أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات الصبا..عباس شكاره .13.















المزيد.....


ذكريات الصبا..عباس شكاره .13.


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 7239 - 2022 / 5 / 5 - 18:41
المحور: الادب والفن
    


بعد حرق بيتنا، ارسل عمي (ابو عدنان) يخبرنا بأن ننتقل الى بيته، بعدما فاتحه ابنه الكبير الصحفي (عدنان البراك) بما جرى لنا و بأننا يجب ان ننتقل فوراً من الأعظمية بما خفّ حمله ريثما نجد بيتاً نستأجره . . كان بيت عمي يقع في الكرخ ـ قرب السفارة البريطانية القديمة، في محلة الكريمات، بعد ان انتقلوا من بيتهم في حي الزعيم ـ اسكان غربي بغداد (الحي العربي الان)، اثر حملة الأغتيالات والتهديدات بالقتل وحرق المنازل التي بدأها البعث و القوميون هناك، و طالت القوى الديمقراطية واليسارية و عوائلهم . .
و هكذا ذهبنا مع حقائبنا الى بيت عميّ الذي كانت تسكنه عائلته الكبيرة مع الجدة راجحة، و رغم اننا شكّلنا ضغطاً على البيت و العائلة بعددنا، لكننا كنا فرحين بإلتآمنا مع الوالد و بأننا نعيش معاً، رغم الضغوط و الحاجات المالية التي كانت تزداد بالنسبة لعائلة عميّ الكبيرة و بالنسبة لعائلتنا، مع انتقالنا المؤقت و مع مصاريف تصليحات الحروق و البحث و التهيئة لإستئجار بيت ننتقل اليه كبقية العوائل . .
كان سكنة محلة الكريمات ـ عقد البيجات خليط عراقي بغدادي مسالم جميل، سكنته عوائل مسلمة، و عوائل مسيحية حيث كانت شموع القداسات المسيحية تُشعل في الاماسي داخل البيوت النظيفة المعطّرة آنذاك، التي صرنا نزورها بعد ان تعرّفنا على الفتى الآثوري رمزي و ذهابنا بمعيّته الى بيوت اقاربه و العوائل المسيحية الصديقة لعائلته للتعرف على ابنائها و بناتها . . الذين كانوا يشجعونا على زيارتهم بعد ان عرفوا بقصتنا . .
و كانت اعداد العوائل الصابئية في المحلة واضحة بعاداتهم الاجتماعية التي لاتفرّقها عن عادات العوائل المسلمة، اضافة الى عدد من العوائل اليهودية التي كنّا نميّز بيوتها من رائحة زيت السمسم الذي يطبخون به طعامهم . . كان غالبية سكنة المحلة اصحاب مصالح خاصة و مهن، و مصالحهم ودكاكينهم قرب سكنهم، و كانت الأُلفة بينهم هي السائدة مهما كانت دياناتهم التي لم تشكّل حاجزاً او مانعاً في التعامل، بقدر ماشكّلت طريقة للتعارف و للاحترام المتبادل و معرفة الحقوق و الواجبات الانسانية بينهم، و تعزز حياتهم كجيران يتطاعمون و يسرهم التذاذ الجار بما يطبخون على طريقتهم و بما يُعدوّن في مناسباتهم . .
و كان من البارز ان طالبات و طلاب المحلة كان يساعد احدهم الآخر في التهيئة للامتحانات للنجاح و التفوّق و كانت بنات عميّ يدرسن مع صديقاتهن في بيوتهن و خاصة مع عدد من الطالبات الصابئيات المتفوقات دراسياً . . و في مرّة و كفتيان من كل مكوّنات المحلة قد دُعينا الى حفل زفاف لإبنة عائلة مسيحية هناك و شارك جميع الحضور بالغناء و الدبكات و الردّات، و بالاغاني و الترانيم المتنوعة على تنوّع الاديان و القوميات و بلغات الطوائف الاصلية ذاتها . .
و كنت على عادتي في رغبتي للتعرف على المكان الجديد او الغريب، بالطواف في المحلة للتعرف عليها و على المحلات المجاورة، و كنت استأجر درّاجة من البايسكلجي هناك، و عرفت ان الطريق المواجه لمدخل بناية السفارة البريطانية القديمة يمرّ داخل محلة الكريمات (و هو الطريق الذي انقطع اثر بناية عمارات و شقّ شارع حيفا اثر توسعة شارع المستنصر) و يصل الطريق الى مقابل منتزه مغلق مهمل لينعطف يميناً و يستمر الى ان ينفتح على منطقة علاوي الحلة ـ سينما بغداد (سينما قدري الاضروملي)، و عرفت بأن الطريق المقابل لذلك المنتزه المغلق يسكنه اصحاب جاموس و يمكن الحصول منهم على قيمر ممتاز بسعر متهاود . .
و فيما كنّا كلما رأينا قطعة من اثاث او سجّاد و لوحات فنية، ستائر و اغطية جميلة او راديو او تلفزيون فاخر في بيت . . . كان الحديث يجري على انها مما حصلوا عليه من نهب السفارة البريطانية التي كانت هي الحاكمة و السارقة الفعلية الاكبر للبلاد آنذاك، و التي هزمتها ثورة 14 تموز 1959 ، و انهم بذلك قد استطاعوا استرداد و لو جزءٍ ضئيلٍ من اموالهم . . رغم ان رجال السفارة كانوا مستمرين في نشاطاتهم لإجهاض و اسقاط الثورة و كانوا هم الداعمين و الممولين لأنواع العصابات التي مرّ ذكرها مهما ادّعت تلك العصابات و مهما حملت من شعارات جديدة . .
كانت الاحاديث تدور عن الشاب الجرئ (عباس شكاره) او (عباس ابن شكاره)، الذي استطاع هو و عدد من فتوة احياء الكريمات و الشواكة بجرأتهم من صدّ هجومات افراد عصابات الكرخ القديمة : من الجعيفر و سوق الجديد و التكارتة . . على المعلمين الديمقراطيين، حيث كان اولئك الافراد يمنعون و يضربون من يأتي لإنتخابات المعلمين و اسمه مُدوّن على قوائم اسماء الديمقراطيين و اليساريين الممنوعين بقرار تلك العصابات، من الانتخابات التي كانت تُجرى في ثانوية الكرخ للبنين، و التي كانت مقراً علنياً للقوى القومية و البعثية، مقراً محروساً بتلك العصابات . .
اضافة الى مقرهم (فندق بور سعيد) المطل على ساحة الشهداء، والذي كان مقراً غير معلن لأشكال المجاميع المسلحة التي قامت باعمال الإغتيال وحرق المنازل والمصالح الصغيرة و الكبيرة العائدة لعدد من العوائل الديمقراطية واليسارية في مناطق جهة الكرخ الاخرى والشواكة، و هو الفندق الذي منه انطلقت رشقات رشاشات بور سعيد التي وجهت للمتظاهرين الديمقراطيين ومسيراتهم و تسببت بسقوط شهداء و جرحى و جريحات، سواءً في عيد الأول من ايار او في مظاهرة (السلم في كردستان) كما سيأتي، و في مسيرات تجمعات المعلمين الديمقراطيين الداعين الى انتخاب (القائمة المهنية الموحدة) للمعلمين .
و قال رفاق عباس شكاره، ان عباس بقي يستفسر لمدة طويلة، عن لماذا لاتحمي قوات الشرطة المتواجدة المتظاهرين من هجوم تلك العصابات و لماذا لا يلقون القبض على افرادها ؟ ثم من اين حصل افرادها على الاسلحة المتنوعة و من يجهّزهم بالمال و السلاح ؟؟ حتى تجمعّت لديه معلومات هامة و ذات دلالات كبيرة، قرر ان يحصرها بجماعته كي لا تفسد خططه لمواجهة تلك العصابات . . اخبره احد نشطاء معاونية شرطة الصالحية :
ـ عزيزي عباس، الاوامر و التوضيحات المستمرة و المكررة، التي تأتينا من فوق عن المظاهرات، بأن من يقوم بها هم رجال عطّاله بطّاله يحرّكوهم عملاء من موسكو و يدفعون لهم بالروبل الروسي، و اكثرهم سرسرية و دايحين بالشوارع، سكيّرين و مايخافون من ربّ العالمين . . امّا عن النساء اللواتي يشتركون معهم في المظاهرات، فأولاً المرأة (ناقصة عقل و دين) و ثانياً اغلبهن امّا مطلقات او عانسات محمّرات مخططات يدوّرون على رجال فيتحشّكون بيهم بروائحهن العطرية و محاولة احتضانهم او السقوط عليهم (يبحثن عن رجال بإثارتهم بعطورهن و بالاحتكاك الجسمي معهم) . . لذلك احنا ما يشرّفنا ان ندافع عنهم ؟؟!!
اضافة الى معلومات كانت تتوارد اليه، بأن السفارة لاتزال نشيطة و لها وكلائها و عملائها، و ان هناك زوّار دائميون للسفارة بصفة خدم او عمّال حدائق او عمّال تصليحات، يدخلون و يخرجون منها ليلاً عبر باب صغير جانبي يدعوه (باب الخدم)، و يقع على الساحة الجانبية الواسعة الخالية من المارّة و المليئة بالاشجار، و هي مجاورة لـ (القسم البلدي السابع) . .
و اضافت المعلومات، ان جماعته استطاعوا تشخيص احدى الزائرات و كانت قوادة معروفة في المنطقة، لديها بيت في الجهة المقابلة للاذاعة و استطاعوا التوصل الى دورها و دور المشتغلات عندها و علاقاتهن القوية مع فندق بور سعيد الآنف الذكر . .
اضافة الى ملاحظتهم تاجر من اهالي الصالحية، كان بعدما يخرج من السفارة عن طريق ذلك الباب، كان يلتقي في مقهى هناك بكبار من افراد تلك العصابات و يسلّمهم اموالاً عرفوا لاحقاً بانها من السفارة التي كانت تصرف عليهم بالدولار كخرجية و مصرف جيب اضافة لتغطية مصروفات اكبر، و قد نشرت عن ذلك حينها صحف بيروتية أُغلقت بعد نشرها ذلك الخبر و كانت قد اسمت ذلك التاجر (لطيف) او (عبد اللطيف)، الاّ ان تلك الاخبار أُعلنت بتفاصيل بعد عدة سنوات (قيل انها نُشرت اثر الهبة الشعبية التي اجتاحت الشارع اثر خسارة حرب 5 حزيران 1967)، ثم اعلن عنها الطلبة الإيرانيون اليساريون ايام الثورة الإيرانية حين وجدوها ضمن وثائق السفارة الإيرانية في الولايات المتحدة عند احتلالهم لها في شتاء 1979 .
و بين تقليب عباس شتى الافكار في ذهنه و بين مناقشة ذلك مع جماعته مع دلائل اخرى . . توصّلوا الى ان تلك الإعتداءات المتنوعة على الديمقراطيين و اليساريين، مصدرها واحد هو الذي يقوم بنشر تلك الاشاعات القذرة بحق المتظاهرين و المتظاهرات و غير ذلك من اوامر ضباط كبار مرتشين في سلك الشرطة، لجعل رجال الشرطة غير فاعلين او لدفعهم لضرب المتظاهرين و ليس لضرب المعتدين على المتظاهرين . . و يقوم ذلك المصدر ذاته بتمويل و تسليح تلك العصابات و عصابات البعث و القوميين . .
فكانت مبادرة مذهلة ان هاجم (عباس شكاره) و رفيقه بمسدساتهما و جماعتهما بخناجرهم و عصيهم، هاجموا فندق بورسعيد بعد ان انطلقت منه اول الرصاصات على تجمعات المعلمين التقدميين و الديمقراطيين في يوم انتخابات المعلمين، و اسكتوا من اسكتوا فيه و هرب من هرب منهم، و حصلوا على اسلحتهم التي تركوها بعد هروبهم . .
في وقت كان الناس يتحدّثون فيه عن الضرورة القصوى لوجود من يقوم بالدور الجرئ الذي قام به البطل (ابو الهوب) الذي افتقدوه و الذي لعب مقتله بتلك الطريقة الإجرامية الجبانة و غيابه، لعب دوراً كبيراً في تصعيد العنف في تعامل الاطراف السياسية مع بعضها البعض في محلات السكن و الاسواق و في اماكن العمل، (رغم تهدئات الحزب الشيوعي بضرورة اللجوء الى المحاكم و القانون في وقت كانت فيه المحاكم و القوانين مشلولة) . .
و كان ذلك تأكيداً آخر على ان مقتل (ابو الهوب) غدراً قد حوّل عدداً من فتوات الاحياء الشعبية الى التعامل بالعنف دفاعاً عن النفس و عن محلات السكن او ثأراً للشهيد ابو الهوب، و مواجهةً للسلاح المنفلت وقتذاك، في وقت كان فيه القضاء عاجزاً عن مواجهة و معاقبة المعتدين . . و كان (عباس شكاره) احد مساعدي ابو الهوب في جانب الكرخ، و كان يعتبر ان عدم مواجهة تلك العصابات و اسكاتها، يعني فسح المجال لها للتغوّل و للاطاحة بثورة 14 تموز و ما بما حققته من منجزات للفقراء و لعموم المجتمع بكل مكوّناته . .
و قام عباس شكاره بالدور ذاته و ان بشكل آخر في حماية و انقاذ المشاركين في تظاهرة (السلم في كردستان) التمويهية التي نظّمها الحزب الشيوعي . . حين قرر الحزب القيام بمظاهرة كبيرة حاشدة ما امكن للمطالبة بإيقاف الحرب و ايقاف قصف قرى كردستان الآهلة بالسكّان و ان تُحقق تجمّعاً لأكبر ما ممكن من كل العراقيين و اهل بغداد خاصة، بكل مكوناتهم و طوائفهم القومية و الدينية و الإثنية، و ان لاتتمكن قوات الشرطة من ايقافها، حتى اكمال سيرها من ساحة النهضة في شارع الكفاح الى ساحة التحرير . .
فقرر ان تكون هناك مظاهرة تمويهية تنطلق بنفس الساعة من اليوم المحدد، و ان تنطلق من ساحة المتحف في الكرخ و تسير نحو ساحة الشهداء لإلهاء رجال الشرطة و ليجري تقرير اين ستتوقّف بعدئذ او تلتحق بالمظاهرة الأصلية، و حشّد في المظاهرة التمويهية تلك عدداً من وجوهه المعروفة نساءً و رجالاً . .
فانطلقت المظاهرة الاصلية من ساحة النهضة بعد ان جمع منظموها اعداداً كبيرة من العصي لمواجهة رجال الشرطة ان هاجموها، و فعلاً واجهت اعداداً كبيرة من رجال الشرطة الذين بقوا مشلولين رغم اسلحتهم امام عصي المتظاهرين الذين اشتبكوا معهم رغم سقوط عدد منهم جرحى، و استمرت المظاهرة الى هدفها المقرر في ساحة التحرير، مشكّلة بذلك ثاني اكبر تظاهرة جماهيرية في تاريخ العراق القريب بعد مظاهرة الاول من ايار 1959 .
عند عودة عباس شكاره الى الصالحية و كان فرحاً بما حققته مظاهرة (السلم في كردستان) الاصلية . . تفاجأ مفاجأة كبيرة بخبر تفريق المظاهرة التمويهية و ذلك في ساحة (سينما بغداد) اثناء سيرها، بمهاجمتها من قبل رجال الشرطة و رجال عصابات البعث بالرصاص و بالعصي و سقوط عدد من الجرحى و سوق ما قارب الثلاثين من المتظاهرين رجالاً و نساءً كان عدد منهم من الجرحى مخفورين . . حيث سيقوا الى موقف مركز شرطة الشواكة !!
فقرر هو و جماعته في الحال تطويق المركز و تهديد من فيه ان لم يطلقوا سراح الموقوفين و الموقوفات، و ان تطلّب الأمر مهاجمة المركز خاصة و انهم يعرفون المركز و مرافقه و الدور الشرقية المحيطة و الملاصقة به و يعرفون سكنتها جيداً . . بانهم شجعان و اصدقاء مخلصون . .
وصلت المجموعة الى باب مركز الشرطة من الجهتين و صاح عباس بالحرس :
ـ السلام عليكم . . ابني آني عباس شكاره . . اخبر المفوض كاظم، اريد اتكلّم معاه هنا بالباب حتى يطلق سراح الاخوات و الاخوة المناضلين اللي وقّفتوهم ظُلماً و عدواناً و فيهم جرحى . .
اجابه الحرس و كان وجهه يزداد اصفراراً و هو يشاهد عباس شكاره بلحمه و شحمه لأول مرة . . عباس الذي سمع الكثير من مآثره و مناقبه في الدفاع عن الفقراء و عوائلهم و حمايتهم و مساعداته لهم، و ذاع صيته و هيبته و شجاعته و كرهه للظلم . . في محلات و حواري الكريمات و الشواكة و الصالحية و الشاكرية المترامية الاطراف، في الكرخ و كرادة مريم . . اجابه و هو يحاول استجماع نفسه و يقاوم شعور الرهبة الذي اجتاحه في مواجهة الهيبة الطاهرة و الروح الانسانية :
ـ عليكم السلام سيّــ . .
ـ تحرّك ولك . . اشو صافن ؟؟ . . . تحرّك !!!
و اطلق عباس رصاصة في الهواء بمسدسه لكسر انجماد الحرس الذي تصوّره رافضاً لما طلبه منه،
ركض الحارس و رفيقه ببنادقهما الى الداخل و اختفيا تنفيذاً لأمر المفوض . . و خرج الموقوفون و الموقوفات الى باب المركز و المفوض الخفر يصيح من الداخل :
ـ عميّ كلهم افراج !! افراج !!
ـ و الله اكسّر رؤوسكم اذا ماديّن ايديكم عليهم . .
ـ لا و الله استاذ !! . . احنا استلمناهم فقط و كُنّا نعرف انهم ابرياء، بس اتوا بهم مقبوض عليهم . . حتى قدّمنا لهم طعام، اسألوهم . .
. . . .
. . . .
في يوم من تلك الايام اخبر عدنان ابن عميّ، والدي بأن ممثل عن مكتب الاتحاد العام لنقابات العمال في الصالحية، اخبره بوجود بيت للإيجار في محلة الشواكة، و ان البيت قديم و يحتاج تصليحات لذلك فإنكم ستدفعون نصف الإيجار و (اذا عجبكم البيت نعمل عقد الإيجار منذ الآن و بكفالة ممثل مكتب اتحاد نقابات العمال) . . و بعد معرفة الوالد كم هو نصف الإيجار و انه و الوالدة ممكن قادرون على دفعه، و بعد مناقشة الوالدة، وافق على البيت بزيارة سريعة اليه و معرفته من هم الجيران و خاصة عائلة نيازي الساكنة هناك و ابنها الكبير النشيط في مجال المعلمين الديمقراطيين . . و هو متصور ان ذلك الحال مؤقت في كلّ الأحوال . .
و فيما فرح والدي بأنه سيستطيع التخفيف عن اخيه و عائلته الكبيرة . . كانت الوالدة حزينة لأن صبرها على فراق بيتها يبدو انه صار دائمياً، بعد ان اعتقدت انهم انتقلوا مؤقتاً و حتماً سيعودون الى محلة الشيوخ . . كان الأنتقال يحمل اكثر من معنى واكثر من صعوبة لها، حيث سننتقل من بيت كان على صغره يكفينا، وكان مُلكاً لوالدتي دون دفع ايجارات مكلفة، في محلة شكّلت مرابع طفولتنا واهلنا واقاربنا وجيران عمرنا، الى محلة مجهولة وناس جدد لانعرف عنهم شيئاً . .
والأصعب كان يعني صعوبات ستتحملها الوالدة لوحدها و عندها طفلة بعمر السنتين لاتعرف اين ستتركها في اوقات دوامها، و هي بلا أمها (جدتنا) و بلا اخوات و اقارب و جيران عمر، و كان عليها ان تنتقل كمعلمة من مدرستها الأصلية (مدرسة الشفق الأبتدائية للبنات) في الصليخ ـ الكريعات، حيث كنّ معلماتها و المديرة، زميلاتها وصديقات عمرها . . الى مدرسة مجهول اهلها، كما كانت تفكّر و تزداد حزناً، ناسية او غير مصدّقة بأنها أُجبرت على ترك بيتها بالحرق . . او ان تبقى في مدرستها التي صارت في الطرف الآخر من العاصمة، و التي سيكون الوصول اليها صعباً يومياً خاصة في الشتاء بين المشي و ركوب باصات المصلحة، هي و معها طفلة طالبة في المدرسة، كان باص مدرستها الخشبي ينقلهما من بيتها الى المدرسة و يعود بهما . .
و بمساعدة برهوم و محمد ابني الخالة فائقة، تم استئجار شاحنة صغيرة لنقل ما تبقىّ و لم يحترق من اثاث البيت، بعد ان بذل محمد جهداً في اختيار السائق خوفاً من سرقة الأغراض او اعتراض السيارة من قبل جماعة الساطور للمزيد من الإيذاء . . حتى وجد سائقاً من دراويش الشيخ فخري الذي سيكون حريصاً على سلامة ابنة الشيخ . .
وقفت شاحنة نقل اثاث البيت الصغيرة بمحاذاة رصيف شارع الشواكة المزدحم بالسوق و الناس وفي مدخل المحلة المعروفة، وتساءلنا انا و محمود عن موقع البيت من البقالين، عارضين عليهم ورقة العنوان . . وبعد نقاشات اكثر من بقال، توصّل الجميع ان افضل مكان تقف فيه الشاحنة لنقل الأثاث منها باليد الى البيت ليس عبر السوق، لأن الزقاق لايكفي لدخول سيارة، وانما على السيارة ان تدخل فرع (مطعم مهدي الكبابجي) الشهير و هو الفرع المحاذي لسياج السفارة البريطانية هناك، و بعد اكمال الفرع تصل الشاحنة الصغيرة الى حيث بيت الوجيه البغدادي (الدفتردار) ومن هناك يمكن تقدير اين ستقف الشاحنة، ليتم حمل الأغراض الى البيت باليد . . وفعلاً ذلك ماتم .
كانت المنطقة من مناطق بغداد القديمة التي يسكنها بغداديون من عوائل مسلمة و مسيحية و صابئية، اشتهر فيها (كباب اسطة مهدي) الدائم العمل ليلاً و نهاراً لكثرة و تواصل الطلب عليه و فيما عرف اسطة مهدي بمهارته في عمل الكباب باسعار مقبولة، عرف عنه انه كان من (انصار السلام) و ان القوميين المتطرفين اغتالوا ابنه الشاب قبل سنتين للانتقام من والده . .
وكان الجديد في سوق الشواكة هو سوق السمك الجديد في عمارة من طابقين و كان جاذباً لأنواع المشترين لأنواع السمك المرغوبة و الطازجة و باسعار معتدلة . . وصلنا الى البيت و نحن ننقل الاغراض من الشاحنة اليه، كان بيتاً قديماً كبيراً فيه سبع غرف و صالة منخفضة شبه سرداب، و يقع مقابل خرابة مغلقة تعود الى بيت المولى هناك، قيل انها كانت خان تجاري قبل عشرات السنين . .
و كان منظر النهر (الشط) من الطريق الاسمنتي للمشاة المرتفع و الممتد بمحاذاة النهر الى رأس جسر الشهداء، كان في ذلك الصيف جميلاً فعلاً و نحن نراقب الزوارق النهرية ذات المجاذيف (البلام) و هي رائحة غادية من جرف الشواكة نحو جرف عمارة الدفتردار ومقهى زناد وشارع النهر في الرصافة . . مشكّلة وسيلة نقل ثابتة بين نقطتي الجرفين تلك عند حائط (بيت الوتّار) المطل على النهر مباشرة، الذي كان مخطوطاً عليه من زمن الملكية ( اطلقوا سراح المناضل زكي خيري) . .
وبين فرحنا و ضجيجنا و نحن نشاهد النهر في شمس ذلك الصيف و نحن نعيش حلماً باننا سنسكن في بيت يطّل تقريباً على النهر و لو عبر ساحة فارهة . . كنا نحن الفتيان فرحين لأننا نرى لأول مرة اننا بمواجهة قلب بغداد عبر النهر، قلب بغداد بعماراته العالية و خاصة عمارة الدفتردار المطلة بواجهتها على النهر من جهة الرصافة، وحيث تنتصب عمارة مصرف الرافدين الأعلى خلفها، التي كانت اعلى عمارة في العراق . .
لاحظنا قلق الوالد وهو يشاهد الأم وهي تقف في مدخل المجاز صامتة و دموعها تجري بغزارة، مقابل مهد لرضيع لم يزل فراشه الصغير هناك و حوائجه معلقة على طرفيه، وقفت وكأنها اصيبت بالتجمّد . . لقد رفضت ان تسكن هناك بعد رؤيتها لذلك المهد، وقالت و العبرات تخنقها و وسط تلك الدموع الغزيرة و بلهجة خافتة حزينة :
ـ ابو مفيد . . هذولة مثلنا . . ايضاً عائلة شُرّدت بالقوة و تركت منزلها وبأثاثه !
ولم تمد ايديها على اغراض بيتنا المنقولة من الأعظمية ولم تجلس على بقايا الأثاث الموجود في البيت، رغم توسلات الوالد بان الموضوع مؤقت، وسنحافظ على اغراض البيت المتبقية ونرجع الى بيتنا في الأعظمية عندما تستقر الأمور . . في وقت جاء فيه رجل بعد ان طرق الباب المفتوح، بملابس نظيفة لصيادي السمك، و بغترة ملفوفة على رأسه و كان يحتذي حذاء نعل لامع نظيف . . و بعد الإستئذان بالدخول، نظر الرجل الاسمر الوسيم الينا نحن الفتيان مربتاً على اكتافنا، و سلّم على الجميع، وقدّم نفسه للوالدة قائلاً :
ـ حجية . . اني عباس ابن شكارة عن نقابات العمال الذين ارسلوني للترحيب بكم، اهلاً بيكم واذا احتاجيتوا اي شئ انا حاضر وموجود بين يوم و آخر على الشريعة (طريق المشاة الاسمنتي) اوقات الغروب والناس هنا تعرفني . . احنا هنا حجية نحميكم من اي تصرف او سلوك قد يضرّ بكم !
ويظهر انه كان على دراية بموقف الوالدة الرافض، فقال ابن شكارة :
ـ حجية هذول لايمكن مقارنتهم بكم و بأخلاقكم و تربيتكم . . حجية هذول عائلة مجرم قاتل كان يملك نصف المحلة و اعطى اوامر برمي المتظاهرين بالرصاص و حرق و نهب محلات تجارية و مُسجّلة ضده عدة دعاوي قضائية . . كان تارك زوجته و بيته و عايش مع عشيقته في فندق بور سعيد، و بعد ان اشتكت عليه زوجته لأنه لا يرسل لها مصرف للعائلة، اخبرها بأن تترك البيت و الاغراض اللي فيه لأنها زبالة و سينشغل بها المستأجر الجديد، و احنا ساعدنا عائلته على الانتقال من المحلة بعد جاءت دخيل عندنا . .
انتبهت الوالدة الى صدق كلامه و هو يقول :
ـ حجية حضرتج ماتفكرين بحقّك و بحق عائلتكم ؟!! يعني يشرّدون عوائلنا وعوائلنا تهرب راضية بمصيرها لأنها تدعو الى احقاق الحق . . بالله عليكي اين الظلم ؟ الا تفكرين من هو الظالم الأصلي ؟ و انت الدارسة و من بيت محترم . . اشلون لعد تستطيعين تحصلين على حقوقك، مو حرقوا بيتكم ؟؟ (يتبع)

5 /5 /2022 ، مهند البراك



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات الصبا ..الساطور! .12.
- الحرب في اوكرانيا . . و منطقتنا ! .4.
- الحرب في اوكرانيا . . و منطقتنا .3.
- الحرب في اوكرانيا و منطقتنا . . .2.
- الحرب في اوكرانيا . . و منطقتنا .1.
- ذكريات الصبا.. و حرقوا البيت! .11.
- ذكريات الصبا .. الإغتيال .10.
- ذكريات الصبا.عفا الله عما سلف.9.
- ذكريات الصبا..اعتداءات و آراء .8.
- ذكريات الصبا..زمن الاغتيالات .7.
- ذكريات الصبا..اعتداءات و تشريد .6.
- ذكريات الصبا..اول ايار 1959 .5.
- ذكريات الصبا.. ابو الهوب .4.
- ذكريات الصبا..الملا مصطفى .3.
- ذكريات الصبا الخال مزهر.2.
- ذكريات الصبا..14 تموز .1.
- ذكريات طفولة..مظاهرات قلبت موازين .16.
- ذكريات طفولة.. قصر الرحاب 15
- ذكريات طفولة..اخافة الوصي .14.
- مذكرات طفولة.. العراق المنصدك .13.


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات الصبا..عباس شكاره .13.