أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام عبود - ما بعد جائزة نوبل للأدب, أزمة الذات الثقافية العربية















المزيد.....


ما بعد جائزة نوبل للأدب, أزمة الذات الثقافية العربية


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1461 - 2006 / 2 / 14 - 11:25
المحور: الادب والفن
    


بإعلان الأكاديمية السويدية اسم الفائز بجائزة نوبل للأدب، أغلق مسرح التكهنات أبوابه في انتظار دورة جديدة في هذه السنة. لكن دورة العام الفائت، لم تكن كسابقاتها. فقد انتهت وقائعها، لكنها تركت وراءها عددا كبيرا من الأسئلة، لم تزل تبحث عن أجوبة. بعض هذه الأسئلة ظهر الى العلن قبل صدور الجائزة، وبعضها رافق الإعلان عن اسم الفائز، ومنها ما أصبح ضروريا في نظر البعض بعد الانتهاء من تسمية الفائز.
قبل تسمية الفائز بأيام أثار عضو الأكاديمية السويدية كنوت آنلوند مفاجأة، حينما أعلن استقالته من عضوية الأكاديمية، تلك العضوية الدائمة، التي لا تنتهي إلا بالوفاة. كانت أسباب الاستقالة المعلنة، كما كتب آنلوند في صحيفة "سفنسكا داغبلادت" السويدية تتعلق بسوء اختيار الكاتبة النمسوية ألفريدة يلينيك لجائزة العام الماضي. وتشمل الاعتراضات الجوانب الفنية والفكرية في أعمال الكاتبة، وتالياً تحدد قيمتها ووزنها كمنافس عديم القيمة. فقد نظر آنلوند الى الكاتبة فنيا وفكريا باستصغار صريح.
قوبلت آراء كنوت آنلوند بردود فعل متباينة، راوحت بين الاستحسان الخفي الى الرفض والتفنيد الصريح، رغم أن الأكاديمية السويدية نفسها ظلت بعيدة عن ردود الأفعال هذه، عدا الجمل المقتضبة والغامضة التي ذكرها سكرتير الأكاديمية هوراس انغدال حينما علّق على خبر استقالة آنلوند، ومنها تلميحه الى أن اعتراضاته جاءت لتفسد عملية الترشيح، وأن ما قدمه آنلوند من نقد لا يرقى الى مستوى إنشاء مدرسي بعلامات متدنية. وربما تكون أبرز الردود وأعنفها قد جاءت من كتاب الأعمدة الصحافية في السويد، فقد حوت عددا من الأسئلة الهجومية التي تشكك في صدق اعتراضات آنلوند وحصافتها، منها سبب تأخره عاما كاملا لكي يبدي رأيه. ويعزو بعضها تأخر آنلوند بالرد الى أنه منح نفسه فرصة لقراءة أعمال يلينيك، مشيراً الى أن اتهامه لزملائه في الأكاديمية بأنهم لم يكونوا قد اطلعوا جيدا على أعمال يلينيك، إنما يشمله في الدرجة الأولى.
هارولد بنتر مفاجأة سياسية!
جاء إعلان فوز هارولد بنتر المتعدد الموهبة مفاجأة للجميع، بما في ذلك لبنتر نفسه. فلم يكن ضمن ما عرف بقائمة الخمسة، ولم يكن أيضا ضمن قائمة التوقعات الطويلة، التي تسبق عادة تسمية الفائزين، والتي هي حصيلة لتكهنات بعض دور النشر والصحافيين.
وقد قابلت بعض الأوساط الصحافية اليمينية، ذات التأثير المحدود في الثقافة الأوروبية، كبعض الصحف السويسرية، فوز بنتر باعتراضات فورية، ودعت الى احداث إصلاحات متطرفة في الهيئة المشرفة على الجائزة، كإعادة النظر في أسس تكوين الأكاديمية.
عند تمحيص الاعتراضات التي نشرت في الصحافة الأوروبية, عقب فوزها يلينيك بالجائزة ، نجد أنها تنحصر في ثلاث كلمات: الإثارة (ويقصد بها الإثارة الجنسية) والشيوعية، ومعاداة أميركا. وهي تقويمات يركز جانبها الأعظم على الميول السياسية للكاتبة، مصحوباً بمبالغات سياسية وأخلاقية تخوفية، ذات نبرة دعائية. وحينما نعود الى اعتراضات عضو الأكاديمية كنوت آنلوند نجد أنها تكرار حرفي لتلك التقويمات، لكن بطريقة أقل سفورا.
بيد أن اعتراضات آنلوند على بنتر، التي صدرت عقب إعلان الجائزة مباشرة، منحت البعض قاعدة عقلية أوضح، يسّرت لهم تفسير عبارات سكرتير الأكاديمية الغامضة المتعلقة باستقالة آنلوند، والتي عزاها الى أن آنلوند كان يسعى الى إعاقة عمل اللجنة. فآنلوند أعاد توجيه التهم السياسية نفسها، التي وجهها من قبل الى يلينيك. كان التغيير الوحيد الذي أجراه هو إبدال الإثارة بالغموض، أما الجزء المتبقي، العلني والمضمر، من النقد، فقد كان واحدا تقريبا ويخص النشاط السياسي لبنتر.
فهل كانت معركة نوبل سياسية؟
تسيس الوعي الثقافي!
بعض العرب فسر الأمر كذلك، من دون ابطاء. ومثل هذا نجده لدى بعض الاوروبيين أيضا، المعترضين منهم على الجائزة بشكل خاص. فحينما نقرأ تحفظاتهم عن يلينيك وبنتر نجد أنها آراء سياسية بحتة. وهذا طبيعي في الجدل الثقافي والاجتماعي والسياسي القائم. لكن ما هو أكثر أهمية من هذا كله، أن القائمين على نوبل أثبتوا أنهم لا يزالون يحتفظون بعقلية التعدد. فاعتراضات بعض الصحافيين السويسريين المتطرفة ضد الأكاديمية، بدت في الظاهر كما لو أنها دعوة تجديدية، لأنها تدعو الى تحطيم التحكم "البابوي" الذي يفرضه على الجائزة شيوخ الأكاديمية السويدية. لذلك سارع بعض العرب، من مؤيدي السياسة الأميركية والحرب بشكل خاص، الى تأييد تلك الآراء، لأسباب سياسية محضة، كاشفين عن قدر محسوس من سوء الدراية بالشؤون الثقافية، فعمدوا الى تكرار تلك الآراء من غير تدقيق أو حتى فهم، وتمادى البعض في النقل فأضاف من عنده أفكارا عن فساد الأكاديمية، بأن جعلها "في حال من الرتابة والتقليدية"، وهو أمر يتناقض بشكل جوهري ومطلق مع قرارات الأكاديمية في السنوات الخمس الأخيرة على أقل تقدير.
إن الاعتراضات، التي تظاهرت بالغضب على البابوية، هي في حقيقة الأمر، دعوة ثقافية شديدة التخلف من حيث الجوهر، ومتطرفة يمينيا بشكل سافر. فقد أظهرت مفاجآت الأكاديمية حيوية الفكر الذي تستند اليه في اختياراتها سياسيا وفنيا. فهي تتكىء على قيم تصر على عدم الدخول في حقبة الواحدية الايديولوجية، التي يريد البعض فرضها على الثقافة، باسم الواحدية السياسية، المتحكمة في مصير العالم الآن. بعض العرب ذهب به الخيال التلفيقي حدودا بعيدة، حينما ربط بين بنتر وصدام، بسبب معارضة بنتر للحرب على العراق. "الحقيقة هي أن الفائز خلال العامين الماضيين قد اختير من قبل الرجل الذي بدأت محاكمته في بغداد الأربعاء الماضي" (صحيفة "الشرق الأوسط"، العدد 9824، 21 تشرين الأول 2005).
إن الفهم العربي للسياسة، الشائع في الصحافة، يختلف اختلافا بيِّنا عن فهم الأوروبيين. فالسياسة، حتى لدى الإعلاميين العرب الذين أمضوا ردحا من حياتهم في الغرب، لا تعدو أن تكون تطبيقات عربية فجة، منسوخة من أردأ مصادر الثقافة الغربية: بما أن هارولد بنتر عارض الحرب على العراق، وبما أن الحرب كانت ضد نظام حكم صدام، وبما أنه فاز بالجائزة هذا العام، إذاً فالجائزة ممنوحة من صدام أو أعوانه الخفيين المبثوثين في الأكاديمية السويدية، أو في أجهزة صناعة القرار الثقافي الأوروبية! مثل هذه المحاججات العقلية المتهافتة، الموجهة الى القارئ العربي، لا يقبلها العقل الغربي بيسر، لأنها تتضمن إعلاء ضمنيا، غير مستحب، لشخص صدام ومكانته في الثقافة العالمية.
فمما لا شك فيه أن السياسة تتحكم بمصير البشرية تحكما تاما، بطرق مباشرة أو غير مباشرة. لكن سبل عملها وطرائق تأثيرها ليست اعتباطية وسطحية، بالصورة التي يراها بعض المشتغلين في الإعلام العربي.
فعلى سبيل المثال تعترف الأكاديمية السويدية صراحة على لسان سكرتيريها هوراس انغدال وستوره ألين بوجود مثل هذا الميل، وببروزه من حين الى آخر. ولكن ليس بالطريقة الخرقاء، التي يربط بها بعض المشتغلين في الإعلام العربي بين فوز بنتر بالجائزة وفوز بوش بالحرب على العراق. فإنغدال مثلا لا ينكر وجود ميل الى المركزية الأوروبية له تأثير على خيارات الأكاديمية لفترات عديدة. وهذا صحيح ومنطقي في ظل سيادة فكرة المركزية الأوروبية وشدة تحكمها في النشاط الثقافي والعقلي الأوروبي تاريخيا. ومثل هذا النقد وجهه أيضا السكرتير السابق للأكاديمية ستوره ألين، حينما وصف فترة عمل الأكاديمية في الحقبة الممتدة من 1901 الى 1912 قائلا: "أخذت مضامين في عينها أريد مكافأتها"، كما جاء في الحوار الذي أجراه معه الإعلامي العراقي طالب عبد الأمير ونشره في 12 تشرين الأول 2005.
من هذا المنطلق لا يستطيع المرء إبعاد شبح التأثير السياسي عن أسماء فائزة عديدة أبرزها البريطاني من أصل ترينيدادي نايبول. أما فوز المجري إيمري كيرتيس، الذي فسره العرب كانتصار للصهيونية، فهو فوز سياسي خالص، لكنه لم يكن مرتبطا بالصهيونية، بقدر ارتباطه بحملة تكفير الذنوب، التي تبنتها حكومة يوران باشون في ما يتعلق بـ"مأساة اليهود التاريخية"، والتي هي جزء من عقدة الذنب السويدية.
وربما لا يجد المرء غرابة لو أن أحدا ما فسر فوز بنتر اليهودي الأصل بالطريقة نفسها، لكن ليس لمصلحة الصهيونية أيضا، ولا لمعاداة العرب، وإنما لايجاد توازن خفي، لا يدرك بيسر، بين اليهودي المنتصر للحق، حتى وإن كان هذا الحق عربيا، في مواجهة اليهودي الباطش المعترف به دوليا في صورة شارون. فالرسالة السياسية هنا، لو صح وجود مثل هذه الرسائل، هي اختيار المعادل الايجابي، الذي يحاول ايجاد حال من التوازن تعدل وتصحح إعلاميا كفة الخلل الفاضح في صورة العدالة المثلومة من قبل سلطة اسرائيل، التي لا تريد أن تأتي الى طريق السلام بيسر، رغم كونها ديموقراطية، حتى العظم، في نظر المؤسسة السياسية الأوروبية الحاكمة. إنها إحدى صور الأزمة الداخلية للديموقراطية الغربية: الصدام بين السياسي والفكري، بين النظري والتطبيقي، بين الراهن والتاريخي، بين ما لهم وما للآخر. إن خلق توازنات خفية، عميقة المغزى، يدخل ضمن الوعي السياسي الأوروبي، الذي تتمتع مؤسساته الثقافية بقدر عال من الاحتراف والتمكن، وبقدر كبير ومحسوب ومؤثر من الاستقلالية.
العرب: تأنيث المذكر وتذكير المؤنث
إذا تركنا الجانب السياسي، ورحنا نتتبع أثر الجانب الثقافي، نجد أن العرب استقبلوا الحدث (نوبل) وتعاملوا معه ثقافيا بالطريقة المعيبة نفسها.
فمنذ الوهلة الأولى تدفقت سيول من المعلومات المكررة، خالية من التدقيق والتمحيص، على درجة عالية من الجهل بالشأن الثقافي، اختلطت فيها الأسماء: ترجمات الأسماء وترجمات الأشخاص والأحداث. ترجمات جعلت كنوت آنلوند يصبح نوت أهنود، اختلطت فيها مؤلفات آسيا جبار بمؤلفات يلينيك، وجعلت من يلينيك "روائيا"، ولم يبخل بعضها في جعلها "الكاتب النمسوي المثير للجدلِ". ومنهم من فعل العكس. فإذا كان الخبر المنشور في موقع "الفجر" في 16 تشرين الأول 2005 يجعل من يلينيك ذكرا، فإن أمير طاهري، الذي يشنّ حملة عنيفة على "البلهاء" و"المزيفين" يجعل من الكاتب المجري ايمري كيرتيس امرأة، ولا يبخل عليه بلقب "شاعرة"! ("الشرق الأوسط"، 21 تشرين الأول 2005، العدد 9821)، ولا أعرف كيف فات ذلك على محرري الشؤون الثقافية في الصحيفة!
كل هذا يدعونا الى التوقف، ولو قليلا، أمام عملية التلقي الثقافي في مرحلة سيادة ثورة المعلومات وتطور شبكة الاتصالات الخبرية. فثورة الانترنت قوبلت قوميا، لدى العرب، بردود أفعال ثقافية في غاية السوء، جعلت من مواقع الانترنت حقولا للتعبير عن كل ما هو غث وسقيم، يضاف الى ذلك ضحالة المستوى الفني والإخلال المفرط بقواعد التأليف وقيمه وشروط الكتاب، التي تحرص عليها الأمم جميعها بقدسية. إن ردود الفعل هذه ليست مستغربة، فهي تعكس طبيعة الواقع الحقيقي للثقافة العربية، وشدة اضطرابه وقلقه الذي لا يقبل الإخفاء. فسبل التلقي والتمثل والنقل، التي لا تزال على درجة عالية من التدني، جعلت من سرعة تدفق المعلومات نقمة كبيرة على العقل العربي، لم يستطع التعامل معها بايجابية، ولم يتمكن من استخدامها لمصلحته بشكل مثمر وفاعل. إن ثورة المعلومات العالمية أضحت، في الثقافة العربية، ثورة في العجز العقلي، وفي بؤس الاستقبال والإرسال الثقافي وسوء تنطّس الأخبار والمعلومات.

شخص واحد بل شخصان
ومن مظاهر العجز الفاضحة في الثقافة العربية - العجز في الاستقبال والتمثل والارسال - ما رافق جائزة نوبل لعام 2005 عند اختيار المرشح العربي الأوفر حظا لنيل الجائزة: أدونيس.
فقد جعله البعض قاب قوسين أو أدنى من الجائزة، استنادا الى تقويمات لا صلة للأكاديمية السويدية بها. ومنهم من تكرّم بالجائزة لصالح أديب كردي اتقاء لشر أدونيس العربي. وربط بعضهم عدم فوز ادونيس بفوز العربي البرادعي بأحد فروع الجائزة، وهو فوز سياسي صرف، معروفة أسبابه ودوافعه. ومثل هذا الربط يحوي قدرا مقبولا من المنطق، وإن كان التحقق من صدقه عسيرا.
بيد أن أدونيس كان، حقا، الأديب الأكثر قربا من مناخ الجائزة. ولا مبالغة في ذلك. فقد استهلت صحيفة "سفنسكا داغبلادت"، أكبر صحف السويد اليومية، مقابلتها مع أدونيس في التاسع من تشرين الأول 2005، بالكلمات الآتية: "يحتل أدونيس المركز الأول في قائمة لادبروك الانكليزية للتوقعات المتعلقة بشأن تحديد اسم الفائز بجائزة نوبل لهذا العام". وربما كانت دعوته الى حضور معرض الكتاب في يوتبوري (يوتنبورغ)، اقترابا مكانيا من موطن الجائزة، في نظر البعض. كما أن ظهوره المفاجئ على القناة التلفزيونية السويدية الأولى في مقابلة قصيرة، قبل يومين من الجائزة، وإجابته عن سؤال يتعلق بمشاعره في حال فوزه بالجائزة، عززت الانطباع القائل بقرب أدونيس من الجائزة، وتلك مزايا لم يحصل كاتب آخر على ما يماثلها. وحينما نشرت صحيفة "سفنسكا داغبلادت" مقابلة مطولة مع أدونيس، قبل أيام من موعد إعلان اسم الفائز بجائزة نوبل، أضحى الانطباع بأفضلية أدونيس شبه يقين في أذهان كثيرين.
لقد وقف العرب أمام مرشحهم بمشاعر متناقضة ومضطربة، تعكس الى حد كبير روح التناقض وفقدان الثقة بالذات، الذي يسود المناخ السياسي العربي عموماً. ولم يكن أدونيس وحيدا هذا العام، فقد شاركته آسيا جبار، التي نظر اليها البعض كظل عربي شاحب قياسا بشخصية أدونيس. بسبب قوة حضور شخصية أدونيس كشاعر في الوسط الثقافي السويدي، اليساري والانساني خصوصاً، وبسبب كون البعض يصنف المرشحين العربيين ضمن دائرة التأثير الفرنكوفوني، لكن لصالح أدونيس الأقل فرنكوفونية، والمتحدث بفرنسية مشوبة بنبرة شرق أوسطية بيّنة، كما وصفته الصحافة السويدية.
ما هو مثير في أمر نوبل لا يتوقف عند مواقف العرب المتناقضة، تجاه مرشحهم: أدونيس فحسب. الأكثر إثارة للدهشة هو موقف أدونيس نفسه من نفسه. وبمعنى أدق موقف أدونيس من أدونيس، في اعتباره الممثل الأبرز للثقافة العربية، بما أنه مرشحها الأول.
إن تمسح مرشحنا بالشاعر السويدي ترانستورمر، عن قصد أو بدون قصد، وازدواج خطابه، أضفيا على موقفه مسحة من التملق والنفاق الثقافي. وهي صفات لا تمنح صاحبها أفضلية شخصية في التقويم الثقافي الأوروبي، ولا يُستبعد أن تفعل العكس: ثلم الصدقية، وتقليل حجم الأصالة والثقة بالنفس. فمرشحون مثل نايبول وداريو فو وبنتر ويلينيك أقرب الى الذائقة الأوروبية، من ناحية الانسجام والوحدة العقلية والسلوكية، التي يتمتعون بها، حتى لو كانت تلك الوحدة مصدر خلاف. وهي وحدة قد تقود، في أحوال كثيرة، الى تدعيم صورة المرشح ومده بشيء من الترجيح الخفي، في حال توافر مناخ سياسي ملائم.
كان داريو فو مخلصا لمسرح العبث ولإيطاليته، ولم يتراجع بنتر عن خطه السياسي المعهود أو عن مسرح اللامعقول، ولا عن أصله اليهودي أو تكوينه البريطاني. ولم يتنصل ساراماغو من شيوعيته أو برتغاليته، ولم تتبرأ يلينيك من إثاراتها أو نقدها للتسلط الدولي أو أوروبيتها. ولم يفعل ذلك نايبول أيضا، الذي يقف في الاتجاه المعاكس. كانوا جميعا وحدة منسجمة في مواجهة عالم غير منسجم. كانوا صورة جيدة التماسك في تكوينها الشخصي، الذي هو مصدر تفردهم الأساسي. لذلك رأى فيهم الناس بشرا، وحاملي فكر، وصانعي تجارب أصلاء، وإن شكك البعض في حجم مهاراتهم الفنية. وهذا ما لم يتمكن أدونيس من إحداثه في نفوس الآخرين, رغم أن إجماعا يكاد أن يكون واسعا يتفق على مهاراته الفكرية والفنية. لقد وقع أدونيس في شرك الاضطراب النفسي والعقلي نفسه الذي وقع فيه مثقفو الأمة وهم يختصمون منحازين له أو ضده. فاندفع هو أيضا، ربما تحت إحساس قوي بالوحدة والمرارة، التي خلفها التمزق القومي حول شخصه، الى خلق توازن مصطنع لنفسه، راسما صورة متناقضة عن شخصه، ذات خطاب مشتت، استرضائي، ساعيا به الى إقناع الآخر بأنه يمتلك لغة مشتركة معه، ناسيا أن الآخر يمجد التماسك والوحدة، حتى لو كانت وحدة مختلفة عن نمط تفكيره وسلوكه.
لقد وجد بعض المثقفين العرب في سلوك أدونيس هذا مثلبة - أنا أراه جزءا من أضاحينا القومية - فراحوا يشيرون اليه بنبرة لا تخلو من التشفي. مثل هذا وجدناه في التعليق الذي ذيّل به موقع "كيكا" الالكتروني مقالة معادة لأدونيس نشرها في صحيفة "الحياة"، يوازن فيها بين التراث والحداثة، بين الدخيل المحتل والتطرف الداخلي. وهي مقالة أجد فيها قدرا عاليا من الدقة والمسؤولية الثقافية، تعكس جوهر أدونيس وحجمه الحقيقي كأحد صناع الثقافة العربية المعاصرة ومؤصليها. بيد أن ما أخذه البعض عليه، بسبب هذه المقالة أو لأسباب سياسية بحتة، نجده ماثلا حقا في ما رسمه أدونيس في الصحافة الغربية، السويدية خصوصاً، من صور شخصية له، بدت دعائية ومتناقضة مع صورة المفكر المتوازن، التي ظهرت في مقالة "الحياة". وهنا، في هذا الموطن، يكون موقع "كيكا" مصيبا تماما. فالصورة التي آثر أدونيس نقلها الى القارئ السويدي كانت استجدائية، أكثر مما هي وصفية. ومثل هذا الاستجداء الثقافي ربما سيغدو سلوكا وتقليدا ثقافيا قوميا شائعا ومستعذبا في أيامنا المقبلة، إذا لم تتم مواجهته بقوة. فقد أخذ عدد متزايد من الأسماء الشعرية العربية البارزة، العراقية خصوصاً، ينخرطون في نشاطات استجدائية مماثلة، من خلال تبجح مخجل، يعربون فيه، بطرق متنوعة، عن سوء علاقتهم بأعظم مصادر ثقافتهم: لغتهم العربية، التي بها وحدها وُجدوا كشعراء، وبها وحدها سيحترمهم الآخر، الأوروبي طبعا. أولئك ظنوا، لأسباب تتعلق بالخذلان وضعف الثقة بالنفس أيضا، أن ذلك يعطيهم تأشيرة عبور الى وجدان العالم الآخر، وهم في ذلك واهمون ومسرفون في احتقار ثقافتهم. فالتعاطف الثقافي يتم من طريقين لا ثالث لهما: التعاطف المصنوع بقوة العامل السياسي وتسيّد الثقافات، والتعاطف المتحقق بفعل قوة الإبداع الفردي. وكلا التعاطفين يحتاج الى اسناد ثقافي واجتهاد قومي مخلص، لكي يحقق أكله عالميا.
الصورة التي أراد أدونيس نقلها الى الآخر، غير العربي، كانت ذات دلالات وإشارات مختلفة تماما عن تلك التي رسمها لنا. ومما لا شك فيه أنها صورة خالية من الزيف والإدعاء، لكن رسائلها الباطنية مغايرة، ومقاصدها المباشرة لا تشبه تلك التي وجهها الى قارئه العربي: "إبنتاي تعيشان كما ترغبان. أنا صديقهما. لم أمارس معهما (السلطة) الأبوية"، "لا أستطيع العمل (التأليف) في البيت. زوجتي لا تطيق أن أدخن. أنا أرغب في أن أكون قادرا على أمرين: التدخين واحتساء النبيذ حينما أعمل"، "الكاتب يعيش عيشة بورجوازية، لكنه يفكر يساريا"، "أنا أعتقد أن الدين في ترجمته الفعلية قد أصبح متجاوزا. كانت تلك مرحلة تركناها خلفنا الآن في هذه المرحلة من مراحل التفكير البشري. الآن يتوجب علينا أن نفكر بما هو جديد (نكون مجددين فكريا)، "فقط حينما يريد أن يخفي شخصيته الحقيقية يعود الى اسمه الحقيقي، فيصبح عليا، كأي علي آخر"، "اسمه الأصلي علي أحمد سعيد. الآن، ألقب أدونيس حتى من قبل أمي، البالغة من العمر 101 سنة، والتي لا تزال تعيش في سوريا"، " لا توجد لديّ صلات مع الجمهور(الجموع). أنا أعرف عددا من المثقفين، ولكن ليس من المسلمين أو العرب"، "لست مؤسساتيا"، "أنا لا أزور أي مسجد، ولست عضوا في أي منظمة"، "صلاتي، في الغالب، مع الفنانيين وهم غير كثر، على أية حال. ولكن، يمكن القول إنهم ينتمون الى الثقافة الفرنسية والأوروبية أكثر من انتمائهم العربي، على الرغم من كونهم عربا"، "وأنا أعتقد أيضا بأن الضعف (البشري) في هذه الناحية يمكن أن يتحول الى قوة، إذا تعلق بالأطفال، العائلة، الأصدقاء، خاصة النساء. أن تكون ضعيفا مع المرأة، على سبيل المثال، تلك قوة كبيرة".
الدين، المسجد، الاسم بما يتضمنه من رموز ثراثية ودينية: علي أحمد، الثقافة القومية، النساء، الخمر، تربية البنات... تلك رسائل مرتّبة، لم تصدر عفوا عن عقل غافل، وإنما تم ترتيبها في الذهن زمنا طويلا. لكنها رسائل خاطئة. ليس لأنها ملفقة، على العكس فهي حقيقية جدا. لكن فائض الحقيقة فيها لا يستقيم مع مرشح أمة، يقدم نفسه لنيل أكبر جائزة ثقافية عالمية. تلك رسالة أهملها وأغفلها عقل أدونيس الباطن. رغم أنها الرسالة الوحيدة التي ينظر اليها الآخر بتمعن، الآخر الذي نريد أن نكون لأنفسنا صورة محددة في وعيه، لنحظى بقبوله.
هل ما كتبه أدونيس في صحيفة "الحياة" كان صادقا حقاَ؟ نعم، أجيب بكل ثقة.
ولكن هل ما قاله للصحافة السويدية عن شخصه كان صادقا أيضا؟ نعم، بلا ريب.
إذاً، أيهما أدونيس؟
إنهما معا. فأدونيس، عزيزي القارئ العربي، مثلي ومثلك، أدونيسان. رجل بلسانين، حاله كحال الأمة كلها، التي اختصمت مع نفسها وهي تقف أمام مرشحها الأول، مضطربة، مبلبلة الإرادة، متشظية الفكر والمشاعر.
الصورة التي رسمها أدونيس لنفسه، وهو يخاطب أهل الجائزة، لا تتطابق تماما مع الصورة التي اعتاد أن يرسمها لنفسه وهو يخاطب أهله. أدونيس ضائع بين أهلين: أهل ممزقون هم أهله، وأهل طارئون، مقتدرون، لكنهم ليسوا بأهله. فهو ممثل لثقافة هو أحد مؤصليها ومجدديها، ثقافة لا يستطيع التنصل منها، حتى لو كان اسمه مأخوذا من اسم إله أسطوري.
إنها محنة أمة، تتجسد في شخص المثقف، لأن المثقف لسانها، وفي الحال العربية الراهنة لأنه لساناها، وربما ألسنتها المتخاصمة.
كثيرون منا سيقفون مثلي الى جانب أدونيس سواء ذهب الى المسجد أم لم يذهب، وسيقفون في صفه سواء كان اسمه عليا أو أدونيس. ولكن، عليه أن يقف مع نفسه أولا، لأنه كان وسيظل ممثلا لثقافة محددة، واحدة، حتى لو تخلصت فرنسيته من لكنتها الشرق أوسطية .



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرابحون والخاسرون في معركة حرية التعبير - حول نشر صور الرسو ...
- عولمة الشر وتفكيك الديكتاتورية
- غرائز مسلّحة - ملاحظات على مقالة: أي نزار قباني يسلسلون ورسا ...
- أول حرب جنسية في التاريخ
- ارحلوا ايها الكلاب
- من كتب روايات صدام حسين؟ صدام يلقي خطابا على نفسه والذاكرة ت ...
- قراءة في روايات صدام حسين..دكتاتور كبير وقارئ كبير
- حكومة ننسحب, ما ننسحبشي!
- الله ساخرا!
- شكر المحتل, وشكر صدام ! ؟
- مزاد علني في الهواء الطلق
- وداعا زهرون...نم شفيف الروح يا بطل هذا الزمان!
- من يذكر طه حيدر؟
- صيادو رؤوس سويديون يتوجهون الى العراق
- إنهم لا يحصون الجثث
- أما آن الأوان لكي يعود طائر الثقافة المهاجر الى عشه؟
- أبو طبر
- النهلستي الأخير! دفاع مع سبق الإصرار عن سعدي يوسف, دفاع عن ذ ...
- زهرة الرازقي: رواية عن الحرس القومي
- أطفال الحرب


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام عبود - ما بعد جائزة نوبل للأدب, أزمة الذات الثقافية العربية