أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - حسن مدن - قيود مخملية














المزيد.....

قيود مخملية


حسن مدن

الحوار المتمدن-العدد: 6789 - 2021 / 1 / 16 - 10:10
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


عام 1948 كتب جورج أورويل روايته المعروفة "1984". لم يكن الكاتب يلعب على الأرقام فقط، إنما يكتب رؤية مستقبلية للعالم بعد أكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد من تاريخ كتابة الرواية.
لقد اجتزنا التاريخ الذي اختاره الكاتب ليصف كيف سيكون فيه العالم، ومضى أكثر من عقدين عليه، لكن العالم يسير، على ما يبدو، نحو تلك الحال التي كان أورويل قد توقعها، والتي رسم فيها وصفاً مُرعباً لعالم متسلط شمولي يعتمد أساساً على مراقبة حركات الناس وسكناتهم بواسطة الكاميرات التي تطاردهم في الزمان والمكان.
يعيش ونستون سميث بطل الرواية شأنه في ذلك شأن جميع قرنائه في فزع لأنه يخضع للمراقبة وقد يلقى عليه القبض في أية لحظة، ويحاكم ثم ينفى بغير سابق إنذار ودون أن يعرف سبب ذلك.
وصوَّر أورويل رعب ما يجري بقوله: "ليس هناك انفلات من المراقبة خلال أوقات النوم أو اليقظة، أوقات العمل أو تناول الطعام في الحمام أو غرفة النوم. إنك لا تملك شيئاً خارج السنتيمترات المكعبات لجمجمتك. لقد كان خطيراً أن يسمح المرء لنفسه بالظهور شارد الذهن في فضاء عمومي أو في المجال الخاص بالكاميرا المتلفزة، فأقل شيء يمكن أن يتسبب في إلحاق الضرر بك سواء تعلق الأمر بتشنج عضلات وجهك أو بنظرة قلقة لا واعية، أو همهمة أو كل يوحي أن المرء غير عادي أو له شيء يخفيه".
كان كاتب آخر قد تصور أن يأتي يوم يعيش فيه الناس في "بيت من الزجاج"، حيث يكون كل ما يجري فيه تحت أعين الجميع، ويرى الناس كل ما يقوم به أصحاب البيت: كيف يأكلون ويشربون، كيف يعملون وكيف ينامون. وفي المعنى المجازي فإن الحضارة الإنسانية قد حققت ذلك، حيث أن الإنسان من حيث هو فرد باتت حياته منتهكة في أدق وأشد خصوصياته. إنه تحت المجهر في كل شيء: في صحته، في أمواله، في وضعه العائلي وحياته الخاصة.
يسخر ميلان كونديرا من مفهوم الشفافية الرائج اليوم، فيقول أن شفافية الحياة الشخصية للفرد هي المنتهكة، فيما تبقى شئون الدول مكتومة وعصية على الكشف والمعرفة. إن الإنسان الفرد مطالب بكشف كل التفاصيل التي تخص حياته من وجوهها المختلفة، عبر البطاقات والاستمارات التي علينا أن نملأها بالبيانات التفصيلية في البنك والمستشفى والمطار ومكان العمل، وكل ذلك بات مبرراً ومقبولاً ومفهوماً. لا بل وشاعرياً أيضاً بواسطة تلك الكلمة الجميلة: الشفافية، حيث نشف عن كل أمر يعنينا طواعية.
لن ينحصر الأمر في هذا الشكل المباشر من الحصار، وإنما في الأشكال غير المباشرة من "عبودية" التكنولوجيا الحديثة التي تخترق العوالم الأليفة الوديعة للإنسان، فعلى سبيل المثال جرب وأنت تجلس في مقهى بأحد المراكز التجارية أو أحد الفنادق تحتسي قهوتك أن تلقي نظرة على من هم حواليك من الناس الجالسين في المقهى.
ستلاحظ أن جلهم يتحدث بالهاتف النقال، مع أنهم لم يأتوا إلى المقهى فرادى، فمع مَن يتحدث بالهاتف يجلس على الطاولة ذاتها شخص آخر أو أكثر، ويكن عوضاً عن أن يتجاذب الجالسان أو الجالسون على هذه الطاولة الحديث فيما بينهم، فإنهم، أو بعضهم، لا يكونوا حاضرين معاً في حقيقة الأمر، لأن تواصلهم يتم مع مَن هو غير حاضر، وذلك عبر الهاتف.
ويزداد المشهد (كاريكاتورية) حين نجد أن كلاً منهم يتحدث بالهاتف النقال. أنهم معاً في الشكل فقط، أما في الجوهر فإن التواصل لا يتم بينهم، وإنما بين كل فرد منهم على حدة، مع طرفٍ آخر غير موجود معهم. وهذا المشهد يقدم صورة عن الحال الجديد الذي يدفعنا إليه هذا العصر الذي جرى التعارف على وصفه بأنه عصر الاتصال، وهو وصف يكتسب قدراً كبيراً من الصُدقية لأنه يضعنا في حالة اتصال دائم. بحيث أنه لن يتعذر على أحد الوصول إلينا بعد اليوم، فإن لم نكن في البيت أو المكتب، يمكن البحث عنا عبر الهاتف النقال سواء كنا راغبين أم غير راغبين، وبعد اليوم لن يكون بالإمكان أن تجد ذريعة في عدم الرد على أحد اتصل بك ولم تجب على مكالمته لهذا السبب أو ذاك.
مشهد الجالسين على طاولة واحدة في مقهى، فيما كل واحد منهم منهمك في حديث تليفوني مع شخص آخر غير حاضر، دليل على أن عصر الاتصال هذا، إذ يحقق هذا المستوى من سرعة وسعة الاتصال، فإنه يخلق أيضاً نوعاً من عزلة الناس عن بعضهم البعض، نوعاً من "اللاتصال" إن جاز القول.
في السابق عندما يسهر الناس مع بعضهم البعض للتسامر وتجاذب أطراف الحديث يكون التركيز كله مُنصباً على من هم معك في السهرة، بينما وسائل الاتصال الراهنة، خاصة توزع اهتمامنا على أكثر من مكان وأكثر من جهة. إنك غائب وحاضر في آن. وليس مهماً ما إذا كانت هذه نقيصة أم ميزة، فوسائل الاتصال الحديثة تحقق هذا الصورة المزدوجة المتناقضة من عزلة الاتصال أو اتصال العزلة.
وليس بمعزل عن ذلك سطوة ثقافة الصورة في أسرنا في دائرة الوهم، الذي سيغدو، هو الآخر، قيد مخملي لأننا نُقبل عليه بشغف.أن ثقافة المجتمع ما بعد الصناعي، أو مجتمع ما بعد الحداثة الغربي تتقدم إلى العالم عبر الصورة الخاطفة، وهي حين تبث عبر الفضاء، الذي أصبح مفتوحاً وبدون رجعة، إلى بلداننا النامية حيث ما زالت الحداثة نفسها تتعثر، فإنها تتجنب تقديم الواقع نفسه، وتقدم رديفه المفبرك، أي الصورة.
ولا غرابة حين يصدر في الغرب بعد حرب الخليج الثانية مباشرة كتاب يحمل العنوان المثير "حرب الخليج لم تقع" في إشارة إلى زيف ما قدمه الإعلام، الذي كان يعلن ولادة نظام جديد يتقدم بالصورة، لا بالمدافع والطائرات وحدها.



#حسن_مدن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإغارة على ثقافات الشعوب
- الدولة العميقة .. المجتمع العميق
- فئات أربع من المثقفين
- نساء ضد النساء
- غسان كنفاني: رائحة رغيف طازج
- ثقافات لا ثقافة واحدة
- التفكير (الجديد) قديم أيضاً
- التقدّم أم التوحش؟
- حاتم علي
- عن لغة العرب
- وقفة مع الذات في بداية العام
- هاكرز التاريخ
- بين التعددية والخصوصية
- إبداع الأمس.. إبداع اليوم
- جدل الدولة والأمة
- ذكي وحنون
- البابا ذو الخف الأحمر
- (وطن) الفلسطيني
- حداثات لا حداثة واحدة
- رفع الأشخاص على الأكتاف


المزيد.....




- وسائل إعلام إيرانية: سماع دوي انفجار شمال غرب أصفهان
- صافرات الإنذار تدوي في شمال إسرائيل وأنباء عن هجوم بالمسيرات ...
- انفجارات قرب مطار أصفهان وقاعدة هشتم شكاري الجوية ومسؤول أمر ...
- وسائل إعلام: الدفاعات الجوية الإيرانية تتصدى لهجوم صاروخي وا ...
- وسائل إعلام: إسرائيل تشن غارات على جنوب سوريا تزامنا مع هجوم ...
- فرنسي يروي تجربة 3 سنوات في السجون الإيرانية
- اقتراب بدء أول محاكمة جنائية في التاريخ لرئيس أميركي سابق
- أنباء عن غارات إسرائيلية في إيران وسوريا والعراق
- ??مباشر: سماع دوي انفجارات في إيران وتعليق الرحلات الجوية فو ...
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية الرسمية نقلا عن تقارير: إسرائيل ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - حسن مدن - قيود مخملية