أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مدخل إلى عصر الرعب: البرج السابع















المزيد.....



مدخل إلى عصر الرعب: البرج السابع


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6771 - 2020 / 12 / 25 - 17:37
المحور: الادب والفن
    


1
الخالقُ، شاءَ أن أُختبرَ في الصيف بشهود مذبحة الأعراب على يد شتجي باشا، وكان هؤلاء قد قاموا في ربيع العام نفسه بمذبحة للحجّاج أثناء قطع طريق المحمل الشريف. ما لم يكن بالحسبان، أن أكون شاهداً على مذبحة جديدة؛ لكنّ مرتكبها، بقيَ مجهولاً وطليقاً. مبتدأ الأمر، كان في أواخر خريف ذلك العام المشئوم، لما تداول الخلقُ أقاويلَ عن جثة شابٍ وجدت طافية في فرع نهر بردى، المار بجانب أسوار القلعة. وكان واضحاً أنّ الشاب طُعن بأداة حادّة، خنجر أو مدية. كان من الممكن أن يكون ذلك خبراً عابراً، لولا أنّ مزيداً من جثث الشبان ستُكتشف في أوقات مختلفة من الخريف وبنفس الطريقة. جميعهم تقريباً كانوا من عائلات مُعتَبرة، تقيم في المدينة القديمة، ولم يكونوا متزوجين. كوني أعملُ في الديوان، حضرتُ أكثر من مرة مداولاتِ الباشا بشأن أولئك الضحايا. الاجراءُ العمليّ الوحيد، المتخذ من قبل السلطات، كان الأمر بعدم خروج أحد ليلاً دونَ سراج. أقتصرَ الأمرُ على المدينة القديمة، بافتراض أن القتلى تعرضوا أيضاً للسرقة.
ولأن القاتلَ يسرحُ مطمئناً في عتمة المدينة، فإنني ولا غرو صرتُ أكثر حذراً عندما أتجه لزيارة صديقي برو في حي القيمرية. يتعيّن أيضاً القول، أنني لم أعُد أدعى لحضور مجلس الأشراف في منزل كبير ذلك الحي، وذلك بسبب حساسية وظيفتي. آخر مناسبة جمعتني بالأشراف، لما حضروا إلى القصر كي يهنئوا الوالي بعيد الأضحى المبارك. كذلك، شاهدتهم عن بُعد في أوان توديعهم لحملة شتجي باشا؛ وكنتُ، مثلما تعلمون، من جملة حاشيته. لقد سبقَ وتركتُ قائدَ الحملة في الحجاز، وكان يتهيأ للعودة إلى دمشق مسبوقاً ببشائر النصر. لكن تصرف عسكره لدى وصوله إلى المدينة، كان شائناً، ولم يختلف كثيراً عما فعله البدو بالحجاج رجالاً ونساءً. قيل في تفسير ذلك، أنّ السباهية كانوا يأملون بالحصول على الغنائم عقبَ الانتصار في المعركة. وإذا بالمهزومين كانوا قد احتاطوا للأمر، بان نقلوا الغالي والنفيس إلى أماكن بعيدة في أعماق الصحراء. برغم ما تعرض له أسرى الأعراب من تعذيب، لم يقرّوا سوى على بعض أموالهم وذهبهم، المسلوب أساساً من حجّاج المحمل الشريف. على أي حال، لم يبقَ العسكرُ سوى فترة قصيرة في دمشق، ثم رافقَ الوزيرَ حينَ عاد إلى الأناضول.

مضيتُ ذاتَ مساء للقاء ربيب الأحاجي، وكان برفقتي صديقنا النصرانيّ. الخادم، بمجرد علمه بنيّتي الذهاب إلى المدينة القديمة، ذهبَ من تلقاء نفسه لإحضار كرّوسة [ أي عربة مشدودة بالخيل ـ ملاحظة المحقق ]. فوجئتُ بتصرفه، ولا غرو، لكنني ركبت مع ذلك. لما أراد باسيل أن ياخذ مكانه بالقرب مني، إذا بالحوذيّ يأمره بالنزول قائلاً: " لا يُمكنني حملَ شخصٍ نصرانيّ، لأنه مخالف للتعليمات ". استنكرتُ كلامَ الرجل، وذكّرته بأن أوامر المنع تخص امتطاء الخيل لا العربات. رد الحوذيّ ببساطة: " لا فرقَ، لأنّ الخيلَ هي التي تقود العربات! ". صاح به خادمي: " يا هذا، إن من تتكلم معه هوَ من أركان ديوان الوالي ". أمام إصرار الحوذيّ، نزلتُ من عربته وقمتُ بصرفه. عاد خادمي هذه المرة وهوَ يحملُ قنديلاً مُناراً، فسلّمني إياه، مُذكّراً بقانون آخر من لدُن الوالي.
لعلني تكلمتُ من قبل عن وضع أهل الكتاب، والفرمانات القاضية بتمييز ملابسهم بألوان خاصة. لكنهم مُنعوا أيضاً من ركوب الخيل، وكان بمقدورهم فقط استخدام الحمير والبغال في التنقل. لكي يُحط من قدرهم أكثر، كان لزاماً عليهم أن يجعلوا بوابات منازلهم واطئة كي يحنوا رؤوسهم عند الدخول والخروج؛ وكذلك الأمر بشأن بوابات الكنائس والأديرة. لقد حصلَ موقفٌ ذات مرة، كان طريفاً ومحزناً في آنٍ معاً: وقعت مشكلة بين طائفتي الملكيين والمشاقين، فأرسل الوالي مبعوثاً من قبله لمحاولة معرفة أسبابها ومن المذنب فيها. لما حضرَ مبعوثُ الوالي إلى الكنيسة لمقابلة الرهبان، وقفَ أمام المدخل ليهتف بغضب: " كيفَ وأنا رجلٌ مسلم، عليّ الانحناء عند الدخول من هذه البوابة؟ ". فما كان من الرهبان سوى حل الموضوع، وذلك باستعمال طريق الحديقة للوصول إلى داخل الكنيسة.

إتفاقاً، أننا لما إقتربنا من منزل صديقنا برو، لحظنا شخصاً يُغادره ولم يكن يحمل قنديلاً. حالما دخلنا، تساءلتُ: " أظنني لمحتُ الطواشي عند خروجه من المنزل، أليسَ صحيحاً؟ ". أومأ المضيفُ برأسه موافقاً، ثم انتحى بنفسه في زاوية الحجرة. عدتُ أقول، بينما أضع القنديل المشتعل بالقرب منه: " كان باسيل يتمنى دوماً مقابلة حكيم، للتعرف عليه؛ وهذه المرة فوّتَ الفرصة أيضاً ". بقيَ برو صامتاً، وكان يشد إلى جسده إحدى البطاطين الرثّة. سألته ما لو كان مريضاً، فرد بصوت ضعيف أنه بخير. كان المنزل بارداً، برغم أننا لم ندخل بعدُ في مربعانية الشتاء. لكن صاحبنا لم يكن يستعمل أيّ وسيلة تدفئة، اللهم إلا عندما يُشعل الحطب في المطبخ لطهي الطعام.
عقّبَ باسيل على كلامي، بالقول في شيء من الخجل: " بلى، كان لديّ فضولٌ لرؤية مَن تسمّونه بالطواشي. إنّ رجلاً يخدمُ الأميرات المسلمات في مخادعهن، لجدير بالاهتمام ". أثار كلامه ضحكي، فيما أكتفى المضيفُ بالابتسام. عندئذٍ، سألتُ صديقنا النصرانيّ بين الجد والدعابة: " لو أنّ راهباً كان في مكان الطواشي، أكان في وسعه أن يكبح جماح غريزته؟ ". قال باسيل عقبَ وهلة تفكير، مستخدماً نبرته الجدية المعتادة: " لا أظن ذلك، بالأخص لاختلاف طبيعة الراهب عن الشخص المخصيّ. قد يُقال، أن كلاهما على نفس السجية لناحية الحرمان من الاتصال الجسديّ. لكن الفرقَ يبقى جوهرياً: فالراهب، نذرَ نفسه كلياً لخدمة كنيسة الرب، المتطلبة منه الامتناع عن الزواج ناهيك عن معاشرة النساء بشكل غير شرعيّ. بيد أن الله وحده يعلم، كيف سيكون شعوره لو كان عليه الاختلاء المستمر بامرأة شابة ورائعة الجمال ". علّقتُ قائلاً، بسرعة وبغير تبصّر: " هذا صديقنا برو، نذرَ نفسه للحرمان الجسديّ مع أنه رجلٌ مسلم ".

2
حلّ الصمتُ على الأثر، وصارَ من الممكن سماعُ صوتِ رذاذ المطر وهوَ يقرعُ زجاجَ نافذة الحجرة. صديقنا النصرانيّ، رأى أنه ليسَ من الحكمة التطفّل على حياة المرء الخاصّة. كما أنّ المضيفَ، المعنيّ بكلامي الطائش، لم يعلّق بشيء. لذلك عمدتُ للفور إلى تغيير مجرى الحديث، بسؤال هذا الأخير: " ماذا يتكلم الناسُ عن مقتلة الشبان، المتواترة يوماً بعد يوم؟ ". رفعَ رأسه، المسند على الجدار، وكأنما سؤالي دفعه. أجابَ من ثمّ وهوَ يحدّق في شعلة السراج: " ربما بلغ عددُ القتلى عشرة، والرعبُ استولى على أفئدة ساكني المدينة القديمة ".
قال باسيل، وقد بان التأثر على ملامحه الجميلة: " مشاعر الخوف والتوجّس، انتشرت أيضاً في حينا وباتت الدروبُ شبه خالية من المارة مع حلول العتمة ". سألته عند ذلك، ما لو كان بين الضحايا شبّان من النصارى. هزّ رأسَهُ نفياً، ثم استدرك بالقول بنبرة دعابة: " قد أكون أنا أول ضحية، بمجيئي الليلة إلى المدينة القديمة "
" إذاً، أنتَ تعتقدُ أنّ القاتلَ يختصّ باقتناص ضحاياه من الأحياء الإسلامية؟ "
" هكذا يلوح، بما أنّ القتلى وجدت جثثهم مرمية في النهر المار بالقرب من أسوار القلعة "، أجابَ باسيل. ثم أضافَ: " وقد يكون الأمرُ متعلقاً بعصابة من الأشرار، تقطع الطريقَ على السابلة ليلاً بالقرب من القلعة؟ ". هذا الرأي الأخير، تم طرحه في ديوان الوالي حتى أنّ بعضهم لمّحَ إلى إمكانية تورّط عناصر من الإنكشارية. فلما أعدتُ المعلومة على مسمع من صديقنا النصرانيّ، فإنه تلقّفَ المعلومة ليعلّق عليها بنبرة حذرة: " ربما، لأنهم أشرار وجشعون لا يتورعون عن فعل شيء ".
تدخل المضيفُ، ليقول: " أرجّحُ أنّ وراء أولئك الضحايا شخصٌ واحد، مهووسٌ بالقتل لسببٍ من الأسباب. لو كان الأمرُ يتعلق بعصابة، أو أنفار انكشارية، لكانوا أكتفوا بسلب الشاب كيس ماله ثم تركوه ينصرف بسلام. ولو كانوا متعطشين للدم، فلِمَ يتجشموا عناءَ رمي جثة الضحية في النهر ولا يتركوها على الأرض؟ ".
أعجبني رأيُ صديقنا برو، وفكّرتُ أنه ليسَ عبثاً إضفاء الناس على شخصه صفاتِ خارقة. بدَوري، وبناء على أكثر من تجربة، كنتُ على إيمانٍ بقدرات صديقنا. أردتُ أن أستزيده، أملاً بإمكانية صيد ذلك المتسبب بإدخال الرعب في المدينة القديمة. فسألته باهتمام: " لكن أيّ هوسٍ هذا، يجعل الإنسان يقتل بشكلٍ مجانيّ؟ "
" بما أنه يختار ضحاياه من الشباب، وتحديداً غير المتزوجين، فلا بد أن نبحث عن المرأة وراء دافع القتل "
" هل يعمد إلى رمي ضحاياه في النهر، لإبعاد الشبهة عن مكان القتل؟ "
" ربما. ولا يستبعد أيضاً أن يكون له ذكرى سيئة، متواشجة مع النهر "
" يجب ألا يغيب عن بالك، أنه يعمد إلى سلب كلّ من ضحاياه كيسَ نقوده؟ "
" هذا أيضاً، يمكن إرجاعه لمحاولته تمويه القتل بالسرقة "
" يبقى من الغرابة تمكّنه من جندلة ضحاياه، وكما لو أنّ كلاً منهم استسلم لقدره "
" ملاحظتك على جانب من الأهمية، يا فضيلة الشيخ "، قال ذلك وكانت هي المرة الأولى يخاطبني فيها بصفتي الدينية. ثم أردفَ بعد وهلة تفكير: " بلى، لو كان الضحايا ينساقون من تلقاء ذواتهم إلى المذبحة، فإن هذا له معنىً واحداً: أن القاتلَ يستدرجهم بحجّةٍ على جانب من الإغراء؛ كأن يدعوهم لأحضان امرأةٍ ما، مدّعياً أنه هوَ من يسبغ عليها حمايته ". على الأثر، عليّ كان أن أفكّر بما قاله ربيبُ الأحاجي. قلتُ معقّباً على افتراضه: " إذاً، القاتل يلتقي مع الضحية بأول الليل ثم يصطحبه لمكان ما، ليقضي عليه، وبعد ذلك يعود ويرميه في النهر. أليست هذه طريقة متعبة ومحفوفة بالمخاطر، طالما أن باستطاعته سحب خنجره والاجهاز على الشاب في مكانه؟ ". هزّ مجادلي رأسَهُ موافقاً، ثم رد بالقول: " مثلما أقترحتُ، أن ثمة امرأة يجب زيارتها أولاً وبعد ذلك يتم التخلّص من الزائر "
" آه، لا بد والحالة كذلك أنّ القاتلَ له علاقة ببيوت الفساد في المدينة "، قلتها بحماسة ثم أضفتُ: " سأطرح الموضوعَ غداً في ديوان الوالي، لكي يتم التدقيق مع بعض الغواني وإقرارهن ما لو كنّ متورطات أو لديهن معلومات مفيدة. ما رأيك؟ ".
تدخل باسيل في الحديث، ليقول: " سيخضعون الغواني لآلات التعذيب؛ هذا أمرٌ مؤكّد. لكن من منهن ستقر بذنبها، وهيَ تعلم أن عقوبة ذلك الإعدام؟ ". قلتُ موضّحاً: " قصدتُ أن يتم مراقبة بيوت الفساد، وفي ذات الوقت سؤال بعض ربيباته عن معلومات ربما توصل للقاتل ". توجهتُ بعبارتي الأخيرة إلى المضيف، كونه هوَ صاحبُ الفكرة. بقيَ ملتزماً الصمتَ، لحين أن فاجأني بفكرة أخرى: " لِمَ لا تكون امرأةً حرّة، وليست ربيبة المبغى؟ ".
هتفتُ وقد راقت لي الفكرة: " في هذه الحالة، يُفترض أنها تتخلّص من عشاقها عن طريق القتل كي لا يُكشف سترها ". لكنني عدتُ أقول بقنوط: " ما الفائدة من معرفتنا طريقة إيصال الضحية لخنجر القاتل، إذا لم يكن في الوسع إنقاذها؟ ". عندئذٍ نقل برو عينيه بيننا، نحن ضيفيه، قبل أن يقترح علينا هذه الفكرة الجريئة والجنونية: " لو أردنا إيقاف سلسلة القتل، علينا أن نتحرك نحن الثلاثة: باسيل، كونه أكثرنا شباباً ووسامة، يتجول في دروب المدينة القديمة، فيما نحن نتبعه عن بُعد دونَ أن نظهر أنفسنا. فلعلّ القاتل يلمحه، ويتقرّب إليه بالاغراء المعلوم، فننقضّ عليه ونمسك به ".

3
كنتُ أتساءل حينَ خرجنا من المنزل، منساقين للفكرة الجريئة، ما لو سيقيّض لنا تخليص المدينة من حالة الرعب، التي دهمتها في خلال الأيام الأخيرة. وأيضاً، ما لو سيقّدر لنا النجاة، كما جرى للنبي يونس حينَ خرجَ سالماً من بطن الحوت. صديقنا العملاق، سارَ في الخلف كحامٍ لنا. بينما بدونا كلانا، أنا وباسيل، كالقزمين ـ قياساً بذلك الظل الحامي. مع وجود ربيب الأحاجي بجانبي، كنتُ مطمئناً ولا غرو لامكانية الإيقاع بصاحب مذبحة الشبان دونَ التسبب بأذى لأحدنا: أليسَ هوَ مَن كان سبب نجاتي من مذبحة الأعراب، بما اتصف به من سرعة البديهة والتصرّف الشجاع؟
كوننا لم نملك سوى قنديلاً واحداً، فإننا وضعناه بيد صديقنا النصرانيّ. لقد سار في المقدمة ووبُعد كاف عنا كيلا ينتبه إلينا الشخصُ، المُشتبه بأنه القاتل. وكنا اتفقنا أن يرفعَ باسيلُ المصباحَ إلى الأعلى، لو أنّ ذلك الشخص احتك به وظهرَ أنه المطلوب لنا. عبرنا دروبَ المدينة، وكانت خالية تقريباً من السابلة، اللهم إلا في أماكن معيّنة لا تنام؛ كخان أسعد باشا، المتلألئ مدخله بالأنوار. إلى أن أضحينا في سوق المسكية، ومنه عرّجنا على سوق الكلّاسة، تهيمن علينا ظلالُ المسجد الكبير وأبراج القلعة. بعدئذٍ خرجنا من باب الفراديس إلى البحصة البرانيّة، لنسير هذه المرة في أفياء الأشجار. هنالك، وعلى حين فجأة، رفع باسيلُ القنديلَ إلى الأعلى. فلما هُرعنا إليه بخطوات حذرة، فإنه خاطبنا بنبرة مطمئنة: " لا جديد في حقيقة الحال، لكنني أردتُ أن نجتمع لنقرر ما لو كنا سنستمر أو نكتفي بهذا القدر؟ "
" بل نكتفي الليلة بهذا القدر، وسأمشي معكما في الطريق إلى منزليكما "، تعهّد صديقنا العملاقُ الجوابَ. عُدنا نسيرُ بحَذاء الأسوار، لندخل ثانيةً إلى البحصة الجوانية ومنها إلى السوق المستقيم وصولاً إلى حي النصارى. ودّعنا باسيلَ أمام منزله، على أن يوافينا في مساء الغد كي نواصل تعقّبَ القاتل المجهول. قال لي ربيبُ الأحاجي، لما صرنا لوحدنا على الدرب المظلم والموحش: " غداً عند الظهر سيأتي حكيمُ لاصطحابي إلى القصر، لمقابلة السلطانة في شأنٍ ما ".
علّقتُ ضاحكاً: " لعلها تودّ أيضاً اختبارَ قواك الخفية، بهدف الايقاع بالقاتل ". لم يعقّب على الفور، وكنا الآنَ نجتازُ تربة الدحداح بشواهد قبورها، المترائية كالأشباح في هذه الليلة المتجهّمة، الخالية من النجوم. قال لي متنهداً بصوتٍ مسموع: " مضت أشهر طويلة، منذ آخر مرة اجتمعتُ بها، ولم تكن آنذاك متزوجة من الباشا ". سكتَ قليلاً، قبل أن يُضيف: " بحَسَب ما علمتُ من حكيم، أنها اقترنت بأحد الوزراء وكانت ما تزال في الحادية عشرة من عُمرها. أما هذه الزيجة الجديدة، فهيَ الرابعة لها "
" أعجَبُ من مكافأة مورلي باشا بالزواج من السلطانة، برغم مسئوليته عما حل بها وبباقي أفراد قافلة المحمل الشريف "
" هذا الزواج، ربما كان بمثابة العقوبة لا المكافأة؛ من يدري؟ "، قال برو، مقاطعاً. قلّبتُ كلامه في ذهني، ولم أجد له سوى معنىً واحداً: أنّ السلطانة في خلال سبيها مع نساء القافلة، تعرّضت أيضاً للانتهاك من لدُن أولئك الأعراب.
فضّلتُ الاحتفاظَ بالصمت، معوّلاً في التالي على معرفة ما سيتمخّض عنه اجتماع صديقنا العملاق بسلطانة قلبه. توادعنا عند باب داري، وكنتُ بحاجة ماسة للراحة بعد تلك الجولة الطويلة والمُرْهِقة. مع شعوري بالجوع، فإنني آثرتُ في الحال الإخلاد للنوم. لكنّ الوسنَ آثرَ الانتظار، ريثما تهدأ أفكاري: الصورة البكر للسلطانة، التي طالما داعبت خيالي، عليها كان أن تتلاشى شيئاً فشيئاً. لقد أعجبتُ بها أشد الإعجاب، من غير شك، ولو أن الجرأة لم تبلغ بي حدّ الهيام ـ كما كان حال ربيب الأحاجي. لاحَ واضحاً فقدانها للبراءة، بسبب تلك الزيجة المبكرة. والله يعلمُ ما اقترفته لاحقاً من ذنوب، لكي تصرّ على أداء مناسك الحج وهيَ في هذه السن الشابة. أم أنها تعاني من مرضٍ ما، عضال، تخفيه عن الأعين الفضولية؟ تعذبتُ قليلاً بهكذا أفكار، لحين أن غلبني النعاس أخيراً.

في أصيل اليوم التالي، فاجأني برو بقدومه إلى المنزل، وكما لو شاءَ تجديد أفكاري، المتعلقة بسلطانة قلبه. ملامحه كانت تشي بسبب الزيارة، وأنه لم يكن بمقدوره انتظار المساء كي يبث لي شجونه. خاطبته عقبَ اتخاذه مجلساً في حجرة الضيوف، أين قاده إليها خادمي: " إنني مصغٍ أليك، يا صديقي ". ثم أسرعتُ بالاستطراد، متسائلاً ما لو كان يود أولاً مشاركتي العشاء: " لأننا سنمضي منذ حلول المساء في جولتنا المقررة، وقد لا نعود إلا في ساعة متأخرة مثلما حصل بالأمس "
" عادةً، أنا لا أتناول العشاء "، ردّ باقتضاب. كان الخادمُ واقفاً، ينتظر الأمرَ بتقديم العشاء. فأشرتُ إليه بالانصراف. لما أضحينا وحدنا، استفهمتُ من الضيف عن سبب دعوة السلطانة له إلى القصر. بالطبع، كان متهيئاً لهكذا سؤال. أجاب من فوره، محدّقاً في الظلال المنعكسة على نافذة الحجرة: " أرادت مني أن أحاولَ تحديد مكانِ طفلةٍ صغيرة، مفقودة ".

4
كان برو صامتاً، بينما الأفكارُ تتلاطم في رأسي. لقد أعانني على التفكير في مسألة، سبقَ أن شغلتني؛ ثم انشغلتُ عنها مع انعطاف الأحداث في إتجاه آخر. إذ سبقَ للسلطانة أن أخذت رأيي، فقهياً، في مسألة قالت أنها تخصّ إحدى جواريها ممن تعرضن للاستباحة على يد الأعراب أثناء مداهمة المحمل الشريف. وهيَ ذي المسألة، تأخذ بُعداً جديداً مع استدعاء السلطانة لربيب الأحاجي كي تطلب منه العثور على طفلة مفقودة. لكي أتيقن من صحة ربطي الأمور بعضها ببعض، بادرتُ لسؤال ضيفي: " كم عُمر الطفلة المفقودة؟ "
" إنها صغيرة جداً؛ هكذا قيل لي "
" لعل عُمرها لا يتجاوز الشهرين؟ "
" لعلها كذلك "، ردّ باقتضاب وقد بانَ الضيقُ على ملامحه. أدركتُ عند ذلك أنني محق في تفكيري، كون الرجل يشاركني فيه وإن بشكل خفيّ. عمدتُ على الأثر إلى الصراحة، وذلك لكي أحظى منه بجوابٍ واضح وقطعيّ. فقلت: " مثلما تذكر، أنها طلبت مني أولاً رأيي الشرعيّ فيما قالت أنها حالةُ جاريةٍ تخدمها، تعرضت للانتهاك على يد الأعراب ثم بانت علامات الحمل عليها. أجزمُ الآنَ أنها كانت تتكلم عن نفسها، وأنها ولدت حديثاً طفلةَ السّفاح ". كان وجه برو يتصلّب رويداً، ولو أنّ نظراته لم تظهر ما في كلامي من مفاجأة مفترضة. لما أصرّ على الصمت، تابعتُ القول: " تذكّرْ أنها لم تقم باستدعاء أياً منا في خلال شهور عديدة، وأنّ ذلك كان ولا بد لكي لا تظهر لأعيننا وهيَ حامل ".
عقّبَ على كلامي بطريقة ملتوية، متمتماً: " لا أكاد أفهمُ شيئاً من هذه الألغاز ". أردتُ أن أضيف شيئاً، لما ظهرَ الرجلُ العجوز مجدداً. قال لي بنبرة مشفقة: " العشاء جاهزٌ، والأفضل أن تتناول الطعام إذا كنتَ ستعود إلى المنزل في ساعة متأخرة من الليل ". قلت للخادم كيلا يعود ثانيةً لمقاطعة حديثي: " سيأتي صديقنا النصرانيّ بعد قليل، وسأتناول الطعام معه ". بمجرد ذهاب الخادم، عدتُ للقول متسائلاً: " أحقاً إن ما عرضته، هوَ ألغازٌ بالنسبة إليك؟ ". ثم سارعتُ بالاستطراد: " إذاً ما شأن تلك الطفلة؟ ألم تسألها مَن تكون بما أنها طلبت مساعدتك للعثور عليها؟ ".
ألحّ برو على الإخبات، بالقول: " لا علم لي من تكون الطفلة، كما أنني لم أسأل السلطانة عنها ". هدأتُ قليلاً، مفضّلاً عدم مواصلة الضغط على أعصابه. فسألته، ما لو تمكّن من تحديد مكان الطفلة. أجاب هذه المرة بنبرة تردد: " قلتُ لها، حَسْب، أنها ما زالت على قيد الحياة ". فعلّقتُ بالقول دونَ إلحاح: " وإذاً، كان الحديثُ بينكما قصيراً ومختصراً؟ "
" أجل "
" وحكيم؟ هل شهدَ الحديثَ؟ "
" أجل "، ردّ أيضاً بصورة تلقائية. وكنا سنمضي في هذه الدهاليز الملتوية، لولا أن قاطعنا هذه المرة حضورُ باسيل. جاء بشكل مبكر، لم أتوقّعه. حضوره، كان كالعادة مبهجاً. مع ذلك، نظر إلينا بطريقة مرتابة؛ وكأنه قرأ في ملامح كل منا علامات معيّنة. تساءل أولاً عن سبب وجود برو في داري، وما لو كان يملك أخباراً جديدة تخص القاتل. ولأنه وجّه إليّ السؤالَ، فإنني أجبته باختصار: " لا جديد في حقيقة الحال "
" أم أننا لن نخرج اليوم، بحثاً عن القاتل؟ "
" بل سنذهب، لكن دعنا أولاً نتناول العشاء "، اقترحتُ عليه. أعتذر بدَوره، قائلاً أنه أصابَ قليلاً من الطعام قبل المجيء إلينا. كوني لا أشعر بالجوع بعدُ، طلبتُ من ضيفيّ التهيؤ للخروج إلى الطريق حين يحل الظلام. قال برو دونَ حماس: " الأفضل أن ننتظر إلى ما بعد صلاة العشاء بساعتين على الأقل، كيلا نضيّع جهودنا في مسير بلا طائل "
" معك حق، لأننا افترضنا بالأمس أن القاتلَ يتصيّد ضحاياه في هكذا وقت "
" هل افترضنا ذلك، حقاً؟ "، تساءل باسيل وهوَ شاردُ الفكر. كان في أثناء ذلك قد لحق بمسك كتاب مخطوط، وأخذ ينظر فيه بفضول. كنتُ فيما مضى أكدّ بالعمل في الكتاب، وهوَ عن سيرة السادة البرزنجية، ثم انقطعتُ عنه مذ فترة استعدادي لرحلة الحج الأولى. قبل قليل، كنتُ أتلهّى بالتقليب في صفحات الكتاب المسودّة، لما حضر صديقي برو.
رداً على تساؤل صديقنا النصرانيّ، قلتُ: " أعتقدُ ذلك ". ثم أضفتُ، محدقاً في الصديق الآخر بنظرة مختلسة: " قلبي يحدثني، أنّ شخصيةَ القاتل لن تكون غريبة عنا تماماً ". رمقني باسيل بنظرة دهشة، قبل أن يتساءل بنبرة دعابة: " أرجو ألا يكون واحداً منا، نحن الثلاثة "
" لم أقصد ذلك، بطبيعة الحال "، أجبتُ مشدداً على الكلمات وبلهجة جدية. كان ما زال ممسكاً بالمخطوط، فتناولته منه كي أغيّر موضوعَ الحديث: " هذا كتابي الأول، ولم أفرغ منه بعدُ. إنه سيرة أسلافي، دونتها تقريباً دونَ مراجع سوى ما سمعته من فم المرحوم والدي "
" موضوعٌ يستحقُ البحثَ "، عقّب باسيل. ثم أردف بالقول: " كنتُ في زمن دراستي قد عثرتُ على كتابٍ مطبوع في روما، عن سيرة أحد الرهبان من طائفتنا الشرقية "
" هل تعرف اللغة اللاتينية؟ "
" ليسَ بشكل يؤهلني لقراءة الكتب. لكن ذلك الكتاب كان باللغة العربية وليسَ باللاتينية. مدرّسنا، قال لنا أنه توجد مطبعة في روما مخصصة للكتب العربية ومن بين إصداراتها طبعة فاخرة للانجيل وأخرى للعهد القديم، مزيّنة برسوم منمنمات رائعة "
" نحن المسلمون، نكتفي بتزيين حواف القرآن الكريم بالنقوش وليسَ بالرسوم. تجسيد الإنسان بالرسم، يُعَدّ من المحرمات لدينا "
" لكنّ الروح هيَ ما تبقى، وليسَ الجسد. فما المشكلة لو حظيَ المرءُ برسمٍ، يبقى لأخلافه من بعده؟ "
" بصراحة، إننا نخشى من التمثّل بكم، معشر النصارى؛ فنسجد لتماثيل عيسى ومريم عوضاً عن السجود لله "
" إسمح لي بهذا السؤال، وهوَ عن الفرق بين الانحناء للتماثيل وبين الدوران حول الكعبة: أليسَ كلاهما من المادة الحجرية، نفسها؟ ".
فكّرتُ قليلاً، ثم أجبتُ بشيء من الضيق وأنا أنهضُ من مكاني: " على أيّ حال، النقاش يحتاج لوقت وافر ونحن الآنَ في سبيلنا لإنجاز مهمة عاجلة ". كان ثمة وقتٌ مديد، قبل الإيذان لصلاة العشاء. بيد أنني فضّلتُ أن نمضي من فورنا، بدلاً عن قضاء الوقت في السفسطة بأمور الأديان.

5
عقبَ أدائي صلاة العشاء، خرجتُ إلى الطريق مع صديقيّ. قررنا أن نمرَّ على منزل برو، فنمكث عنده ساعة أخرى قبل الخوض مجدداً في الدروب المعتمة. أصواتُ آخر الباعة الجوالين في السوق، كانت ترتفع فوق البيوت لتعانق الظلام. لكن السماء كانت صافية ومقمرة. كالعادة، ولجنا إلى المدينة القديمة خِلَل باب الفراديس، وذلك كي نمضي وقتاً أطول بالمشي لحين الوصول إلى حي القيمرية. ثمة عند بوابة الحي، تعالى صخبٌ، تبيّنَ أنه ناتج عن أنفار إنكشارية قد عادوا على الأرجح من الحانة وهم ثملون. بغيَة حماية صديقنا النصرانيّ من شرور أولئك الأنفار، اضطررنا لإطفاء القنديل ومن ثم الضياع لفترة في عتمة الدروب الجانبية. بهذه الهيئة الملهوجة، وصلنا إلى المنزل المقصود، وما لبث روعنا أن هدأ تحت قنطرته وبين جدرانه.
" أجزمُ أننا نجري وراءَ سرابٍ، فيما القتلة يجوبون الدروبَ ويروّعون الناسَ "، هتفَ باسيلُ بنبرةٍ ما زالت مفزوعة. بينما كان يجلسُ على الحشيَة الرثّة، تبادلتُ والمضيف نظرةً باسمة؛ وقد فهمنا، أن صديقنا يعني بشكوكه أنفارَ الانكشارية. شئتُ تبادلَ الرأي مع الشاب الشكّاك، وذلك على سبيل تمضية الوقت. قلت له، متسائلاً: " لقد سبقَ وفنّدنا ذلك الاحتمال، أليسَ صحيحاً؟ "
" تلك كانت نظرتك، لو تذكُر؟ "، ردّ إليّ السؤالَ بدَوره. في الأثناء، كان المضيفُ ما يفتأ واقفاً كالحائر. خاطبنا بعدئذٍ، وهوَ يتنتزع نفسه: " سأحضّرُ الشاي، لأننا سنمضي الليلَ في التجوال ويجب أن نكون يقظين ونشيطين ". عقبَ ذهابه، حدّقتُ بصاحب السؤال لأجيبه بالقول: " يا عزيزي، لكل فعلٍ دافعٌ خلفه. وما أذكُره، أنني أوضحتُ استحالةَ قيام عناصر الانكشارية بالقتل وفق تلك الطريقة المحددة، التي شهدناها بشأن أولئك الضحايا المساكين "
" لعلهم يريدون بثَّ الرعب في البلد، للايحاء بتقصير الوالي؛ هم الذين بادروه بالعداء منذ اليوم الأول "
" تلك حادثة طويت وانتهت، وإلا لكان يجب علينا أيضاً اتهام المتسلّم السابق بتدبير مذبحة الشبان لنفس السبب "، قلتُ ذلك ثم أضفت بلهجة عملية: " على أيّ حال، نحن لم نعاين أياً من تلك الجثث بل سمعنا عن أصحابها بشكل عابر. لذلك يبقى كل ما نقوله مجرد فرضية، لحين الالمام بالموضوع من جوانبه وتفاصيله "
" لكننا لا نفعل ذلك، بل نخرجُ وراءَ شبحٍ من الأشباح لا غير؟ "
" بلى، ورُبّ رميةٍ من القدَر تعيننا ونحن نتخبط في الظلام بلا هُدى "، قلتها مُسلّماً. ثم استسلم كلانا للصمت، وفي الأثناء كنا نسمع حركة المضيف في الحجرة الأخرى، المتخذة كمطبخ. ظهرَ على الأثر، ليضع عدّة الشاي على الأرض بمتناول أيدينا. كأنما كان المضيفُ متابعاً لحوارنا، وهوَ في الحجرة المجاورة، لأنه أسرع بالتعليق موجّهاً كلامه إليّ: " علينا تقمّصَ شخصية القاتل، لمعرفة طريقة اختياره للضحية ومن ثمّ سوقها لمصيرها التعس. أليسَ هذا ما يجولُ في تفكيرك؟ المشكلة، أنّ أمكنة القتل موزعة على مساحة المدينة القديمة، وليست في مكان واحد؛ كالمنزل مثلاً "
" وماذا تقترحُ أنتَ، والحالة كذلك؟ "، سألته بشيء من القنوط. كان قد فكّرَ بالأمر، إذ بادر فوراً للرد: " نحنُ نعلم أن القاتل يرمي جثةَ الضحية في النهر، وعلى الأغلب في ساعة متأخرة ليلاً. إذاً نعمدُ إلى التوزع ثلاثتنا عند ضفة النهر، المار بالقرب من القلعة، بدلاً عن الدوران في دروب المدينة القديمة بلا طائل ".
هتفتُ في نبرة مبتهجة: " إنها فكرةٌ حكيمة، ولا مِراء ". كعادته عندما يسمع مديحاً، أطرق المضيفُ برأسه ولم ينبس بكلمة. استطردتُ وقد سرى الأملُ مجدداً في جوانحي: " سنخرجُ على ذلك بعد منتصف الليل، قيتولى كلّ منا مراقبةَ ضفة النهر من مكان قريب. فلو تأكد لأحدنا ظهورُ الرجل المطلوب، يطلقُ صرخةً عالية كي يلحق الآخران به ويساعداه في ضبطه ". كان ثمة وقتٌ طويل أمامنا، لحين انتصاف الليلة، فقررنا أن نقضيه بتبادل الأحاديث. في خلال ذلك، سقط رأسُ ربيبُ الأحاجي أكثر من مرة على صدره نتيجة ما عاناه من تعب في النهار.

وبالفعل، خرجنا في الساعة المحددة. كان الهواءُ رقيقاً، مسّ وجوهنا وكأنه يرتعشُ متأثراً بما نحن عازمون عليه من مهمة على جانب من الخطورة والغموض في آنٍ معاً. كنتُ أرتعشُ أيضاً، ولو أنني على جانب من الاطمئنان لوجود صديقنا العملاق في الجوار. وهيَ ذي أسوار القلعة، تتراءى مع أبراجها، شبيهة بحيوان خرافيّ ذي أضلاع بارزة. وما عتمَ خريرُ المياه أن سبقَ خطوي إلى ضفة النهر؛ ما كان يشي بوجود مساقط من الأحجار. لكن الليلة كانت ما زالت مضيئة، مقمرة ومنجمة، دونَ أن يدري المرءُ ما لو كان ذلك من حُسن الحظ أو خلافه. الأشجارٌ قليلةٌ في ناحية الضفة، المحتفية بالعمران، وكنتُ الآن أسير في ظلالها الكبيرة وكما لو أنها تُسبغ عليّ الحماية. فضّلتُ السيرَ بخطى بطيئة، طالما أنّ القاتلَ المفترض يسعى إلى هذه الجهة. وكنا في خلال حديثنا الأخير، قد استبعدنا قيام القاتل بنقل جثة ضحيته، لما في ذلك من مشقة ومن إمكانية اكتشافه: على الأرجح، أنه كان يعود معه من الخلوة الغرامية، ومن ثم يقوم بجندلته قرب النهر ويلقيه في الماء كي يسحبه التيار بعيداً.
كذلك كنتُ أفكّر، عندما لحظتُ اقترابَ شبحين من ضفة النهر وكانا بعدُ على الدرب، المظلل بالأشجار. لحظتُ أن أحدهما يتحرك بعيداً عن الآخر، كما لو يبغي التملّص من صحبته. مع أنهما كانا يتبادلان الحديث بود، إلا ان تلك الحركة جعلتني أهجسُ بنذير شر: " لو لم نلحق ونتدخل، فإن ضحيةً جديدة ستسقط سريعاً أمام أنظارنا "، قلت في نفسي. في اللحظة التالية، وكنتُ أهمّ بالصراخ على رفيقيّ لكي يهرعا إليّ، انعكسَ نورُ السماء على سحنة أحد الرجلين؛ وكانت سحنةً مألوفة: لقد كان حكيم، طواشي السلطانة..

* الكتاب الثاني من رواية " الأولى والآخرة "، المنشورة في الموقع عام 2010



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج السادس
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الخامس
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الرابع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثالث
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثاني
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الأول
- مدخل إلى عصر الرعب: توطئة
- مدخل إلى عصر الرعب: تنويه من المحقق
- زمن موناليزا الحزينة: الخاتمة
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 5
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 4
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 3
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 2
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 1
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع عشر/ 5
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع عشر/ 4
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع عشر/ 3
- زمن موناليزا الحزينة: مستهل الفصل التاسع عشر
- زمن موناليزا الحزينة: بقية الفصل الثامن عشر
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن عشر/ 3


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مدخل إلى عصر الرعب: البرج السابع