أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - كان يجب أن أُسجن قبل أبنائي














المزيد.....

كان يجب أن أُسجن قبل أبنائي


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6837 - 2021 / 3 / 11 - 17:03
المحور: الادب والفن
    


إلى ذكرى أبي

حين كانت تطل "بوسطة الضيعة" كنت أترك كل شيء وأركض لأقف في مكان مطل أنتظر عودة أبي المسافر دائماً. غالباً ما كنت أعود وقد دُهس أملي تحت عجلات البوسطة التي لم تتوقف على المفرق، أو تحت أقدام الركاب الذين ينزلون على المفرق نفسه دون أن يكون أبي بينهم. ولكن حين كان يطل وجه أبي من الباب وهو يترجل من البوسطة، كانت تتآلف في لحظة واحدة كل ألون العالم وتزين تلك اللحظة التي ينبت لي فيها جناحان يحملانني إليه. في لحظة إطلالة وجهه، كان يموت خجلي وترددي وأطير إليه دون اعتبار لأحد أو لشيء. تصبح الطريق الترابية الضيقة الكالحة مرجاً أخضر، ويصبح الركض طيراناً وتغدو البوسطة أجمل حامل للبشرى.
هذا الرجل القوي الأنيق الضحوك هو أبي. أصل إلى المفرق وقد تركتْ لي البوسطة عليه أجمل ما أريد من الدنيا، يفيض قلبي بفرح رؤيته، وينساب الفرح مني على هيئة ضحك خالص وأرتمي عليه، فيرفعني بيدين كان يخال لقلبي الصغير أنه لا يوجد أقوى منهما في الكون، ثم يعيدني إلى الأرض، ويلتفت ليسلم على من تقع عليه عيناه ممن يعملون في أراضيهم المجاورة للمفرق.
لكنه كان يغيب طويلاً وكانت أمي تشفق علي لتكرار خيباتي من "البوسطة"، فتثنيني عن الانتظار بالقول إن أبي لن يأتي طوال هذا الشهر. وحين كنت أتذمر من غيابه الدائم كانت تقول لي: حزب ونقابات وما لا أدري، إنه يتبع كل ما لا طائل منه.
في السهرات كان أبي يتكلم عن أناس لا نعرفهم، ويصنفهم في خانة الأعداء (هؤلاء يقفون ضد مطالب العمال). لكن أبي كان يتحدث عنهم كما لو أنهم أعداء شخصيين. حتى أنه ذات يوم أراد أن يطلق اسم أحد الأعداء الألداء، الذي كان يعارض دفع التعويضات للعمال "كأنه سوف يدفعها من جيبه"، على الكلب الذي يتولى حراسة بيتنا. هكذا أبي، كان يتعامل مع هموم النقابة والحزب كأنها هموم شخصية ويعمل لها كأنها مصلحته الخاصة. فقط أمي كانت تقول، بحذر يعرف سببه كل من يعرف أبي، إن اهتمامه الزائد بالنقابات والأحزاب لا دافع له سوى الهروب من العمل في "الرزق".
أبي يرتدي ملابسه بسرعة، وبسرعة واقتضاب شديد يرد على أسئلة أمي التي تستفهم منه إلى أين وهل سيطول غيابه، وسيارة الشركة (شركة الإسفلت) الزرقاء تنتظره على الطريق العام وتستعجله ببوقها، هذا هو المشهد المتكرر المخزون في ذاكرة كل منا. من دمشق إلى القاهرة إلى برلين وموسكو، كان أبي يلاحق أملاً بسوريا قادرة على احترام أبناءها. وهب سنوات عمره لحزب البعث قبل أن يستولي على السلطة في سوريا ويمارس فيها عكس ما يوحي به اسمه، وقبل أن ينصب مشنقة في كل مكان لكل أمل ممكن. وحين استولى حزب البعث على السطة في سوريا في آذار 1963، ظن أبي أن جهوده وأمثاله قد أتت أكلها. يحكون أن أبي حينها حمل راية الحزب مليئاً بالأمل وثبتها على سطح بيتنا. وبعد "النكسة" وهب جهده وطمأنينة عائلته "للحرس القومي" و"حرب التحرير الشعبية" لاسترداد الأراضي المحتلة. ثم راحت عزيمته تتلاشى أكثر فأكثر بعد أن حُسم الصراع والتردد في تشرين الثاني 1970 بانتصار السلطة على البلد.
بعد ذلك، راح الكثير من أصدقاء دربه يترجمون "نضالهم" السابق إلى أموال وأملاك ومناصب ووجاهة. فيما راح أبي يراقب بخذلان ما يجري. في 1979 داهم الأمن "البعثي" بيتنا يبحثون عن أخي "الشيوعي"، بقسوة وحقد كنا نظن أن "الإسرائيليين" وحدهم يجيدونهما. تطاول عناصر الأمن على أبي وهددوه وطالبوه بأن يسلمهم ابنه. راح أبي يزداد عزلة وابتعاداً وانتقاداً لما يراه من فساد واستبداد. ليس هذا ما عمل من أجله وليس هذا ما كان ينتظره. ثم في 1983 اعتقلت المخابرات السورية ابنه الثاني (كاتب هذه السطور) ورموه لسنوات لا تنتهي، بعد تعذيب بات يعرفه جيداً معظم السوريين، في مكان اسمه السجن، وهو من المعالم البارزة "للحضارة" البعثية. وكلما كان حزب البعث يوغل أكثر في طريق "الرسالة الخالدة" كان أبي يزداد فقراً وتهميشاً وعزلة وسخرية صانت روحه من الاكتئاب. وحين رفع صوته بالنقد، لم يجد (حزب العمال والفلاحين) طاقة على احتمال نقد هذا النوع من "الرفاق"، فتصرف، بالمبدئية المعهودة عنه، وهدد أبي بالفصل. غير أن أبي طالب بالفصل وناله، واعتبره شهادة متأخرة على نقاء الضمير، وقال بعفويته المعهودة: كان يجب أن أُسجن قبل أبنائي.
قبل خمسة أشهر ودعته وخرجت من سوريا بعد أن ضاق الخناق من حولي. ودعته دون أن أقول له وداعاً. كان حزين القلب، ولكنه مع ذلك كان يشعرني بتفاؤل لا أعرف مصدره. قبل أيام نام أبي نومته الأبدية. أغمض عينيه وقد أعطى الدنيا أكثر مما أعطته. آمل أن يزهر تفاؤل، أبي وأن يرى من مكان ما في هذا الكون سوريا وقد نهضت من خرابها وتعافت ونفضت عن كاهلها سواد الحزن والاستبداد.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قمران في ليل عنيد
- يا حيوان ليش ما قلت انك -مو منهم-؟
- سجين سياسي سابق
- بين القمع والسرية
- إشكالية الصراع من خارج الدولة
- تصويت مبكر على -الانتخابات- الرئاسية في سورية
- المقاومة مذهبية والمهمة وطنية؟
- حقيقة ينبغي على نظام الأسد إدراكها
- نظام حرب على المجتمع
- في النقد الفارغ من النقد
- نقد النخب السلمية في الثورة السورية
- البحث عن سبيل للتحرر من الاستبداد
- الهاوية
- مات بتوقف القلب
- تبدل حال جمهور النظام السوري
- الوجه والصورة
- على خط التماس
- القوة الغاشمة، أسيد الضمائر
- تحت خط الوطن
- في مساءلة خياراتنا وأهدافنا


المزيد.....




- مع ماشا والدب والنمر الوردي استقبل تردد قناة سبيس تون الجديد ...
- “فرحي أولادك وارتاحي من زنهم”.. التقط تردد قناة توم وجيري TO ...
- فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي ...
- ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ ...
- بعد مسرحية -مذكرات- صدام.. من الذي يحرك إبنة الطاغية؟
- -أربعة الآف عام من التربية والتعليم-.. فلسطين إرث تربوي وتعل ...
- طنجة تستضيف الاحتفال العالمي باليوم الدولي لموسيقى الجاز 20 ...
- -لم أقتل زوجي-.. مسرحية مستوحاة من الأساطير الصينية تعرض في ...
- المؤسس عثمان الموسم 5.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 باللغة ...
- تردد قناة تنة ورنة الجديد 2024 على النايل سات وتابع أفلام ال ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - كان يجب أن أُسجن قبل أبنائي