أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - الله ساخرا!















المزيد.....

الله ساخرا!


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1180 - 2005 / 4 / 27 - 11:39
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


الله ساخرا!
سلام عبود
ما أكثر صفات الله! وما أجمل تعددها وتنوعها!
من يقرأ دراسات بنت الشاطئ في التفسير الفني للقرآن يجد أن كلمات الله استحالت لديها الى حروف سحرية تستنطق المواقف والأحداث, تستخرج الخبايا البشرية, وتختزن المعاني الدالة. إنه الله, جلّت قدرته, وتلك حروفه!
ولكن, على الرغم من تلك الطاقة العظيمة من المعاني, التي جسدت قدرة الله وشخصت ملامح تكوينه في نظرنا, نحن معشر البشر الضعفاء, إلا أن صفات الله ظلت ناقصة في مخيلتنا, لا تتطابق كليا مع مقدرته التي لا توصف ولا تحد. فصفات الله لدينا حُصرت بين السلام, العطوف, الواهب والمنتقم, الجبار, أي حصرت بين الجنة والنار.
من يتأمل آيات القرآن جيدا يجد أن صفات الله, من خلال أسلوب القرآن البلاغي, تعدت بتنوعها خصال الرأفة والحزم. فحينما يرسم الله صورة النخلة, يجعل طلعها كرؤوس الشياطين. فهو يشبّه الحسي بالعقلي. يشبّه ما هو معلوم بما هو متخيل. أي يشبّه ما هو مؤكد واقعيا بما هو مفترض, وما هو محدد باللامتناهي. فرؤوس الشياطين صورة مفترضة ترسمها مخيلة القارئ أو السامع نفسه, ليس لها مثال في الواقع. هذا التشبيه العابر لم يكن سوى صورة "كاريكاتورية" مفزعة, أراد الله أن ينتزعها انتزاعا من السامع نفسه وبوساطته, أراد بها أن يشرك المتلقي في صناعة الخطاب, بمنحه حقا مطلقا في التخيل على هواه. ولكن مهما شطح الخيال بالمتخيّل, فإنه يظل محكوما بقواعد صارمة: إنتاج صورة ساخرة في موضع الرعب.
ذلك هو الله, الله الذي قلّما تأملناه ورأيناه على حقيقته.
حينما يرسم لنا القرآن صورة الشره الدنيوي على هيئة "حمالة الحطب, في جيدها حبل من مسد", أو حينما يصور جيشا غازيا عابرا للقارات في صورة " عصف مأكول" فإنه يجمع بين التخويف والسخرية, بين إثارة الفزع وإطلاق طاقات الخيال الساخر, وتعميق حس المفارقة وتناقضاتها.
وإذا كانت صورة الله ساخرا, أو مازحا, شديدة الشحوب في الثقافة الإسلامية, لأن كثيرين أرادوا لها أن تُحصر بين خصلتين متناقضتين: العطف والانتقام, السلم والتجبر, فإن المطران دزموند توتو يذهب بعيدا في وصف الله, فهو يراه مالكا لخصال المرح, مشبعا بروح الدعابة. ودعابة الله لدى توتو لا تنحصر في كلمات الله حسب, بل تتعداها الى أفعاله. فدعابة الله نجدها مبثوثة في خلقه, في الفطرة التي صنع بها ممالك النبات والحيوان والجماد.
ولم يكن غريبا, لمن يعرف توتو, أن يكون توتو نفسه, الذي آمن بروح الله الساخر, هو ذاته الذي اختاره نيلسون مانديلا لكي يكون رئيس لجنة الحقيقة والمسامحة, التي أعقبت سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقية.
قواعد التسامح لدى توتو بسيطة وواضحة تتطابق مع واقع جنوب إفريقية العرقي: "لا نورنبيرغ ولا عفو مطلق", اعتقادا منه أن "نورنبيرغ" قد تحدث جرحا عميقا في نفوس البيض, أما العفو العام فمن المؤكد أنه سيدمي نفوس السود, وأقارب الضحايا. إن تجربة جنوب إفريقية تختلف في تفاصيلها عن تجربة العراق, فهناك انصاعت شرائح عليا من قيادة السلطة البيضاء, صاغرة, لشروط التغيير سلميا, في حين أن العراق وقع تحت براثن غزو واحتلال وفوضى سياسية وأمنية أمعنت في تعقيد الصورة, المعقدة أصلا. إضافة الى ذلك فالخلاف بين السود والبيض لم يكن خلافا سياسيا محضا, ولم يكن خلافا حزبيا على الإطلاق, كما هي الحال مع البعثيين العراقيين, بل كان خلافا بين أجناس متصارعة على حق تاريخي. وإذا كان ما صلُح لجنوب إفريقية قد لا يصلح للعراق, إلاّ أن القاعدة الجوهرية لقضية الحقيقة, التي نادى بها توتو في كتابه " لا مستقبل بلا غفران" تظل ثابتة وتكاد تكون مطلقة في أحكامها وتشمل الجميع. وهي قاعدة تقوم على مبدأ بالغ الدقة, اسمه: تسامح لا نسيان. تسامح قائم على عنصر الوعي, أو بمعنى أدق على عنصر الإدراك التام للموقف, مصحوبا بإقرار, داخلي, بوعي المأساة, وبتقدير حجم الخطايا المقترفة من قبل المشمولين بالتسامح, أفرادا وجماعات.
وقد تبدو كلمة مسامحة أو مصالحة غريبة الوقع على آذاننا, لكنها ليست كذلك بالمعنى الذي أراده توتو. فهذه الكلمة ترتبط بمدلولات دينية وأخلاقية مأخوذة من التراث الديني المسيحي. فهي ترتبط بكلمة غفران ومغفرة, والأهم أنها ترتبط بفكرة التكفير المسيحي, أي التكفير عن الذنوب, بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من مدلولات نفسية وأخلاقية تتعلق بصدق الذات والاعتراف بالإثم والإقرار بالحقيقة والقبول بنتائجها.
في العراق لا يوجد نيلسون مانديلا ليختار لنا شخصا كدزموند توتو يمثل الحقيقة والتسامح(بعضهم شبهه بالمرجع الديني السستاني), وربما لا يوجد لدينا من يؤمن بأن الله يمكن أن يكون مازحا. لذلك لم نر حتى الآن دعوة للمراجعة الثقافية والسياسية. لكننا وجدنا تنازلات تصل الى مستوى الجريمة في شططها, أقترفت تحت غطاء التقاسم والمساومات السياسية, إضافة الى "صفقات" سرية مريبة يهدد كل طرف من أطرافها بـ " كشف خفاياها", بينما يبقى الشعب الذي انتخبهم هو المستثنى الوحيد من معرفة أسرار تلك الخفايا!
أيدخل هذا السلوك في باب السخرية أيضا, السخرية الشريرة, ربما؟
صورة الله مازحا, لا تختفي , عندنا, من ذهن المتسامح فحسب, بل تختفي أيضا, وبصورة مطلقة, من عقل ووجدان الذين يراد لهم أن يكونوا مشمولين بالتسامح.
لقد رأينا عسكريين بعثيين انتقلوا بحكم مهنتهم من ضفة الى ضفة, وتحولوا الى مقاتلين في الصف الآخر بطرفة عين, من دون أن تُعرض ضمائرهم وأفعالهم السابقة على جهاز كشف الحقيقة. ورأينا أعدادا غفيرة من الصحافيين وصغار وكبار الكتاب يستديرون بزاوية منفرجة من مديح القائد وحرائقه الى كتابة سمفونيات تتغنى بأنين سكان المقابر الجماعية.
لكننا لم نجد "الطليعة" الثقافية الحاكمة أو المرتبطة بالحكم, التي تربعت على عرش الثقافة لأكثر من ثلاثة عقود, أو التي عاشت على بركاتها وعطاياها وجوائزها: لم نر شاعرا, أو قاصا, أو رساما ومثّالا, أو ممثلا أو مخرجا, أو صحافيا يبدي رغبة علنية في إظهار بارقة ندم.
على العكس من ذلك رأينا شعراء وفنانين وروائيين يصرون بصلف على الاحتفاء, السافر والمبطّن, بتلك السنوات البشعة, من خلال إعادة تزويقها, أو تزويرها, أو التستر على خباياها.
في أي فضاء تبخر جيش الوشاة العرمرم؟
أولئك يتشبثون بإصرار وحشي بذلك الإرث الدموي كله, كتشبثهم بأرواحهم. فلا رغبة في المراجعة, ولا بارقة ندم تخطر على بالهم.
ومن أين يأتي الندم!
من دون شك, لا أحد يطلب من أحد أن يتقدم بملف ندمه الى وزارة الثقافة, أو الى القيادة الجديدة لاتحاد الأدباء, وليس لأباء المنفى المشردين. فلا أحد من هؤلاء معنيّ, من قريب أو بعيد, ببكائيات الندم. لكن عمتنا النخلة التي فقدت تاجها في القادسيات المتتالية, وتُركت مغبرّة باكية مثل مسلة للأحزان, معنيّة بذلك, طيور الأهوار التي أحرقت سماؤها فأضاعت بوصلة رحلاتها الموسمية معنيّة بذلك, قطرات الماء التي روت الحضارات العراقية كلها, والتي ستروي ما هو قادم منها, والتي تلونت بطعم الدم والصلف والطغيان والجهالة معنيّة بذلك, تخوم بغداد, التي لم يستشهد أحد منهم في سبيل حمايتها من الغزاة معنيّة بذلك, البيوت التي لم تزل ترفرف على أسطحها ملايين الأعلام السود معنيّة بذلك, الجبل ومعه كرديّ الله الذي عاش غريبا في وطنه معنيّان بذلك. أولئك وحدهم من يعنيهم الاعتذار والمسامحة. أولئك وحدهم من يستطيع أن يمنح الروح الضالة شهادة براءتها, ويهبها صفاءها الداخلي. فمن دون هذا الصفاء ستبقى الكلمات المتباكية على بغداد وسماواتها وطيورها ونخيلها وأمواهها محض كلمات منافقة, كاذبة.
فقبل أن نكتب قصائدنا البكائية, وقبل أن نسطر مراثيا, علينا نتوضأ بالخير, وأن نمسح على رؤوس الذين أدمينا قلوبهم ومنعناهم حتى من حق أن يبكوا موتاهم.
ولكن من أين نأتي بمن يستطيع تأويل كلمات الله وجعلها متسامحة الى حد الدعابةّ! من أين لنا بحس الدعابة وعلاوي معنيّ بإضحاك الدبابات الأميركية, والجعفري يبكي حينما يضحك, والطالباني يضحك حينما يبكي, أما الياور فيطلق زغرودة عرس عند انفجار كل سيارة مفخخة.
فمن يسامح من؟
إنهم, جميعا, ينتظرون اللحظة الفاصلة المرتقبة, لحظة التقاسم السياسي, لكي يسطروا وثيقة نسيان الماضي الأليم, نسيانه بوضع نقطة كبيرة خلفه وغلق أبوابه الكريهة.
فحينما يقتبس دزموند توتو من الفيلسوف جورج سانتايانا قوله " من ينسى الماضي محكوم عليه بتكرار هذا الماضي" فإنما يريد أن يؤكد لنا أن التسامح عن طريق النسيان هو محو قصدي للذاكرة, هو قتل متعمد للضمير, وقبر تام للحظة الوعي التاريخية. إنه باختصار تام إعادة إنتاج حتمي لدورة الشر الماثلة أمامنا الآن بقوة خارقة.
أما التسامح المقرون بالتذكر فهو تأكيد لمبدأ الإيمان بالعقل, بالقانون, بالإنسان كغاية قصوى للحياة, وفي الأخير بوعي اللحظة التاريخية القاسية, من أجل عبورها نحو فجر آخر.
فبالنسيان المتعمد سنعيد دورة بناء المقابر الجماعية, سنبني برجا بابليا جديدا للمراثي, سنعيد باسم صدام, أو باسم بوش, أوباسم الزرقاوي, أو باسم أي كان مراثي الحسين ومقاتل الطالبيين ومشانق العهد الملكي واحتقانات ثورة تموز وفضائع عام 63 ومحارق صدام ومباهج الاحتلال البربرية!
حينما نفعل ذلك, سنتذكر, وقتذاك, أن الله يجيد السخرية, يجيدها ببراعة وامتياز.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شكر المحتل, وشكر صدام ! ؟
- مزاد علني في الهواء الطلق
- وداعا زهرون...نم شفيف الروح يا بطل هذا الزمان!
- من يذكر طه حيدر؟
- صيادو رؤوس سويديون يتوجهون الى العراق
- إنهم لا يحصون الجثث
- أما آن الأوان لكي يعود طائر الثقافة المهاجر الى عشه؟
- أبو طبر
- النهلستي الأخير! دفاع مع سبق الإصرار عن سعدي يوسف, دفاع عن ذ ...
- زهرة الرازقي: رواية عن الحرس القومي
- أطفال الحرب
- ليس مباحًا أن يكون المرء طويلا في بغداد
- رحل فدائيو صدام, جاء فدائيو بوش!
- الاحتلال العراقي لأميركا
- ســقـط صــدام هــل يـســقـط الـحـزب؟
- مــوســيـقــيـو الـحــدائــق
- أيـفــنـد يـونـســون الـحــلـم الاوروبــي فـي الادب الاســوج ...
- القيادة الكردية العراقية الحاكمة بين خياري الفيدرالية والحرب ...
- صرخة من أجل العراق
- صـدام عـمـيــلاً تـمـحــيـص الـمــصطلـح


المزيد.....




- أمطار غزيرة وعواصف تجتاح مدينة أمريكية.. ومدير الطوارئ: -لم ...
- إعصار يودي بحياة 5 أشخاص ويخلف أضرارا جسيمة في قوانغتشو بجن ...
- يديعوت أحرونوت: نتنياهو وحكومته كالسحرة الذين باعوا للإسرائي ...
- غزة تلقي بظلالها على خطاب العشاء السنوي لمراسلي البيت الأبيض ...
- ماسك يصل إلى الصين
- الجزيرة ترصد انتشال جثامين الشهداء من تحت ركام المنازل بمخيم ...
- آبل تجدد محادثاتها مع -أوبن إيه آي- لتوفير ميزات الذكاء الاص ...
- اجتماع الرياض يطالب بفرض عقوبات فاعلة على إسرائيل ووقف تصدير ...
- وزير خارجية الإمارات يعلق على فيديو سابق له حذر فيه من الإره ...
- سموتريتش لنتيناهو: إذا قررتم رفع الراية البيضاء والتراجع عن ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - الله ساخرا!