أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - وطن عربي حقاً؟















المزيد.....


وطن عربي حقاً؟


عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

الحوار المتمدن-العدد: 6776 - 2020 / 12 / 31 - 10:36
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


دعونا نعرف أولاً ماذا يعني "وطن"، وماذا تعني "عربي". الوطن، في تشبيه بسيط، هو بمثابة بيت يشيده الإنسان لنفسه. الإنسان هنا مرادف "الشعب". لكي يكون بيت الإنسان بيته حقاً، ملكه حقاً، يجب أن يكون قادراً على أن يدخله وأن يعيش وينتفع به من دون استئذان من أحد. ليس بالضرورة أن يكون هو من شيده بنفسه، ربما قد ورثه عن أجداده وآبائه، أو اشتراه، أو استأجره أو شغله عنوة بحكم الأمر الواقع. لكن لابد أن يكون قادراً على التنقل والتجوال به متى شاء، والعيش فيه والانتفاع به كيفما يشاء، بإرادته الحرة ومن دون الحاجة إلى الاستئذان من أي أحد آخر. عندئذ يمكننا القول أنه يسكن بيته هو، وليس بيتاً لشخص آخر. لأنه إذا أراد العيش والاستقرار في بيت شخص آخر، فعليه إما أن يستولي عليه بطريقة أو بأخرى ويصبح ملكاً له بقوة الأمر الواقع، أو أن يشغله بتراض الطرفين مقابل أجرة محددة أو منفعة مقابلة.

بهذا المعنى، حين يستطيع الإنسان أن يعيش في مكان ما كبر أم صغر، ويتنقل بين ربوعه بحرية كاملة، وينتفع به لأغراضه الخاصة من دون الإضرار بأغراض الآخرين، وأن يورثه لأبنائه وذريته من بعده، نحن عندئذ نتحدث بصورة ما عن "وطن". الوطن هو ذلك البيت الكبير الذي لا تحتاج لكي تستأذن أو تأخذ تأشيرة للعيش فيه أو التنقل والترحال بين ربوعه.

في الواقع، أغلب دول العالم المعترف بها من الأمم المتحدة تضم داخل حدودها السيادية أقواماً ومجموعات عرقية لا تعترف بانتمائها إلى الدول التي تعيش فيها، وتناضل إما لنيل حق تقرير المصير الذاتي داخل تلك الدول أو الانفصال إلى دول مستقلة يلتئم فيها شتات قومها. على سبيل المثال، هناك القومية الكردية الموزعة بين سوريا والعراق وإيران، وتناضل منذ زمن طويل لإنشاء دولة قومية للكرد. وهناك دول أخرى، مثل لبنان، تتشكل من طوائف قومية ودينية ومذهبية مختلفة مثل السنة والشيعة والعلويون والإسماعيليون والموارنة والروم الأرثوذوكس والروم الكاثوليك والأرمن الكاثوليك والأرمن الأرثوذوكس والسريان والأرمن والأقباط والدروز...الخ. وفي العربية السعودية، هناك أغلبية سنية وأقليات من الشيعة والإسماعيلية والزيدية. وفي مصر، هناك أغلبية سنية وأقليات من والأقباط المسيحيين والنوبيين والبدو...الخ. حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، هناك أغلبية من السكان البيض ذوي الأصول الأوروبية وأقلية زنجية من أصول أفريقية، إضافة إلى الهنود الحمر، السكان الأصليين، وذوي الأصول اللاتينية والإسبانية...الخ. وفي بريطانيا العظمى، هناك أغلبية من الإنجليز وأقليات من الايرلنديين والاسكتلنديين والويلزيين...الخ.

في الحقيقة، تكاد لا توجد دولة في العالم تخلو من الأقليات سواء القومية أو الدينية أو المذهبية أو العرقية أو اللغوية أو خلافه التي تجد صعوبة في الاندماج مع التيار الرئيسي السائد وتناضل بطريقة أو بأخرى لنيل حقوقها، سواء ضمن نفس الدولة أو في صورة حكم ذاتي أو الانفصال إلى دولة مستقلة ذات سيادة خاصة بها. ولا يفوتنا في هذا السياق الإشارة إلى النضال الفلسطيني لحق تقرير المصير أو إنشاء دولة مستقلة عن دولة الاحتلال الإسرائيلي.

هكذا يمكن القول أن التطابق بين الحدود السياسية والقومية لا يتحقق في الأغلب على أرض الواقع، وأن هذا التطابق المزعوم ليس سوى مجسم تنظيري لحالة مثالية يصعب تحققها في الواقع ويخدم فقط أغراض الوصف والتنظير ورسم الصورة التقريبية. لكن غياب التطابق التام لا يعني أبداً انعدامه. فهناك دائماً تيار قومي رئيسي سائد تقوم وتعتمد عليه معظم دول العالم، ربما باستثناء دول وأوطان على شاكلة الدولة اللبنانية. هذا التيار القومي الرئيسي السائد يكفي أحياناً لقيام الدولة القومية، وفي أحيان أخرى قد لا يكفي. لكنه يبقى شرطاً أساسياً مسبقاً ومهماً لتطور الدولة القومية ورعايتها وتطويرها وصيانتها والمحافظة على استمراريتها؛ لابد من مستوى ما من القواسم المشتركة العرقية واللغوية والثقافية والدينية والتاريخية والحضارية وخلافه التي تربط وتوحد التجمع البشري معاً ضمن حدود جغرافية معينة.

في قول آخر، وجود الأقليات العرقية أو الدينية أو خلافه داخل أي دولة قومية حيث يسود تيار قومي رئيسي ما قد يطرح مشكلات وتحديات أمام هذه الدول ذات التيار القومي السائد لكن ليس الوحيد، لكنه في الوقت نفسه لا يشكل خطراً وجودياً عليها. هذا هو الحال على أرض الواقع في أغلب دول العالم، سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو سوريا والعراق وإيران، أو في مصر أو بريطانيا العظمى. وقد وجد عدم التطابق هذا بين الحدود السياسية والقومية على مر التاريخ، ولا يعتقد أنه سيغادر المسرح الدولي قريباً. قبل ظهور الدول القومية الحالية، خلال زمن الإمبراطوريات، كان التيار القومي الرئيسي السائد في إقليم ما- اليونانيون من أثينا والرومان من روما والعثمانيون من القسطنطينية والفرنسيون من باريس والإنجليز من لندن- يخضعون لسيطرتهم وحكمهم قوميات تفوق تعداد قومهم الأم، وأوطان تفوق مساحة وطنهم الأم عشرات ومئات المرات.

لقد ظلت شعوب الأرض طوال التاريخ في حالة من الانسياب والتدفق والفيضان البشري من موضع لآخر فوق وضد بعضها البعض، وكانت دائماً تنصهر وتختلط وتندمج في بعضها البعض عبر الغزو والهجرة والترحال، ولم يفلح أي منها في أن يحافظ على درجة معقولة من النقاء العرقي بمعزل عن الأعراق الأخرى. لذلك، لا أرى وجاهة في أن تنسب هوية الدولة إلى قوم معين دائم التغيير وتنعت "قومية". في المقابل، بينما كانت الشعوب تأتي وتنصهر وتذوب وتذهب وتزول، كانت الأرض- أرض الوطن- باقية على الدوام، فاتحة ذراعيها دائماً لكل من أراد أن ينميها ويعمرها ويحميها ويصطفيها وطناً له. وعليه، أرى أنه من الأنسب أن تستبدل الصفة الزائلة "قومية" نسبة إلى قوم معين الملحقة باسم الدولة بالصفة الأكثر ثباتاً واستقراراً وديمومة "وطنية" نسبة إلى الأرض التي يتخذ منها الإنسان وطناً له، لتصبح "الدولة الوطنية" بدلاً من "الدولة القومية". على مر التاريخ كانت الأقوام تتعدد وتتبدل وتأتي وتذهب، بينما بقيت أرض الوطن كما هي ثابتة في مكانها وراسخة رسوخ الجبال.

تأكيداً لما سبق، من هم "القوم" الباقون حتي الآن في مصر منذ عهد الفراعنة قبل آلاف السنين، هل هم الفراعنة أم المغول والتتار، أم الأفارقة والليبيون أم اليونانيون والرومانيون أم العرب والعثمانيون، أم الفرنسيون والإنجليز، أم غير كل هؤلاء، أم بعض منهم جميعاً؟ هل يستطيع عاقل بعد مرور كل هذه السنين وموجات الغزو والهجرة والتزاوج والاختلاط والاندماج أن يجزم أن المصريين اليوم هم فقط الفراعنة أو العرب أو غيرهم؟ كيف؟! أين ذهبت "الأقوام" الأخرى التي قد استعمرت نفس الأرض واستقرت وعاشت وتزوجت وأنجبت فيها لمئات وآلاف السنين؟! هل تبخروا وتلاشت مورثاتهم (جيناتهم) بفعل السحر أو الجان؟!

بخلاف القوم الواحد أو المتجانس الذي لم تعرفه مصر طول تاريخها الممتد لأكثر من سبعة آلاف سنة، هل عرفت ديناً واحداً أو لغة أو ثقافة أو عادات أو تقاليد واحدة، أو نظام سياسي أو اجتماعي أو عرفي واحد؟ أم عرفت الكثير؟ هل كانت مصر دائماً عربية، مسلمة فقط، أم تحدثت الهيروغليفية وعبدت الفراعنة واعتنقت آلهة آمون والشمس والأوثان، وآمنت بالمسيحية قبل اعتناقها الإسلام مؤخراً؟ وحين بدلت مصر عبر العصور دينها ولغتها وثقافتها ونظامها السياسي والاجتماعي وخلافه، هل توقفت مصر حينئذ ولو للحظة واحدة عن أن تصبح مصر، الدولة القطرية بحدودها الجغرافية الممتدة من البحر الأحمر وخليج العقبة وشبه جزيرة سيناء شرقاً حتى الصحراء الكبرى والحدود الليبية غرباً، ومن البحر الأبيض المتوسط شمالاً حتى الحدود السودانية جنوباً؟ هل توقف ساكنوها في أي وقت عن أن يكونوا مصريون؟ هل يمكن الزعم أن سكانها اليوم والآن هم فقط المصريون وكل سكانها السابقون منذ القدم وفي أيام الفراعنة أو الرومان أو العرب كانوا شيئاً آخر؟

أخلص مما سبق أن الأصل العرقي ليس نقياً ولا ثابتا، وكذلك الدين واللغة والثقافة والملبس وأسلوب الحياة وكافة مكتسبات الانسان تتبدل وتتغير من زمن لآخر. وأن الشيء الأكثر ثباتاً وديمومة واستقراراً واستمرارية ليس هو العرق ولا الدين ولا اللغة، لكن الأرض (الوطن). أتي من أتي وذهب من ذهب، وولد من ولد ومات من مات، بقيت الأرض (الوطن) قائمة كما كانت منذ آلاف السنين مهما اعتراها من تغييرات بيولوجية ومناخية. ولأن الأرض (الوطن) هي هكذا الأكثر ثباتاً على الإطلاق مقارنة بأي شيء آخر، اسمحوا لي إذن أن استبدل العبارة غير الدقيقة "الدولة القومية" بأخرى أراها أكثر دقة "الدولة الوطنية"، نسبة إلى الوطن (الأرض)، العنصر الأكثر ثباتاً وسط واقع انساني متبدل وسريع التغير.

لذلك، حين أذكر اسم الدولة في أي موضع من هذا العمل، أنا أقصد بالتأكيد "الدولة الوطنية"، أو الدولة-الوطن القائمة في المقام الأول على الوحدة الترابية الواحدة حتى مع أنها قد تتسع لقوميات وأعراق وأديان ولغات وثقافات شتى ومتباينة، كما هو الحال على أرض الواقع في أغلب الدول الوطنية الحالية حول العالم. تستطيع الدولة- أي دولة- أن تتقبل أي اختلاف قومي أو عرقي أو ديني أو لغوي أو ثقافي أو حضاري وسط شعبها وتنهض كدولة طبيعية وصحية رغم ذلك لكنها، في المقابل، لا يمكن أن تقبل أبداً الانتقاص من وحدة اقليمها الترابي (الأرضي)، ولا يمكنها أن تنهض بدونه. الوحدة الترابية (الأرضية) هي القاعدة الأساسية الضرورية لبناء الدول الوطنية ذات السيادة، ومن دون هذه القاعدة لا توجد الدولة. هكذا لم تؤسس الدولة المصرية القديمة إلا بعدما وحد الملك مينا القطرين الشمالي (البحري) والجنوبي (القبلي)، ولم تؤسس السعودية سوى بعدما وحدت عائلة آل سعود أقاليم المملكة في دولة ترابية (أرضية) متحدة. هكذا الحال مع جميع الدول القائمة اليوم بلا استثناء.

عودة إلى الوطن العربي، هل هناك فعلاً ما يمكن تسميته "وطن عربي"؟ هل يملك هذا الوطن المزعوم حدوداً جغرافية معلومة مثل التي تملكها مصر أو السعودية، على سبيل المثال؟ هل يقطنه قوم أو شعب أو تجمع بشري تربط وتوحد بينه قواسم مشتركة اجتماعية وسياسية تاريخية ودينية ولغوية...الخ للدرجة التي تؤهله لكي يصبح وطناً؟ وهل سبق له أن استوفى شروط الوطن في أي مرحلة من مراحل نشأته وتطوره سواء قبل أو عبر التاريخ المدون؟

بداية، بعد ظهور الإسلام وجدت فعلاً مساحة جغرافية ممتدة من الخليج العربي شرقاً حتى المحيط الأطلنطي غرباً، ومن المحيط الهندي جنوباً حتى البحر الأبيض المتوسط شمالاً شهدت انتشاراً واسعاً للبدو العرب القادمين من قلب جزيرة العرب بزعامة قيادات من قبائل مدينتي مكة والمدينة ومن ورائها العديد من القبائل العربية الأخرى. ثم انتشرت هذه القبائل ومعها لغتها وعاداتها وتقاليدها وديانتها عبر هذه المنطقة المترامية، لتتجاوزها فيما بعد شرقاً باتجاه مناطق من إيران وأفغانستان وباكستان والهند الحالية وغرباً إلى بعض المناطق من جنوب أوروبا وإسبانيا، فيما لا تزال تعرف حتى اليوم بالفتوحات الإسلامية.

بالطبع قبل ذلك الزمن كان هناك الكثير المشترك الذي يجمع بالفعل بين شعوب هذه المنطقة، سواء بحكم الجوار الجغرافي أو تشابه وتشابك عوامل عرقية وتاريخية ومناخية وطبيعية وخلافه. على سبيل المثال، لم تكن القبائل العربية غافلة عن ما يجري ويدور حولها سواء في بغداد أو فارس أو دمشق أو مصر أو اليمن، حتى أن القرآن الكريم قد سرد قصصاً حول رحلتي الشتاء والصيف من أقصى جنوب جزيرة العرب إلى أقصى الشمال، وحول انتصارات وهزائم الامبراطوريتين الرومانية المسيحية والفارسية الوثنية. لكن الفتوحات الإسلامية، خلافاً لأغلب الفتوحات العسكرية السابقة عليها، قد أضافت شيئاً جديداً لم تشهده المنطقة من قبل.

في الماضي، كانت الإمبراطوريات السابقة تكتفي باحتلال واستيطان المناطق الساحلية والهوامش الخارجية ذات الأهمية الاستراتيجية، ولأسباب متعددة لم تكترث للتوغل في أعماق الجزيرة العربية. كانت، مثلاً، تكتفي بمدن ساحلية أو قريبة من الساحل مثل دمشق أو بغداد أو عدن ولا تكترث بأخرى في أعماق الصحراء مثل مكة أو المدينة، حيث ربما شدة الفقر وقسوة البيئة الصحراوية وندرة السكان تجعلها غير جديرة بعناء الغزو. لذلك، ظلت المدن والممالك والإمبراطوريات المترامية على سواحل وهوامش منطقة الجزيرة العربية وشمال أفريقيا حتى ذلك التاريخ تشترك في عوامل كثيرة متشابهة، مثل الدول المستعمرة والظروف المناخية والبيولوجية والأصول العرقية والطرز المعمارية والسمات الحضارية وأنظمة الحكم والتنظيم الاجتماعي...الخ. رغم ذلك، بقي هناك عمق دفين في الصحراء، نائي وبعيد وحصين بدرجة أو بأخرى عن تلك المؤثرات المشتركة فيما بين المناطق الساحلية والهامشية. ومن هذا العمق المنيع، تفجر كل التغيير الذي غمر المنطقة كلها فيما بعد.

ما كانت لغة القبائل العربية في عمق الصحراء، أو دياناتها ومعتقداتها، منتشرة وسط المراكز الحضارية الكبرى القريبة من السواحل في دمشق أو فارس أو بغداد أو عدن. ولم تنطلق اللغة العربية من معقلها الحصين في قلب الصحراء إلا مع ظهور الإسلام وبداية حقبة الفتوحات الإسلامية، لتنتشر معها اللغة العربية والعقيدة الإسلامية جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً وتعم كافة القبائل والمدن ضمن شبه الجزيرة العربية بحدودها الجغرافية الأشمل من المحيط الهندي جنوباً حتى البحر المتوسط شمالاً ومن الخليج العربي شرقاً حتى البحر الأحمر غرباً. ثم بعد إحكام قبضتهم على الجزيرة العربية، بعد وفاة الرسول وأثناء عهد الخلفاء الراشدين، عاود القادة العرب المسلمون الجدد توسعهم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، حتى انتشرت اللغة العربية ومعها الديانة الإسلامية عبر المنطقة العربية الحالية كلها في غضون عشرات أو بضع مئات من السنين.

كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تشهد فيها هذه المنطقة ما يشبه الوحدة اللغوية، وإلى حد ما الدينية. حتى اليوم، لا تعتبر اللغة العربية هي اللغة الوحيدة في المنطقة، ولا الديانة الإسلامية هي الديانة الوحيدة، بل تضم المنطقة بجوارهما لغات وأديان أخرى أيضاً. لكن، من ناحية أخرى، قبل الفتوحات العربية، لم يحدث أبداً من قبل أن شهدت المنطقة مثل هذا القدر من الغلبة والانتشار والسيادة للغة واحدة أو دين واحد مثلما حدث مع اللغة العربية والديانة الإسلامية. كما لم تشهد من قبل أبداً مثل هذا الانتشار والتغلغل الجغرافي الذي لأول مرة لم يستثني أي مناطق أو مدن داخلية مختفية ومستعصية في أعماق الصحراء، مثلما كان الحال في عهود الإمبراطوريات الفارسية أو اليونانية أو الرومانية أو البيزنطية...الخ. لأول مرة في التاريخ، أصبح يمكن القول أن ما ستصبح فيما بعد "المنطقة العربية" قد توحدت، إلى حد ما، سياسياً واجتماعياً ولغوياً ودينياً.

لا يزال هذا التجانس السياسي والاجتماعي واللغوي والديني حتى اليوم أحد أهم مكتسبات المنطقة العربية، أو ما نسميها مجازاً "الوطن العربي". لكن، رغم هذا التجانس الجلي، هل كان هناك، أو لا يزال هناك، "وطن عربي" حقاً؟ هل المشتركات السياسية والاجتماعية واللغوية والدينية القائمة فيما بين أقطار المنطقة تكفي لكي تؤهلها إلى "وطن" واحد، وتتحول هذه الأقطار المنفصلة والمستقلة إلى مجرد ولايات أو إمارات أو محافظات ضمن كيان واحد مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو الإمارات العربية المتحدة أو جمهورية مصر العربية، كأمثلة لثلاثة أوطان ذات تنظيم سياسي مختلف؟

تمتد المنطقة العربية عرضياً وأفقياً بامتداد خطوط العرض أكثر من امتدادها رأسياً بمحاذاة خطوط الطول، ما يجعلها متشابهة كثيراً في السمات الجغرافية والمناخية، والأصول العرقية، والتطورات التاريخية والحضارية وخلافه. تشابه الخصائص المناخية والجغرافية، الذي يحققه الوقوع على خطوط العرض المتقاربة، يحقق تشابهاً مقابلاً سواء في طبيعة الأرض والتربة والتضاريس والمناخ أو طبيعة السكان أنفسهم وقدرتهم على التكيف مع الشروط الطبيعية السائدة والتنقل والترحال من مكان لآخر شرقاً وغرباً (أكثر منهم شمالاً وجنوباً بمحاذاة خطوط الطول). وعليه، يمكن الزعم أن التشابه الفسيولوجي والديموغرافي الظاهر فيما بين أقطار المنطقة هو في الحقيقة تشابه طبيعي، تحقق بفعل شروط طبيعية أكثر منه من صنع الإنسان- بفضل الوقوع على امتداد خطوط عرض متقاربة بدرجة كبيرة.

كعادة الغزاة من قبلهم، سلك الفاتحون العرب نفس المسار بمحاذاة خط العرض الممتد بعرض المنطقة، ليأتي توسعهم جهتي الشرق والغرب لمسافة أبعد كثيراً من توسعهم شمالاً وجنوباً خارج شبه الجزيرة العربية. كان هذا التقليد قد سبقهم فيه غزاة كثر آخرون، سواء من الرعاة البدو من جهة الشرق أو من ممالك وامبراطوريات حضارية قادمة من الشمال. لكن، من جهة أخرى، يبقى ما فعله الفاتحون العرب لم يفعله أي فاتح آخر قبلهم- هم الذين جعلوا المنطقة كلها للمرة الأولى في تاريخها تتكلم لغة واحدة، لغتهم العربية، وإلى حد ما تعتنق ديانة واحدة، الإسلام. لكن، لا يزال، هل يعني ذلك أنهم، لأول مرة في التاريخ أيضاً، صنعوا منها وطناً واحداً؟

قد تكون وحدة اللغة والدين من العوامل المهمة في بناء الأوطان، لكنها بالتأكيد غير كافية وحدها. ولابد من توفر عوامل حاسمة أخرى لا غنى عنها لتأسيس الأوطان، على رأسها "الوحدة الترابية". ماذا تعني الوحدة الترابية، وهل هي مرادف للدولة الوطنية الإقليمية ذات السيادة كما تعترف بها منظمة الأمم المتحدة في العصر الحاضر؟

بالعودة إلى القضية الكردية، هؤلاء "القوم" تتوفر لهم الكثير من العوامل المشتركة، وعلى رأسها "الوحدة الترابية" المذكورة أعلاه؛ هم جميعاً واقعون داخل ذات المنطقة الجغرافية، لكنهم رغم ذلك لا يزالون لا يملكون "وطناً"، ويعيشون موزعين بين ثلاثة دول هي سوريا والعراق وإيران. ما أعنيه بالوحدة الترابية هنا هو درجة معقولة من الاتصال الجغرافي فيما بين التجمعات السكانية القاطنة في مكان ما، بما لا يحرمها من التواصل والتفاعل مع بعضها البعض، والتعاون معاً في بناء وطنهم والتوحد في الدفاع عنه. هنا تلعب التضاريس والجغرافيا دوراً محورياً، حيث يجب أن يكون الموقع متصلة أجزاؤه بعضها ببعض بدرجة معقولة ولا تقتطعها أو تعزلها تضاريس وعرة تحول دون درجة معقولة من الاتصال والتنقل البشري فيما بينها. الأماكن المعزولة بالكامل، أو إلى حد يمنع الاتصال البشري أو يجعله بالغ الصعوبة، غير صالحة لإنشاء وطن واحد.

لا شك في أن العرب المسلمون حققوا لأول مرة شكلاً من "الوحدة السياسية" شملت المنطقة بالكامل، ولم تقف التضاريس أو الموانع الطبيعية حائلاً أمامهم. لكن، من جهة أخرى، هل حققوا لها فعلاً "الوحدة الترابية"، بمعنى إمكانية الاتصال والانتقال السلس فيما بين شعوب وسكان المدن والأقاليم المبعثرة على امتداد خط الساحل الطويل جداً، أو عبر الصحاري القاحلة الشاسعة؟

كان نظام الحكم العربي مماثلاً لأنظمة الحكم السابقة عليه والمعاصرة له في كثير من أنحاء العالم آنذاك. لقد اتبعوا نظام الحكم الامبراطوري السائد آنذاك كما مارسه الفرس والرومان بجوارهم، لكنهم اختاروا له اسماً مختلفاً- الخلافة. وقد اعتمدت الخلافة ذات أسس وخصائص نظام الحكم الإمبراطوري السائد في ذلك الزمان، ولم تختلف عنه سوى في الاسم فقط.

كان من أهم خصائص الحكم الإمبراطوري إعطاء قدراً كبيراً من الاستقلالية- ما يشبه الحكم الذاتي وفق معايير العصر الحديث- للولاة أو الأمراء أو الحكام أو أياً ما كان اسمهم في مدن وأقاليم الامبراطورية (الخلافة) المتعددة. كانت وظيفتهم الأساسية تتمثل في إنعاش خزينة بيت المال في عاصمة الخلافة بالأموال والإمدادات الغذائية، وتعبئة الجند والفرسان لمساعدة الإمبراطور (الخليفة) في بسط نفوذه أو تأديب المتمردين ضده. بخلاف ذلك، لم يكن الخليفة أو الامبراطور في عاصمته يهتم كثيراً بتفاصيل أو طريقة الحكم أو شكل التنظيم السياسي والاجتماعي في الولايات والأقاليم التابعة له اسمياً.

يتسم نظام الحكم الامبراطوري باللامركزية المفرطة، ويتسع لأشكال تنظيمية اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وأديان ولغات وعرقيات شديدة التباين والتباعد والاختلاف الذي يصل إلى حد التنافر والتنازع والتقاتل لدرجة لا تسمح لها بالاندماج أو التكامل أو التعايش مع بعضها البعض بأي حال. لذلك، كان نظام الحكم الإمبراطوري قادر على أن يجمع بالقوة تحت مظلته أقوام من أقصى الشرق ومن أقصى الغرب، مختلفون في كل شيء تقريباً عدا خضوعهم العسكري للإمبراطور وولاته وأمرائه وإخراج الخراج السنوي للخزينة الإمبراطورية.

عبر التاريخ، لم تكن الحدود الجغرافية لأي امبراطورية (خلافة) تتطابق أبداً مع حدود الأوطان. لذلك، على خلفية نظام الحكم الامبراطوري الذي اتبعوه، لم يستطيع القادة العرب تحويل المنطقة كما يُدعى إلى وطن عربي ومسلم واحد. بل بقيت المنطقة، كما كان الحال قبل العرب وأثناء حكمهم ومن بعدهم وحتى اليوم، مؤلفة من أوطان متعددة. في الواقع، قد أسس العرب لأول مرة امبراطورية عربية مسلمة من أنقاض الامبراطوريتين الرومانية والفارسية بدرجة أساسية، لكنهم عجزوا عن تأسيس وطن عربي ومسلم واحد.

علاوة على ما سبق، كانت المنطقة العربية سواء قبل الإسلام أو بعده أو في الزمن الحاضر تفتقر إلى سمة حاسمة لنشأة الأوطان- "الوحدة الترابية". لقد ظلت المنطقة دائماً وعبر عصور سحيقة عامرة بالتجمعات والحواضر البشرية في أماكن كثيرة مثل بغداد والبصرة ودمشق وعدن والقدس ومصر وتونس والجزائر والمغرب...الخ. لكن ضخامة المسافة الجغرافية، علاوة على المساحات الشاسعة من الصحاري المقفرة غير المواتية للحياة، عملت كحواجز وموانع طبيعية تفصل تلك الحواضر الكبرى عن بعضها البعض.

لا شك في أن الجيوش المختلفة قد استطاعت طوال الزمن أن تجتاز بطريقة أو بأخرى مثل هذه الموانع الطبيعية، تماماً كما فعلت الجيوش العربية؛ لكننا لا نعني هنا الجيوش بقدر ما نعني التجمعات البشرية ذاتها التي أنشأت وعمرت وصانت تلك الحواضر. ما كان سهلاً على الناس العاديين قطع المسافة على أرجلهم، مثلاً، من دمشق على ساحل المتوسط إلى مكة أو جدة في عمق الصحراء، أو إلى عدن أو عمان في أقصى الجنوب، أو إلى مصر في الغرب. كانت درجة الاتصال والتفاعل شحيحة وتكاد تقتصر على حركة الجيوش والقوافل التجارية فيما بين الحواضر والأقاليم المتباعدة داخل المنطقة، لكنها كانت تجري بنشاط أكبر داخل نفس الإقليم مثل الهلال الخصيب أو بلاد ما بين النهرين أو مصر أو تونس، فيما بين قراها وبلداتها ومدنها المختلفة.

لكن مثل هذا النوع من الاتصال الترابي والبشري الإقليمي يكفي لقيام أوطان منفصلة تقتصر على تلك الأقاليم وحدها، ولا يكفي لكي يمتد إلى أقاليم مثل بلاد الحجاز أو عدن أو مصر أو الجزائر. هذا لم يتحقق، لا قبل العرب ولا معهم ولا بعدهم ولا حتى اليوم. يبقى الاتصال الترابي والبشري غائباً عن المنطقة العربية، حتى رغم المتشابهات والعوامل المشتركة الكثيرة وأشكال مختلفة من الوحدة السياسية سواء في صورة امبراطورية أو خلافة أو دولة اتحادية أو منظمة الجامعة العربية أو خلافه. وهذا الوضع ليس حكراً على المنطقة العربية، لأن هناك الكثير من المناطق الأخرى حول العالم التي يجمعها ويوحدها الكثير من العوامل المشتركة، لكنها رغم ذلك تبقى منفصلة في أوطان متعددة، مثلما الوضع في دول الاتحاد الأوروبي.
________________________________________
مقتطف من مؤلف "أنا الإنسان، أنا الوطن: قصة حياة". الكتاب متاح كاملاً ومجاناً عبر الانترنت.



#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وما نيل الأوطان بالتمني، لكنها تؤخذ غلابا
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 7
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 6
- وحي السماء
- قول الصدق
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 5
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 4
- سلام على إسرائيل
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 3
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 2
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 1
- أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُ حياة
- أنا الإنسان، أنا الوطن: خَلْقُ حياة
- كل شيء هادئ على البر الغربي للأحمر
- مقاربة جديدة إلى النكبة الفلسطينية في ذكراها السبعون
- الانتحار العربي في سماء نيويورك
- صراع السيسي وأردوغان على المنطقة
- القائد عبد الفتاح السيسي
- أسلمة السياسة، وتسييس الإسلام
- من يحمل وزر الدماء في رابعة؟


المزيد.....




- شاهد.. رجل يشعل النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترامب في نيوي ...
- العراق يُعلق على الهجوم الإسرائيلي على أصفهان في إيران: لا ي ...
- مظاهرة شبابية من أجل المناخ في روما تدعو لوقف إطلاق النار في ...
- استهداف أصفهان - ما دلالة المكان وما الرسائل الموجهة لإيران؟ ...
- سياسي فرنسي: سرقة الأصول الروسية ستكلف الاتحاد الأوروبي غالي ...
- بعد تعليقاته على الهجوم على إيران.. انتقادات واسعة لبن غفير ...
- ليبرمان: نتنياهو مهتم بدولة فلسطينية وبرنامج نووي سعودي للته ...
- لماذا تجنبت إسرائيل تبني الهجوم على مواقع عسكرية إيرانية؟
- خبير بريطاني: الجيش الروسي يقترب من تطويق لواء نخبة أوكراني ...
- لافروف: تسليح النازيين بكييف يهدد أمننا


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - وطن عربي حقاً؟