أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - سلام عبود - من كتب روايات صدام حسين؟ صدام يلقي خطابا على نفسه والذاكرة تعلن حربها على الرئيس















المزيد.....



من كتب روايات صدام حسين؟ صدام يلقي خطابا على نفسه والذاكرة تعلن حربها على الرئيس


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1309 - 2005 / 9 / 6 - 11:51
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


2
على الرغم من أن الكاتب العربي لم ينتج نصا مفيدا, ذا قيمة مقبولة, عن أدب صدام حسين, إلا أن بعض الكتابات لم تخل من أفكار متناثرة, جادة. ومن هذه الأفكار ما طرحه محي الدين اللاذقاني في مقالته (طارق وزبيبة), التي خصصها للتعقيب على خبر تناقلته واهتمت به وسائل الإعلام الغربية, مفاده أن صدام حسين كان منشغلا برواياته عند اقتراب ربع مليون جندي أجنبي من أرض العراق, ولبث منقطعا عما حوله منغمسا في الكتابة.
متى بدأ انشغال صدام هذا؟ وما الذي دفعه الى ذلك؟ لا أحد يعرف على وجه الدقة متى ولماذا حدث ذلك.
الإشارة العلنية الصريحة الأولى التي تؤرخ لبدء انشغال صدام بالعمل الروائي تم تثبيتها في مقدمة رواية (زبيبة والملك), والتي تحدثت عن لقاء تم بين صدام وعدد من كتاب القصة والرواية العراقيين في 12 فبراير 2000 , حثهم فيها على كتابة "روايات طويلة", وعلى إثر ذلك "تلقف نجيب غيور من أماجد العراق هذه الكلمات البديعة فكانت هذه القصة- الرواية (زبيبة والملك)"
ينطوي هذا النص(الاستشهاد) القصير على واحد من أكثر ردود الأفعال شذوذا في تاريخ السلوك البشري. فالذي دعا الى كتابة القصة هو صدام حسين, أما الذي تلقف دعوة صدام وترجمها أدبا قصصيا فهو صدام حسين نفسه.أي إن صداما يدعو صداما, فيستجيب الأخير لنداء الأول. هذه الشيزوفرينية الصدامية, قد تبدو شيئا مثيرا للدهشة لمن ينظر اليها كحدث قائم بذاته, لكنها ليست كذلك لو درست في إطارها المحدد: السلوك الشخصي لصدام. ففي حقيقة الأمر لم يكن صدام, حينما دعا كتاب القصة, يدعوهم حقا الى الكتابة, وإنما كان يشير بطريقته الخاصة, الى أمر واحد يقول فيه: إنه أوشك أن ينجز كتابة رواية وهو في طور إشهارها, ولكنه قبل ذلك يتحدى هذا الجمع من الكتّاب البؤّس, وينازعهم مواهبهم. وتلك واحد من أهم جوانب صدام حسين النفسية: التبييت للأفعال. فصدام يخطط بدقة بالغة للنهايات قبل أن يشرع في رسم الصورة الكاملة للبدايات. مثل هذا حدث في أغلب صراعاته الداخلية (العراقية). فقد خطط لسحق ما عرف بالجبهة الوطنية قبل أن يرسم بداياتها الواقعية, وخطط ورسم بدقة سبل سحق الحركة الكردية قبل الشروع في توقيع اتفاقية آذار معها. أحداث فردية وجماعية مروعة جرت رسم فيها صدام مشهد النهاية بدقة سينمائية عجيبة ولم يعط لبدايات المشهد أي اعتبار. قتل القائد القومي البارز فؤاد الركابي والتشهير به أخلاقيا, قتل القيادة البعثية, ما عرف بالخط المدني في يوليو 1979, في حفلة دم مصورة تلفزيونيا بأمر من صدام, واغتيال الشهيد محمد صادق الصدر (الصدر الثاني) وما رافقه من اعترافات مسرحية أشرف على إخراجها صدام شخصيا, لكي يحول الانظار عن جريمة الاغتيال. تلك واحد من أهم خصائص صدام. وهي خصيصة لا يترتب عليها وجود دوافع الحقد المبيّت فحسب, بل تنطوي أيضا على قدر عال من الغرور الكاذب, ومن الاحتيال الساذج, والهوس والخيال الإجرامي المثير, والأهم من هذا كله التحجر والإنغلاق النفسي والفكري. فصدام يهندس النهايات ويظل حبيسا في داخل دائرة النهاية التي يرسمها للآخرين ويجعلها هدفا طويل الأمد نسبيا له. لكن صداما, وإن كان ديكتاتورا دمويا, فإنه لا يستطيع دائما انجاز الصورة النهائية لضحاياه, كما يرسمها خياله. أي إنه لا يستطيع أن يكون قدرا كلي القدرة. فالشهيد محمد باقر الصدر (الصدر الأول) وأخته الشهيدة بنت الهدى تمردا في أبريل 1980على النهاية القدرية التي أرادها صدام لهما: الظهور على شاشة التلفزيون, كما فعل عزيز الحاج, وتقديم اعتراف تزكية يمجد سياسة الجلاد, أي الموت الفكري والاجتماعي والنفسي. لقد تمرد الشهيدان على سيناريو الديكتاتور, فأرغما الديكتاتور على اختيار النهاية الوحيدة, التي يعرفها, حينما يستنفد نهاياته الإجرامية الأخرى: الموت الجسدي. سنميط اللثام أكثر عن هذا وغيره من دوافع صدام الانفعالية حينما نواصل دراسة مكوناته النفسية ومحركاته السلوكية.
فحينما حضر صدام لقاء كتاب القصة كان من المرجح أنه أنتج جزءا هاما من زبيبة والملك. فلم تمض على ذلك اللقاء سوى أشهر حتى أخذت أخبار الرواية بالظهور الى العلن. ففي سبتمبر من عام 2000 بدأ التلفزيون العراقي حملة إعلانية للرواية. (جريدة البيان 24 سبتمبر 2000)
وخلال الفترة من سبتمبر 2000 حتى ظهور أخبار في الصحف العراقية عن رواية صدام الرابعة (قيل حينذاك ان اسمها اخرج من هنا عليك اللعنة) في يونيو 2002 أتم صدام حسين كتابة ما يقرب من الف وثلثمائة وسبعين صفحة,أي إنه كتب بمعدل صفحتين في اليوم الواحد, من غير توقف.
ما سر هذه الحماسة الكتابية التي هبطت على صدام فجأة, ومن أين جاءه شيطان الرواية؟

ابتسامات ثقافية سرية
هنالك دوافع عديدة تقف خلف تلك الحماسة, نجهل جزءا منها جهلا تاما, لكننا نستطيع أن نشير الى ما هو بيّن لنا منها, وهو كثير ومعقد. (مما لا شك فيه أن أحدا ما يقرأ ما أكتبه الآن وهو غارق في الضحك, لأنه يعرف تماما كل شيء, لكنه يفضل أن لا يبوح بأسرار قائده, حتى لو كانت أسرارا روائية. فحميد سعيد وفاروق سلوم مثلا كانا قريبين من هذا الموضوع)
فور الإعلان عن صدور (زبيبة والملك) بادر الأدباء والفنانون العراقيون الى ترجمة هذه الرواية الى عمل مسرحي من إخراج سامي عبد الحميد, وقيل أيضا إن الأمر تم ضمن هيئة اخراجية تضم غانم حميد وفيصل جواد وكاظم النعمان أو( النصار) في رواية أخرى, وضع سيناريو المسرحية الشاعر الفلسطيني أديب ناصر, وحوّلها مزاحم البياتي الى مسلسل تلفزيوني بعشرين حلقة, أما المخرج الإذاعي حافظ مهدي فقد حولها الى مسلسل إذاعي بأربع عشرة حلقة. (المؤتمر 29 سبتمبر 2001)
حينما نحصي عدد العاملين في مشروع تحويل فكر صدام الى المسرح والتلفزيون والإذاعة, مرفقا بعدد الفنيين والممثلين والإداريين والصحافييين والنقاد والمتذوقين الثقافيين, نجد أن صداما جند من الأفراد ما يفوق حجم أكاديمية للفنون لغرض إشهار أعماله. هذا الحشد, سواء ذهب طوعا أو كرها, يمثل الوجه العلني لثقافة الديكتاتورية. فهذا الفريق الفني الكبير لا يكتفي بتزويق كلمات صدام, التي أجمع كثيرون على بؤسها, وإنما يقوم بصناعة شخصية الديكتاتور. لهذا السبب أعيد هنا تكرار ما قلته في مقالات سابقة لي, بأن الديكتاتور لا يصنع صفاته كلها بنفسه. هناك جيش لجب من الوشاة والنمامين ومرتزقة الفكر يصنعون للديكتاتور صفاته, التي تعرض على الشعب. هؤلاء, لا الديكتاتور, يتحملون ثقافيا, مسؤولية خداع الشعب ودغدغة الجوانب المريضة والرخوة في ذات الحاكم. فهم يقومون بالاحتيال حتى على فطرة الديكتاتور. هؤلاء المزورون الثقافيون وغيرهم هم من بذر في الديكتاتور وهم مواهبه الفنية والثقافية, ومنها مواهبه الروائية.
فعدا كراسين من منشورات حزب البعث لم نعثر في مذكرات صدام على أثر يربطه بالقراءة, وعلى وجه خاص قراءة الأدب الروائي. المعلومة القرائية الوحيدة والغامضة في مجال الأدب(!), التي وصلتنا منه بشكل مباشر, هي ما ذكره في رواية (رجال ومدينة ص 183) حينما قال: " وعندما كنت في الثالث المتوسط, وكان عدنان (خيرالله) في الرابع الثانوي (اعدادي) قرأنا معا في العطلة الربيعية كتابا كبيرا عنوانه (ازميرالدا) مؤلفا من ثمانية اجزاء, وربما من اثني عشر جزءا"
أما أقدم إشارة عثرت عليها تقرن صدام بالقصة فتعود الى عام 1990, حينما أهدى حميد سعيد كتابه (أوراق الحرب) الى : "الذي حرص أن تكون لكل عراقي قصة.. في ملحمة قادسية صدام. الى الرئيس القائد صدام حسين", وفي الكتاب نفسه يجعل حميد سعيد علاقة صدام حسين بالّلغة " مثل علاقة الصائغ الماهر بالذهب". وهذه شهادة وضعها أمام الديكتاتور شخص يقف على رأس المؤسسة الثقافية العراقية الرسمية, ورجل قدر له أن يصل الى أعلى مراكز إدارة الثقافة العربية. إذن, كيف يقوى ديكتاتور على مقاومة مثل هذا الإغراء؟ مجيء اسم حميد سعيد هنا لم يكن عَرَضا, فقد ارتبط اسمه رسميا بموضوع عرض رواية صدام على سامي محمد, الذي اتهم بكتابة الرواية, والذي مات عقب صدورها. (تسعى زوجته الآن- من غير وجه حق- الى إثبات أن زوجها هو الكاتب الحقيقي لزبيبة والملك, وأنا لا أشاطرها رأيها).
وفي كتاب مارك بادون (قصة طاغية) وردت كلمة رواية ضمن قراءات صدام: فهو " قارئ نهم, تشمل قراءاته كل المجالات من الفيزياء الى الرواية", أما نيكولاس كريستوفر فقد جعل من صدام عاشقا لهمنغواي!
حينما دعا صدام كتاب القصة والرواية في 12 فبراير 2000 للقائه, كان على يقين تام, من خلال ما قيل عن أدب الحرب, أن ثقافة الحرب في العراق لم تتمكن من إنتاج أعمال ثقافية ذات قيمة فنية أو فكرية. وهذا الأمر مثبت حتى في مناقشات كتاب السلطة, وإن كان على استحياء. لذلك دعا لطيف جاسم (وزير الثقافة) وحميد سعيد, بأمر من صدام, الأدباء العراقيين والعرب الى ندوة لتقييم أدب الحرب في 15-2-1989, هدفها حثهم على مساعدة الشعب العراقي في انتاج ما يخلد القادسية روائيا. يومذاك قال حميد سعيد " لماذا نرحب بكتابة الكاتب العربي عن الحرب؟"," الكاتب العراقي شارك بنصه في كل المعارك القومية الكبرى". لهذاالسبب لم يخف حميد سعيد امتعاضه من سوء التوازن في العطاء بين العراقي والعربي على صعيد الكتابة الأدبية:" نخشى في حرب أخرى أن تسأل البصرية التي فقدت بيتها وأبناءها لماذا نقاتل؟". إذن, هناك تصحر قطري في مجال التعبير عن القادسية, وهناك خذلان ثقافي قومي. فعلى الرغم من النفاق الذي أسبغه نقاد السلطة على أدب الحرب, وعلى الرغم من الجوائز, يدرك الجميع أن ما كتب عن القادسية لا يعدو أن يكون أدبا رخيصا, منافقا, سطحيا عن حرب وهمية, لا صلة تربطها بتلك المحرقة الحقيقية التي امتدت لعقود, أما جانبه الفني فلم يكن أقل هزالا من مضامينه. كتاب رواية حصدوا الجوائز أمثال: نجمان ياسين وفيصل عبد الحسن وجاسم الرصيف, لم يكن أحد فيهم يجرؤ على رؤية الجانب غير السلطوي من الواقع أو الاقتراب منه قيد أنملة. شعراء مجّدوا العرفاء واتحاد النساء وقادة الجند, كيف لهم أن يمروا بالمقابر الجماعية ويسمعوا أنين ساكنيها؟ وهنا, لا بد لنا أن نشير الى أن بعض الكتاب العرب لم يزل يعتبر, جهلا, كتاب الحرب العراقيين جزءا من الكتابة المقاومة للدكتاتورية. كأنما يريدون بهذا تأكيد مبدأ شرعية العنف. راجع لهذا الغرض مقالات عبدة وازن في "الحياة" عن أدب مقاومة الديكتاتور, التي تلغي أجيالا عديدة من الكتاب العراقيين المناهضين للديكتاتورية لصالح كتاب الحرب الصدامية. فالحرب وثقافتها كانت ولم تزل مقدسة, أما الذي استبعد عن دائرة التقديس فهو صدام وحده. إن روايات صدام هي رد ضمني على هذا الضرب من القراءة الثقافية العمياء. فحينما نقارن النص الروائي الصدامي بنصوص هؤلاء نجد تفوقا ملموسا لنص صدام على أغلب ما كتب عن الحرب. فقد تظاهر الديكتاتور, ولو كذبا, بأن يبدو أقل تقديسا لمؤستته الديكتاتورية من كتاب السلطة أنفسهم. فمن يمتلك الجرأة على وصف خيانة زوجة رأس السلطة الحاكمة تصريحا أو تلميحا؟ ومن يقوى على الحديث عن اشتراك أقرب أقرباء الملك في مؤامرات الحكم؟ ومن يقوى على نقد جهاز السلطة وذم إغرائها؟ ومن يستطيع تقديم نقد صريح لجهاز الشرطة, بمن فيهم أفراد شرطة الملك؟ لقد فعل صدام ذلك. وهو بهذا يقول لكتاب الحرب ونقادها: أنا أعرف مقدار كذبكم ونفاقكم, وأعرف خواء وسطحية أدبكم الروائي والشعري والنقدي المصانع. أنا أقل منكم صدّاميّة! ذلك سبب جدي من الأسباب التي دفعت صدام لأن يذهب نحو الأدب. ففي مملكة الوشاية وتزوير الواقع لا أحد يعرف الحقيقة أفضل من الديكتاتور نفسه.
ولكن لماذا الآن, والبلاد تقف على حافة حرب دولية؟

في مملكة الوشاية, لا خالد إلا الخوف!
لم تكن الشهرة, أو محاولة تسجيل اسمه في سجل "الخالدين" هي السبب وراء حماسته الكتابية, كما أشاعت الصحافة الغربية. فكتب صدام ليست هي التي ستدخله في ذاكرة الأبدية, بل هو نفسه من سيدخل كتبه الى أروقة الصحافة الوقتية.
ولم تكن سكرة موت, أو بيضة الديك في لحظة الوداع سببا جديا أيضا يقف خلف نوبة الكتابة التي دهمت صدام. فقد كان صدام على يقين تام بأنه باق. فقد تُستلب منه بعض مواقعه, لكنه باق. فقد كان, ولم يزل, يعتقد أن نظام حكمه هو صمام الأمان لحفظ التوازن الإقليمي, وحفظ التوازن الوطني, حتى لو كان هذا التوازن يُحفظ بطريقته الفظة. فالعدو الأجنبي لا تهمه كثيرا طريقة إدارة السلطة بقدر اهتمامه بتحقيق مصالحه المباشرة, أما القادة البدلاء فهم مجرد هواة. كان تعويل صدام على الجانب الأوروبي كبيرا ومصيريا, بصورة قدرية, وأعني هنا التعويل على الجانب البريطاني وليس الفرنسي , كما شاع بين الناس سهوا. فصدام يدرك أن الطرف البريطاني, لا الفرنسي أو الألماني, هو الجهة الوحيدة القادرة على تليين أو تغيير أو إعاقة الموقف الأميركي. لذلك دعا صدام عبر صحيفة الثورة العراقية في 21 مايو 2002 الى حوار مع بريطانيا, مذكرا الحكومة البريطانية بـ " النظر الى مصالحها العليا" (الحياة- 31 مايو 2002). ولا غرابة, هنا, أن تتزامن تلك الدعوة مع بدء نشاط صدام الرامي الى اختراق صفوف العدو ثقافيا من خلال الأدب.
إذن, كانت روايات صدام جزءا جديا من رسالة بقائه في موقع السلطة, وفي موقع الخطاب كحاكم, أراد بها أن يقدم مفاهيمه الجوهرية في حلّة أدبية, مشوقة. فحينما كتب صدام رواياته كان واثقا من أن ما كتبه, مهما بلغ بها السوء, لن يكون أقل شأنا من روايات وقصائد الحرب المزيفة, التي حصدت جوائز السلطة الفنية, بمباركة روائيين وقصاصين ونقاد عراقيين وعرب من حملة الجوائز القومية. فلماذا يُبخس ثمنه روائيا؟ أليس هو جزءا من سلسلة متصلة من حلقات التزييف الثقافي الوطنية والقومية!
حالما أصدر صدام بعض رواياته, بادرت وزارة التربية الى جعل تلك الروايات مادة تعليمية, وقررت " ادخال نصوص مختارة من الروايات المذكورة بين موضوعات كتب الادب والنصوص للمرحلة الاعدادية بفرعيها العلمي والأدبي وكتب المطالعة للمرحلة الثانوية... وفي كتب اللغة العربية في معاهد اعداد المعلمين والمدارس المهنية". ولا أظن أن ما أقدمت عليه وزارة التربية يقع أيضا ضمن الأسباب الرئيسة لكتابة الرويات. فصدام يعرف جهازه الإداري والحزبي جيدا, وهو واثق من أن هذا الجهاز المطيع واللماح سيقوم بتلك الخطوة لا محالة, من غير حاجة الى اصدار أمر بذلك. لذلك اكتفى بأن اظهر استحسانا خفيا, داعيا المؤسسات الثقافية الى إخراج الفن الروائي العراقي من حدوده القطرية. وفي مايو 2002 التقى صدام كتاب القصة والرواية مجددا وحثهم على تشكيل لجنة مكونة من أربعة أشخاص "لتحسين الانتاج الأدبي"," ليصبح مقروءا ومتداولا ومسموعا على النطاق العربي أولا وربما في العالم بعده. الهدف أن يعرفوا كيفية تفكير الناس الذين يحاربونهم طيلة تلك الفترة". كان صدام يعني بدرجة أولى نشر كتاباته الشخصية, لأنها بمقاييسه ومقاييس غيره تتجاوز حدود العراقية الى العربية والعالمية, فـهو رجل " علاقته باللغة كعلاقة الصائغ الماهر بالذهب"! أما الهدف من ذلك فكان واضحا بجلاء تام: أن ُيعرّف بـ " كيفية تفكيره", وهو يعني التعريف بمنجزاته العقلية. فتم على عجل التعاقد على ترجمة بعض روايات صدام الى لغات عديدة منها الصينية والفرنسية ثم الانجليزية, وانطلقت معها رحلة المسرح الصدامي باتجاه الأردن, ثم سورية. وكانت تلك حملة ثقافية منظمة لتعريف "الآخر" ," الذي يحاربهم" بآخر مستجدات فكر الرئيس.
فلم يكن الرئس عابثا أو مضيعا للوقت كما ظن البعض. كان يدافع عن عرشه السياسي بالرواية, بعد أن عجز الأدباء السلطويون, العراقيون والعرب, عن تحقيق تلك المهمة.

كيف نقرأ روايات صدام حسين؟
إقترح الكاتب فؤاد التكرلي القراءة التالية: " سأحاول ان اتكلم عن «صدام حسين» المؤلف الروائي وعن روايته الاخيرة هذه وليس عن صدام حسين الحاكم المطلق السابق للعراق". وتقدم رشاد أبوشاور باقتراح مماثل : " لا بد أن تقرأ كنص روائي", "النقد الموضوعي يفترض ان يتعامل معه انطلاقا من نصه – بلغة الحداثيين- بدون موقف مسبق مبني على الضغينة والانحياز الأعمى وهو ما لا ينسجم مع نزاهة النقد". بيد أن كلا الرجلين لم يوفقا في تنفيذ تلك المهمة النبيلة. فقد غرق التكرلي في إعادة رواية الرواية, بينما غاص أبو شار في العنوان وقدم لنا رواية فلسطينية تدعيما لرواية الجن العراقي. أما لؤي عبد الإله, الذي حرص على عزل" الكاتب عن نصه تماما لتحقيق درجة عالية من الموضوعية", فقد خذله عنوان مقالته, ولم يمكنه من تحقيق تلك الموضوعية. فقوله بأن رواية (اخرج منها يا ملعون) عبارة عن " نص أقل من حكاية وأكثر من خطبة استبداد" اعتداء صارخ على النص ومجافاة تامة للموضوعية. فالنص المعني لم يعالج موضوع الاستبداد لا من قريب أو بعيد. لقد استعار الكاتب من صدام صفة الاستبداد وألحقها بالنص وهو بريء منها.
إن قراءة النص بحيادية شرط أساسي للقراءة الموضوعية, وتحليل النص بمعزل عن كاتبه شرط أخر من شروط تحقيق قدر عال من تقليل أثر الاسقاطات الشخصية والخارجية عبر الكاتب على النص. ولكن عزل النصوص عن واقعها وبيئتها وظروف انتاجها أمر لا يخلو من الضرر. فالنصوص الفطرية والشعبية والعفوية ونصوص الأطفال نصوص لصيقة بمنتجيها سواء كانت أدبا كتابيا أم شفاهيا. والسير والكتابة السياسية موضوعات لا يجوز فصلها عن منتجها. وأدب صدام, على الرغم من مكره الذي لا يخفى, ينتسب في تقديري الى النصوص العفوية, حتى لو مرت عليه مئات من لجان التنقيح والتصحيح. كما أنه في جزء كبير منه, باعتراف معارضيه, أدب سياسي مباشر. بعضه سيرة, وبعضه ما يشبه السيرة, ومنه ما هو عبارة عن مشروع سياسي في صيغة حكائية. وهذا الضرب من الكتابة لا يجوز فصله عن منتجه في منهج الحداثيين أو في مناهج الغابرين. فنصوص صدام لم تدرس دراسة عقلية دقيقة جدامن قبل منتجها, بل هي نتاج لحماسة شديدة سيطرت على عقل كاتبها ودفعته الى تسطير أكثر من الف وثلثمائة وسبعين صفحة في أقل من سنتين. إنها نصوص تلقائية وانفعالية خالصة.
من هنا أرى أنه ليس المطلوب منا أن نتحرر من صدام الحاكم عند دراسة صدام الكاتب, وإنما يتوجب علينا أن نتحرر من أنفسنا, من قراءتنا المسبقة, عند دراسة نص صدام, الكاتب والحاكم.
أمر آخر أكثر أهمية مما سبق, هو أن صدام حسين أراد بكتبه الأربعة تقديم لوحة متكاملة عن القضايا الأساسية التي تشغل باله, والتي هي موضع نزاع أو تجاذب, وفق تقديره الشخصي. فروايتا (زبيبة والملك) و (اخرج منها يا ملعون) حكايتان خياليتان في ثوب تاريخي. أراد بالأولى أن يبسط مفاهيمه حول نظام الحكم, وسبل إدارة السلطة, والعلاقة بين الحاكم والمحكوم, ومشاكل الحكم والحاكم. وفي هذه الرواية ظهر الحاكم بمظهر الزعيم المنفتح سياسيا والمتوازن نفسيا, الذي يسعى الى إقامة نظام برلماني, يشرك فيه فئات الشعب الفقيرة في المشورة والقيادة, ويقر بحقوق المرأة الاجتماعية والسياسية,ويشجع الحرية الجنسية. وفي هذه النقطة نجد أن قول أحد ضباط المخابرات الأميركية من أنه تعاطف مع الملك لا يخلو من الحصافة. فالشخصية القيادية في الرواية, في إطارها العام, المعروضة من قبل صدام لأعدائه, تبز صورة الحاكم في أغلب البلدان العربية. تلك رسالة سياسية ماكرة, وهي رسالة مساومة واضحة يخاطب فيها صدام خصومه, ويحاول بها أن يقنعهم بما يمكن له أن يأخذ وأن يعطي في معركته الراهنة. وهي كما نلاحظ رسالة ليست موجهة الى العراقيين. فالعراقي غير مستعد لأن يقرأ صدام كروائي لكي يفهم حقيقته كحاكم. لأن صداما, عنده, حاكم يعرفة بالخبرة العملية وليس بالخبرة القرائية. ولكن بين شقوق النص, وخلف الخطوط السياسية الدعائية التي عرضها صدام, تكمن خفايا صغيرة تكون جوهر صدام " اللابد" تحت شعاراته الدعائية. هذه الخفايا الصغيرة هي المرجع الصادق والواقعي, الذي يجعل القراءة مفيدة للعراقي, ففيها تكمن حقيقة صدام, كحاكم وفرد. وهو ما سنقوم بإيضاحه عند الحديث عن صورة صدام الخاصة, المتوارية خلف الواجهة الدعائية, الشائعة.
أما رواية (اخرج منها يا ملعون) فهي خطاب موجه الى العراقيين والعرب يستثير فيهم الحمية ويؤجج فيهم نوازع أخلاقية وعقائدية وتراثية لصالح معركته الخيالية مع عدو عرقي وديني وحضاري. وحتى اختيار الأسماء جاء تعبيرا عما كان ينشده كاتب النص من نصه, فبطلة الرواية هي "نخوة". ولذلك بدت هذه الرواية, وهي كذلك, أضعف روايات صدام فنيا وفكريا. لكنها,على الرغم من ذلك, تشكل جزءا جديا من منظومة الأفكار التي أراد عرضها. وهي جزء لازم وأساسي, إذا نظرنا الى هذه الأفكار كحلقات متصلة وليست نصوصا معزولة عن بعضها وعن كاتبها.
رواية (القلعة الحصينة) هي أطول الروايات وأكثرها إملالا, على الرغم من مسحة الدعابة الجافة التي أراد كاتبها بثها في النص. تتحدث الرواية في تفاصيلها وحواراتها الجانبية المتشعبة عن أخطر خبرات صدام كحاكم وسياسي: الحرب مع ايران, الجبهة الوطنية وموقفه من الشيوعية, الموقف من سياسة الحصار, غزو الكويت ودوافعه الحقيقية, كما يراها هو, الانتفاضة وتقييمه لها. وكل تلك الأحداث تنسب الى الماضي, يتم سردها روائيا من خلال حدث رئيس يصور علاقة عاطفية تربط بين أخوين بعثيين وفتاتين عراقيتين, إحداهما عربية والأخرى كردية. بيد أن أهم ما عالجه صدام في تقديري, وأكثره فائدة للدارسين تركز في جانبين. الأول: المواضيع الراهنة, كموضوع الحوار مع الغرب والاستعداد للجولة القادمة من المواجهة, وقضية وحدة العراق أرضا وشعوبا, إضافة الى قضية حرية المرأة, التي شغلت حيزا كبيرا من الرواية. أما الأمر الثاني فهو سلسلة التبريرات, غير المباشرة, الشعورية منها واللاشعورية, التي حفل بها النص. وهذه التبريرات صورة ناطقة للقلق الداخلي, الذي يقف خلف ما أثاره من موضوعات, يشعر كاتبها أنه ارتكب, عند ممارستها, أخطاء مميتة. لقد شكلت تلك الأخطاء القاتلة غصة داخلية دفينة وعميقة له, على الرغم من أنه يصر, مكابرة لخداع نفسه, على عدم الاعتراف بها كأخطاء مقصودة, كغزو الكويت, وغزو إيران, والأخطاء السياسية والعسكرية الفادحة في حرب الكويت, سواء في فترة الاستعداد للحرب أو عند الانسحاب.
لقد أشار كثيرون الى أن كاتبي روايات صدام هم" لجنة". ذاع هذا الخبر بوساطة صحافيين معارضين لسلطة صدام على صلة بالبعث, يستقون مصادرهم عبر خطوط بعثية متباعدة, لكنها متصلة. ومن يقرأ هذه الرواية بإمعان, ومثلها رواية (رجال ومدينة) يصطدم بعدد من العقبات الأسلوبية الغريبة, أولها خروج المؤلف من السرد الروائي الأدبي الى أسلوب المحاضرات في مواقع عديدة ومحددة. ثانيها ظهور تغييرات غير قابلة للاخفاء في البناء اللغوي والنسيج الفكري (صياغة الأفكار وعمقها) على هذه المواقع من النص. وأمثلة ذلك: الحديث عن تاريخ العراق القديم, الحديث عن المرأة كمشكلة اجتماعية تاريخية, الحديث عن سد الثرثار ومناسيب المياه, الحديث عن مواقع جغرافية متعددة. وفي هذه النقاط المحددة نجد تفسيرا, ربما هو الأقرب الى الصحة, لما أشيع عن أمر " اللجنة". فمن المرجح أن يكون صدام قد كلف مجموعة من المتخصصين بإعداد موضوعات محددة عن أمور جغرافية وتاريخية واجتماعية وقام بدسها دسا في نصه, مع تعديل طفيف من قبله. أي إن اللجنة لم تقم بكتابة الرواية أو بتعديل ما قام به صدام, على العكس كانت هذه اللجنة مجرد مساعد أعان صداما في حشو النص بإشراف مباشر منه. وهنا يكمن سر الطول المفرط للرواية, وسر تقلباتها الأسلوبية. وهذا يدخل أيضا ضمن ما يعرف بصناعة الديكتاتور.
الرواية لكتابها: عفة أم هوس نفسي؟
لماذا لم يضع صدام حسين اسمه على رواياته؟ عن هذه السؤال أجاب الناس كل وفق هواه. أما صدام فقد أجاب عنه بنفسه في مقدمة رواية (زبيبة والملك) قائلا: " لم يشأ أن يكتب اسمه عليها تواضعا, شأنه شأن ابناء العراق, الذين يبذلون النفس والنفيس ولا يتحدثون عن جليل ما يفعلون". فهو – كما نرى- يشبه العراقيين, وهو متواضع, عفيف , عظيم الإيثار, وأنه اجترح فعلا جليلا.
وعلى الرغم من أن صداما واصل النهج ذاته في رواياته الأربع, إلا أنه اصطدم بعقبة فنية كأداء, ربما شغلته وحيرته طويلا قبل أن يحسم أمره فيها. ففي روايته- السيرة- (رجال ومدينة) وجد صدام نفسه يتحدث عن "نجم سطع في سماء العراق", وعن "ولادة فارس ليس ككل الفرسان". إلا أن هذا الفارس ظل مصرا و"رافضا ان يكتب اسمه على غلاف الرواية تماما كما فعل من قبل". وكلما مضى صدام في السرد الروائي وجد نفسه يتمادى أكثر فأكثر في تعريف القارئ بشخصه, فهو يتحث عن رجل من ال المجيد, من تكريت, أسم ابيه حسين, واسم أمه صبحة, وابن خاله اسمه عدنان خير الله, اتهم بقتل الشيوعي سعدون الناصري في تكريت, وشارك في مؤامرة اغتيال عبد الكريم قاسم. كل ذلك تم توثيقه من قبل الكاتب بمئات التفاصيل الصغيرة والأسماء والأماكن والتواريخ. إذن, لماذا يخفي صدام اسمه, في الوقت الذي لم يتوان حتى عن التصريح باسم أمه؟
هنا لا نجد تواضعا أو عفة, ولا نجد محاولة للتهرب من المسؤولية القضائية, لو افتضح كاتب النص الحقيقي, كما أشاع بعضهم. نحن هنا أمام صدام حسين الفرد, الملتبس والمعقد, وليس أمام صدام حسين الحاكم أو الكاتب فحسب. نحن هنا أمام واحدة من حقائق عالم صدام الداخلي الملتوي والمضطرب.
إن صدام حسين, حاله كحال أي عاقل من البشر, يدرك تماما من هو"فارس الأمه التكريتي, ابن المجيد, وابن حسين و صبحة". فلماذا يخفي اسمه؟
وقد خطر على بال البعض أن التصريح باسم الأم, وهو شأن قبيح جدا في الأعراف العراقية, يعود الى إحساس داخلي, " تحت الوعي", يشير الى أن نسبه أمومي أكثر منه أبويا. بيد أن ذلك التفسير لم يكن سوى سقطة من سقطات كثيرة هدفها التشهير والتنفيس القبيح عن النفس, شاعت في الصحافة العراقية الالكترونية المؤيدة للاحتلال والحرب. لذلك ربما أراد صدام شيئا آخر, كأن يكون متحديا للعرف, الذي هو أحد المؤمنين به, لدرء الأقاويل والسقطات التي حيكت , ظلما, عن أمه للتشهير به شخصيا من خلالها, ولكي يثبت للآخرين أنه نصير للمرأة, وبارّ بالأم. وأنا أميل الى هذا. فهو تحد واحتجاج لا إرادي, فيه قدر ملحوظ من الاضطراب, فعل صدام ما يشبهه في مواضع كثيرة من رواياته بطرق متنوعة, أظهرت عمق اهتزاز تكوينه النفسي وهشاشة تفكيره, وشدة ما يعانيه من ضغوط نفسية وأخلاقية داخلية. فمثل هذا الدفاع الملتوي والمبطن وجدناه حينما جعل القائد الشيوعي يوسف سلمان فهد " كرديا فيليا" و "فارسيا" و"أجنبيا", بينما جعل من ميشيل عفلق عربيا مسلما اسمه " أحمد عفلق", كمسوغ يبرر فيه للقارئ سبب كرهه للشيوعية وميله الى حزب البعث. فهو يريد أن يقول لنا: إنه لم يكره إعتباطا, والأهم من ذلك, إنه لم يذهب الى البعث سهوا! ومن عجائب القدر, أن يقوم بعض معارضي صدام, اليوم, باعادة صيغة التهجين القومي الملتوية والعجيبة "الكردي الفيلي الفارسي" الى الحياة مجددا.
سنعيد السؤال بطريقة مغايرة: ما الأنفع لصدام كتابة اسمه أو عدمها؟
حينما ننظر الى الضجة العظيمة التي خلقها غياب الاسم, نجد أن صداما كان دقيقا وصائبا تماما في قراره. ولكن الأمر لا يتعلق بالانتشار والشهرة واللغط, فذلك شأن ثانوي في نظر صدام. ما هو أساسي وجوهري في سلوك صدام هو نزعة الخلاف, أوالنزاع, أو ما يعرف في علم النفس بـ "الميول الخلافية", الذي يثيره مثل هذا الأمر في نفوس وعقول الآخرين, وعلى وجه التجديد في عقول أمة تقرأ افتراضا. ذلك هو الدافع الخفي لسلوك صدام المتناقض هذا: بلبلة الآخر, وإثارة الشك في نفس الآخر, والأهم تسعير حدة النزاعات بين الأفراد والجماعات المختلفة. هنا لا يوجد أي ميل للتواضع أو فعل الأعمال الجليلة. هنا يوجد ميل مرضي, صبياني, زقاقي, لم تهذبه السنوات, ميل الى إثارة نوازع الفرقة بين الآخرين. مثل هذا الميل جزء عضوي من مكونات صدام النفسية, نراه مطبوعا على مئات الأحداث والوقائع الصغيرة والكبيرة. فعلى علم العراق قرر صدام فجأة أن يضع عبارة مقدسة "الله أكبر" في مقابل كلمة "الله" الإيرانية. لماذا فعل صدام ذلك؟ لأنه يعرف أن انتزاعها أمر يضع منتزعيها في مواجهة مباشرة مع الله وعباده, أما القبول بها, من وجهة نظره, فتعني الاعتراف به كواضع بصمات على التاريخ والقبول ببصماته هذه. ولكن الأمر أبعد من هذا أيضا, فصدام يدرك أنه بهذا, كما هي حال عبارة " لكاتبها" سيواجه سياسيين لا يحسنون القراءة, هم على استعداد لتقسيم الوطن وسلخ جلده تحت ذريعة الخشية من عبارة صغيرة اسمها "الله أكبر". إن حب التميز عن طريق إذكاء النزاع, واستخدام الوطن و الدين والقومية والتاريخ والرموز المقدسة لتأكيد الغرور الشخصي الصبياني, وتسعير العداء, أمر ولع به صدام منذ بدء ظهوره كنائب. ففي حقبة تشييد ما عرف بـ"العراق الجديد", حقبة التحالف الشيوعي البعثي الكردي ووجه صدام من قبل واحد من أشجع وأندر صحافيي العراق وكتابه: شمران الياسري (أبو كاطع). فقد أراد صدام وقتذاك أن يضع بصمته على أثار بابل, بتعديل ما خرب منها وبزرع النصب البابلية من بابل الى بغداد! وقد فطن الياسري, بفراسته النادرة, الى أن هذا الفعل "الجليل" يهدف الى وضع الرجل الثاني (النائب) في واجهة التاريخي العراقي زورا عن طريق اللعب بحضارة وتاريخ الأمة العراقية. فقوبل بنقد ساخر من أبي كاطع, وكان ذلك آخر نقد علني يقدم عليه صحافي في تاريخ العراق "الديموقراطي الجديد". بيد ذلك لم ينقذ أحجار الأسوار البابلية من أن يدنس وقارها الأسطوري اسمُ صدام في وقت لاحق. ولأن السياسة علم وراثي اجتماعيا, فقد انتقلت عدوى صدام الى حكام العراق الجدد. وما القبول بما يعرف بـ "قانون إدارة الدولة" الذي وضعه بريمر, سوى استعارة مثلى لميل صدام هذا. فقد قبل الأعضاء المختلفون بالقانون المذكور, كما لو أنه كتاب مقدس, من غيرأن يناقشوا فحواه ودواعيه وضروراته, باعتباره نصا أجنبيا ينطوي على فقرات أكثر إثارة للنزاع و"الشقاق والنفاق" من عبارة "لكاتبها" أو عبارة "الله أكبر". قبلوا به وكل واحد منهم ينظر بفرح غامر وتشف الى الفقرة "النزاعية", "الشقاقية النفاقية", التي تشكل عقبة أمام خصمهم, ورأوا فيها السبيل الأمثل لسد الطريق على الآخر. متناسين أمرا هاما: أنهم بهذا, يصنعون مجتميعين, قانونا للنزاعات الوطنية المميتة, ويزعون ألغاما فتاكة في طرقات وطنهم وشعوبهم. فالساسة يرثون خصائص وميول أعدائهم المجربة والناجحة. ولكن, للاسف, يرثون ما هو شرير منها, بصورة تفوق وراثتهم لعناصر الخير.
كانت الرسائل التي يود صدام ايصالها الى خصومه متقنة واضحة ووافية, لكنها رسائل غير معدة للقراءة. فلم يكن أحد من الأطراف المعنية بأدب صدام على استعداد لقراءة شيء. فصدام يعرف أن الغرب لن يقرأ ما يريد إيصاله, خاصة الأميركان. بيد أن ذلك لم يمنع صدام من أن يحاول حشو قصصه ببعض المشاهد, التي لا تخلو من الاقتراب والملامسة الجنسية والأفكار الجنسية الفاحشة, في إشارة واضحة وذكية منه, تهدف الى إلغاء أي صلة محتملة للربط بينه والاتجاه السلفي, القاعدة على وجه التحديد. ولكن, على الرغم من ذلك, تجاهل الغرب تلك الاشارات, وأصر على وجود صلة بين (زبيبة والملك) وابن لادن, فالاعلام الغربي كان يقرأ خطط البنتاغون وهو "يحرث" في قصص صدام. أما المعارضة العراقية فهي الأخرى لم تكن في حاجة الى كتب صدام لتعرف من هو صدام. حوار الطرشان هذا هو اللغة التي سادت بين أطراف المعادلة الصدامية, في شقيها الروائي والسياسي على حد سواء.

تناقضات النص هي تناقضات الذات
هناك تناقض ظاهري في أقوالي عن أسلوب صدام الروائي, يلمسه القارئ اللماح بيسر. تناقض بين قولي أن كتب صدام وحدة فكرية متكاملة وسلسلة مرتبة من الأفكار في أساسياتها وبين إطلاقي صفة العفوية على نصه. فالعفوية تتناقض مع الترتيب. وفي حقيقة الأمر أننا بتلمس هذا التتناقض الظاهري منهاجيا, نضع أيدينا على تناقض داخلي جوهري آخر من تناقضات صدام الشخصية, التي تطبع تكوينه النفسي والسلوكي: تخطيط النهايات قبل البدايات, تخطيط الداخلي ونسيان الخارجي في السياسة, وتخطيط الأفكار العامة وفوضي الصياغة. إن تناقض صدام يكمن هنا في الصياغة العفوية لأفكار عامة ظن أنه سيطر عليها لمجرد أنه أحاط بعمومياتها وخطوطها العريضة. ولكنه عند التنفيذ (الصياغة) لجأ الى العفوية والتلقائية, والحماسة المفرطة في الكتابة, مما جعل عناصر نصه الداخلية تتصادم في كثير من المواقع مع عموميات أفكاره. فهناك تناقص بين القصدية في إختيار الأفكار العامة وبين التلقائية في صياغة هذه الأفكار, والتي تخفي تحتها عناصر اضطراب عميقة, هي أساس شخصية صدام القلقة. وقد جهدنا هنا الى دراسة كل مجموعة من الافكار وتحليلها, ثم عمدنا الى جمعها في وحدة لغرض تبيان عناصر التعارض فيها, وفرز ما هو زائف وخيالي ومختلق, وما هو واقعي ومحتمل. بيد أننا لم نفصل بين أجزاء صدام, وإنما نظرنا اليها في وحدتها, فحتى القصص الكاذبة والأفكار الدعائية المضللة هي جزء عضوي من بناء الشخصية. فالإنسان وحدة من التناقضات الفكرية والأخلاقية والسلوكية, وصدام مثال نموذجي لوحدة من التناقضات, يصعب اجتماعها في فرد واحد. فعلى سبيل المثال يجيد صدام فن التعامل مع كل ما هو داخلي,عراقي, "باقتدار تام", كما يحلو له أن يقول. وهو صائب تماما في ذلك القول. لكنه يفشل فشلا ذريعا في تقدير سبل تعامله مع النزاعات الخارجية, ذوات الأبعاد الدولية خاصة. لماذا؟
حال صدام هنا كحال لص البنوك المحلية المحترف, الذي يجيد التخيط لكل صغيرة وكبيرة بدقة وعبقرية, كما أنه يجيد التنفيذ بمهارة فائقة. لكنه غير معني بتقلبات العملة, وبسعر صرفها, وقد يفشل في غسلها, ومن المحتمل أن يقع ضحية لعملية تبادل عملة. أما السياسة المصرفية العالمية فتلك شأن بعيد عن اهتماماته. تلك هي حال صدام, الذي تمرس, بفعل خبرته الحياتية, واجترائه, ومعرفته السليمة بطباع الشعب, فأجاد فن إدارة الصراعات الداخلية إجادة تامة, في مجتمع لا يزال علم السياسة فيه شديد البساطة, يقوم على قاعدة مختصرة تقول: خذ السلطة وافعل بها ما تشاء. لكنه ما أن يمد يده سياسيا وعسكريا خارج الحدود, سواء باتجاه ايران أو الكويت أو إسرائيل أوأية جهة أخرى, حتى يجد نفسه غارقا الى أذنيه في مشكلات مميتة. فقد ابتلعت اسرائل مثلا, بفعل صواريخه الضوئية, العابرة للحدود, جزءا كبيرا من غذاء ودواء الشعب العراقي, وجزءا حيويا من مقدراته الذاتية. وعلى الرغم من ذلك, فهو لا يستغني عن الخارج أبدا, إذا كان هذا الخارج غطاء لتنفيذ أعمال داخلية. فقد كانت خيمة صفوان مثلا , وهي شأن دولي, غطاء صدام النفسي والقانوني والشرعي, الذي بموجبه تم سحق الانتفاضة الوطنية عام 1991. فالتوقيع على اتفاقيات الاستسلام هو تأكيد من جانب القوى الدولية على أن صداما وإدارته هما الحاكم الفعلي والشرعي للعراق, مما جعله يستجمع قواه ويقصم ظهور المنتفضين على مرأى ومسمع الديموقراطيات الغربية كلها. ذلك وجه هام من وجوه صدام المتناقضة, وهو وجه أهلّه لأن يمارس دور الحارس الأحمق للكثير من السياسات الأجنبية, على الرغم من تناقضه الظاهري معها. وكانت الضحية الضمنية الدائمة, غير المعلنة, لهذه الاتفاقات أو (التوافقات) في المصالح هي الشعب العراقي.
فصدام مثل الحجاج لم يستثمر القسوة وحدها عند معاقبة العراقيين, بل استتثمر أيضا طباع العراقيين, ما هو سلبي منها خاصة, لغرض تحقيق أنجع السبل لقهرهم. ويقوم الأميركان الآن بتكرار الفعل نفسه. والفارق الوحيد بين صدام والحجاج يكمن في أن الحجاج كان غريبا, نسبيا, قياسا بصدام, استند في فهم طباع العراقيين, كالأميركيين, على مجربين محليين مدوه بنصيحة وظفها لخدمة مشروعه العنفي. أما صدام فهو عراقي خالص, يجيد إجادة تامة إرسال واستقبال الإشارات الضرورية, المتعلقة بسبل إخضاع وقهر الآخرين.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في روايات صدام حسين..دكتاتور كبير وقارئ كبير
- حكومة ننسحب, ما ننسحبشي!
- الله ساخرا!
- شكر المحتل, وشكر صدام ! ؟
- مزاد علني في الهواء الطلق
- وداعا زهرون...نم شفيف الروح يا بطل هذا الزمان!
- من يذكر طه حيدر؟
- صيادو رؤوس سويديون يتوجهون الى العراق
- إنهم لا يحصون الجثث
- أما آن الأوان لكي يعود طائر الثقافة المهاجر الى عشه؟
- أبو طبر
- النهلستي الأخير! دفاع مع سبق الإصرار عن سعدي يوسف, دفاع عن ذ ...
- زهرة الرازقي: رواية عن الحرس القومي
- أطفال الحرب
- ليس مباحًا أن يكون المرء طويلا في بغداد
- رحل فدائيو صدام, جاء فدائيو بوش!
- الاحتلال العراقي لأميركا
- ســقـط صــدام هــل يـســقـط الـحـزب؟
- مــوســيـقــيـو الـحــدائــق
- أيـفــنـد يـونـســون الـحــلـم الاوروبــي فـي الادب الاســوج ...


المزيد.....




- بالأرقام.. حصة كل دولة بحزمة المساعدات الأمريكية لإسرائيل وأ ...
- مصر تستعيد رأس تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني
- شابة تصادف -وحيد قرن البحر- شديد الندرة في المالديف
- -عقبة أمام حل الدولتين-.. بيلوسي تدعو نتنياهو للاستقالة
- من يقف وراء الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل في الجامعات الأمريك ...
- فلسطينيون يستهدفون قوات إسرائيلية في نابلس وقلقيلية ومستوطنو ...
- نتيجة صواريخ -حزب الله-.. انقطاع التيار الكهربائي عن مستوطنت ...
- ماهي منظومة -إس – 500- التي أعلن وزير الدفاع الروسي عن دخوله ...
- مستشار أمريكي سابق: المساعدة الجديدة من واشنطن ستطيل أمد إرا ...
- حزب الله: -استهدفنا مستوطنة -شوميرا- بعشرات صواريخ ‌‏الكاتيو ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - سلام عبود - من كتب روايات صدام حسين؟ صدام يلقي خطابا على نفسه والذاكرة تعلن حربها على الرئيس