أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام عبود - من الثورة الغادرة الى الثورة المغدورة














المزيد.....

من الثورة الغادرة الى الثورة المغدورة


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1518 - 2006 / 4 / 12 - 11:34
المحور: الادب والفن
    


من الثورة الغادرة الى الثورة المغدورة
ومن الشعر المنثور الى نثر الشعر

لا أحد في هذه البريّة الشاسعة يعرف الماغوط أكثر منا نحن معشر العراقيين.
أنا أعرف أن قولي هذا سيصيب كثيرين بالدهشة, إن لم يكن بالبَهت.
ماذا عن أمه؟
وماذا عن رفاق طفولته الحزينة؟
ماذا عن زوجته, وهي شاعرة مثله؟
ماذا يقول زكريا تامر الذي كان يزوده ببعض معارفه في سجنه؟
وماذا سيقول الذين نشروا أول قصيدة له, والذين تبنوه شاعرا قبل أن يفطن هو الى معاصي الشعر الخفيّة؟
وماذا سيقول زملاء مجلة شعر؟
وماذا عن دارسي حياته وأدبه, ماذا عن الأصدقاء والأعداء والأعدقاء؟
كثيرون سيصابون برعدة وهم يجدون أنفسهم قد سُلبوا حق معرفة الماغوط, أو لنقل حق معرفة بعض أسراره الدفينة من قبل مجهولين؟
وكيف يحق لمن لم يقتربوا منه أن يجدوا في أنفسهم الجرأة على احتكار حقائق الشاعر الخفية؟
على الرغم من هذا كله,أعود فأقول جازما, مكابرا: لا أحد في هذه البريّة الشاسعة يعرف الماغوط أكثر منا نحن معشر العراقيين.
حينما واجهت أحزان الماغوط في أواخر النصف الثاني للستينيات كنت طالبا في كلية الآداب. كان عمري ثمانية عشر عاما. لم أعرف حينذاك شيئا عن سجنه, ولا عن طفولته, ولا عن قصيدته الأولى. لكنني كنت أحمل في روحي "ملفا ضخما عن العذاب البشري". ولسبب ما كنت أنوي رفعه الى الله حالما أنهي كتابته. لا أدري إن كنت فعلت ذلك أم لا, ولا أدري إن كان الله استقبله مني أم لا, والأكثر أهمية أنني لا أعرف حتى هذه اللحظة بأي اللغات كان يتوجب عليّ كتابته, لكي يستطيع ذلك الذي في الأعالي أن يتواصل معي في متعة قراءته.
ولطالما خيّل اليّ أن الماغوط كان شكاكا فيما يتعلق بألغاز اللغة الوحيدة التي يجيدها. ولفرط هوسه بها, ظنّ أنه أقدر حتى من الخالق عزّ وجلّ, على فك أسررها.
فلا غرابة إذاً لو أن الماغوط جرؤ على أن يكون رائدا في فن التدمير وإعادة التنظيم اللغوي والصوري, بتحويله فن التعبير الثوري من صيغة الثورة الغادرة الى الثورة المغدورة, وتحويل ثورة التعبير الفني من صيغة الشعر المنثور الى نثر الشعر.
من هنا بدأت معرفتي بالماغوط. صديق ما, أرجح أن يكون الصديق الشاعر عبد الحسين الهندواي, هو من وضع في يدي ديوانا هزيلا, منسوخا بخط اليد, ملفوفا بجريدة رياضية, وقال لي هامسا:
- كن حذرا كما اتفقنا! ولا تخبر أحدا أنني من زودك بهذا!
لم أخبر أحدا. لكنني حفظت الأحزان التي كُتبت في ضوء القمر عن ظهر قلب, ورحت أرددها على كل من أختلي به, حتى بتّ أظن, لسبب خفي, أنني منشورسري حي, منشور محظور, جريمته الكبرى أنه يقطر شعرا خالصا.
رباه! كم كانت الحروف الخائفة المكتوبة بحبر أسود وقلم دقيق تفتنني! كنت أنظر اليها وأكاد أشك أن تكون هي الحروف نفسها التي حفظتها من قبل عن ظهر قلب, قبل أن أحصل على الديوان المنسوخ. شتان بين الإثنين. كنت أنظر الى الحروف كأم استعادت وليدا فقدته, ما كانت تملك منه سوى بقايا صوت ضحكاته وبكائه.
ذلك كل ما أذكره عن الماغوط وبداية صلتي به, التي تجعلني الآن أشك في وجود كائنات أخرى غيرنا, نحن معشر العراقيين, يعرفه أكثر منا, وعلى أقل تقدير يعرف ملفات عذابه, عذابنا, السرية الضخمة.
لسبب خفي أيضا, لم أكتف بحفظ قصائد الماغوط كلها, حرفا حرفا. كنت أضع الديوان الصغير المنسوخ تحت ملابسي وأمشي بمعيته في الشوارع. وفي شارع الرشيد, شارع التبّضع البغدادي, كنت أسير وأراقب بحذر تام شبح صورتي المرسوم على الواجهات الزجاجية للمخازن التجارية, لأعرف إن كانت هيأتي تشي بأنني أحمل ملفا ضخما عن العذاب البشري بين طيات ملابسي وفي ثنايا روحي.
كنت أسير بين أعمدة البنايات ولا أرى الناس. لأنني كنت مشغولا بأمرين: ملف الماغوط الضخم, و"قدر الإنسان". كان بطل أندريه مالرو, يلازمني, يمشي معي بحزم وثقة, يبادلني, رغم لغته الصينية, قراءة كلمات الماغوط, ويعدّ معي, سرا, عملية تفجير ضخمة, هدفها قلب موازين العالم رأسا على عقب.
كنا نحن الثلاثة: أنا وملف الماغوط وبطل مالرو, نعد مؤامرة كونية في شوارع بغداد, التي وقعت تواً تحت حوافر البرابرة.
ففي اليوم ذاته, الذي استلمت فيه ديوان الماغوط, سلمني التنظيم المسلح مجموعة وثائق نظرية عن طرق إعداد قنابل محلية الصنع. بعد أن ألححت كثيرا على رفاق التنظيم وأقنعتهم بأنني مسكون بعمليات التفجير.
كانت مشكلتي الكبرى أنني لا أملك مسدسا, والأهم أنني لم أر في حياتي مسدسا حقيقيا, عدا تلك التي رأيتها في الأفلام, وتلك التي يملكها جهاز القمع المتوارث في بلادي.
بيد أن مشكلتي الأضخم كانت أنني كنت مقسّما, كرغيف الفقراء, بين صيغة الثورة المغدورة والثورة الغادرة, بين نثر الشعر والشعر المنثور. فخسرتهما معا, بالضبط كما ربحهما الماغوط معا.
فمن يعرف الماغوط أكثر منّي, ومنّا؟
ومن يعرف أرباحنا وخسائرنا, الظاهرة والمستترة؟
لا أحد يعرف ذلك غير ذلك الذي أعددنا له, يوما ما, ملفنا الضخم عن العذاب البشري, وكنّا نأمل بصدق فطري أن لا يكون أميّاَ.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أجل مشروع ثقافي عراقي بديل.. جدل ثقافي ساخن على قبر يوسف ...
- لماذا يخشى السياسيّون العراقيون جدولة رحيل قوات الاحتلال؟
- جماليات فن التعذيب
- بريد الأنبياء الى أجمل الشهيدات:أطوار بهجت
- ما بعد جائزة نوبل للأدب, أزمة الذات الثقافية العربية
- الرابحون والخاسرون في معركة حرية التعبير - حول نشر صور الرسو ...
- عولمة الشر وتفكيك الديكتاتورية
- غرائز مسلّحة - ملاحظات على مقالة: أي نزار قباني يسلسلون ورسا ...
- أول حرب جنسية في التاريخ
- ارحلوا ايها الكلاب
- من كتب روايات صدام حسين؟ صدام يلقي خطابا على نفسه والذاكرة ت ...
- قراءة في روايات صدام حسين..دكتاتور كبير وقارئ كبير
- حكومة ننسحب, ما ننسحبشي!
- الله ساخرا!
- شكر المحتل, وشكر صدام ! ؟
- مزاد علني في الهواء الطلق
- وداعا زهرون...نم شفيف الروح يا بطل هذا الزمان!
- من يذكر طه حيدر؟
- صيادو رؤوس سويديون يتوجهون الى العراق
- إنهم لا يحصون الجثث


المزيد.....




- مازال هناك غد: الفيلم الذي قهر باربي في صالات إيطاليا
- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام عبود - من الثورة الغادرة الى الثورة المغدورة