أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - راتب شعبو - تحت خط الوطن















المزيد.....

تحت خط الوطن


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6776 - 2020 / 12 / 31 - 13:35
المحور: سيرة ذاتية
    


في الرابعة صباحاً، كانت سيارة البيجو التي أجاد الرجل شرشحتها تنطلق مسرعة على طريق اللاذقية دمشق حين لاح أول حاجز عسكري على الطريق. التفت إليّ الرجل الذي تعهد تأمين خروجي من سورية وقال بابتسامة خفيفة: "ارتفع الأدرينالين؟" وانفجر بضحكة واثقة قبل أن يستعيد وجهه ملامح الجدية التامة مع عناصر الحاجز. يمد لهم بطاقته باطمئنان فيسمحون له بالمرور دون أن يكترثوا بي. وقبل أن ينطلق مجدداً، يخرج رأسه من السيارة ليمسح وجوه بقية عناصر الحاجز ويقول بجدية ونبرة من يردد شعاراً: "الله محيي الشباب". تبتعد السيارة عن الحاجز فيتمتم الرجل كأنه يكلم نفسه: "مو حرام؟ وين آخرتها مع هالولد؟"، يفاجئني قوله وأفكر "هل يقصد ..؟"، بسرعة يلتفت إلي كمن داهمته فكرة ويقول بصوت مرتفع: "أخي المنطقة تلات حصص، ما النا فيها شي. حصة لإيران وحصة لتركيا وحصة لاسرائيل والسلام". وحين لم يجد بي رغبة للحديث، راح يدندن بصوت منخفض: "اطلبني ع الموت بلبيك".
إلى جانب كولبة صغيرة يوقف الرجل سيارته، يلقي "صباح الخير" ويطلب فنجانيّ قهوة. يأخذ قطعة بسكويت من كرتونة معروضة أمام الكولبة ويقدمها لي ضاحكاً: "ستحتاج إلى الطاقة". لم ترق لي هذه الجملة، شاءمتني. كان القلق يعيث فساداً برأسي طوال الوقت ويلجمني عن الكلام، غير أني حاولت التملص من قلقي، فسألته، وأنا أشرب القهوة معه مسنودين كلانا إلى السيارة، لماذا لا يستخدم سيارة أفضل من هذه. "لهذه السيارة محرك ممتاز، أعتني به جيداً وهذا هو المهم، ولكن يجب أن يبقى شكلها الخارجي هكذا كي لا يطمع بها أحد من أولاد الشرموطة الذين نمر بهم على الطريق في كل مكان" قال. ثم أضاف: "السيارة الحديثة تقتلني. أما هذه فهي السيارة المناسبة للسفر هذه الأيام. من سيطمع بسيارة ذات دهان مقبع وزجاج مكسور ومرايا جانبية مثبتة بلاصق شفاف؟"
مرة أخرى نقترب من حاجز عسكري، يخفف الرجل السرعة ويُخرج من جيب قميصه عدة بطاقات ليختار البطاقة الأنسب. "ما عاد تعرف الحاجز لأي فرع تابع" تمتم وهو مشغول باختيار البطاقة. كان المرور سهلاً، لم يكترث أحد بي أو يطلب هويتي، فقط اقترب عنصران من السيارة بعد أن دققا النظر ببطاقة الرجل وألقيا نظرة على من وما في السيارة، ثم: "الله محيي الشباب"، وتابعنا طريقنا. دمشق تقترب وتصبح مهمة قلبي أكثر صعوبة، زوجتي وطفلاي الآن على طريق بيروت، وأنا على طريق دمشق للحصول على موافقة بالسفر ولو لمرة واحدة كي ألتحق بهم هناك، بعد أن اقتربت مني أفواه الزنازين تشتهي ما تركت لي من سنوات في عمري.
دائماً ممنوع من السفر، لم يُسمح لي من قبلُ بالسفر حتى إلى السعودية لتنفيذ عقد عمل كطبيب. قالوا في اللاذقية عليك مراجعة دمشق. المراجعة روتينية، قال لي أصحاب التجارب من أصدقائي الممنوعين من السفر مثلي. راجعت ذلك المبنى الذي يشبه الهرم المقلوب في كفرسوسة، أمشي بقدمين تسيران إلى الأمام ورأس يريد الرجوع إلى الخلف من هول ذاك المبنى الذي يثير القشعريرة في نفوس السوريين، مبنى المخابرات العامة أو "أمن الدولة". ولكن عبثاً. بمراجعة وبدون مراجعة الأمر سيان. هكذا هو الحال في الجمهورية الوراثية السورية، يمنعونك من العمل في المشافي، ويمنعونك من السفر للعمل في الخارج. هكذا هو الحال، عليك أن تتعلم كيف تمارس العبودية وتسميها حرية، ذاك اشتقاق آثم من فكرة الألوهية نفسها، وتلك هي الخيمياء السحرية التي تحيل الوطن إلى منفى.
"المرور من حرستا محفوف بالخطر، لا بأس من المرور عن طريق التل وإن طالت المسافة قليلاً"، فكر الرجل بصوت عال. لاح أمامنا رتل طويل من السيارات، "إنه حاجز الفرقة الرابعة" قال. تدبر أمره مع الحاجز رغم غياب الضابط الذي تربطه به علاقة وكان يأمل بوجوده على الحاجز.
نصل إلى كفرسوسة، الهرم المقلوب الأحمر مرة أخرى. "اتكل ع الله"، قال الرجل بعد أن ركن سيارته قرب الدوّار وأراح مقعده إلى الخلف أكثر كي يستلقي من تعب الطريق. شربت بلعة ماء من عبوة بلاستيكية سخنتها الشمس، ومشيت. بعد سنوات طويلة تخللتها ثلاث سنوات من انتفاضة السوريين ضد أسياد هذا الرعب المجسد على شكل هرم مقلوب، والأهم أن هذه السنوات الثلاث تضمنت تفجيراً استهدف هذا المبنى بالذات، طرأت تغيرات كثيرة لدواعي أمن "أمن الدولة". كتل اسمنتية تمنع مرور السيارات، كولبات حراسة وتفتيش تغطي مئات الأمتار قبل الوصول إلى المبنى، كاميرات مراقبة ظاهرة في كل مكان ..الخ. في التاسعة صباحاً أدخل ذاك الصرح الذي كان عناصره يهنئون بعضهم البعض بفوز رئيسهم في الانتخابات، مستبدلين كلمة صباح الخير بعبارة "مبروك النصر". أدخل عبر ممرات ضيقة تصنعها الكتل الاسمنتية. وفي السابعة مساء أخرج من صرح الإذلال ذاك بعد "معالجة" طويلة قوامها الانتظار والإشعار بانعدام القيمة. "هذه هي بلدك" قالها الرجل حين لاحظ الإرهاق والقلق على وجهي. ربما أراد مواساتي غير أن حرف الكاف ذاك سقط في أذني كشتيمة.
إذا استثنينا غنيمة الإياب، لم أخرج سوى بوعد إرسال برقية إلى قسم الهجرة والجوازات في المرجة تسمح لي بالسفر لمرة واحدة. تنفست أخبار عائلتي التي كانت قد دخلت لبنان. اتجهت إلى مبنى الهجرة والجوازات. كان الموظف المسؤول عن استلام البرقيات مشغولاً بإصلاح مروحة أرضية وهو في قميص شيال أسود. كان ضحوكاً وطيباً ومتعاطفاً. "لا تقلق أخي، وعد مني مجرد ما وصلت البرقية بحولها فوراً لمبنى الهجرة والجوازات ع الحدود"، قالها بلهجة شامية أصيلة، وتابع: "إذا ما بتحب نشرب كاسة شاي سوا، اتكل على الله وسافر، لبين ما توصل ع الحدود بتكون وصلت البرقية بإذن الله".
مشيت على نصيحته. وصلت الحدود ولكن البرقية لم تصل. الوقت الذي كسبناه على الطريق بفضل شطارة السائق بالدخول وسط سيارات موكب يحتفل "بفوز الرئيس" ويرفع أعلام حزب الله، مما ساعدنا على المرور عبر الحواجز دون توقف، خسرنا أضعافه في انتظار برقية قد لا تصل.
لأول مرة أرى بيروت. وكان حظي أن تكون رؤيتي الأولى لبيروت في منتصف الليل. لم أكن يوماً مغرماً بالازدحام وضجيج المدن الكبيرة، مع ذلك كان شعوري وسط زحمة بيروت وأصواتها وأضوائها وشوارعها الضيقة شبيهاً بشعوري حين خطوت خارج سجن تدمر العسكري المشؤوم. كما كانت عصا العقوبات والجوع والبرد والضرب العشوائي الذي يمكن أن يتسبب بعطب دائم، مرفوعة دائماً فوق رأسي في سجن تدمر، كذلك كانت عصا الاستدعاءات الأمنية والاعتقال وشتى صنوف التمييز السلبي مرفوعة دائماً فوق رأسي ورأس أسرتي في سجن "سوريا الأسد". بعد كل ذلك يبقى هناك الكثير من ألم الضمير الذي يحتاج إلى كتابات أخرى.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في مساءلة خياراتنا وأهدافنا
- لماذا نقبل السجن؟
- تأثير السجن
- ملاحظات على عقد عربي فريد
- مشكلتي مع التعابير
- المعارضة السورية في طور الهبوط
- المأساة السورية وليمة صحفية (قراءة في كتاب الأسد أو نحرق الب ...
- المنشقون والثورة السورية
- العلويون في مهب السلطة السياسية 2
- العلويون في مهب السلطة السياسية 1
- ماذا نستفيد مما يحصل في فرنسا؟
- هل السلطة السياسية أولوية؟
- أمي والقضايا الصغيرة
- -انا في سورية وأريد العودة الى وطني-
- الصمت ليس حقا لمن لديه ما يقول
- ضحايا وجلادون
- حين تتحول الهوية إلى وثن
- مشكلة الفرنسيين مع الإسلام
- هل العلة في الطريق أم في -الهرولة-؟
- عن رهينة فرنسية اعتنقت الاسلام


المزيد.....




- -التعاون الإسلامي- يعلق على فيتو أمريكا و-فشل- مجلس الأمن تج ...
- خريطة لموقع مدينة أصفهان الإيرانية بعد الهجوم الإسرائيلي
- باكستان تنتقد قرار مجلس الأمن الدولي حول فلسطين والفيتو الأم ...
- السفارة الروسية تصدر بيانا حول الوضع في إيران
- إيران تتعرض لهجوم بالمسّيرات يُرَجح أن إسرائيل نفذته ردًا عل ...
- أضواء الشفق القطبي تتلألأ في سماء بركان آيسلندا الثائر
- وزراء خارجية مجموعة الـ 7 يناقشون الضربة الإسرائيلية على إير ...
- -خطر وبائي-.. اكتشاف سلالة متحورة من جدري القرود
- مدفيديف لا يستبعد أن يكون الغرب قد قرر -تحييد- زيلينسكي
- -دولاراتنا تفجر دولاراتنا الأخرى-.. ماسك يعلق بسخرية على اله ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - راتب شعبو - تحت خط الوطن