريات الجيش البريطاني، وإطلاق جملته التي لطالما تكررت على لسانه في مضافة جدي: سوف تنتهي هذه الثورة قبل أن أتمكن من قتل واحد من جنود الأعداء.
كان يحب الأطفال، يقبلنا على أنوفنا، ويخاطب الواحد منا منادياً عليه في مزاح: تعال يا كلب يا إبن الكلب، وكان حينما يغضب من نسائه يمعن في شتمهن، وفي إطلاق الألقاب الساخرة عليهن، ثم لا يلبث غضبه أن يتلاشى. غير أن الألقاب لا تتلاشى وتظل لاصقة بنسائه، تلاحقهن في مجالس النميمة التي تعقدها نساء العائلة لدفع السأم عن النفوس.
ولطالما جلست في حانوت العم عايد منتظراً اللحظة المناسبة للتوجه نحو بوابة كلية شميدت. تخرج لوسي من بوابة الكلية وسط حشد من البنات، أرقبها وأنا واقف على الرصيف المقابل. ينقسم حشد البنات إلى عدة تجمعات وفرق، تتفرق في كل اتجاه. تتقدم لوسي ورفيقاتها نحو ساحة التاكسيات بالقرب من باب العامود، ثم يهبطن بضع درجات، يجتزن البوابة الكبيرة، نتعقبهن أنا ونفر من الأصحاب، نحاذيهن حيناً، ونتقدم عليهن بعض الأحيان، يصل موكبهن سوق باب خان الزيت، نقترب منهن كثيراً، متذرعين بالزحمة التي تشهدها السوق، فيحاولن التفلت من ملامساتنا الحذرة، دون أن يعرننا أي انتباه، لكن ضحكهن وحركاتهن الرشيقة لا تلبث أن تثير فينا بهجة مكتومة، فلا نتباعد عنهن، إلا عند أول طريق الخانقاه الصلاحية الذاهبة نحو حارة النصارى.
هناك تخف حركة الخلق، ويبدأ تجمع البنات في التناقص، حيث تغيب بنت في هذا الزقاق، وتغيب أخرى في زقاق آخر متجهة نحو بيتها، وتبقى لوسي وعدد قليل من البنات اللواتي يقطعن سوق حارة النصارى، يصعدن بضع درجات في الجهة المقابلة لنهاية السوق عند تقاطعه مع سوق البازار، نحو حي الأرمن، ثم يتفرقن هناك في اتجاه بيوتهن. أصعد الدرجات، وأسير بضع خطوات في طريق مار مرقص الضيق الخالي من الخلق، ثم أعود، وكلي لهفة وشوق من أجل أن تنتبه لوسي إلي، لعلها تبادلني النظرات، أو تشعر تجاهي بمثل العواطف التي أكنها لها في قلبي، فلا ألحظ أي تبدل في مسلكها، تظل محايدة رغم العدد غير القليل من المرات التي تابعتها فيها من باب المدرسة حتى تخوم بيتها. أنقطع عنها وأنا مغلوب على أمري، قانع بالهزيمة التي فرضت علي فرضاً. كان ذلك وأنا تلميذ مراهق في الصفوف الإعدادية، ولم أكن لأنتبه إلى ملاحقة الفتيات لولا أن قريبي الذي كان يدرس معي في المدرسة الرشيدية، ويتقدم علي بصفين دراسيين، لفت انتباهي إلى ذلك وهو يلاحق فتاة من كلية شميدت أيضاً، ولم ينجح باستمالتها نحوه، كحالي تماماً مع فتاتي. ويبدو أنه رغب في التعويض عن ذلك بسرد وقائع بعض المغامرات العاطفية مع فتيات أخريات قام بها هو وزملاء له أكبر مني سناً، وقعت أثناء بعض احتفالات جرت في المدينة، ولا أدري حتى هذه اللحظة مدى الصدق في تحقق مثل هذه المغامرات!
ولم أعد أرى لوسي في السنوات اللاحقة، إذ يبدو أنها أكملت دراستها وغادرت إلى مكان ما. وأما أنا فقد انشغلت بقصة حب لم تكن صاخبة حينما كنت في السنة الدراسية الأخيرة في المدرسة. بادرت إليها فتاة من قريتي، كنت أراها وأنا في العاشرة أو الحادية عشرة من العمر. كنا نتجمع في منبسط من الأرض، أولاداً وبنات، وكنا نعابثها بكلام فاضح في بعض الأحيان، فتنهال علينا بالسباب وبالشتائم، وببعض حجارة في ذروة الانفعال، ثم تأخذ فريق البنات بعيداً منا. وقد تكرر هذا المشهد مرات ومرات، وأعقبته بعض لقاءات في ليالي الأعراس أخذت شكل ملاحقات بريئة كانت لا تنفر منها وإن ظلت مجفلة على نحو ما، وكنت أجد فيها متعة غامضة من نوع ما، ولم ألبث أن انقطعت عنها ثم نسيتها ويبدو أنها نسيتني هي الأخرى، وكان ذلك مجرد محاولات رومانسية أولى للاقتراب من عالم البنات، وقد كانت محاولات عذبة لما فيها من براءة وسذاجة وخجل.
وذات يوم، وأنا أحمل كتابي المدرسي، وبينما كنت منهمكاً في القراءة، مرت تلك البنت في الطريق المحاذية للمكان الذي كنت أجلس فيه على صخرة اتخذتها مجلساً لي للقراءة وللتأمل بكل ما يحيط بي من حقول وبساتين وبيوت وبشر وأشياء. مرت وقالت لي: مرحباً. قلت لها: مرحباً. ثم تبادلنا بضع كلمات أخرى. كانت قد أصبحت فتاة ممشوقة القوام ولها نهدان بارزان في صدرها. ولم تسعني الدنيا آنذاك لشدة ما شعرت به من فرح وانفعال.
أحببتها وأحبتني، وكان لديها طموح في أن أتزوجها. وكنت في بعض اللحظات أهم باتخاذ قرار بالزواج منها، ثم أفكر في مصر التي لطالما تمنيت الوصول إليها للدراسة وللتعرف عن قرب على نجمات السينما ونجومها فيها، فأشعر بالتردد. ولم ألتق فتاتي إلا مرات قليلة وعلى نحو خاطف، بالنظر إلى البيئة المحافظة التي نشأنا، هي وأنا، فيها، وبالنظر إلى الخوف من عيون الفضوليين وكذلك الخجل الذي كان يعمر قلبي وقلبها. وحينما لاحظ أبي أنني متعلق بتلك الفتاة، أخذت مراقبته لي تزداد، وأخذ يوجه لي النصائح بضرورة الكف عن الانتباه إليها، لأنني ما زلت على مقاعد الدراسة، ولأن الوقت ما زال مبكراً بالنسبة لي للتفكير بأمر الزواج. تركت نصائح أبي أثرها في نفسي، وراحت علاقة الحب الرومانسي البريئة التي عشتها بضعة أشهر تذوي، مخلفة في النفس مجرد ذكرى دافئة، كان يؤججها توقي إلى سماع أغاني الحب التي برع فيها فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ.
ولم يغادرني كذلك، توقي إلى متابعة الأغاني الجديدة ذات المضمون الوطني. حينما أعلنت دولة الوحدة بين مصر وسوريا، ازددت حباً لعبد الناصر، وأصبحت بعض الأغاني التي تبثها إذاعات الجمهورية العربية المتحدة قريبة إلى قلبي وقلوب أبناء جيلي أجمعين. كنا نستمع بحبور إلى أغنية "م الموسكي لسوق الحميديه.. أنا عارفه السكة لوحديه"، وأغنية "يا جمال يا حبيب الملايين.. يا جمال" وغيرها كثير.
يتبع..



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظل آخر للمدينة30
- ظل آخر للمدينة29
- ظل آخر للمدينة28
- ظل آخر للمدينة27
- ظل آخر للمدينة26
- ظل آخر للمدينة25
- ظل آخر للمدينة24
- عن المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة
- عن القدس في كتاب نسب أديب حسين
- ظل آخر للمدينة23
- ظل آخر للمدينة22
- ظل آخر للمدينة21
- ظل آخر للمدينة20
- ظل آخر للمدينة19
- ظل آخر للمدينة18
- ظل آخر للمدينة17
- ظل آخر للمدينة16
- ظل آخر للمدينة 15
- ظل آخر للمدينة14
- د. حنا ميخائيل.. مثقف ثوري لا يمكن نسيانه


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - ظل آخر للمدينة31