أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام عبود - العودة الى آل ازيرج















المزيد.....



العودة الى آل ازيرج


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1628 - 2006 / 7 / 31 - 11:31
المحور: الادب والفن
    


(الى روح خالتي نورية, ابنة تلك البقاع المغدورة!)

صاح أبو محمد، وهو يسير على ضفة النهر، ساحبا القارب بحبل طويل:
­ تعبت، الهواء شديد، والعاقول قطّع رجليّ! ردّ عليه مراقب الفرقة الصحية مجيد خلخال، وهو يجلس في منتصف القارب: ­ ماذا تقول؟ لانسمعك! أجابه قاسم أبو الليل، الذي كان يتولى مهمة تسريع حركة القارب وإبعاده عن حافة النهر بعصا الدفع الطويلة، المردي: ­ يقول إنه تعبان, والهواء شديد. صاح مراقب الفرقة مجيد بأعلى صوته: ­ تحمّل, قريبا نصل، إن شاء الله! قال حسن معارك، الذي يجلس في مؤخرة القارب، موجها حركته، والذي كف عن الغناء منذ أن شعر باشتداد الرياح: ­ " ناحية السلام " بعيدة. ­ صحيح، " ناحية السلام " بعيدة، لا يمكن الوصول اليها في هذا العجاج والهواء القوي.
عقّب قاسم أبو الليل، وهو يمرد القارب بمشقة، ويؤكد كلام حسن، ويسعى لاستفزاز المراقب، وإشعاره بنقص خبرته، وسوء تصرفه. لكن المراقب مجيد خلخال لم يجب. بدا مثارا وحائرا في نفس الوقت؛ مثارا من كثرة تعريضات قاسم، الذي يظن أنه يتفوق عليه لمعرفته الدقيقة بطبيعة المنطقة، مستخدما هذه المعرفة سلاحا ضده، منذ أن بدأت فرقتهم الخاصة برش المبيدات بالتوجه الى موقعها في ناحية الخمس! وهو حائر لأنه لا يستطيع أن يجزم بمعرفة ما يدور في نفوس المرافقين له. هل يسعى هؤلاء الفلاحون اللؤماء، الذين يعملون تحت إمرته الى تضليله، والضحك عليه؟ أم أنهم صادقون، وأن سلوكهم معه هو مجرد تصرف عفوي؟ وغير هذا، فإنه هو الذي أرغمهم على التوجه الى " ناحية السلام "، من دون رغبة منهم، ومن دون سبب واضح يقنعهم. فقبل ما يقرب من ساعة، عادت فرقة رش المبيدات الخاصة بمكافحة بعوض الملاريا من جولتها اليومية في عنق الهور، في المناطق المحاذية لناحية الخمس، في محافظة ميسان. وعند وصول الفرقة الى الناحية، سلّم أحد سائقي الزوارق البخارية المراقب مجيد خلخال رسالة، وقال له إنه استلمها من أحد مشرفي الصحة في القضاء. وحينما فتح مجيد الرسالة، بدت عليه علامات الاضطراب والحيرة. وقف أمام العمال التابعين لفرقته وقال: ­ اسمعوا يا جماعة! أنا أعرف أنكم متعبون, لكن المشرف الصحي المسؤول عن مكافحة الملاريا وصل اليوم الى " ناحية السلام "، وهو يريد مقابلتي لسبب ضروري يتعلق بالعمل. قال ذلك وهو يحاول أن يلمس وقع كلامه على وجوههم. لم يجب أحد منهم, فأحس بشيء من الارتياح. لكن شعوره بالارتياح لم يدم طويلا. فلم يمهله قاسم, كما هو متوقع. فبعد صمت قصير، قال قاسم بغبطة واضحة: ­ نعم تستطيع أن تذهب إذا كان ذلك ضروريا! لا تقلق على فرقة الرش، لا تقلق! أنا أستطيع القيام بالعمل بدلا منك! فأنا أعرف طريقة ملء الاستمارات الخاصة بالرش! قمت بمثل هذا العمل للمراقب السابق حينما مرض! ­ لا! نطق المراقب مجيد بحدة، ثم أضاف: لن أذهب لوحدي! سنترك هنا عاملين من الفرقة مع المعدات، ونتوجه نحن الأربعة . أنا وقاسم أبو الليل وأبو محمد وحسن معارك الى " ناحية السلام " الآن! تململ العاملون، لكنهم لبثوا صامتين، عدا قاسم الذي اعترض قائلا: ­ لا أظن أننا نستطيع أن نصل في هذا العجاج. المسافة طويلة، والغبار يمكن أن يشتد! تستطيع أن تشمه! أنا أشم رائحته. ­ هذا صحيح. تمتم غير واحد من العاملين، بمن في ذلك أبو محمد الذي لا ينطق أبدا. ­ تريدني أن أذهب لوحدي وتتولى سيادتك إدارة الفرقة بدلا مني، ها ؟ قال مجيد خلخال بانفعال, موجها الكلام الى قاسم.
­ ظننت أنك ستذهب في المركب البخاري، وليس في قاربنا! رد قاسم أبو الليل، بينما أخذ المراقب مجيد يفكر جديا في موضوع المركب البخاري، وهمّ أن يقول إن قاسم على حق. لكنه تذكر أن آخر مركب بخاري، لنقل المسافرين, غادر تواً، ولن تتحرك المراكب الأخرى إلا صباح الغد. وإذا استأجر مركبا خاصا لوحده، فسيبدو أمره شاذا، وربما أثار شكوك الآخرين في شخصه وأفعاله. فمن الصعب إقناع العاملين معه بأهمية وضرورة الرسالة التي تلقاها، وهل تستحق أن يستأجر قاربا بخاريا كاملا من أجلها! " لا، لن أفعل هذا! ربما سيثير هذا التصرف شكوك عمال الفرقة، وكذلك الفلاحين في المنطقة. وربما يكون هذا التصرف مخالفاً للأوامر الرسمية!" كان مجيد يجادل بتوتر واضح وعقله مشغول بالأمر العاجل الذي حوته الرسالة، والذي يقتضي منه التوجه فورا الى " ناحية السلام " هذا اليوم، لسبب عاجل يخص المهمة الموكلة اليه! فكر في ذلك وقرر بحزم قائلا: ­ لا توجد مراكب بخارية الآن، لا بد أن نذهب في قاربنا. هذا هو رأي السيد المشرف الصحي، كما هو مكتوب في رسالته. ومن يريد أن يخالف أوامر الحكومة فليفعل ما يحلو له! ألقى كلماته في وجوههم ولم ينتظر منهم جوابا. توجه نحو القارب، فتبعه أبو محمد صامتا كعادته، ولحق بهما حسن معارك وهو ينظر الى قاسم, الذي خطا بتثاقل نحو القارب طائعا، مبديا علامات الاستخفاف. انساب القارب الطويل, متّجها نحو " ناحية السلام ", شاقا له مجرى رهيفا في النهر الهادىء, وريح خفيفة تضرب قيدومه، فأحس مجيد بالنشوة لأنه استطاع أن يجبرهم على الانصياع الى أوامره، والأكثر من هذا لأنه يتوجه الآن نحو مركز الناحية, لكي يستلم المهام الجديدة التي انتظرها منذ أسابيع، والتي يتلهف بقلق وخوف الى تسلمها. شيء غريب، متناقض، لا يفهمه يهيمن على مشاعره. فهو يريد ولا يريد. يريد بشوق تسلم الأوامر لكي يثبت ذاته، وينزع وجه الود الزائف المغلف بالتسامح، وجه الضعف والذل, الذي يلبسه مثل القناع, ويتجول به في أوساط الفلاحين. يريد أن يظهر على حقيقته، يظهر للجميع بصوته الآمر وكلماته الرجولية النافذة. لكنه من ناحية أخرى يود أيضا أن تمر الأيام، كما مرت الأيام السابقة، هادئة، خالية من المخاطر. فكم أرّقته، خلال الأيام الماضية، صورة الجثة الغريبة المتعفنة، الماشية مع التيار دون هدي, التي أكلت الأسماك أطرافها، ولا أحد يجرؤ على التقاطها! تلك الجثة العجيبة، التي لبثت في خياله, كجزء من بقايا القصص التي روتها أمه لهم وهي تذكرهم بموطنهم القديم، والتي أخذت تطفو على سطح أحلامه كلما أغمض عينيه وهو ينام وسط مجموعة من البشر لا يعرفهم معرفة أكيدة. بشر لا يثق بهم, ولا يثقون به! " ولكن، كيف يمكن أن أتغلب على هذا المزعج, الجاهل قاسم، الذي يقلق راحتي في كل حين، والذي يكاد أحيانا يدفعني الى التهور؟ والله, والله! لو يقف أمامي لحظة واحدة، لحظة واحدة، وأنا على حقيقتي، وأنا لا أحمل هذه الصورة الغبية الذليلة، صورة مراقب الفرقة الصحية! حينئذ سأنظر الى عينيه المذعورتين وأنا أضغط على رأسه الوسخ بحذائي" " ولكن لماذا يفعل قاسم كل ذلك؟ هل بسبب كونه المستخدم الوحيد, الذي يجيد القراءة والكتابة، أم لأسباب أخرى خفية ؟ أيتباهى بنفسه, أم يهدف الى النيل مني؟ " المعلومات التي تلقاها عن قاسم لا تختلف عن غيرها من المعلومات, التي قدمت عن زملائه العاملين في الفرقة. جميعهم فلاحون سابقون، وهم أيضا فلاحون موسميون، وعمال موسميون، أميون، لا صله لهم بالسياسة، ولا يفقهون من العالم شيئا، عدا قاسم الذي يعرف القراءة والكتابة، لكنه لايختلف عنهم. فأبو محمد أكبرهم سنا, أب لستة أطفال، شخص صامت, قلما ينطق. أما حسن معارك فهو أب لثلاثة أطفال، قليل الكلام, حاله كحال أبي محمد، إلا أنه يعوض الصمت بالغناء وببعض الدعابات السريعة, المقتضبة! لذلك فهو أكثر الجميع تميّزا، وأكثرهم انقيادا الى قاسم, الذي تربطه به صلة عشائرية. والجميع من قضاء واحد هو قضاء الميمونة، الواقع في الطريق الى الأهوار، والذي يشرف إداريا على ناحيتي السلام والخمس. "آه، لو يقع هذا الكلب بين يديّ يوما!!! ؟" انقطع الحوار الذي أقامه مجيد خلخال مع نفسه حينما أحس برائحة الغبار تملأ أنفه، ثم شعر أن الريح بدأت تزيد من سرعتها، وأصبحت تحد من سير القارب، وترطمه من حين الى آخر بالجرف الطيني. أما النهر فقد فقد هدوءه، وأخذ يتلوى تحتهم هازا قاربهم، بضرباته الغاضبة. توقف حسن معارك عن الغناء، وأشار الى قاسم, الذي التفت اليه مبتسما وهو يشاهد سحابة الغبار, التي غطت الفضاء البعيد وأخذت تطوق السماء القريبة منهم. لم يفهم مجيد خلخال مغزى تلك الإشارات والإيماءات الصامتة, المبهمة, التي أخذ العاملون تحت امرته يتبادلونها. ولكن ما هي إلا دقائق حتى غدا الفضاء قطعة من غبار وسترا كثيفا ورديّ اللون. فجأة، أطبقت السماء على الأرض، فانعدمت الرؤية، وساد صمت مريب، لم يقطعه سوى عويل الريح، وكلمات أبي محمد الشاكية، وعواء الكلاب المضطربة، التي أثارت العاصفة الترابية ذعرها! " من يُصدق هذا!!؟", فكر مجيد وهو يلف غطاء رأسه حول وجهه.
فقبل ساعة واحدة من الآن، ساعة واحدة فحسب، حينما كانوا في عنق الهور، شاهد مجيد منظرا يشبه الحلم:
كان قاربهم الثقيل يسير سلسا، رشيقا، مثل سمكة ضخمة، مرحة، شاقا لنفسه مجرى رقيقا وسط زهور بديعة طفت فوق سطح الماء وكونت سجادة سحرية مطرزة بالأبيض والأخضر والأصفر. فردوس إلهي خلاب يغفو على وجه الماء على امتداد البصر، ينشرفي الهواء عرفا فريدا. جدائل خضر مرصعة بلآلئ صفر وبيض، تعوم فوق السطح الأملس للسماء المضيئة المنعكسة على صفحة الهور الفسيح. وحينما استدار مجيد ناظرا الى الجهات الأربع، شاهد طوقا لا نهائياً من البهاء. لوحة خفية صنعتها يد ماكرة، وأخفتها بين ممرات القصب والبردي. شيء ما هتف في أعماقه قائلا: "إنها الجنة! جنة الله العجيبة، العائمة على وجه الماء!"
لكنه يحس الآن بالاختناق، وبصمت مرافقيه المريب، وبالعواء المضطرب للريح والكلاب، وبهذا الغطاء الخانق من الغبار, الذي يلف الكون, ويوقظ مشاعرالخوف والحيرة. "هل يُعقل هذا ؟ هل يُعقل أن ينقلب العالم في لحظة واحدة، من جنة ساحرة الى قطعة معتمة من الغبار؟" الأيام القليلة الماضية، التي عاشها مجيد هنا، منذ أن كلف بالعمل كمراقب في فرقة رش المبيدات، جعلته يعتقد أنه خبر وحفظ كل شيء عن ظهر قلب. حفظ الطرق المائية، وخبر دواخل الناس وطباعهم، بما جمعه من معلومات عنهم، وبما سمعه من أهله الذين هم في الأصل من فلاحي هذه المنطقة قبل أن يهاجروا, قبل عقود, الى العاصمة بسبب الفقر وجور الإقطاعيين. وكم أبهجه إحساسه بأنه أصبح عارفا، ملمّا بشؤون المنطقة في وقت قصير جدا! لكنه الآن يحس بشيء ما يقبض النفس. شيء مريب، وغامض. فجأة، ارتطم قاع القارب بالأرض، فارتج القارب ارتجاجا عنيفا، وتمايل موشكا على الانقلاب، لكنه توقف حافرا جرحا في الجرف الطيني اللزج. غرز قاسم العصا في طين الجرف وقفز الى الشاطئ وهو يقول:
­ لا نقدر أن نسير أكثر، سيبلعنا العجاج! ­ وماذا يجب أن نفعل؟ تساءل مجيد خلخال، وهو يحاول العثور على حل سريع. قال ذلك وهو ينظرالى الهيئات المغبرة لمرافقيه، الذين قرروا, كما يبدو, عدم مواصلة السير. ­ عندنا حل واحد: ننتظر هنا حتى الصباح. رد قاسم وهو يقف الى جانب أبي محمد على ضفة النهر. وقبل أن يتم كلامه قفز حسن الى الشاطئ ووقف الى جانب زميليه. أحس مجيد أنه عاجز عن قول شيء، فقفز هو الآخر من القارب، وانضم اليهم, فراحوا يسحبون القارب نحو الأرض اليابسة. توقفوا صامتين متلاصقين مثل كتلة واحدة وهم يصغون الى مصادر أصوات الكلاب. لبثوا بضع دقائق حائرين، ثم توجهوا، يتقدمهم قاسم، نحو الأكواخ القريبة الملاصقة للشاطئ، التي بدت مثل قباب من غبار في مدن دوارس، تلاحقهم زمجرة الريح وعواء مجنون لكلاب مستفزة. دخل قاسم أحد الأكواخ المبنية من القصب، فتبعه الآخرون.
# # # # # #
صمت مريب، وظلمة غريبة. ظلمة مخلوطة برائحة الأتربة والخوف تتسلل من فتحات الكوخ القصبي، في الجزء الخاص بالضيوف من الكوخ " الربعة". وخارج الربعة ينتشر عالم أكثر غرابة وغموضا. ريح مزمجرة، عواء هستيري لكلاب ثائرة، وعتمة وردية اللون تصبغ الأرض والسماء. ليل مبكر! نظر مجيد الى زملائه الذين جلسوا متجاورين، كأنما يحتمون ببعضهم، وفكر أن يسأل عما يجب فعله. لكنه خشي أن يتندر عليه قاسم، فظل ساكتا يراقب صمتهم، وينصت بقلق للعواء القادم من خارج الكوخ. "هل يتشاورون ضدي؟" فكر مجيد، لكنه استبعد ذلك. "لماذا يفعلون ذلك ؟ هل اكتشف أحدهم مهمتي السرية التي جئت من أجلها؟ لا، هذا مستحيل! كل شيء دبر بإحكام! لا يمكن لفلاحين بسطاء، من أمثال العاملين معي معرفة وضعي. لا، لا يمكن لهم ذلك! فكل شيء سار سيرا طبيعيا في الأيام الماضية، كما خُطط له من قبل قيادة الفرقة. وربما يكون ما حدث هذا اليوم هو أول امتحان صعب يواجهني، لكني حتى الآن لم أواجه ماهو خطير سوى مناكدات قاسم، وتلك الوشوشات المبهمة التي يتبادلها الملاعين الثلاثة بصمت من حين لآخر، وهم ينظرون اليّ من خلف ساتر العتمة الذي يفصلنا عن بعضنا" " يجب، ويجب أن يتحلى كل واحد منكم بأعلى درجات ضبط النفس "، تذكر مجيد كلمات ضابط الأمن، المكلف بتدريب شبكة جهاز المطاردة الِصدامي، التي أعدت بعناية من قبل القيادة الأمنية، والتي دربت لكي تزرع في جميع بقاع العراق النائية، وعلى وجه التحديد، في الأهوار والجبال. مجيد خلخال أحد الذين اختيروا لهذه المهمة، من بين أشخاص لهم مواصفات خاصة، دُرسوا بعناية بالغة. فمجيد، الذي يسكن في مدينة الثورة، تم انتقاؤه للعمل في هذه المنطقة، نظرا لتحدر أهله من هذه البقاع، ولوضعه الاجتماعي الكادح. وقبل أن يرسل الى هنا, مكث فترة قصيرة في مدينة العمارة، وتعرف على أهل المدينة، ثم بدأ يستعيد لهجة المنطقة التي تلوثت لديه بلهجة العاصمة عند انتقال أهله اليها. وها هو الآن جاهز تماما لأداء واجباته على أكمل وجه. مهمته الراهنة, حتى حتى هذه اللحظة, تتركز في معرفة عادات الناس وطرق المرور الى الأهوار وسط ريف " ناحية السلام". أما مهماته اللاحقة، فهي في علم الغيب. لم يستلمها بعد. وسيقوم بتنفيذها فورا، على ضوء الأوامر التي ستصله مموهة، تحت اسم المشرف الصحي في القضاء. " يجب عليكم، دائما، أن تنسوا أنفسكم، وتتخلوا عن أنانيتكم، وتتفرغوا تماما الى ما يمليه عليكم الموقف في المهمة التي تسعون لتحقيقها. إعلموا أن المبادرة الجريئة، الصائبة، المدروسة، تقود الى نتائج محققة!" ظهر له وجه ضابط الأمن في العتمة، ثم اختفى بلمح البصر، ليحل محله وجه غامض، معتم، مليء بالغبار يجلس أمامه مباشرة وسط صمت له فحيح. صمت مخيف، مثل عواء الكلاب النابحة خارج الكوخ. "ما المهمة الآن يا ترى ؟" تغلب مجيد على شعوره هذا وتوجه بالحديث الى زملائه الثلاثة، وهو ينظر باتجاه كتلة قاسم الغامضة: ­ لم يأت أحد ياجماعة، أخشى أن نكون دخلنا مكانا مهجورا! لم يجب أحد. ­ هل نترك هذا المكان ونبحث عن آخر؟ أضاف مجيد، ولم يجب أحد أيضا, فخمن أن قاسم يريد منه سؤالا أكثر مباشرة، لكي يجعله يحس بأهميته. لكن قاسم تململ قليلا، ثم قذف كلمات يابسة في العتمة: ­ الرأي رأيك. "يريد الكلب أن يوقعني. ولكن، الرأي رأيي. نعم, الرأي رأيي. أنا الذي يملك القرار يا قاسم الكلب, وليس أنت. نعم أنا, أنا. ولكن ما الرأي الصواب؟" فكر مجيد وهو يغالب شعورا بالحيرة ظهر على وجهه ناطقا صريحا، لكنه حُجب عن الآخرين بفعل ستار العتمة. " لو خرجنا من هنا فالى أين نولي وجوهنا! وهل نجد مكانا آخر في هذا الجو المظلم المترب؟ ولكن، الى متى ننتظر في الظلمة، في هذا المكان الذي يثير الخوف، ويقبض النفس؟ وإذا كان هناك سكان في هذا البيت فلماذا لم يأتوا لمقابلتنا، كما هي عادة الناس في هذه الأماكن؟" يحفظ مجيد جيدا القصص العجيبة التي رواها له أبوه وأمه وأقاربه عن أهله في موطنهم القديم, في أهوار "ناحية السلام ". يعرف الكثير عن جوعهم وفقرهم وكرمهم، الذي لم يكن أقل غرابة عن حياتهم القاسية. وخلال الأيام القليلة الماضية التي قضاها في المنطقة، أخذت تتجسم أمام عينيه تلك الحكايات الخيالية على هيئة بشر حقيقيين، كصور محسوسة من عالم الواقع, وليس من صنع الخيال وعالم الحكايات. ففي كل يوم يبيتون في بيت جديد، يأكلون وجباتهم في بيوت لا يعرفون سكانها, يستقبلهم فلاحون فقراء معدمون، يتسابقون لتقديم أفضل ما يملكونه من طعام لبشر مجهولين, غرباء. " ... ولكن لماذا لم يأت أحد من أهل البيت حتى الآن؟ هل...؟ لا، لا يمكن! فأنا لم أستلم الأوامر، ولم أباشر مهامي الخاصة بعد. فلا يمكن لهم أن يشكوا فيّ؟ ولكن، لا بد من عمل شيء، لا بد أن أقرر، فأنا صاحب القرار هنا، والرأي رأيي. لا يوجد أحد يسكن هنا، وإن وجد فمن الواضح أنه لا يريد مقابلتنا. لا بد من إيجاد مكان آخر" ­ يجب أن نتوكل على الله, ونبحث عن مكان آخر نبيت فيه. قال مجيد، وهو ينهض، بينما لبث الثلاثة جالسين، وهم يرددون، معا: ­ الأمر أمرك! وقبل أن ينهضوا لاح ضوء مترجرج قادم من خلف الربعة. ثم فجأة، دخلت هالة من الضوء الى الربعة. ظهر فانوس نفطي مضيء، وخلفه سار طفل في الثامنة من عمره، يلبس دشداشة سوداء اللون مغبرة. تقدم الولد، مثل كتلة معتمة مؤطرة باللهب، وقال: ­ السلام عليكم! ­ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته! رد الجميع وهم في حالة وقوف واندهاش. ­ أهلا بكم! قال الصغير، وهو ينظر الى الوجوه الغريبة، ثم قدّم الفانوس الى أبي محمد، الذي فهم، من غير كلام, مهمته. أخذ الفانوس من الولد وعلقه في وسط الربعة، فانتشر نور محمر، واهن، بدد العتمة، وأنار الوجوه التي بدت مسربلة بالغبار والحيرة والقلق. ­ سأجلب لكم الماء والبُسُط. قال الصغير وخرج. بعد لحظات عاد الطفل حاملا بساطا ناوله لأبي محمد أيضا. ثم أخذ يذهب الى خلف الربعة ويعود كل حين بحمل جديد، كان معدا ، كما يبدو، في مكان قرب القاطع الذي يفصل الربعة عن البيت. تعاون قاسم وحسن وأبو محمد على فرش البسط فوق الحصائر المصنوعة من القصب والبردي، التي تغطي أرض الربعة. ثم وزعوا الوسائد، وأخذوا إبريق الماء وناولوه الى مجيد. ­ تفضل، لنغتسل! توجه الأربعة الى خارج الربعة وشرعوا يزيلون الغبار المتراكم على وجوههم وفي أفواههم. عادوا الى الكوخ فوجدوا العشاء موضوعا وسط الربعة, أما الطفل فقد جلس في ركن منها. وحينما اقتربوا وقف الطفل قائلا: ­ باسم الله! نظر الأربعة الى وجوه بعضهم والحيرة تملأ نفوسهم.
لكن مجيد خلخال, رغم حيرته, أحس بارتياح مفاجئ. فلم يكن هو وحده من تملأ الحيرة روحه. "حتى قاسم الكلب، الحقير، حائر مثلي!" فكر مجيد حينما جلسوا حول صينية الأكل الموضوعة على الأرض. وقبل أن يبدأوا في مد أياديهم، التفت أبو محمد الى الصغير، وقال له:
­ ما اسمك يا وليدي؟ ­ علي.
­ نِعمَ العلي أنت! ألا يتفضل أحد من أهلك ليتناول العشاء معنا؟ ­ لا، لقد تعشينا. ولكني قاعد معكم. كلوا، باسم الله! رد علي وعيناه الصغيرتان، البرّاقتان، تخبّئان مكرا وخجلا واضحين! أكلوا بصمت. وحينما انتهوا من العشاء بادر أبو محمد الى لمّ ماتبقى الطعام، وساعد علي في جلب ماء الغسيل. ثم أحضر علي لوازم الشاي, ومنقلة فيها جمر مشتعل, في وسطها إبريق أسود مليء بالشاي. وحينما اطمأن الصغير الى أن ضيوفه شبعوا, وأن أبا محمد عرف دوره جيدا، غادر الكوخ وتركهم يتدبرون أنفسهم بأنفسهم. مددوا أرجلهم باسترخاء وهم يشعرون بالارتياح والشبع، والأهم بشيء من الطمأنينة. أما مجيد خلخال فقد بدأت الأسئلة تتقافز وتتلوى في دماغه مجددا، من دون أن يجد لها أجوبة. بعد دقائق عاد علي يحمل كتبا مدرسية ودفاتر، ثم جلس في الركن نفسه، الذي كان يجلس فيه من قبل. تململ قاسم، ثم زحف نحو علي وهو يقول:
­ هل تريد أن تقرأ لنا شيئا مسليا ؟ ­ لا, ليس الآن. أجاب علي، وأضاف: هذه كتبي وكتب ابن عمي. سأل مجيد خلخال: ­ في أي صف أنت يا شاطر؟ ­ في الثاني. أجاب علي وناول كتابا ودفترا الى قاسم، الذي أظهر أمارات جد مفتعل، وهو يقول: ­ سأشرح لك الدروس. قلّب قاسم صفحات الكتاب. شاهد دوائر ومربعات وأسهما ورسوما صغيرة مطوقة بالدوائر الملونة, لم يفهم منها شيئا. ناول الكتاب, وهو يداري خجله, الى مجيد خلخال وقال مخاطبا علي ومجيد في الوقت نفسه: ­ تفضل، إقرأ له! أنا على ما يبدو لا أكثر من فليليح أثول! نطق ذلك وهو يضحك، فضحك علي وشاركه أبو محمد وحسن في الضحك. نظر مجيد الى الكتاب، وسأل علي: ­ ما الذي تريد أن أقرأ لك ؟ ­ الرياضيات الحديثة صعبة! ­ أي زمان هذا؟ رياضيات حدَيثات! قال قاسم مندهشا، وهو يوجه كلامه الى حسن وأبي محمد. ثم أضاف: أي زمان هذا يدرّسون فيه الأطفال الرياضيات الحدَيثات. حدَيثات أو عجائز كيف يلعبن الرياضة؟ ماذا يستفيد التلاميذ من لعب البنات, الحدَيثات؟ ربما يلعبن الملاكمة أيضا! من يدري؟ هأ... هأ... حينما سمع حسن ضحكة قاسم سرت فيه عدوى الضحك، لكن علي التفت الى قاسم وقال: ­ هذا حساب، حساب يا عمي. نطق علي الكلمات بثقة، ثم توجه نحو مجيد وأشار الى صفحة في الكتاب. نظر مجيد في الصفحة وابتسم: ­ الرياضيات تعني الحساب, والحدِيثة تعني الجديدة, وليس البنت, الصبية. نطق مجيد ذلك بزهو وسكت, محاولا الاستمتاع قدر ما يستطيع بطعم الفوز الذي حققه على قاسم. لكنه حينما رأى الصور المعقدة المرسومة في الكتاب أعاد الكتاب الى علي على عجل، كمن يود التخلص من ورطة محتملة. نظر الى الآخرين وأضاف بلهجة واثقة: هذا درس في الحساب. أعاد الكتاب الى علي ثم أخذ الدفتر المرافق للكتاب. نظر الى صورة الغلاف، التي تحتل منتصف الدفتر، على شكل دائرة يظهر في وسطها وجه وسيم بعيون قلقة، لامعة، وابتسامة خفيفة غامضة، وقال: ­ إذا كنت تعرف القراءة, إقرأ لنا ما هو مكتوب تحت الصورة وفوقها. أخذ علي الكتاب، وشرع يقرأ قراءة بطيئة مفككة: ­ هنا، فوق، في الأعلى، مكتوب أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وحدة حرية اشتراكية. وتحت الصورة مكتوب السيد صدام حسين رئيس مجلس قيادة الثورة رئيس الجمهورية العراقية. ­ وفي الخلف، ماذا مكتوب؟ سأل مجيد بفرح وهو يسمع الطفل يقرأ شعارات الحزب واسم القائد. قلب علي الدفتر ونظر اليه، ثم قال: ­ هذا كلام صعب لا أفهمه. ­ إقرأ... إقرأ، أنت شاطر! قال مجيد مشجعا، فأخذ علي يقرأ قراءة مفككة، متعثرة:
لا نريد أن نضع كتابا في المكتبة وإنما نريد أن ننقل الكتاب الى الحياة وأن نعزز الكتاب ونطوره بالحياة فالعلم بالنسبة لنا في حالة انسانية... حالة تستخدم في خدمة الانسان.
توقف على ثوانيَ ثم أضاف: تحت هذا مكتوب ان روح النصر موجودة عند طلبة المدارس من الفتيان الذين يلدون... ­ يلحّون. قال مجيد مصححا ، فعقب قاسم قائلا وهو يبتسم: ­ يعني إلحاح، ملحّة! عاد علي يقرأ وهو يتلجلج: ­ ... يلحّون علينا ويطالبوننا بارسالهم الى الجبهة. الرئيس القائد صدام حسين. وتحتها مكتوب انتاج المنشأة العامة للصناعات الورقية. معمل الدفاتر المدرسية . التاجي ­ يوزع مجانا. هذا كل شيء.
صفق مجيد بحماسة. سرت عدوى التصفيق في الآخرين, فشرعوا يصفقون.
على الرغم من بادرة التشجيع, غير المتوقعة, التي حصل عليها علي, إلا أنه ظل يحس بالاضطراب والخجل, لأنه قرأ الكلمات قراءة متعثرة، مختنقة، حتى كاد نفسه ينقطع، ويضيع صوته في جوفه. نهض على عجل وقال: ­ إذا احتجتم شيئا نادوا عليّ! ولو رجع جدي من السوق سيأتي لمسامرتكم. جدتي تقول إنه في الطريق الآن، ربما أخّرته العاصفة الترابية. وقبل أن يذهب الطفل، أمسك قاسم بيده وجره اليه مداعبا، وهو يقول: ­ هل تضايق منا أبو حسين؟ ­ لا، بالعكس، ولكني لا أريد أن أزعجكم أكثر. رد علي وهو يستجيب لضغط قاسم عليه ويعود للجلوس الى جواره. تلقف قاسم العبارات التي تفوه بها علي، وفسرها على طريقته، وفكر في أن يستدرجه في الكلام، لكي يتحقق مما خطر في باله من أفكار! وحينما جلس علي بادره قاسم متسائلا: ­ هل أنت أكبر أخوتك ؟ ­ أنا أكبر الأولاد. لكن لدي أخت أكبر مني، وكذلك لدي أخوان أصغر مني. ­ إذاً أنتم أربعة أطفال في البيت. ­ في بيتنا، نعم أربعة. ولكن في بيت عمي, الملاصق لبيتنا, يوجد خمسة. بنتان كبيرتان, أكبر منى، وثلاثة أولاد, إثنان أصغر مني, وواحد أكبر مني, ذهب مع جدي الى السوق. فكر قاسم لحظات في أجوبة علي. جمع وقسّم وضرب الأعداد التي في مخه، فوجد أن الجواب واحد. أعاد تحليل الأمور، لكنه لم يصل إلا الى نتيجة واحدة: "لا أحد في البيت سوى النساء والأطفال!" اقترب قاسم من حسن وأبي محمد وأسرّ اليهما بما توصل اليه، فهزا رأسيهما بالموافقة. اتفق الثلاثة على مغادرة الكوخ بأسرع ما يمكن، وإيصال شكرهم الى أهل البيت عن طريق علي، ثم التوجه للبحث عن مأوى آخر. وبعد أن تشاوروا في الأمر، أخبروا مجيد برأيهم، ولم ينتظروا رأيه، وإنما وقفوا، فوقف مجيد معهم استعدادا للمغادرة. تقدم أبو محمد من علي وقبله قبلتين وهو يقول: ­ عاشت اليد التي طبخت هذا الطعام، ودام عز أهل هذا البيت! نحن ذاهبون، بلغ أهلك شكرنا. نطق أبو محمد الكلمات بلباقة وسرعة، وقبّل علي مرة أخرى. لكن علي ملص نفسه من بين يدي أبي محمد وهو يقول: ­ لا! اجلسوا، يجب أن أخبر جدتي أولا. ألقى علي الكلمات على عجل وأسرع الى داخل الكوخ. ومن داخل الكوخ سمع الأربعة كلمة خشنة، غاضبة: " عيب! "، أعقبها كلام خافت. بعد لحظات عاد علي وقال: ­ جدتي تقول إنها لا تسمح لغريب، مسافر، أن يترك بيتها في مثل هذا الوقت وفي مثل هذا الجو. نطق علي ذلك مسرعا وعاد الى داخل الكوخ مجددا، فما كان من الأربعة إلا أن جلسوا، دون وعي، كأنما هم يمتثلون لذلك الصوت القوي، الآمر، الذي جاءهم من خلف الساتر القصبي: " عيب!" ظلت كلمة عيب تتردد في آذانهم ونفوسهم، مثل شتيمة. جلسوا صامتين، كما لو أن الكلمة مزقت وحدتهم، ودفعتهم الى الاختباء في دواخلهم. ولأول مرة ينفرد كل واحد منهم بنفسه، على عكس ما كان يحدث كل يوم. فمنذ أن بدأت فرقتهم بالعمل وهم ينامون معا، ويتحدثون أحاديث مشتركة حتى يأخذهم النوم. كان مجيد خلخال أكثرهم شغفا وميلا الى الاستماع والإصغاء لحكاياتهم المتشعبة. كان كثيرا ما يسأل مستفسرا عن أشياء يجهلها أو يود معرفة المزيد عنها. لكنهم الآن وحيدون، منعزلون، كما لو أنهم تلقوا أمرا بالصمت، أمرا صنعته العاصفة الترابية التي أخذت بالخفوت، وعواء الكلاب، التي لم تتعب من ملء الفضاء بنباحها المتواصل، وربما صنعه ذلك الصوت القوي، الآمر"عيب!" وفي الصمت الملون بنور الفانوس الأحمر الكابي لاح لمجيد خلخال وجه جدته سعدة، التي ماتت بعد سنوات من انتقالهم من "ناحية السلام" الى بغداد. تذكر الصورة الغامضة التي تركتها في نفسه وهو طفل: عصابة الرأس الكبيرة السوداء، ووشاح الوجه والرقبة الأسود، ونقاط الوشم الزرق التي تطرز وجهها. حاول أن يتذكر كلماتها وصوتها الذي نطقت به آخر كلماتها قبل أن تذهب الى السماء: " أعيدوني الى بيت القصب في أم كعيدة، وادفنوني قرب "الايشان"، مع أمي ، خلف شجرة التين..." فكر مجيد. "هل يشبه صوتها هذا الصوت القوي، الذي جاء من خلف الساتر القصبي؟" بدأ شخير حسن يتعالى، ثم لحق به أبو محمد، بينما ظل قاسم يتقلب فراشه. أما مجيد خلخال فقد عاد يرى في الظلمة وجه جدته سعدة، ووجه علي الصغير المضطرب وهو يقرأ السطور بألفاظ متعثرة وصوت شبيه بالبكاء. ودشداشته! نعم، دشداشته السوداء! قرر مجيد أن يطرد هذه الصور المربكة من مخيلته. تحسس الرسالة التي في جيبه، وتذكر سطرها الأخير: "عليك التوجه فورا ، حسب ما هو مقرر، هذا اليوم. يجب أن تصل هذا اليوم من دون تأخير، فالأمر عاجل وهام جداً" " كيف سأفسر الأمر لهم؟ لا بد أنهم سيعذروني لأني تأخرت في الوصول اليهم. فهم يقدرون ظروف المرء في مثل هذا الجو. ولكن ماذا سيحدث لي لو أن الموضوع يتعلق بأمر ضاع عليّ وقت تنفيذه؟ ماذا سيحصل لو أن الأمر يتعلق بافتضاح شخصي، أو بأمر خطير آخر!" نظر مجيد بطرف عينه الى قاسم, الذي لما يزل يتقلب في فراشه مثل محموم، وعاد يصغي الى العواء المبحوح للكلاب المستفزة التعبة، والى وجودهم الغريب في هذا البيت الغامض، المريب، بيت لبشر من آل إزيرج. بيت ربما دخله غدا فاتحا النار من مسدسه، سريع الطلقات، قبل أن يجتاز بابه. قال له مسؤول الحزب في المنطقة، وهو حلقة الوصل بينه وبين بعض المتعاونين، التقاه سرا، كجزء من مهمته الرامية الى دراسة المنطقة: ­ هنا، في آل إزيرج يواجه الإنسان حالات شاذة لا يواجهها في أماكن أخرى من الريف العراقي. فعلى سبيل المثال توجد في كل منطقة كبيرة من مناطق العراق لجنة محلية للحزب الشيوعي العراقي، حتى في العاصمة بغداد، عدا محافطة ميسان! ففي زمن عبد الكريم قاسم كانت في لواء العمارة لجنتان محليتان، إحداهما خاصة بهؤلاء الفلاحين الكلاب، في هذه المنطقة. والأكثر من هذا أن السلطات في جميع العهود لم تتمكن من وضع مراكز شرطة ثابتة في آل إزيرج. لماذا ؟ السبب في غاية البساطة، لو وضعت الشرطة مركزا ثابتا هنا، فإن الفلاحين، كعادتهم، سيخافون أشد الخوف من منظرهم المرعب بأسلحتهم الحكومية ومعداتهم وقوانينهم وأوامرهم! لكنهم بعد يومين أو ثلاثة، سيدعونهم للغداء أو للعشاء، وسيدردشون معهم. وفي اليوم الرابع سيكتشفون أنهم لا يقرأون ولا يكتبون. وفي اليوم الخامس سيسألهم كاظم بدن مثلا إن كانوا يعرفون أو قد سمعوا بسلفادور اليندي، وسيريهم أبو دجلة في اليوم السادس قنينة الماء التي تحتوي على دودة البلهارسيا وهو يقول ساخرا: "حتى الدود لدينا يرقص الباليه!"
وفي اليوم السابع ننظر فنرى الفلاحين يمتطون ظهور شرطتنا مثل الحمير. لهذا السبب نحن نفضل أن تظل الشرطة بعيدة، لا تدخل هذه المناطق إلا في الحالات الضرورية، لكي نحافظ على هيبة السلطة في أعين هؤلاء الفلاحين الخبثاء. تصور، مثلا ، فلاحا معدما، ربما بلا نعال في رجليه، ولكن في جيبه قلم !! هذه هي آل إزيرج، التي تغص الآن بالعصاة والإرهابيين والمجرمين والقتلة والجنود الجبناء الفارّين من جبهات القتال! "نعم، هذا صحيح، من يستطيع أن يأمن هؤلاء! ومن يعرف كيف يفكرون، وماذا يضمرون ؟" فكر مجيد وهو ينظر بطرف عينه الى قاسم، الذي بدا هادئا، كما لو أنه نائم! ولكن، من يدري ؟
# # # # #
حينما فتح مجيد عينيه وجد نفسه متكورا على نفسه، تمسك أصابعه الرسالة المخبأة في جيب دشداشته بقوة. مد جسده ونظر بطرف عينه, فلم يجد قاسم في مكانه. أدار وجهه فوجد الثلاثة يجلسون في وسط الربعة وهم يأكلون بشهية مفتوحة وانشراح تام. أحس بالغيظ وبدفقة فوارة من الدم تصعد الى رأسه. رغب في أن يصيح: بماذا تتهامسون! لكنه أخفى غضبه وقال بنبرة عتاب: ­ لماذا لم توقظوني؟ رد قاسم وهو يواصل الضحك:
­ تركناك تحلم. ­ أحلم ؟ وكيف عرفتم أنني أحلم ؟ لم يجب أحد. لكن صوتا، غير مألوف صدر من أبي محمد. وكانت تلك أول مرة يسمع فيها مجيد أبا محمد يتحدث اليه مباشرة. ­ هل خفت أن نسرق فلوسك؟ نطق أبو محمد بوجه محير، لم يستطع مجيد أن يعرف إن كان مازحا أم جادا ، باكيا أم ضاحكا. ­ هل تقصد هذه؟ قال مجيد وأخرج الرسالة من جيبه، وأضاف محاولا تخفيف حدة الضغط عليه: ألعن هذه الرسالة الوسخة، وألعن أصحابها. لم نر سوى المصائب بسببها. قال ذلك وهو يتصنع الضحك ويوسع لنفسه مكانا بينهم، ثم شرع يأكل بشهية القشطة والخبز الخارج توا من التنور.
فرغوا من تناول الطعام, ثم قاموا وتوجهوا نحو القارب، الذي جرى تنظيفه من أتربة الأمس أثناء نوم مجيد، وأعيد وضعه في مجرى النهر. خطوا جميعهم نحو القارب. وفي طريقهم الى القارب توقف قاسم وحسن وأبو محمد حينما ظهر علي من خلف الكوخ. ساروا نحوه. قبّل أبو محمد وحسن الطفل، وشرع قاسم يتبادل معه الكلام، ثم انحنى فوقه بجسده الطويل وراح يقبله بقوة ويعانقه، كما لو كان يعانق صديقا سيفتقده طوال العمر. صعد حسن وأبو محمد الى القارب. أمسك أبو محمد بالمردي وحسن بالمجذاف، بينما لبث قاسم على الأرض يسحب القارب. اندفع القارب في النهر. أخذت هيئة علي الصغيرة تتضاءل، ثم تغدو مجرد لطخة سوداء تنتصب أمام كوخ ترفرف في أعلاه أعلام سود، صغيرة، مغبرة. قال مجيد لأبي محمد، وهو يرى الأكواخ تبتعد. ­ هل تقدر أن تعطي المردي الى حسن وتأخذ المجذاف بدلا منه ؟ ­ لماذا؟ رد حسن الذي سمع الكلام ولم يرق له. ­ أبو محمد تعب ليلة أمس من سحب القارب، هل تريدون أن تهلكوه؟ قال مجيد، فبادر حسن الى تغيير موضعه، وجلس بدلا منه أبو محمد في مؤخرة القارب، فأصبح أبو محمد على مقربة من مجيد، الذي لف له سيجارة وقدمها له، وهو يبتسم بود، وقال: ­ تقول انني خائف على فلوسي، ها ؟ ضحك أبو محمد، شاعرا بغبطة وهو يحادث المراقب. اغتنم مجيد غبطته فقال وهو يحاول أن يتعرف على الطريق أولا، ويسعى لمد جسور من الألفة مع هذا الرجل الصامت، الذي بدا له، الآن، شيئا لا يمكن تجاهله. ­ ما اسم هذه المنطقة ؟ ­ أم كعيدة. " أم كعيدة !"
انغرز الاسم مثل مسمار في روح مجيد. أم كعيدة! ردد في سره، ونظر الى ما حوله، الى بيوت القصب، التي ترتفع أمامها الأدخنة من المواقد نحو السماء، معلنة قيام فجر جديد. نظر الى الأرض الخضراء المزروعة بالرز، التي تطوق النهر، والى الخيول التي تلعب مع كلاب نُعّس، والى النسوة الريفيات، اللواتي يجذفن بحيوية في قوارب صغيرة, مسرعة, آتية من أماكن جمع البردي والأعلاف. نظر مجيد الى السماء الواسعة، الصافية، والى الماء الذي يعكس صورة القارب وهو يسبح في السماء. " أم كعيدة...! ولكن أين الايشان؟ أين قبورهم؟" ­ وأين الايشان؟ طفرت الكلمات من فم مجيد، فتلقفها أبو محمد مندهشا: ­ الايشان ؟ أي ايشان ؟ ­ الايشان الذي في أم كعيدة؟ نطق مجيد، ولم يجب أبو محمد لفرط دهشته. وبدلا من أن يجيب، عاد، فجأة، ليدخل في بئر الصمت التي اعتاد أن يغطس فيها. ضحك حسن معارك، الذي كان موقعه وعمله يعيقانه عن الغناء، فاكتفى بأن راح يتسقط أسئلة مجيد البلهاء. أدار جسده الى الوراء وقال: ­ توجد إيشانات في كل مكان. ­ والقبور؟ ­ القبور! استفسر حسن مندهشا ، ثم أضاف: وما علاقتها بالإيشانات؟ ­ هل تعني أنها تشبه القبور؟ قال أبو محمد، فهز مجيد رأسه، وهو غير واثق من إجابته، ساعيا لكيلا يظهر بمظهر المتسائل الغبي. ­ الإيشانات تختلف عن القبور. كل مكان مرتفع من الأرض هو إيشان. نحن نخاف منها. أما أنتم أهل المدن فتسخرون منّا، ولكنكم لا تعرفون أننا نخاف منها لأنها مسكونة من قبل الجن، وليس لأنها مقابر. هي كلها كانت مدنا في يوم ما ومحاها الله من الوجود. سخطها الله! نطق حسن وهو يقف في مقدم الزورق، ثم اعتدل في وقفته، ورفع المردي مثل رمح وطعن به الهواء وأضاف: انظر هناك الى الأكمة!! تلك الأكمة، هناك... ذلك ايشان. انظر جيدا! انظر خلف تلك الخيول الراكضة! خلف تلك التينة الكبيرة! قام مجيد على عجل، مدفوعا بقوة خفية. نهض من دون وعي مادا عنقه حيث أشار حسن، باحثا بوجه متلهف، صادق، قلق، عن الإيشان والتينة الكبيرة، عن قبور أجداده، وعن آثار أقدامه الصغيرة التي تركها هنا, حينما كان طفلا صغيرا. " يارب العالمين، أهي تينة جدتي سعدة! وهل تلك قبورهم خلف الإيشان؟ " قال مجيد في سره، لكنه ارتج وترنح مع تمايل القارب، وهوى في قعر القارب. حبس أنفاسه ثم عاد يجلس متشبثا بحافة القارب المتمايل خشية السقوط في النهر. تشبث بالقارب ولم يتمكن رؤية شيء, لا الإيشانات, ولا التينة، ولا قبور أجداده. لم ير شيئا من بقايا أهله، سوى وجه جدته سعدة ظهر له مبعثرا، مضطربا، وهو يطفو مختلطا بصورة السماء العائمة على سطح الماء. ­ كم كان بودي أن أقبّل علي وأودعه! قال مجيد، وهو يداري اضطرابه، في محاولة جديدة منه للتقرب من أبي محمد، ولإخفاء إخفاقه في رؤية الصور الغريبة، الغامضة التي ملأت أقاصيصها خياله. قال ذلك بصوت خافت هذه المرة، خشية أن يسمعه حسن، ويزج أنفه في ما لا يعنيه، ثم أضاف: ­ هو شاطر، أليس كذلك ؟ لم يجب أبو محمد، فاقترب منه مجيد أكثر وقال: ­ وهل شكرتموهم على حسن الضيافة؟ ­ نعم. نطق أبو محمد وسكت. ­ وماذا قلتم لعلي؟ قل لي بربك، فأنا أحس بالحسرة لأنني لم أودعه شخصيا، والسبب أنكم لم توقظوني. ماذا قلتم له! ها؟ قل بربك!؟ ­ لم نقل له شيئا. لكن قاسم سأله إذا كان جده رجع ليلة أمس. ­ وماذا أجاب؟ ­ قال إنه لم يرجع. ثم سأله قاسم عن أبيه، فقال: هو في الجبهة، ذهب الى الحرب. وبعد ذلك سأله عن عمه، لماذا لم يحضر للسلام علينا ليلة أمس, بما أنه يسكن معهم. ­ وماذا قال؟ ­ لم يقل شيئا خاصا. لكنه قال إن عمه ترك لديهم أطفاله الخمسة وزوجته وذهب الى الحرب، ثم جاؤوا به قبل أسابيع ميتا، ملفوفا بخرقة غبراء. رمى قاسم الحبل في القارب فتطاير رذاذ الماء. مسح مجيد نقاط الماء عن وجهه وهو يرى قاسم يقفز الى القارب برشاقة مثل قط. أخذ قاسم المجذاف من أبي محمد, الذي ابتلعه الصمت مجددا. أما حسن فعاد ليجلس وسط القارب، بعد أن مد يده الى النهر وارتشف عدة رشفات من الماء. ­ القارب لا يحتاج الى سحب الآن، والطريق صار سهلا. نقدر أن نجذف براحة نحو "ناحية السلام". قال قاسم. أما حسن فانطلق في الغناء، وهو ينظر الى السماء المقلوبة على وجه النهر، والى الماء الذي يجري هادئا. بينما كان مجيد خلخال، عريف الأمن في فرقة المطاردة والاغتيال، يمد يده نحو الرسالة الموجودة في جيبه. تحسس الرسالة فأطلقت خشخشة بين أصابعه، خشخشة تخدش الروح, كخشحشة الأفاعي وهي تمرق بين أعواد البردي.

# من مجموعة "العودة الى آل ازيرج"



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سنلتقي خلف منعطف النهر :::الى أخي كمال سبتي
- من الثورة الغادرة الى الثورة المغدورة
- من أجل مشروع ثقافي عراقي بديل.. جدل ثقافي ساخن على قبر يوسف ...
- لماذا يخشى السياسيّون العراقيون جدولة رحيل قوات الاحتلال؟
- جماليات فن التعذيب
- بريد الأنبياء الى أجمل الشهيدات:أطوار بهجت
- ما بعد جائزة نوبل للأدب, أزمة الذات الثقافية العربية
- الرابحون والخاسرون في معركة حرية التعبير - حول نشر صور الرسو ...
- عولمة الشر وتفكيك الديكتاتورية
- غرائز مسلّحة - ملاحظات على مقالة: أي نزار قباني يسلسلون ورسا ...
- أول حرب جنسية في التاريخ
- ارحلوا ايها الكلاب
- من كتب روايات صدام حسين؟ صدام يلقي خطابا على نفسه والذاكرة ت ...
- قراءة في روايات صدام حسين..دكتاتور كبير وقارئ كبير
- حكومة ننسحب, ما ننسحبشي!
- الله ساخرا!
- شكر المحتل, وشكر صدام ! ؟
- مزاد علني في الهواء الطلق
- وداعا زهرون...نم شفيف الروح يا بطل هذا الزمان!
- من يذكر طه حيدر؟


المزيد.....




- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام عبود - العودة الى آل ازيرج