أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - سلام عبود - جماليات فن التعذيب















المزيد.....


جماليات فن التعذيب


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1475 - 2006 / 2 / 28 - 10:35
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    



استأثرت صور التعذيب في السجون العراقية باهتمام العالم أجمع، وقد وجدت وسائل الإعلام في موضوع التعذيب مادة خصبة للعرض والبحث والدعاية أيضا، وربما حتى التسلية والتشفي عند بعضهم. ولا يزال هذا الموضوع يشغل حيزا كبيرا من صفحات الجرائد ومن أوقات البث في القنوات المرئية والمسموعة، ولا تزال أجهزة الإعلام تقذف كل يوم مادة جديدة فتضيف الى الموضوع مزيدا من الإثارة، وفي الوقت نفسه مزيدا من الأسئلة المحيرة والشكوك، تتعلق بخبايا الحدث وسعته ومغازيه وأبعاده الحقيقية.
يركز غالب ما نشر عن حوادث التعذيب على عرض الوقائع، كحقائق وأحداث. وهذا طبيعي، لأن مادة الحدث لم تستكمل بعد. فلا تزال أجزاء كبيرة من الحدث مجهولة، كما تشير كبريات الصحف الأميركية والغربية المهتمة. ولا يقصد بهذا احتجاب نشر الصور واحتكارها فحسب، إنما أيضا احتجاب الحقائق والأهداف والدوافع، بسبب الطابع الوحشي واللاأخلاقي لتلك الأفعال، وبسبب تستر الجهات المسؤولة عن الحدث على ذلك، إضافة الى تأييد الحكام المحليين الضمني لما تقوم به القوات الأجنبية على أرض العراق. وهنا لا بد أن نشير الى أن أعمال التعذيب لا تقتصر على سجني "أبو غريب" و"بوكا"، ولا تمارسها القوات الأميركية وحدها، بل هي مهمة أساسية لما يعرف بقوات التحالف الدولي, فهنالك تحالف دولي في مجال تبادل الخبرات "التعذيبية" أيضا.
بيد أن ذلك لم يمنع ظهور تحليلات سياسية عميقة، وأخرى ذات طابع أخلاقي واجتماعي وحتى نفسي تسعى الى إماطة اللثام عن جوانب كثيرة من الحدث. لكن ارتباط الحدث بعمليات الاحتلال الأجنبي الماثلة الآن على الأرض، وحدّة الصراع السياسي والتباسه في العراق، وعدم اكتراث الجهات العراقية الحاكمة بما يحدث للشعب أو قلة حيلة بعض أطرافه، وإيمان البعض الآخر بما يحدث، إضافة الى الطابع العسكري والأمني الذي يغلف أعمال التعذيب، جعل من المغزى السياسي والبعد الإعلامي (الإخباري)، والمغزى الأخلاقي والإنساني العام، وما يرافقهما من انفعال شعوري وعاطفي، تستأثر بالاهتمام الأعظم وتشغل بال المعنيين.
لهذا كله لن نتوقف في موضوعنا عند الجانب الخبري أو المغزى السياسي والأخلاقي للحدث، بل سنعمد الى التدقيق في جوانب أخرى لم يجر التدقيق فيها مليا، بهدف فتح كوة جديدة للنظر الى الموضوع. سنركز اهتمامنا في جانبين محددين هما الدوافع النفسية والفنية لأعمال التعذيب. وسنعمد الى دراسة هذين الجانبين بحيادية علمية، قدر ما تسمح به مقدرتنا البحثية على الاستقلال، في موضوع إنساني شديد الحساسية، وبصرف النظر عن طبيعة الأشخاص الذين خضعوا لأعمال التعذيب.
الدوافع النفسية والفردية للتعذيب
ونعني بها البواعث السلوكية، الداخلية، الفردية، للقائمين بأعمال التعذيب. ويرتكز تفسيرنا هذا على أمر جوهري هو أن القائم بأعمال التعذيب إنسان فرد، له استقلاليته السلوكية كفرد، ولأعماله دلالات ومرجعيات عاطفية وعصبية وعقلية وثقافية خاصة، ترتبط به كذات مستقلة. هذا التفسير يطابق الى حد كبير ما يصرح به المسؤولون الأميركيون والبريطانيون والدانماركيون وعدد لا يستهان به من الجماعات المؤيدة لفكر القيادات السياسية الأميركية والبريطانية وسلوكها. فالأعمال المذكورة في نظر أولئك هي محض أعمال فردية، لأشخاص محددين.
مثل هذه التفسيرات يعرفها جيدا كل من عاش في الغرب. فالأجنبي الذي يرتكب جرما، تردّ دوافعه الإجرامية الى مرجعيات عرقية وقومية ودينية، أي مرجعيات ثقافية اجتماعية، في حين يحاكم المجرم الغربي على أسس فردية ونفسية، حتى لو كانت جريمته بحجم تفجيرات أوكلاهوما. فالغربي إنسان فرد ذو صفة إجتماعية، أما غير الغربي فكائن جماعي يحمل خصائص الجماعة التي ينحدر منها ويعمل بموجبها ويخضع لتأثيراتها. في هذا الموضع نرى أن العدالة تميل الى تقسيم الدوافع تبعا لخلفياتها الثقافية، والتي هي أساس نظرية التمييز العنصري.
في اعتقادي، إن نتائج المحاكمات والتحقيقات المتعلقة بوقائع التعذيب في السجون العراقية ستصب في نهاية المطاف في هذا الجانب: العمل الفردي، في حال عجز أصحاب الشأن (المعذبون والمدافعون عنهم) عن تحويل مجرى التحقيقات والمحاكمات من أيدي أجهزة التحقيق الأميركية الى أياد قضائية محايدة.
عند تدقيق الصور جيدا نجد تعبيرات سلوكية مشتركة تجمع أعضاء فرق التعذيب، أبرزها:
الاستمتاع عند ممارسة فعل التعذيب. وهو مظهر مشترك يكاد يميز غالب الصور المنشورة. وعملية الاستمتاع تشمل الرجال والنساء على حد سواء، وتشمل الاستمتاع أثناء ممارسة فعل التعذيب، كما تشمل الاستمتاع بنتائج فعل التعذيب. ويصل هذا الى حدود شديدة الشذوذ في بعض الصور التي تظهر فيها امرأة ورجل يبتسمان، وهما يصنعان إشارة النصر فوق جثة تبدو عليها آثار التعذيب.
الاستمتاع بالتعذيب شعور مشترك لدى الأفراد الذين يسمون بالساديين، حيث يكون الألم الصادر من الآخر مصدرا للذة. وهذا طبيعي لدى مثل هذا النوع من الأفراد. بيد أن ما يميز عمليات التلذذ في سجن "أبو غريب" أنها جاءت مصحوبة بعملية إشهار. وهذا الفعل الإضافي (الإشهار) يعطي التلذذ مغزى جديدا، يخرجه من حدود الفعل السادي التقليدي، ويجعله أقرب الى الاستمتاع الجماعي بعمليات التعذيب. لكن من هي هذه الجماعة؟ هذا ما نحاول الوصول اليه في سياق موضوعنا.
إن عمليات التعذيب وما يرافقها من تلذذ علني بفعل التعذيب ومن إشهار، تشير الى درجة عالية جدا من درجات الارتياح الشعوري (نفسيا ومهنيا). وهذا يدل دلالة قاطعة على أن حال الاطمئنان التي تظهر على سلوك القائمين بفعل التعذيب ليست ناتجة من فقدان للشعور وفقدان للتحكم بالنفس، كما أشيع في المحاكمات الصورية لبعض المتهمين. على العكس، إنها تظهر قدرا عاليا من الثقة بالنفس والرضا عن نتائج الفعل والإحساس بالنجاح في المهام الموكلة اليهم. لذلك تشير، بما لا يقبل الشك، الى أن أولئك الأفراد إنما يمارسون فعلهم تحت غطاء مهني لا يضمن لهم حرية التعذيب فحسب، وإنما يضمن لهم أيضا حرية الاستمتاع بالتعذيب وحرية إظهار مشاعر التلذذ علنا. باختصار شديد: يبدو المعذِّب شديد الثقة لا بصحة فعله فحسب، إنما بنجاحه أيضا في تحقيق هذا الفعل. وإذا كان الاستمتاع بآلام الآخرين - كحال مرضية نفسية - شعور فردي، فإن الرضا والطمأنينة والحرية النفسية المصاحبة للفعل وما يرافقها من إشهار، تدل على أن المعذِّب إنما كان يسجل ويوثّق أمرا ما، لصالح أشخاص "آخرين"، لا يظهرون في الصورة. لكن من هم أولئك الآخرون؟ قد يكونون سلطة حكومية، أو جماعات بشرية محددة، أو شخصيات اعتبارية، أي أشخاص غير محددين أو أفكار جماعية ينسجها المجتمع حول ظاهرة ما، عدو مفترض أو خصم يتوجب مقاومته بكل السبل. وفي أحوال كثيرة تختلط أطراف المشكلة وتتشابك عقدة الدوافع.
لم تظهر في الصور المعروضة أدوات للتعذيب، عدا صورة الكلب، إذا كان في مقدورنا أن نعدّه أداة، إضافة الى الأسلاك في صورة يسوع "أبو غريب". وهذا يعني أن القائمين على التقاط الصور أو نشرها كانوا حرصاء وحذرين وعلى دراية تامة بكل المسؤوليات القانونية، وبالإشكالات القضائية المترتبة على وجود قرائن مادية في هيئة أدوات. وذلك يعطي عميات الإشهار - لا التعذيب نفسه فحسب - طابع القصدية والترتيب، إضافة الى الوعي القانوني. أي يعطي تلك الأعمال طابع الاحتراف المهني والتدبير المعلل إداريا وفنيا.
لم يظهر في الصور المعروضة حتى الآن، أشخاص لهم صلة مباشرة دينيا وقوميا ولغويا بالواقعين تحت أعمال التعذيب. وهذا يدل أيضا على أن عمليات الإشهار، سواء أكانت فردية أم حكومية - إذا كان الإشهار من ضمن الأهداف العسكرية والسياسية - مدروسة بمهارة عالية ومحسوبة حسابا دقيقا. وهذا ينفي عنها صفة العفوية والفردية ويعزز طابعها القصدي المنهجي.
يصل عدد القائمين بأعمال التعذيب في بعض الصور الى تسعة أفراد. وإذا أضفنا اليهم المصورين والحراس فان العدد يربو على عشرة. هذا يعني أن العمليات لم تكن أفعالا فردية لشخص مريض بالسادية، اتفق له أن يكون في المكان الخطأ والوظيفة الخاطئة. على العكس، تثبت أن التعذيب كان فعلا جماعيا يمارسه فريق كبير نسبيا. يعمل بشكل متكامل ويوزع اختصاصاته على أعضائه، كل وفق مهماته المهنية المحددة: الايذاء، الاستنطاق، الترجمة، تدوين المعلومات، العلاج الطبي (قبل أعمال التعذيب وأثناءها وبعدها) والتي تتطلب وجود ممرضين، كما يتطلب الاستنطاق وجود مترجمين يجيدون اللهجات المحلية بدرجة اجادتهم اللغة العربية (كشفت التحقيقات أسماء لعراقي ومصري، وتسربت معلومات عن وجود كويتيين بصفة جهاز استخبارات أو عناصر مسلحة، كما أكدت حوادث التعذيب في البصرة. ووردت تأكيدات من جهات عليا عن وجود اسرائيليين). إن هذا يدل على أن فريق العمل الواحد مكون من مجموعة كبيرة، يتسم عملها بالتنسيق والتخطيط ورسم الأهداف. وتالياً، فإن الجانب الفردي من فعل التعذيب جزء من فعل جماعي. إذ لا يقبل المنطق وجود هذا العدد الكبير من المرضى الساديين في مكان واحد بمحض المصادفة.
لو قبل المرء بالملاحظات السابقة، فلا مناص من القبول بالنتائج العقلية والسياسية المترتبة على ذلك. فالمنطق يقول إن عملا جماعيا واسعا كهذا يشترك فيه محققون ومعذبون ومصورون وهواة تذكارات ومترجمون وزوار ومتلذذون أبرياء وممرضون لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يكون خارج أعين جهاز الرقابة العسكرية الأميركية، حفاظا على أمن القوات الأميركية نفسها. وبخلاف ذلك فإن الجيش الأميركي يفتقر الى السيطرة والانضباط الداخلي. وهذا مستبعد تماما.
الدوافع الخارجية للفعل الفردي
رغم أن الفعل الفردي - على افتراض أن أعمال التعذيب شأن فردي - يخص القائم به شخصيا وينبع من مجموعة الدوافع النفسية والتصورات العقلية والأخلاقية التي يمتلكها الفرد المعني، إلا أن فعل التعذيب يختلف في جوهره عن الممارسة الإجرامية الشخصية الاعتيادية في المجتمع. فالتعذيب فعل مؤسساتي، يجري في موقع لا يملكه أو يحوزه الفرد نفسه شخصيا، كما أن الوظيفة التي يمارسها - التعذيب - لا تخصه شخصيا، إنما تعود الى مؤسسة، إضافة الى أن نتائج الفعل لا تعود بالفائدة المباشرة على الفرد القائم بالتعذيب إنما لصالح المؤسسة القائمة على أمر التعذيب. لقد طور الأميركان أفعال القتل والإغتيال وفرق الموت والتخريب والإعدامات السرية من طريق ما يعرف بالمتعاقدين، الذين لا يستبعد أن يكونوا جزءا من فرق التعذيب. وأثبتت أحداث البصرة المتعلقة بالمحققة الدانماركية، التي عذّبت سجناء عراقيين، أن هناك شراكة وتبادل منافع دولية بين أجهزة الشرطة أيضا في مجال التعذيب. لهذا السبب يتجاوز التعذيب - حتى في حال اعتباره فعلا فرديا - الحدود الفردية للفرد الى ما هو أبعد، الى المشروعية الاجتماعية والثقافية والتاريخية، التي تعطي الدافع النفسي فسحة مقبولة للبروز والظهور الى العلن والتحول من رغبة الى فعل وممارسة. فما الظروف التي سوغت للفرد إطلاق رغبات التعذيب لديه؟
إن التوصل الى جواب منطقي عن هذا السؤال هو المفتاح الرئيسي الذي يقود الى فهم آليات ظاهرة التعذيب، ويقود بدوره الى فهم مغزى هذه الظاهرة.
الأمر الأول في هذه المسألة يتعلق بالوضع القانوني للقائمين بأعمال التعذيب التي يتولاها أجانب على أرض أجنبية، وتُمارس على مواطنين في بلدهم، في ظل حماية (حصانة) قانونية تحمي المعذِّب من المساءلة وتعفيه من مغبة الإمتثال الى شكوى الأفراد الخاضعين للتعذيب وأجهزة حكوماتهم القانونية، إن وجدت. ويندرج ضمن هذا الأمر أيضا كون الوضع القانوني للجندي الأميركي في العراق مقرا دوليا (الأمم المتحدة)، ومحليا (الحكومات العراقية المتعاقبة المرتبطة بالاحتلال)، وأميركيا (الحرب في العراق جزء من عملية الدفاع عن الأرض الأميركية، لكن خارج الحدود).
على سبيل المثال، إن إطلاق الحكومة الأميركية تسمية "بوكا" على سجن يقام على أرض العراق، يعني إعطاء المواطن الأميركي الفرد إشارات جمعية، عدائية، ضد سجين مجهول الهوية، لكنه مشخص الجرم: عدو للوطن الأميركي, يحمل صفة (إرهابي). ولما كان هذا العداء غير شخصي، أي يرتبط بأحداث 11 أيلول، وهو حدث وطني عند الأميركان، فإن الإشارات التي تعطيها تسمية "بوكا" للسجان أو المحقق ترتبط ضمنيا بمشاعر مواجهة العدو الوطني، وترتبط حسيا لدى الفرد بدوافع الانتقام، وهو هنا فعل إيجابي، من وجهة نظر المنتقم الفرد، لأنه ينسجم مع الانتقام الوطني ويكمله. أي ينسجم مع المناخ الروحي السائد، الذي تصنعه أجهزة السلطة وتغذيه. مثل هذه الإشارات معقدة الدلالة، يكون فيها "الآخر"، صاحب الإشارات الآمرة، غير طرف: سلطة وأفراد وأفكار أو مفاهيم. لهذا يرتدي الصراع ثوبا شاملا، فرديا وجماعيا، حسيا وروحيا، فيغدو صراع قيم كبرى، أي صراع حضارات. لهذا السبب أقول إن نشر صور الرسول محمد على صفحات "يولاندس بوستن" الدانماركية لم يكن خارج هذا المناخ الروحي: صراع القيم الكبرى، بل يقع في قلبه تماما. فهو أحد تعبيرات الحرب على عدو مفترض، انتخب ليكون مصدر الشر الإنساني الرئيسي، الذي يهدد منجزات البشرية الساميةّ! وهنا تكمن خطورة مثل هذه الحسابات الايديولوجية المتغطرسة والجاهلة.
أما الثاني فيتعلق بالجانب الحقوقي، كما يراه القائمون على حقوق المواطن الواقع تحت التعذيب. وإذا تتبعنا ردود أفعال المسؤولين العراقيين تجاه أعمال التعذيب، نجد أجوبة واضحة في رد أعلى مسؤولين حكوميين عراقيين عند إعادة نشر صور "أبو غريب" في الصحافة الاوسترالية، وعند نشر صور ضرب الجنود البريطانيين للفتية العراقيين في محافظة ميسان. فقد اعتبر رئيس جمهورية العراق ما حدث للفتية الباحثين عن لقمة خبز "أمرا غير مقبول"، وأعرب رئيس الوزراء العراقي عن شجب مماثل، لكنه ثمّن في الوقت نفسه "إدانة الحكومة الأميركية لأعمال التعذيب". إن القائمين على التعذيب يستندون في أفعالهم الى وجهة نظر رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه، لأنهما المرجعية الأولى القانونية والأخلاقية، التي لم تر في إمتهان كرامة مواطنيها على أيدي قوات أجنبية سوى "أمر غير مقبول"، يستحق التثمين في حال الاعتراف بوقوعه وشجبه. وإذا قدِّر لنا أن نلغي السؤال المتعلق بالكرامة الوطنية لأسباب شتى، فلنا الحق كله في أن نسأل: أين الإجراء القانوني المترتب على مثل هذه الأفعال غير المقبولة؟ وكيف تُرجم عدم قبول رجلين ينظر السجان اليهما بمهارة، لكي يرتب سلسلة أفعاله القادمة؟
فحتى اليوم لم يستصدر القضاء العراقي، ولا الحكومة، أمراً قضائياً يحرم تعذيب المواطن العراقي في بلاده على يد أجنبي، ولم يصدر أي تشريع يلزم القائمين بالتعذيب على المثول أمام القضاء العراقي، ولا يجرؤ أحد على سن مثل هذا القانون، لأنه سيوقع تحت طائلته أكبر رموز الدولة العراقية. لذلك خلا الدستور العراقي من أي نص تشريعي يمنع القوات الأجنبية من الانتشار والعمل وممارسة حقوق استثنائية على أرض العراق، لأن ذلك يتعارض مع واقع الحال القائم في العراق الآن: أول احتلال شرعي في تاريخ البشرية.
إن الإشارات الخضر المحلية، التي يطلقها السياسيون العراقيون، هي السند القانوني والغطاء الشرعي لأعمال التعذيب، وهي البرقع السياسي والأخلاقي لكل عمل يستهدف انتهاك المقدسات. ففي عملية اقتحام النجف وضرب ضريح الإمام علي، صرح الرئيس بوش بإنه يملك دعما محليا يجعله مطمئنا في حال اقتحام النجف و "القضاء على مقتدى الصدر". وهنا يحق للمرء أن يتساءل: هل يشبه العراق ألمانيا؟ ويحق للمرء أن يمد سؤاله الى ما هو أبعد فيقول: هل كان السجان الأميركي يجرؤ على فعل ما فعله في "أبو غريب" ضد السجناء الألمان عقب انهيار قوات هتلر؟ وهل يوجد في ألمانيا من يبيح انتهاك حرمة الفرد الألماني على يد فرق أجنبية للتعذيب؟
هنا، في هذه النقطة، يستطيع العراقي أن يعرف حجمه كإنسان، ويعرف المسافة التي تفصل بلده العراق عن بلد اسمه ألمانيا.
إن الجرأة التي يملكها رجل التعذيب الفرد تستمد قوتها من جرأة المؤسسة التي ينتمي اليها. كما أن الاستهتار بالآخر والاستهانة به ككائن بشري مستمدة من استهانة المرجع السياسي الأجنبي بالمرجع السياسي المحلي. فكلا المرجعين، الفردي والحكومي، يقومان على تفوق فردي وحكومي ليس على السجين المحلي فحسب، بل بدرجة أولى على الحاكم المحلي. وهنا، في هذا التفوق، لا تظهر بوضوح شهوة التفوق السياسي والعسكري فحسب، إنما أيضا شهوة التفوق العرقي والثقافي، التي سمّاها الأميركيون صراع الحضارات. أي تفوق كيان سياسي على آخر، والذي هو في جوهره مجرد تأويل للتفوق العرقي، أحد الأركان الأساسية للنظرية العنصرية.
نخلص مما سلف الى أن التعذيب ينطوي على بعد عنصري، قائم على نظرية التفوق وعلى الحق في امتهان الآخر، إضافة الى أبعاده السياسية والحقوقية والنفسية. وهو بعد يمنح الفاعل غطاء نفسيا وأخلاقيا وعقائديا، يجعله يبتسم وهو يجثم على صدر جثة، أمام جهاز (عدسة آلة التصوير) مخصص للفرجة الجماعية، موجه الى البشرية جمعاء.
مسرح التعذيب والفرجة العالمية
من يحلل صور "أبو غريب" يكتشف فورا أن القسم الأعظم منها يقوم على خبرات الطقوس المسرحية وتقاليدها. وقد يؤخذ على هذه الطقوس بدائية بعضها، لكن بعضها الآخر على درجة عالية من الإتقان والمهارة. فهناك بناء فني: تشكيل جمالي. وهناك حركة: فردية وجماعية، تساهم في تشكيل اللوحة الثابتة أو المتحركة وتعطي الشكل الفني معنى. وخلف هذا التشكيل يوجد وعي فني بحركة الكتل وتناسبها وتوزيعها. فمما لا شك فيه أن هناك عقلا إخراجيا، هاويا أو محترفا، يقف خلف عملية صناعة المشاهد الفردية والجماعية. المدهش أن هذه المشاهد لا يشبه بعضها البعض. بل أكاد أجزم فأقول إن كل مشهد لا يشبه سواه، وكل لقطة لها تفردها الخاص: شكلها ومغزاها، سواء أكانت لقطة "يسوع أبو غريب"، بملابسه التنكرية وحركة أطرافه، ودلالاتها الحسية والذهنية، أو لقطات أهرام الأجساد العارية. هل حدث ذلك عفوا؟ من يقف خلفه؟ متى فكر السجان في صناعة الشكل الفني لتشكيلة التعذيب؟ الأهم من هذا كله: فيمن يفكر المسؤولون عن فرق التعذيب وهم يقومون بتأليف تلك الأشكال؟
أما السؤال الأخطر فهو: لمن كانوا يقومون بإعداد هذا البناء الفني من الأجساد؟
التعذيب كفن تاريخي
للجواب عن السؤال الأخير لا بد من العودة الى التاريخ. يعلمنا التاريخ أن المنتصرين، في النظم الاستبدادية كافة، مارسوا فن التعذيب على امتداد التاريخ مقرونا بفن الإشهار، أي الفرجة.
فطقوس الفرجة جزء أساسي من مشهد التعذيب أو التمثيل بالخصم، المهزوم. فعقب فشل ثورة العبيد علّق الرومان سبارتاكوس ورفاقه على جانبي طريق طولها كيلومترات، ليكون مشهد موتهم مسرحا حيا، يتمتع به العابرون ويتعظ به الناقمون. وكان مشهد صلب السيد المسيح، بدءا من طريق الآلام صعودا الى الجلجلة عرضا مسرحيا حيّا في فن التعذيب.
ولم يكن رأس الشهيد الحسين، مرفوعا على الرماح، متنقلا من مصر الى آخر، سوى مشهد من مشاهد فن الفرجة الوحشية الجوالة.
أما صور "أبو غريب" فلم تكن سوى تطوير، في زمن الصورة الثابتة والمتحركة، لمشاهد الفرجة التاريخية الحيّة، بصرف النظر عن طبيعة الواقعين تحت طائلة التعذيب ودوافعهم.
لقد عرض المنتصرون أجساد ثورة العبيد، وجسد المسيح، ورأس الحسين على الناس في الهواء الطلق، وكان المتفرجون خليطا من المحبين والكارهين، أرغمهم هول الحدث على تأمل بشاعته واستخلاص ما يمكن استخلاصه من ذلك المصير المأسوي.
لكن، من هم المشاهدون والمتفرجون في سجن "أبو غريب"؟ وما الذي يريدون منا أن نستخلصه من تلك المشاهد؟
أبرز ما يميز مشاهد فن التعذيب في "أبو غريب" أنها كانت معدة لعدد متنوع من المشاهدين.
أهم طبقات المشاهدين هم نزلاء سجن "أبو غريب" نفسه. فغالبية مشاهد التعذيب، إن لم تكن جميعها، المعروضة حتى الآن على المشاهدين الخارجيين من طبقتنا، لم تجر في غرف مقفلة ومظلمة، إنما أقيمت في أروقة المعتقلات، وفي الغالب بين صفين متقابلين من غرف السجن، تحت أنوار شديدة السطوع. وهنا يتكون فريق المشاهدين، كما هو واضح، من نزلاء الغرف المحيطة بساحة العرض المسرحي. وهؤلاء ينقسمون قسمين: الأول مشاهد له كامل الحق في المشاهدة، وهو الذي يرى العرض المسرحي ويسمعه بالصوت والصورة. أما النوع الآخر فهو المشاهد الذي لا يحق له رؤية العرض، ويكتفي بسماع أصوات مشهد التعذيب، لغايات تعذيبية أيضا. فالفريق الأول قد يتحول في مشهد آخر من مستمع ومشاهد الى مشاهد فقط. ومما لا شك فيه أنه قد يغدو في مشهد تال جزءا من طاقم العرض المسرحي.
ذلك هو الضرب الأول من المشاهدين، وهو نوع مبتكر، يقوم على تبادل الأدوار بين المُشاهد والممثل. لم يكتف مخرجه بكسر حاجز الإيهام المسرحي فيه، بل حطّم الحاجز التقليدي القائم بين المشاهد والممثل بشكل جذري، لم يسبق للمسرح الحقيقي أن قام بمثله من قبل. لأن الممثلين هنا، والمشاهدين أيضا، لا يمثلون المشهد، إنما ينغمسون فيه أخلاقيا وسياسيا، ويغرقون في تفاصيله الحسية والشعورية.
الفريق الثاني من المشاهدين هم السجناء الذين يتعرفون، من خلال السجناء الآخرين، ومن خلال جهاز التعذيب، الى مشاهد العرض المسرحي، فيتقبلونها كتمارين وسيناريوهات معدة للتنفيذ والتطبيق في مسرح آخر، بواسطة ممثلين ومتفرجين ومخرجين جدد.
أما الطائفة الثالثة من المتفرجين، وهي الأوسع، فطائفة مشاهدي الصور، الذين يعيشون خارج السجون. وهم المشاهدون أنفسهم، الذين شاهدوا من قبل، بالمجان، جثث سبارتاكوس والمسيح والحسين والمهزومين جميعا، الصالحين والطالحين. هذا الفريق ينظر الى المشهد ويفسره على هواه. بعضه يرتعب، وبعضه يسخط، وهناك من يسعده العرض، ولا نعدم أن نجد من يتمنى لو أنه كان مخرج العرض، أو مشاركا صغيرا في إعداد المشهد، حتى لو كان في هيئة كلب تجره المجنّدة انغلاند من رقبته.
إذاً، نحن أمام مسرح مركّب. دوافعه مركّبة، متفرجوه مركّبون، ممثلوه مركّبون، والأهم من هذا كله أن التباساته مركّبة، يختلط فيها الحابل بالنابل: الديموقراطية بالإرهاب، الأبرياء بالمجرمين، العدالة بالبربرية، فن المسرح بفن التعذيب، والتحرير بالاحتلال. (ملاحظة: أطلقت القوات الأميركية سراح ما لا يقل عن خمسة عشر ألف معتقل لعدم ثبوت الأدلة ضدهم. وهو عدد يفوق ضحايا 11 أيلول بعدة أضعاف!).
إنه مسرح العبث الحقيقي، العبث بالإنسان وبإرادته وأحلامه ومصيره.
فهل أصبح فن التعذيب فناً معترفا به، حاله كحال الفنون الأخرى؟
نعم، هو كذلك. هو كذلك بما أن مسرح العرض مرخص له محليا ودوليا، وبما أن قاعات العرض لا تزال قائمة، وبما أن متعهدي قاعات العرض وملاّكها لا يزالون خارج المساءلة القانونية، وبما أن ملاّك أرض المسرح يدمنون تأجير أراضيهم لمثل هذه العروض من دون أن يقعوا تحت طائلة القانون، وبما أن المخرجين وعمال الديكور والماكياج والمصورين والإداريين ومنظمي العرض، أحرار طلقاء، لا توجد قوانين تسمح بإدانتهم، وبما أن بعض المشاهدين يستمتعون بالفرجة حقا، لأن الممثلين من فئة الأشرار في نظرهم.
لذلك كله أرى أن مسرح التعذيب فن معترف به، حاله كحال مسرح اللامعقول. إنه فن شرعي سواء أقبلنا به أم لم نقبل، سواء أفهمنا دوافعه المباشرة وغير المباشرة أم لم نفهمها.
إنه فن حقيقي، لا يعيبه سوى بطء ظهور منظّري علم الجمال الخاص به، علم جمال فن التعذيب.
موضوع الغلاف- صحيفة النهار- الأحد 26-02-2006



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بريد الأنبياء الى أجمل الشهيدات:أطوار بهجت
- ما بعد جائزة نوبل للأدب, أزمة الذات الثقافية العربية
- الرابحون والخاسرون في معركة حرية التعبير - حول نشر صور الرسو ...
- عولمة الشر وتفكيك الديكتاتورية
- غرائز مسلّحة - ملاحظات على مقالة: أي نزار قباني يسلسلون ورسا ...
- أول حرب جنسية في التاريخ
- ارحلوا ايها الكلاب
- من كتب روايات صدام حسين؟ صدام يلقي خطابا على نفسه والذاكرة ت ...
- قراءة في روايات صدام حسين..دكتاتور كبير وقارئ كبير
- حكومة ننسحب, ما ننسحبشي!
- الله ساخرا!
- شكر المحتل, وشكر صدام ! ؟
- مزاد علني في الهواء الطلق
- وداعا زهرون...نم شفيف الروح يا بطل هذا الزمان!
- من يذكر طه حيدر؟
- صيادو رؤوس سويديون يتوجهون الى العراق
- إنهم لا يحصون الجثث
- أما آن الأوان لكي يعود طائر الثقافة المهاجر الى عشه؟
- أبو طبر
- النهلستي الأخير! دفاع مع سبق الإصرار عن سعدي يوسف, دفاع عن ذ ...


المزيد.....




- بالأسماء.. أبرز 12 جامعة أمريكية تشهد مظاهرات مؤيدة للفلسطين ...
- ارتدت عن المدرج بقوة.. فيديو يُظهر محاولة طيار فاشلة في الهب ...
- لضمان عدم تكرارها مرة أخرى..محكمة توجه لائحة اتهامات ضد ناخب ...
- جرد حساب: ما نجاعة العقوبات ضد إيران وروسيا؟
- مسؤول صيني يرد على تهديدات واشنطن المستمرة بالعقوبات
- الولايات المتحدة.. حريق ضخم إثر انحراف قطار محمل بالبنزين وا ...
- هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأ ...
- هوغربيتس يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة.. ويكشف عن مكانه
- Polestar تعلن عن أول هواتفها الذكية
- اكتشاف تأثير صحي مزدوج لتلوث الهواء على البالغين في منتصف ال ...


المزيد.....

- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي
- عالم داعش خفايا واسرار / ياسر جاسم قاسم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - سلام عبود - جماليات فن التعذيب