أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - ظل آخر للمدينة58















المزيد.....

ظل آخر للمدينة58


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 7403 - 2022 / 10 / 16 - 14:33
المحور: الادب والفن
    


كان غياباً طويلاً، وكان علي أن أعيش المنفى بكل تفاصيله المؤلمة والسارة.
كنت مضطراً في كل مدينة أرحل إليها أن أبدأ في تأسيس الشروط اللازمة لحياة قابلة للعيش. أبحث عن بيت للإيجار، وعن مدارس للأطفال، وعن عمل يؤمّن للأسرة القوت والكساء وبقية مستلزمات الحياة، أبحث عن جيران طيبين، وعن أصدقاء جدد، وأبدأ في اقتناء كتب جديدة، لا ألبث أن أتركها ورائي حينما أكون مضطراً إلى الرحيل، فأغادرها، وأنا غير قادر إلا على اصطحاب القليل منها، فيترسب جراء ذلك في قلبي ألم مقيم، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فثمة في البيت أشياء كثيرة، تراكمت مع مرور الزمن: أصص الورد، نباتات الزينة، المقتنيات التي اشتريتها من بعض مدن هذا العالم الفسيح، أو من الأسواق الحرة في المطارات، أو قدمت لي هدايا من هيئات ومؤسسات أثناء اشتراكي في ندوات ومؤتمرات، فأين أذهب بكل هذه الأشياء الحميمة التي يراكمها الزمن في البيت، البيت المتحرك على الدوام، لأنه قائم في المنفى، هش، غير مستقر على حال.
حينما غادرت بيروت بعد ثمانية أشهر من الإقامة القلقة، وسط القذائف ولعلعة الرصاص، لم أصطحب معي سوى حقيبة واحدة استطعت حملها، فأودعتها ملابسي، ومسودات قصصي بعد أن عدت إلى الكتابة بهمة لم أتوقعها من قبل، وبعض كتب عزيزة علي، وكان لا بد لي من أن أبدأ حياتي من جديد في عمان.
أمضيت في عمان أحد عشر عاماً، انخرطت خلالها في كتابة القصة القصيرة، وفي كتابة الدراما التلفزيونية، وفي العمل في سلك التدريس، علاوة على العمل الإضافي في الصحافة. وكنت إلى جانب ذلك من نشطاء الحزب، ومن ثم عضواً في لجنته المركزية.
لم تكن عمان بعيدة عن القدس. كنت ألتقي بعض أصدقائي الذين تركتهم هناك حينما يأتون إلى عمان في زيارة أو عمل، فنجلس في بيتي، أو في مطعم أو مقهى، نستذكر أيامنا المشتركة في القدس، فأتذكر الوطن ما له وما عليه.
غادرت عمان ذات صباح لحضور المؤتمر التوحيدي للكتاب والصحافيين الفلسطينيين الذي انعقد في الجزائر العام 1987 (تلك هي زيارتي الأولى للجزائر. كان يتعين علينا نحن الكتاب الفلسطينيين والأردنيين الذين سافرنا معاً لحضور المؤتمر، أن نهبط في مطار روما، وأن ننام ليلة واحدة في روما. تجولنا في المدينة الصاخبة ليلاً. تعشينا في أحد مطاعمها. وفي الصباح تمشينا في شوارعها، ثم مضينا إلى المطار. ابتهجت وأنا أدخل الجزائر. كان تاريخ من النضال والتضحيات يتراءى لي، وكانت بعض شخصيات رواية "نجمة" لكاتب ياسين وبعض وقائع كتاب "العسف/ معذبو الحراش لبشير حاج علي، تطفو على سطح ذاكرتي بين الحين والآخر). لم أكن قادراً على مغادرة البلاد إلا بعد الحصول على إذن بالسفر من المخابرات الأردنية. ذهبت إلى مبنى المخابرات ذي اللون الأزرق الواقع على الحد الفاصل بين حي العبدلي وحي الشميساني في عمان. بعد انتظار لم يدم كثيراً، قابلت الضابط المسؤول، وحصلت منه على إذن بالسفر، ففرحت لذلك.
شاركت في اجتماعات المؤتمر التوحيدي لاتحاد الكتاب، الذي انتخب محمود درويش رئيساً للاتحاد، ومعه أمانة عامة من عشرين عضواً، وكنت واحداً من أعضائها. ثم غادرت الجزائر إلى تشيكوسلوفاكيا للحصول على فترة استراحة ونقاهة قبل العودة إلى عمان. قابلت نعيم الأشهب في براغ، وكانت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أبعدته إلى الخارج بعد ثلاث سنوات من الاعتقال الإداري، العام 1971، ثم أصبح ممثلاً للحزب في مجلة "قضايا السلم والاشتراكية" التي كانت تصدر في براغ، بأربعين لغة بينها اللغة العربية.
جاء سليمان النجاب (غادر بيروت إلى عمان بعد فترة قصيرة من إبعاده، ثم استقر فيها حتى العام 1982، وبعد ذلك ذهب إلى دمشق وأقام فيها، ثم أصبح مسؤولاً عن فروع الحزب في بلدان الشتات)، وجاء مسؤولون حزبيون آخرون من مواقع عديدة، وعقدنا اجتماعاً في براغ (كانت المدينة آنذاك ترتدي حلة بيضاء من الثلج، وكان منظرها يروقني وهي تتكتم على أسرارها الكثيرة) ثم تقرر بعد هذا الاجتماع أن أبقى في براغ (بعد ذلك بفترة وجيزة انتخب سليمان النجاب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً للحزب، في الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، التي انعقدت في الجزائر العام 1987، وأصبح نعيم الأشهب مسؤولاً عن التنظيم الحزبي في الخارج، ولم تعد له علاقة بمجلة قضايا السلم والاشتراكية. غير أننا بقينا معاً في المنفى، وكنا نستذكر في لحظات الهدوء أيامنا في الوطن. يقودنا حديث الذكريات إلى شجون كثيرة. نعيم الأشهب هو ابن الخليل، كان مقيماً في القدس قبل اعتقاله وإبعاده، وهو لم يزل يتحدث اللهجة الخليلية المميزة، ويروي الكثير من الطرائف التي شاعت في السنوات الأخيرة، على سبيل التسلية والتفكّه، لتصف الخليلي بالسذاجة حيناً، أو التهور حيناً آخر، دون أن يكون واقع الحال كذلك بالضرورة، يرويها، ثم يطلق ضحكة مجلجلة).
أقمت في براغ ثلاث سنوات ممثلاً للحزب في مجلة "قضايا السلم والاشتراكية"، وانطلقت منها إلى بلدان وعواصم عديدة لحضور ندوات سياسية ومؤتمرات، وانضمت زوجتي وابنتاي إلي (في البداية، جئت إلى براغ وحدي، وظلت زوجتي وابنتاي في عمان إلى أن انتهت السنة الدراسية، وكنت قلقاً على المستقبل الدراسي للبنتين. وكانت خطتي أن تلتحق بي زوجتي وابنتي الصغرى التي يمكن إلحاقها بمدرسة إعدادية، هي الوحيدة للطلبة العرب في براغ، أما البنت الكبرى، باسمة، فقد اقترحت عليها أن تعود للإقامة عند جديها في القدس، وذلك إلى أن تنهي دراستها الثانوية. باسمة رفضت هذا الاقتراح، كانت راغبة في العيش معنا مهما كانت الظروف، فاقترحت أمها، حسماً للإشكال، أن تبقى هي والبنتان في عمان، على أن يقمن بزيارتي في الصيف، وأنا رفضت هذا الاقتراح، ودخلنا في أزمة عائلية لم يخرجنا منها، سوى تراجع باسمة عن موقفها، وموافقتها على الإقامة عند جديها، وبعد سنتين تلتحق بنا في براغ، وهكذا كان. جاءت إلينا بعد سنتين، والتحقت بالجامعة مع زميلات وزملاء فلسطينيين وعرب لدراسة اللغة التشيكية في السنة الأولى التحضيرية، أما أمينة، فقد التحقت بالمدرسة العربية، وكانت في تلك الأثناء تأتي إلى بيتنا معلمة تشيكية لكي تدرسها اللغة التشيكية. وعلاوة على ذلك، كنت أنا وأمينة في صف واحد بمعهد في مركز المدينة لتعليم اللغة التشيكية. كانت ابنتي أقدر مني على استيعاب هذه اللغة الصعبة، غير أن تحصيلها فيها لم يكن كافياً لتمكينها من استيعاب دروس الفيزياء والكيمياء والجغرافيا والتاريخ، التي يتعين عليها أن تتعلمها في المدرسة التشيكية. لذلك، شعرت بأسى وأنا أراها تتخبط في دروسها دون أمل في النجاح). وكان أبنائي الثلاثة الذين يدرسون في جامعات الاتحاد السوفياتي يأتون لزيارتنا بين الحين والآخر. يجتمع شمل العائلة الصغيرة في المنفى، فنشعر ببعض طمأنينة وسرور.
وكنت بين الحين والآخر أهاتف أبي وأمي اللذين استمرا يواصلان العيش في جبل المكبر بالقدس. كنت أبكي كلما سمعت صوت أمي على الهاتف. كان إحساسي بالغربة وبالوحدة يتفاقم وأنا أسمع كلماتها التي تدعو الله أن يجنبني الأذى والمكروه. وكنت واثقاً من أنها ستجلس وحدها في البيت، تبكي ثم تغني بصوت حزين فيما يشبه المناجاة كي يحفظ الله ابنها الغائب (لم تكن أمي تجيد الغناء مثل بقية نساء العائلة، لكنها كانت بين الحين والآخر تردد بصوت كالنواح بعض المراثي التي تتحدث فيها عن مزايا أختي أمينة التي طواها الموت وهي في عز الشباب). وكنت أراقب من بعيد الانتفاضة التي انفجرت في الأرض المحتلة، وأكتب عنها بعض القصص، وأشارك مع غيري من الرفاق في إطلاق التكهنات حول المستقبل الذي ستقودنا إليه، فأبدو متفائلاً حيناً، متشائماً في بعض الأحيان.
وأتابع في الوقت نفسه ما تشهده براغ ومدن تشيكوسلوفاكية أخرى من تجمعات ذات طابع سلمي، جموع الناس تندفع إلى الشوارع كل يوم تقريباً، والحزب الشيوعي الذي يقبض على زمام الحكم يعجز عن كسب ثقة الناس، بسبب الأخطاء التي اقترفها قادته البيروقراطيون. انهار النظام ببساطة متناهية، وجاء إلى الحكم فاتسلاف هافيل وهو كاتب مسرحي معارض، مرتبط بالغرب الذي لطالما سلط الأضواء عليه وعلى غيره من رموز المعارضة. ونتيجة لذلك، لم تعد ثمة فرصة لاستمرار مجلة "قضايا السلم والاشتراكية"، فتوقفت عن الصدور، وكان لا بد من مغادرة براغ، فغادرتها مع أسرتي عائداً إلى عمان.
رحت أسعى مرة أخرى لتأسيس بيت في عمان. وقد أتعبني الرحيل المتكرر، وصرت أتوق إلى لحظة استقرار فعلية. غير أن حرب الخليج، وما نتج عنها من نتائج مؤلمة، أوقعتني في حالة من القلق، ما ضاعف من معاناتي، الناتجة عن السقوط المدوي للأنظمة "الاشتراكية"، فبقيت أحيا أيامي في عمان، رغم ما أكنه لها من حب، متأرقاً منزعجاً، حتى أخذت تتوارد أخبار عن احتمالات عودة عدد من المبعدين، فاستبد بي الفضول، وظللت أتحرى الأمر، حتى تأكد لي أن اسمي مدرج ضمن قوائم المرشحين للعودة إلى الوطن، فانتابتني فرحة ممزوجة بألم، وتولاني ألم ممزوج بفرح، فها هو ذا الوطن يتداخل مع المنفى على نحو حاد، وها أنذا أتهيأ لإعطاء ما للوطن، للوطن، وما للمنفى، للمنفى.
وظل الأمر كذلك إلى صبيحة ذلك اليوم، الذي اتجهت فيه مع غيري من المبعدين العائدين إلى الجسر، وإلى ما بعد ذلك بأيام وشهور.
يتبع...



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظل آخر للمدينة57
- ظل آخر للمدينة56
- ظل آخر للمدينة55
- ظل آخر للمدينة54
- ظل آخر للمدينة53
- ظل آخر للمدينة52
- ظل آخر للمدينة 51
- ظل آخر للمدينة50
- ظل آخر للمدينة49
- ظل آخر للمدينة48
- ظل آخر للمدينة 47
- ظل آخر للمدينة46
- ظل آخر للمدينة45
- ظل آخر للمدينة44
- ظل آخر للمدينة43
- ظل آخر للمدينة42
- ظل آخر للمدينة41
- ظل آخر للمدينة40
- ظل آخر للمدينة39
- ظل آخر للمدينة38


المزيد.....




- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...
- فيلم -حرب أهلية- يواصل تصدّر شباك التذاكر الأميركي ويحقق 11 ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - ظل آخر للمدينة58