أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - الهاوية














المزيد.....

الهاوية


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6787 - 2021 / 1 / 13 - 13:36
المحور: الادب والفن
    


مقلع الاسفلت المجاور للقرية يتسع كثيراً ويغدو مثل فم هائل مفتوح في أسفل السفح. مقلع الإسفلت هاوية واسعة وسحيقة تربض بجوار القرية، ولا تكف عن الاتساع. العجوز الذي جاء مع امرأته من قرية بعيدة كي يهتم بأرزاق عمي الذي سئم الحياة سريعاً، حذرنا من الاقتراب من تلك الهاوية لأنها تسحب الناس إليها. "للهاوية السحيقة جاذبية خاصة لا يتأثر بها سوى الإنسان، يمكن للماعز مثلاً أن ترعى على حافة الهاوية دون خطر، أما الإنسان فللهاوية في نفسه فاعلية خاصة، قد تغلبه جاذبية الهاوية فلا يتمكن من مقاومة إلقاء نفسه فيها". تأكد لي ذلك حين اقتربت يوماً من حافة تلك الهاوية، انتابتني عندها رغبة طاغية في أن أرتمي في فراغها، إلى حد أنني هربت مبتعداً كما لو أنني أهرب من الخطف. كما لو أن ذاتي حاولت أن تخطفني من ذاتي. هل هي الرغبة العميقة في الطيران حين ترى أمامك فضاءاً مفتوحاً وسهلاً كالهاوية، أم هي رغبة التلاشي في العدم الذي يمثله هذا الفراغ الواسع؟
الرجال الذين كانوا يلغمون صخور الإسفلت بالديناميت كانوا يلفون خصورهم بحبال متينة مربوطة إلى أوتاد في أعلى الهاوية، ليس فقط خشية أن تنزلق أقدامهم وتبتلعهم الهاوية، بل خشية أن تستهويهم فيرتمون في فراغها الساحر. ورغم كل التدابير، سقط أكثر من رجل من أبناء القرية في تلك الهاوية التي لا تبرح مكانها وكأنها تطلب المزيد. ولا يعلم أحد، هل سقطوا بزلة قدم أم رغبة في التلاشي .
يتفجر الصخر الأسود ويرحل دون أن يترك مكانه ما يملأ الفراغ سوى رائحة رحيله النافذة، تلك الرائحة التي ميزت القرية وأحبها أهلها على ثقلها. ترحل الصخور وتخلّف فراغاً يتسع ليغدو ملعباً لطيور جارحة رمادية اللون صغيرة الحجم لا تكف عن اللعب البهلواني في ذلك الفراغ. حين تصمت الآلات التي ترغم الصخر الأسود على الرحيل، كانت الهاوية تتحول إلى فضاء ملائم للطيران، إلى سماء إضافية. نحن، الذين لم تكن تلك الهاوية سماء لنا بأي حال، كنا نسميها مع ذلك، لسبب مجهول تماماً، "الأزرق". يقف الطير في هواء "الأزرق" ممدود الجناحين لفترة وجيزة، كانت كافية لأن تسحرنا بغرابتها، قبل أن ينقض على هدف وهمي مثل سبّاح يرتمي في البحر من علو شاهق، ثم يرتفع ثانية بزاوية حادة وبسرعة السهم، من نقطة مفترضة في الفراغ، تماماً كما تفعل عصافير السنونو التي كانت جدران الهاوية مكاناً مناسباً لأعشاشها في الربيع.
طريق القرية تفر من الهاوية، إلى أعلى السفح وتتلوى بعيداً عنها، فتتغير مواقع الأشجار وتخوم الأراضي والبيوت. شجرة الجوز البعيدة تدنو من الطريق، ويصبح "نبع الطاسة" تحت الطريق. الساقية الطويلة تختصر طريقها وترمي نفسها في الهوة السحيقة لمقلع الاسفلت مخلّفة أصداء تحطم الماء على الصخر. وبجانب البيت القديم الذي صار خالياً وموحشاً، تموت شجرة الورد الصغيرة، وتنمو بكثافة شجيرات السماق بأوراق طويلة مفصصة وثمار مخروطية حمراء حامضة، وتملأ النباتات البرية الأمكنة التي احتضنت أجيالاً متتالية من العائلة، قبل أن تتسع الهاوية وتطرد الأهالي مهددة بابتلاع البيت.
أهالي "الدولود" الذين ملأوا الأرض بأشجار الحور، قرروا، مع اقتراب الهاوية، قطعها وبيعها لتاجر حلبي لكي تتحول إلى أعواد ثقاب. "ليس هناك أفضل من خشب الحور لصناعة أعواد الثقاب"، قال الرجل الحلبي دون أن يكون لديه أي فكرة عن الهاوية. تردد صوت المنشار الآلي لأول مرة في أرجاء مكان لم يشهد من قبل مثل هذه الآلة الرهيبة التي جعلت أشجار الحور تتساقط وكأنها مجرد سنابل قمح. داليات العنب التي اتكأت لسنوات على أشجار الحور وأعطتها قيمتها "المثمرة"، ارتمت على الأرض وتحولت إلى ركام زائد عديم الشكل، وعديم الكرامة، كما كان يبدو لي. كرمة بلا كرامة، أقول في نفسي، سعيداً باكتشاف هذا الجناس اللفظي، وناقماً على الهاوية، وحزيناً أكثر على مصير العنب.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مات بتوقف القلب
- تبدل حال جمهور النظام السوري
- الوجه والصورة
- على خط التماس
- القوة الغاشمة، أسيد الضمائر
- تحت خط الوطن
- في مساءلة خياراتنا وأهدافنا
- لماذا نقبل السجن؟
- تأثير السجن
- ملاحظات على عقد عربي فريد
- مشكلتي مع التعابير
- المعارضة السورية في طور الهبوط
- المأساة السورية وليمة صحفية (قراءة في كتاب الأسد أو نحرق الب ...
- المنشقون والثورة السورية
- العلويون في مهب السلطة السياسية 2
- العلويون في مهب السلطة السياسية 1
- ماذا نستفيد مما يحصل في فرنسا؟
- هل السلطة السياسية أولوية؟
- أمي والقضايا الصغيرة
- -انا في سورية وأريد العودة الى وطني-


المزيد.....




- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - الهاوية