أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات الصبا..محطة لسنوات مريرة .16.















المزيد.....

ذكريات الصبا..محطة لسنوات مريرة .16.


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 7314 - 2022 / 7 / 19 - 22:29
المحور: الادب والفن
    


و استمرّت فترات نهاية ذلك الصيف على تلك الوتيرة و الاوضاع و الى تصاعدها و تبلورها اكثر و خاصة على الصعيد السياسي و تقلباته و انحداراته، الذي كان يؤثّر على كل اوضاع و ظروف الحياة بأصعدتها المتنوعة و علاقاتها في بلادنا، من عموم البلاد الى حياة العاصمة و حواريها و ناسها بفسيفسائهم المتنوع . . حتى صارت الحديث اليومي للناس و مثاراً لأنواع المخاوف . .
و في ظروف عائلتنا المادية الصعبة تلك، انشغل الوالد بتربية الدجاج للحصول على البيض الضروري لحياة العائلة و الأطفال و الذي كانت اسعاره تتصاعد بشكل لامعقول، و انشغل بمتابعة و دراسة انواع الكتب عن تربيتها، ساعده في ذلك اصدقاؤه المقربون الذين جمعتهم نفس الفكرة، من عبد الحكيم نعمان (حكوّمي) اخو د. عبد الصمد و الى الوجه الإجتماعي المعروف المربيّ جاسم الرجب اخو الحاج قاسم الرجب صاحب مكتبة و دار نشر المثنى و الى ابراهيم شيخ رشيد الأعظمي، حين شكّل الجميع ما كان يشبه المجتمع الصغير بلقاءاتهم الإسبوعية التي كانت تتناول الشؤون الإجتماعية و تبادل الخبر في تربية الدواجن . .
اضافة الى مناقشة تطورات الاوضاع السياسية التي كانت تزداد تعقيداً و خطورة، حيث استمر تزايد نفوذ القوى القومية و البعثية و قيامها بكل مايشقّ وحدة الصف الوطني بكل الوسائل، بدل اللجوء الى التفاهم، اضافة لإستخدامها العصابات الإجرامية المأجورة . . و استمرت في ممالئة و محاولات التقرب للزعيم على حساب مواقع الضباط الديمقراطيين و الحمايات و تزايد دورهم في الشرطة خاصة و بقية القوات المسلحة، و كانت تجري بخطط قام بها ضباط كبار و متنفذون مقرّبون من الزعيم، الذي كان قلقاً على زعامته من مخاطر الأحزاب و نفوذها و خاصة من اليسار . .
في وقت شدد فيه الزعيم و حكمه العسكري من ضغوطه على اليسار و من تقريبه الجهات القومية لخلق توازن بين الطرفين كما تصوّر هو، حيث اصدر عدة قوانين جرى فيها تسريح المئات من الضباط الأكفاء من الديمقراطيين بإحالتهم على التقاعد من جهة، و تصعيد الضباط القوميين و البعثيين، سواء بالرتب او بالمواقع الإدارية، حتى جرت خطط لتعيين ضباط قوميين كمساعدين او كوكلاء او نوّاب، للضباط القادة ان كانوا يساريين او من اصدقاء اليسار، و كان ابرزها التي صارت حديث الشارع، تعيين الضابط البعثي المقدم عمّاش وكيلاً لقائد القوة الجوية زعيم الجو الركن جلال الأوقاتي، علماً ان عمّاش كان ضابط مشاة !!
من جهة اخرى بدأت تنتشر اخبار عن ولاءات لعدد من الضباط الكبار ليس للقيادة العسكرية و انما للمرجعية الدينية العليا للسيد محسن الحكيم الذي بدأ ينشط سياسياً ضد اليسار في اول خرق كبير لمسار المرجعية العليا الذي دأبت عليه منذ مئات السنين بعدم تدخلها بالسياسة و عدم الإنحياز لطرف سياسي داخلي ضد طرف آخر حفاظاً على الوحدة الوطنية . .
حيث انتشر خبر تسويف او عدم تنفيذ اوامر الزعيم من قبل العميد حميد الحصونة قائد الفرقة الاولى التي غطّت ساحة عملياتها عموم المنطقة الجنوبية، حيث لم ينفّذ الاوامر بوضع الفرقة في حالة الإستعداد، اثر المفاجأة في خطاب الزعيم الذي اعلن فيه عائدية الكويت للواء البصرة و وضع الفرقة الأولى في حالة الإستعداد، حيث لم ينفّذ الإستعداد تنفيذاً لأمر المرجعية العليا للحكيم في النجف، في وقت طارد و اعتقل فيه افراد شعبة استخبارات الفرقة المذكورة من كان يبيع او ينشر علناً جريدة (اتحاد الشعب) لسان حال الحزب الشيوعي، او نشرياته و مطبوعاته . .
ذلك الأمر و غيره كانا يشيران الى زيادة توسع و انتظام الجبهة المعادية لليسار و الديمقراطية و المعادية للزعيم ذاته، و كانت تثير قلقاً حقيقياً بين عموم القوى التقدمية و اوسع الأوساط الشعبية الكادحة آنذاك . . التي كانت تحذّر من محاولات انقلاب عسكري لن يبقي و لن يذرّ . .
و انتشرت اخبارٌ عن انذارات في ايّام او اسابيع، كانت توجهها قيادة الحزب الشيوعي لمنظماتها بالإستعداد لإفشال او مواجهة محاولات انقلاب عسكري تقوم بها قوى تزداد تقارباً و تنسيقاً، مع شركات النفط و ايران و الى الكويت و مرجعية السيد الحكيم في النجف و الاقطاع و القوى البعثية و القومية الناصرية . .
انذارات وجّهتها القيادة بضوء (معلومات خاصة) كانت تصلها على حد تعبيرها، الاّ ان تلك المواعيد للإنذارات لم تكشف عن وقوع تلك المحاولات و افشالها . . حتى اخذت منظمات الحزب التي وضعت نفسها بالإنذار في البداية بكل حماس و لكن دون جدوى، فاخذ يفتر حماسها و يضعف ثقتها بالقيادة على ذلك الصعيد.
و بعد مرور سنين و بنتيجة دراسات قام بها عدد من الباحثين الجادّين و عدد من قياديي الحزب اللاحقين . . افادوا بأن تلك الإنذارات عن مواعيد انقلاب ما، بأنها كانت نتيجة ما سرّبته بعناية و دقة كبيرة دوائر خارجية عالية المهارة لإحداث خدر في منظمات الحزب الشيوعي، وفق ماخططت له من اجل انجاح القيام بثورة مضادة تجهز على كل المكتسبات الشعبية و التقدمية التي قامت بها ثورة 14 تموز و رجالها، و لتضمن لها الرجوع بالاوضاع و بعقود الاتفاقيات الى ماكانت عليه و بشكل اكثر صرامة قبل ثورة تموز 1958 .
. . . .
. . . .
في تلك الفترة صار عندنا في البيت دجاج بيّاض (الذي يضع البيض بانتظام) العائش مع ديكة المجموعة في بيتونة السطح و يتجوّل في السطح عند فتح ستارة البيتونة المكونة من نسيج سلكي واسع الفتحات و المستعمل بكثرة في عمل اسيجة الحدائق، و وجبات صغار الدجاج و افراخ الدجاج (الكتاكيت) التي وضعناها في غرفة صغيرة في الطابق الثاني، كانت معدّة لمؤونة البيت و التي بقيت متروكة في وقتنا . . و هكذا توفّر البيض عندنا في وقت تصاعدت فيه اسعاره في السوق و تسببت بمشاكل معيشية حقيقية خاصة للعوائل محدودة الدخل.
من جهة اخرى، كان نوم السطوح قرب النهر و اعداد شُرباتْ الماء (تُنَكْ الماء) و وضعها على سياج السطح يتميّز بنوع من الفرح و بشاعرية خاصة بتوفر ماء شرب بارد في قيض الصيف . . حيث كان العديد من الجيران في الأماسي يجلسون عند السطوح و يتحدثون بانواع الأحاديث سواء كانت عمّا دار في ذلك اليوم او عمّا كان يدور في المحلّة و في عموم البلاد . .
و كثيراً ماكانت انواع الضحكات و الشهقات و الصيحات العالية تتصاعد عن حدث ما سواء كان مفرحاً او فضائحيّاً او كان يدور همساً و تصاعد فجأة، او عمّا كان يَعرض التلفزيون الذي كان عدد من الجيران يحملوه معهم الى السطوح، يشاهدون البرامج و هم يكرّزون انواع الحبوب او يتناولون اشياف الرقيّ التي وضعوها على السياج لتبرد قبلئذن . .
بل و شكّلت السطوح اوقات العصر و المغرب، في محلات بغداد الأصلية و القديمة و كأنها عالماً آخر فإضافة الى قصص العشق و الهيام في السطوح في الأماسي . . هناك قصص اخرى في الظهاري الحارة وقت الصيف حين تخلو السطوح بسبب الحرّ اللاهب، و التي صارت عناوين لروايات و كتب و دراسات وصولاً الى . . (حب في السطح)، (رسائل السطوح)، (قبلات في السطح) و الى (مفاجآت في السطوح)، (جريمة في السطح) و غيرها و كأنها تروي قصصاً عن عالم آخر . .
و بتغيّر مساقط سطوع الشمس بمرور الصيف، اخذت اشعتها تسطع على فراشي بوقت مبكر كثيراً، الأمر الذي اضطرني بمساعدة محمود ان انقل سريري الى زاوية تتأخر اشعة الشمس عند الوصول اليها، و صادف ان كان الجيران عبر السياج في تلك الزاوية، من جيران السطوح المطلة بابهم على الزقاق الآخر، و كانوا كثيري الأحاديث و بأصوات عالية حتى خلال الليل . .
و في هزيع متأخّر من ظلام احدى الليالي، ايقظتني من النوم صرخة شبه مكتومة لإمرأة جعلتني اقف محاولاً استجلاء ما كان يحدث خلف سياج السطح (التيغه)، و سمعت حديثاً مثيراً :
ـ على كيفك حاجي . . عوّرتني !!
ـ ليش عيني ام جهاد . . احنا مو اتّفقنا نسويّها الفجر !! و اخبرتك بأني سأكون اقوى عند الفجر كما سمعت من اصدقائي و تجاربهم . .
ـ اي بس هذا صاير عبالك ما ادري شنو ههههههههههه اتذكّرت حجاية اميّ لمّا كالت هو ما ادري شنو . . لاهوّ عظم و لا هوّ عصب و لا هوّ عضلات . . هو شئ الله خالقه رحمة للناس ههههههههه.
ـ ههههههههه اي اضحكي عيني، المرة الجايّة انتبه اكثر لأن بعدج زغيرة . . هاي زوجتي الاولى مكسورة الركبة كانت دائماً تتأفأف سواءً بتالي الليل بعد ما ناكل بقلاوة او عند الفجر . . مريّه صلفة ماعدها ذوق ابد حتى في الفراش . .
ـ لا و الله حاجي آني غشيمة . .
و اخذت تترنم مغنيّة :
ـ بين الجرف و الماي . . بطة و صدتني تره تره تره رم
ـ ههههههههه ولج عيني اني اموت على البطّة
و مع بدء البرد و تقلبات الحرّ و البرد، صرنا نواجه مشاكل من نوع جديد لم نألفها من قبل . . فقد قفز جرذ كبير من فتحة التواليت و اخذ يجري بسرعة اخاف بها اختي الصغيرة و هرّنا الذي صار كبيراً بعد ان وجده والدي في احدى سواقي الماء الوسخ الجاري في الزقاق مكسور الذنب، و اخذنا نعتني به و صار هرّاً كبيراً بل صار و كأنه جزءاً من حياتنا اليومية تلك . . العجيب ان الوضع هنا قد اختلف و صار الجرذ هو الذي يخيف الهرّ و يركض وراءه و كأنه وجد طريدة ما . . و ازداد عدد تلك الجرذان.
كانت الجرذان تغطيّ بيوت المنطقة المطلّة على النهر . . و كانت تخرج عادة في البيوت عند الخريف من فتحات المجاري التي تصبّ في النهر . . بحثاً عن الدفئ، كانت كبيرة الحجم تدخل من فوهات انابيب المجاري المفتوحة على النهر و تسير عبرها الى اماكن الدفئ من فتحات التواليتات و البالوعات، و تتسبب بخوف و رعب عند الأطفال خاصة و عند والديهم خوفاً من مهاجمتهم للاطفال الرضّع، حيث انتشر خبر عن جرذان هاجموا رضيع و قتلوه بعد ان نهشوا لحمه . .
و تذكّرنا احاديث عزّت ابن بيت النجار عن بيت خاله و خوف زوجته الشابة من تلك الجرذان حتى صارت تبول على ملابسها ان رأتهم و لذلك انتقلوا من المحلة، و احاديثه عن صنف ذي خط اسود على طول ظهره من تلك الجرذان الوحشية، التي قد تهاجم البشر ان عضّ عليها الجوع . . و لم تفد مع تلك الجرذان مصيادات الفئران المعدنية، لأنها كانت تستطيع ان تسرق الطُعُمْ الموجود فيها و تفلت منها، او تضرب طرف المصيدة لتقفز و تفلت الطُعُم . .
دخل الشتاء و بدأ موسم الأمطار التي كانت غزيرة كثيراً في تلك السنة و تسببت بالعديد من المشاكل للعائلة جرّاء السكن في ذلك البيت القديم حينها، فبعد ان انتقلت اختي الكبيرة شذى و تسجّلت في (متوسطة الوثبة للبنات) التي كانت في البناية الكبيرة المجاورة لبيت (توفيق السويدي) في الصالحية، حيث تسجّلت في الوجبة النهارية الثانية للدوام اليومي (بعد الصباحية) لتقوم بالعناية باختي الصغرى ذات السنتين بغياب الوالدة لدوامها كمعلمة في شمال العاصمة كما مرّ حتى عودتها، لعدم وجود من تستطيع تركها لديهم في المحلة . .
اصيبت اختي الكبرى شذى بالتهاب قصبات متكرر تطوّر الى التهاب مزمن رغم انواع العلاجات و مراجعات الاطباء، بسبب برودة البيت و الرطوبة العالية فيه التي كانت تسببها المياه التي لم تتفرّغ بسهولة من ارضية البيت لارتباك المجاري القديمة، و الرطوبة العالية لجدران حوشه الداخلي، حتى تطوّر الالتهاب الى (ذات الرئة) الذي بقي ملازماً لها طيلة حياتها، زاد منه تعبها و ارهاقها بسبب الأخت الصغرى و بسبب جهودها الكبيرة للتفوق الدراسي . .
و ظهرت مشكلة حقيقية اخرى غير مألوفة في ذلك الشتاء . . حيث نزلتُ في صباح يوم ممطر من غرفة نومنا في الطابق العلوي لأذهب للتواليت الواقعة في منتصف دراج السلّم نصف المكشوف المبلل بالمطر . . فاحسست بلسعات كهربائية كانت تزداد قوة كلّما نزلت السلّم اكثر و كنت اتصوّر انها من خدر الساق و القدم بسبب النوم، الاّ انها ازداد قوة حتى صارت و كأنها صعقات كهربائية من جهة ارضية الدراج، و من الجدار الرطب الى يدي ان استندت اليه . . كل ذلك مع ضرورة الحذر الشديد ان خرج جرذ من فتحة التواليت . .
و بعد آراء و نقاشات متنوعة مع الجيران و ذوي الخبرة و ممن عرفوا البيت و بيوت المنطقة تبيّن، ان البيت لقدم بنائه و عدم الاهتمام بإدامة و تصليح تأسيساته الكهربائية، جعل اسلاك وايرات الكهرباء عارية تسرّب الكهرباء ان صارت الجدران الملاصقة لها رطبة . . ولم يكن امامنا الاّ اتخاذ التدابير الوقائية بعد ان لم يستجب صاحب البيت مالك فندق بورسعيد في ساحة الشهداء لطلبنا المتكرر منه بالتصليح . .
و على ذلك اخذنا نرتب تلك التدابير بلبس قبقاب خشبي عند صعود و نزول الدراج و لمّا لم يكن ذلك عملياً وصلنا الى قطع كهرباء البيت من الميزانية عند المطر، و استخدام الفانوس عند الصعود و النزول ليلاً، و كان كل ماتقدّم مرهقاً الاّ اننا كنا مرتاحين لسكننا بأمان في بيت يأوينا رغم الإيجار الذي كان يرهقنا، بعد ان حرقوا بيتنا و ضيّعونا كعائلة و اطفال . .
. . . .
. . . .
في احد الأيام زارتنا جدتي امينة صحبة الخالة سعيدة و كانت تحمل انباءً سارّة بأنها استطاعت تصليح بيتنا الذي احترق في الاعظمية بالتعاون مع برهوم و اخيه محمد، و تحمّلت هي و الأخوين مصاريف التصليحات و انهم استطاعوا عرض بيتنا في الأعظمية للإيجار و انهم وجدوا مستأجر و انه سينتقل و يدفع الإيجار اعتباراً من الشهر المقبل . . و كان ذلك خبراً سارّاً فعلاً لأنه سيخفف من اعبائنا المالية و يمكن ان يجد حلاًّ لنا للانتقال الى بيت احسن و أأمن و يمكن ارخص . .
و في غروب ذلك اليوم و في غمرة تلك الأحاديث الشيّقة و النقاشات و اين يمكن ان نسكن . . في الوزيرية ام في الصليخ ام في الكاظمية . . ؟؟ لمحت الخالة سعيدة رجلاً عند سياج السطح و هو جالس و يراقب اهل البيت في ساحة الدار و كنّ كلهن نساء ماعدانا نحن الصبيان . . و صاحت باعلى صوتها :
ـ حرامي !! حرامي !!
و اثر صياحها تقسّمنا نحن الصبيان بين من صعد الدراج الى السطح و بين من خرج الى الجيران و كنّا جميعاً كأنما خالتي وجدت حلاَ بالصياح . . كنا نصيح ايضاً بأعلى اصواتنا :
ـ حرامي !! حرامي !!
و امتلأت سطوح الجيران و الزقاق بالناس رجالاً و نساءً و اطفالاً . . بينهم من حمل هراوة و من حمل عصى و من حمل خنجر او سكيّن مطبخ و الكل يسأل : كيف مظهره ؟ ماذا يلبس ؟ دشداشه ام بنطرون ؟؟ و كان الشرطي الساكن في زاوية خان المولى و المسمىّ (محمد حرامي) بطوله و بكرشه و بدشداشته الفضفاضة الشاد عليها حزام عريض و مثبت عليها مسدس و خلفه زوجتيه، احداهما ببلوزة حمراء كانت تعدّل من حمّالة صدرها . . كان الشرطي يردد و عينه تتلامع من السّكُر :
ـ مستحيل حرامي يقترب من محلة (محمد حرامي) . . اكص راس اللي يقترب من محلتنا و ادخّله منين ماطلع . . و و
حتى صاحت زوجته ام البلوزة الحمراء :
ـ على كيفك حموّدي كافي . . احنا مو اتفقنا اليوم السره مالتي . . لاتصير عصبي بعد عيني انت . . تره بعد ماتكدر !!
و رغم التضامن الحقيقي و الجاد لأبناء المحلة و وقوفهم وقفة رجل واحد لمواجهة اي انتهاك لحق او لحرمة ما فيها، الاّ انهم لم يجدوا غريباً او مشتبهاً به و انفضّ ذلك التجمع بالتدريج رغم بقاء عدد من الرجال و هم يقضانين عند الزوايا و المواقع المهمة في الزقاق، حتى هدأ الموقف . .
و قد فتح ذلك الخبر السار الذي حملته الجدة أمينة و ما ساعدتنا في عمله لنا . . فتح باباً لفرحة لاتُنسى حينها و بقي السؤال (ماذا سنعمل ؟؟ ) قائماً و الى اين سننتقل ؟؟ . . حيث كانت نقاشات و اقتراحات الوالد مع اصدقائه المار ذكرهم تستقر على ان ننتقل الى الكاظمية، حيث سنكون قريبين اليهم و خاصة الى حكوّمي الذي انتقل من الأعظمية الى الكاظمية في (كاع حمّد) و كان يريد ان يكون اقرب اصدقائه قريباً اليه، و كذلك الساكنين منهم في الأعظمية و شارع المغرب حيث سيكون بيننا فقط عبور جسر الأئمة . .
اما الأهل و الأقارب، فكانت جدتي و برهوم مع الإنتقال الى الكاظمية لنكون قريبين اليهم في سكنهم في الاعظمية ـ محلة الشيوخ و الدهدوينة و بيناتنا فقط (عبرة الجسر) . . و كان عميّ الاصغر الصحفي و الاديب اللامع عبد القادر البراك الذي اسس اكثر من جريدة يومية اهتمت بالأدب و التراث، كان مع الانتقال الى الحارثية حيث كان يسكن في حي الصحفيين الجديد بشوارعه المبلطة حديثاً ، لنكون قريبين على بعض . .
و اخيراً انحلت النقاشات و استقرّت على ان نتحوّل الى الكاظمية، ففي لقاء جمع الوالد و حكوّمي في مكتب المحامي اليساري المعروف (كاظم الطائي) الواقع في الكاظمية ـ باب الدروازة، اشار المحامي الى عرض بيت للإيجار يملكه السيد (بُخيّ) و كان قصاباً شهيراً عُرف عنه حسن تعامله، و ان البيت يقع في حي جديد قرب (ثانوية الأنباريين للبنين) عند شارع المحيط القديم (لأنه كان يحيط بمدينة الكاظمية قبل عقود) و الذي سميّ بعد الثورة بشارع موسكو، الاّ ان الإيجار كان مرتفعاً و لاقدرة للوالدين على دفعه . .
و اخذ صديق الوالد الكظماوي (مهدي الملاك) على عاتقه ايجاد بيت للإيجار لنا، الى ان اخبر الوالد يوماً عن بيت مبني حديثاً في البيوت الجديدة لـ (محلة بستان شيخ حسين) في الكاظمية، الواقعة عند نزول جسر الأئمة من جهة الكاظمية . . و استقر الوالدان عليه بإيجاره الذي كانا قادرين على دفعه آنذاك، مع استلامهما بدل ايجار بيتنا في الاعظمية . .
في وقت استمرت و ازدادت فيه اوضاع التناحر في الأعظمية حيث بيتنا المُلُك و اصبح من المستحيل العودة اليه، و لم نستقر في الشواكة لأوضاع السكن الصعبة و خاصة الرطوبة و تسرّب الكهرباء و ضرباته و الجرذان المخيفة . . التي جرى الحديث عنها، و غلاء الإيجار الذي رفعه مالك الدار مرة اخرى . .
اضافة الى كثرة المصاريف والجهود حيث بقيت الأم تعمل معلمة ابتدائية في الصليخ الواقعة في اقصى شمال العاصمة، حيث كانت تذهب (ذهاباً و اياباً) كل صباح بباصات المصلحة من الشواكة الى باب المعظم ومن هناك بباص المدرسة الى مدرستها في الصليخ ومعها ابنتها الثانية سوسن، في الوقت الذي كان فيه الأبن الأكبر مفيد يداوم في متوسطة الكاظمية، التي انتقل اليها منذ ان كانوا في الأعظمية بسبب تكرار الإعتداءات عليه هناك، اضافة الى استمرار الوالد بالدوام في معهد الفنون الجميلة في الكسرة . . (يتبع)

19 /7 / 2022 ، مهند البراك



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آمنت بالشعب المضيّع و المكبّل !
- ذكريات الصبا..اضرابات عمالية .15.
- صراع طوائف ام صراع طبقات ؟؟
- الصين، و آزوفستال يكشف !
- ذكريات الصبا..مجرمون و سياسيون .14.
- ذكريات الصبا..عباس شكاره .13.
- ذكريات الصبا ..الساطور! .12.
- الحرب في اوكرانيا . . و منطقتنا ! .4.
- الحرب في اوكرانيا . . و منطقتنا .3.
- الحرب في اوكرانيا و منطقتنا . . .2.
- الحرب في اوكرانيا . . و منطقتنا .1.
- ذكريات الصبا.. و حرقوا البيت! .11.
- ذكريات الصبا .. الإغتيال .10.
- ذكريات الصبا.عفا الله عما سلف.9.
- ذكريات الصبا..اعتداءات و آراء .8.
- ذكريات الصبا..زمن الاغتيالات .7.
- ذكريات الصبا..اعتداءات و تشريد .6.
- ذكريات الصبا..اول ايار 1959 .5.
- ذكريات الصبا.. ابو الهوب .4.
- ذكريات الصبا..الملا مصطفى .3.


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات الصبا..محطة لسنوات مريرة .16.