أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مدخل إلى عصر الرعب: البرج الأول















المزيد.....



مدخل إلى عصر الرعب: البرج الأول


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6748 - 2020 / 11 / 30 - 02:42
المحور: الادب والفن
    


1
عامُ عزل سعدو باشا، تواطأت فيه الطبيعة مع شرور البشر. لكن ذلك لا يعني، بطبيعة الحال، أنّ عهد ولايته، الممتد عقداً كاملاً، كان مشهوداً بالخير. في البداية، على الأقل، قال بعضُ الناس ممن اعتادوا على كيل المديح بلا حساب: " سيكون عهداً سعيداً على اسم صاحبه ". لقد استطاع ضبط الأمن؛ وهذا كان من الأمور الملحّة في مدينةٍ، يغلب على سكانها مهنة التجارة. وإنما في بداية عهده، انتقل بنا الوالدُ إلى الشام الشريف، التي بحَسَب قوله آنذاك: " أسبغ الله عليها صفة القداسة، كمهبط لآدم عليه السلام، وفيها ختام رحلة أبنائه ". وكنا نحن من أولئك الأبناء، مقبلين على الحياة في هذا الفردوس وغير متعجلين على وقت حلول القيامة. طفولتي، وكان شطراً منها من نصيب الموطن الأول، سرعان ما انتهت حينَ مضى بي أبي إلى المدرسة الشامية الكبرى، أينَ بدأ في التدريس مذ وقت حلولنا في المدينة. منذئذٍ، تفتحت عيناي على المزيد من عظمة العمائر من حولي. وكان المسجد الكبير، يُعد كالجوهرة في عقد تلك العمائر. في وقت لاحق، نم إلى علمي معلومة مرعبة وسرّية: أنّ المسجد، المقام في العصر الأمويّ على أنقاض كاتدرائية يوحنا المعمدان، خُططت أساساته الأصلية على شكل الصليب، وذلك أسوة بكل الكنائس الكبرى في العالم النصرانيّ.
قلنا، أنّ ذلك العام، المستهلة فيه روايتنا، كان عام الشر. رحل سعدو باشا عن المدينة، بعد مزيدٍ من التلكؤ والمماطلة. لعله كان في الأثناء يعوّل على أصدقائه في الحاشية السلطانية بالأستانة، وأنهم يمكن أن يغيّروا فرمانَ العزل. إلى الأخير، عليه كان أن يتحرك بما أنّ الوالي الجديد أضحى مع موكبه في مدينة حمص، ينتظر استلام مركز إمارته. لما غادرَ الوالي المعزول المدينة، وضع نائبه متسلماً عليها؛ وكأنه سيعود إليها لا محالة. كان الوقتُ ربيعاً، تجللت فيه البساتين المحيطة بالمدينة بفضة أزاهير الأشجار، لتبدو عن بعد كطرحة العروس. الشمس الساطعة بسخاء، جعلت صخورَ الجبل تلتمع أسنى من النجوم. بيد أن ذلك لم يبدل مزاجَ الناس، الذين كانوا على قلق بيّن عقبَ علمهم بأمر فرمان سلطان الكون: إنهم اعتادوا طوال الأعوام المنصرمة على وجود أسعد باشا على رأس الولاية، بكل محاسن عهده وسيئاته. كذلك يألف السجينُ سجّانه، وهيَ سنّة الله في خلقه.

على حين فجأة، أظلمت السماءُ في رابعة النهار، بتكاثف السحب الرمادية، المدفوعة بعزم الريح. وما لبثت السماءُ أن فتحت فاها على سيل عرمرم من الأمطار. الزينة، المعدّة لاستقبال الوالي الجديد، كانت أولى ضحايا الفيضان. ثم طاف نهر بردى وفروعه، المتغلغلة في عروق المدينة، لتجرف مياهها المحلاتِ التجارية ومساكن الأهلين على حد سواء. بقي هطول الأمطار طوال أيام ثلاثة، وكان الناس من الغم والاضطراب أنهم سلوا أمرَ الوالي الجديد، الذي قيل أنه أخّرَ دخلوه للمدينة بسبب الفيضان. متسلم المدينة، ظهرَ في اليوم الثالث، غبَّ جلاء لعنة السماء، ليُشرفَ على أعمال الانقاذ وحصر الأضرار. عَهَدَ لغطاسين بمهمة انتشال أرزاق الخلق، ومن ثم بدأ مساعدوه في ضبطها ضمن سجلات كبيرة. تعالت أدعية الناس بالثناء على سرعة مبادرة المتسلم، بعدما عُرف في بعض الأماكن انتشارُ الأشخاص المنحرفين بهدف الاستيلاء على الأرزاق السائبة.
قال لي يومئذٍ صديقي " برو "، معلّقاً على ما جرى: " اللص الأكبر، عادةً لا يتساهل مع اللصوص الصغار ". فهمتُ بالطبع مقصدَ الكلام، لكنني لم أوافقه الرأي. قلت له، أنّ المتسلّم لا بد وسيحسبُ حسابَ مجيء الوالي الجديد، فلا يمكنه أن يستقبله بيدين ملوثتين بالإثم. اكتفى صديقي بهز رأسه، بينما ظهرت على طرف فمه ابتسامة ساخرة. لعل الجملة تلك، التي فاه بها، كانت زادَ نهاره كله. لقد عُرف بين الناس بزهده في الكلام، وكأنما هوَ فريضة صوم. لكنهم عرفوه، فوق كل شيء، بغرابة الأطوار حدّ أنهم تناقلوا شتى الحكايات في هذا السبيل. مَن كان هذا الرجل، الذي يكبرني بلا أقل من عقد من الأعوام؟ ومن أين أتى؟ لا أحد كان يمكنه الاجابة؛ ولعله هوَ نفسه كان يجهلُ الجوابَ. من ناحيتي، كان في وسعي ربط الرجل بكنيته، المُحيلة إلى إحدى عشائر الكرد الكبيرة. والواقع أنه والدي مَن أخبرني بذلك، لما قال: " اسمه إبراهيم كيكي، وقد يكون هارباً من موطن الأسلاف لسببٍ ما. الانسان لا يترك موطنه، يا بني، إلا لسبب قاهر ".

" النبي كيكي "؛ كذلك كان نعتُ الرجل، ولم يكن أحدٌ يجرؤ على مناداته به سوى الأطفال، المعتادين على ملاحقته عن بُعد طالبين منه أشياء طريفة، ملائمة لسذاجة تفكيرهم وبراءته. وكان حرياً بهم أن يرهبونه، لولا أنه بنفسه كان فيه طبيعة الطفل. هيئته كانت مرعبة، مع قامة طويلة ومتينة، أشبه بالطود. وكان يكفي للمرء أن يشاهد يديه، ليحكم أنه عملاق حقيقيّ. علاوة على ما في عينيه السوداوتين من اشعاع، مثلما الفحم المؤرّث بالنار. يُقال أنّ ثمة شهوداً على مجابهته لعشرة شبان أقوياء، ممن اعتادوا قطع الطريق على السابلة ليلاً، وأنه ألقى في أفئدتهم الفَزعَ حتى ولوا الأدبار لما رفع بيديه عربة أحد الباعة، كانت مركونة إلى جانب، ثم قذفها باتجاههم.
لكن الأنبياء كانوا يتحلون بصفاتٍ أخرى، ولا شك، غير القوة والمظهر المخيف. هذا مع علمي، بالطبع، أنّ صديقنا برو استحقَ اللقبَ غالباً على سبيل التفكّه. لكنه أدهشَ الناس المرة تلو المرة، بقدرته على التفاهم مع الغرباء بلغاتهم حينَ كان يلتقيهم في السوق أو الدرب. وأقسمَ البعضُ، أن النبيّ المزعوم، الأشبه بالمتشردين، يعرفُ أربع لغات غير العربية، منها الأغوانية [ أي الأفغانية ـ ملاحظة المحقق ] والفارسية. ولأنني قرأتُ قصصَ الأنبياء، من أحد مصادرها الأصلية، تذكّرتُ في المناسبة ما قيل عن السيّد المسيح، من أنه كان يخاطب الناسَ بلغةٍ واحدة يفهمونها كلهم على اختلاف ألسنتهم ومللهم. عندما نقلتُ المعلومة لوالدي، وكان الكتابُ من مقتنياته، فإنه أوضح ببساطة: " لعله كلمهم بالآرامية، وهيَ في زمنه مثلما كانت العربية في صدر الإسلام؛ يفهمها جميعُ الناس ".

2
كان لصديقي برو سجايا محمودة، أهمها وضعه قوته في خدمة الخير، ما جعله محبوباً من عموم الناس. إلا في حادثة واحدة، أعتقدوا فيها أنه جانبَ الصواب وانتصر لملّة الكفار؛ ولو عن نيّة حَسَنة. وإنها حادثةٌ، شهدتها بنفسي وكانت سبباً في تعرّفي على شخص آخر، سيغدو أيضاً صديقاً مقرباً. ذلك اليوم، وكان أول أيام عيد الأضحى، كنتُ قادماً من جهة تربة الباب الصغير، التي ذهبتُ إليها لقراءة الفاتحة على روح والديّ، وقد شاء برو مرافقتي على سبيل التسرية عن النفس. الواقع أنه كان يتأثّر كثيراً، حدّ ذرف الدموع، لو رأى جنازة تمر بالقرب منه أو وجد نفسه في مقبرة. وكنتُ، مثل غيري، أعتبر هذا أيضاً من أطواره الغريبة. كونه متكتماً بإصرار فيما يخصّ سيرة أسرته، فلم ألحّ مرةً قط في حثّه على ذكر شيء عنها أو عن نشأته الأولى.
لكنني سأذكر أولاً ما اتصف به عصرنا من تعصّب وغلو في أمور العلاقة مع الأديان والنِحَل المخالفة. باختصار أقول، أن المشرقَ كان يدينُ بعقيدة ابن مريم لحين فترة الفتح الإسلامي. مع مرور الزمن، صارت النصرانية جزراً صغيرة، متناثرة وسط محيط عقيدتنا المنتصرة. لكن بيزنطة ظلت معقلاً قوياً للنصرانية، وحاولت دوماً إعادة الوضع إلى نصابه الأول في المشرق. تقوّضت هذه المحاولات نهائياً، وذلك مع سقوط القسطنطينية بيد الفاتح العثمانيّ. منذئذٍ، انتقلت الحروبُ إلى داخل الأراضي الأوروبية واتسعت رقعة انتشار الإسلام فيها. زخمُ الاندفاع العثمانيّ توقفَ بعد نحو قرنين، ليبدأ الغربُ بالهجوم المضاد بالتعاضد مع قوة القيصر المسكوبي، المتنامية. هذا الأخير، كان يعتبر نفسه حامياً للنصارى المشاقيين، بينما أخوانهم الملكيين دُعموا من قبل بابا روما ومن خلفه ملك فرنسا. مع تراجع العثمانيين على جبهات القتال، كان يُفرض عليهم في كل هدنة مزيداً من الشروط بخصوص رعاياهم النصارى. هؤلاء الأخيرين، بات يُنظر إليهم بعين الريبة والمظنّة من لدُن جيرانهم المسلمين، وكان الباب العالي يغذي هذا الشعور. عندما كانت تحتدم المعارك، كانت الفرمانات تترى على الولاة لفرض المزيد من اجراءات تقييد حرية الرعايا النصارى.
والآن، أعود للحديث عن تلك الحادثة، وكانت قد حصلت عامين قبل عزل سعدو باشا. هذا الوالي، كان قد أرسل في يوم سابق منادياً يُشدد على النصارى بالتزام اللون الكحليّ لملابسهم وقبعات رؤوسهم وألا يرفعوا أصواتهم على المسلمين. هؤلاء الأخيرين، كان يحق لهم بالطبع ارتداء ألبسة بألوان مختلفة، باستثناء الكحليّ المخصص للنصارى والأحمر الخاص باليهود. غطاء الرأس للمسلم، كان عبارة عن قاووق يُشبه السطل الصغير، يُلف عليه قماشة بيضاء. أما فئة الأشراف، وكنتُ محسوباً عليها كما سبقَ القول، فإن القماشَ بلون أخضر. نوهتُ بذلك كيلا أعود إليه مرة أخرى، ولأنّ الجيل الجديد اليوم يجهل تلك القبعات بعدما تم إبطالها.
قلنا، أنني وصاحبي كنا خارجين من المقبرة، وتناهى سيرنا إلى مقربة من باب توما. توقف سيرنا هنالك، وذلك على أثر سماعنا جلبة توحي بمشادة ما. تقدمنا كي نرى جلية الأمر، فرأينا شاباً يلوح عليه الاضطراب الشديد وهوَ بقبضة عدد من الفتية في مثل عُمره. كان شاباً نصرانياً، يحاول رد أولئك الفتية المسلمين، بالقول: " كنتُ أعلّي صوتي كمألوف العادة كل يوم، منادياً على بضاعتي "
" ألا تعلم، أيها الكافر، أنه من المحظور تحت طائلة الموت إعلاءُ صوتك على المسلمين؟ "، رد عليه أحدهم. بدا واضحاً أن هؤلاء أرادوا العبث مع البائع الجوّال، وكانوا يتضاحكون بقحّة. هكذا أمسكوا به، فوضعوا حبلاً في رقبته، معقوداً نهايته كأنشوطة الإعدام. ثم تسلق آخرٌ عربةَ البائع، لتثبيت الحبل في فرع شجرة تظلل المكان في هذا اليوم الصيفي. لما انتقلَ العبثُ إلى مرحلة خطرة، تقدّم برو من الفتيان طالباً منهم ترك البائع المسكين وشأنه. لكنهم سخروا منه بدَوره، وتابعوا إجراءات حكم الإعدام، الاعتباطية. كان البائعُ عندئذٍ قد رُفعَ إلى عربته، ويلزم دفعها كي يتدلى مشنوقاً، عندما استعمل برو عصا، يحملها دوماً، في تفريق أولئك الفتية الطائشين. في الأثناء، تقدّم آمرٌ إنكشاريّ مع عنصرين عقبَ انتباهه للعراك. لكنه أوقفَ العنصرين، ثم طفق يتطلع إلى ختام المشهد: برو، أنزل البائع بيد واحدة إلى الأرض فيما أختفى في الحال أثرُ المعتدين. يبدو أن الإنكشاريّ عرفَ في صديقنا، " النبي كيكي "، فلم يشأ التدخل.
" أنا يدعونني، حسّو، وهذا منقذك يُدعى برو "، قلتُ للبائع الشاب مصافحاً يده. كان يبدو في منتصف الحلقة الثانية من عُمره، متوسط القامة ونحيلاً، بشرته بيضاء وملامحه جميلة. شد على يدي بامتنان، وكأنني أنا مَن خلّصه من الموت، ثم قدّم نفسه باقتضاب: " اسمي باسيل ". كانت جمهرةُ الفضوليين قد انفضّت، وبعضهم كان يردد عبارات تستنكرُ ما فعله صديقنا بزعم أنه مخالفٌ لفرمان الوالي. عدتُ أقول للشاب: " سنسيرُ معك حتى تبلغ بيتك، فلا نضمن عدم عودة أولئك الفتيَة المنحرفين للانتقام منك ". أبدى شكره، ثم راحَ يدفع العربة أمامه؛ وكانت مغطاة ببضاعة من لوازم منزلية ونحوها. تبادلتُ الحديثَ معه طوال الطريق، فعلمتُ أنه يُعيل أسرته كون والده عاطلاً عن العمل منذ أن احترق محل أحذية كان يمتلكه: " لقد هاجم الرعاعُ الحي، عقبَ نشوب الحرب مع المسكوب، فأحرقوا عدداً من المحلات والمنازل واعتدوا بالضرب على من صادفوه في الدرب "، قالها بنبرة حذرة وصوت منخفض.

3
مع توثق صداقتي بالشاب النصرانيّ، أكتشفتُ فيه بدَوره خصالاً حميدة علاوة على تفانيه بالعمل من أجل إعالة أسرته. وكنتُ أفهم قيمة حظوة المرء بالأهل، أنا من فقدتُ أبويّ وكنتُ وحيدهما. لكن يتوجب القول، أنّ باسيل كان يشعر بالحرج كونه لا يستطيع استقبالي في منزل الأسرة. لم يكن الأمرُ يتعلق بحساسية دينية، مثلما ظننتُ في بادئ الأمر. أوضح ذلك بالقول: " الأهل، في حقيقة الحال، يخشون من تبعات صداقة قد تجر عليهم المتاعب. لديهم ذكرى سيئة، لا يريدون تكرارها. فإن أحد شبان الحي تصادق مع زميله في العمل، وكان هذا من متاولة حارة الأمين. وحدث أن شقيقة الشاب توصلت، بطريقة ما، لإقامة علاقة سرية مع ذلك الصديق المسلم ثم هربت معه وغيّرت دينها عندما تزوّجا. ووصلت القضية إلى بطرك طائفتنا، الذي قام بالشكوى للوالي. بالنتيجة، فُرضت غرامة كبيرة على المتاولة دونَ أن يتم إسترجاع الفتاة ".
قلتُ: " عجباً من إنزعاج الوالي، تلقاء تحوّل فتاة نصرانية إلى الدين الإسلاميّ ". ثم استدركتُ حالاً، بعدما وجدتُ تفسيراً للأمر: " بلى، لأنه لا يعدّ المتاولة على دينه ".
قال باسيل: " الأديان كلها، كما تبدو لي، لديها المشكلة نفسها. ولعلمك، ذلك البطرك كان بالأساس يعيش في حلب واحتمل الاضطهاد طوال أعوام على طائفة الروم الكاثوليك من قبل المشاقين، المخالفين لعقيدتنا. فالتجأ، أولاً، إلى جبل لبنان عند خوارنة تلك الأنحاء. لكن المخالفين توصلوا هناك أيضاً لاقناع أمير الجبل، بأن البطرك عاصٍ على السلطنة. لذلك خرجَ البطرك من مخبئه، وما لبثَ أن أنتقل إلى دمشق بعدما تواسط له قاصدُ الفاتيكان عند والي المدينة "
" ماذا تعني بقاصد الفاتيكان؟ "
" إنه بمثابة القنصل، لكنه من أهل البلاد، وظيفته محددة كصلة وصل بين الطائفة والحبر الأعظم في روما. في السنوات العشر الأخيرة، وبسبب قوة العلاقة بين السلطنة وملك الفرنسويين، تخفف العبء عن طائفتنا. بل ونشأت فئة من رجال الطائفة، تُدعى وكلاء القنصل، حصلت على الجنسية الفرنسوية واغتنت بالتجارة بشكل سريع ".
هكذا ستغتني معارفي مع مرور الأيام بفضل شابّ نصرانيّ، يسرح ببضاعته على عربة لتأمين أود عائلته. لكنه سبقَ ونهل العلم في مدرسةٍ، تخص طائفته. وفي الأثناء، كان يلتهمُ كتباً في التاريخ والأدب حفلت بها مكتباتُ المدرسة والكنائس.

بعد هذا الاستطراد، أعودُ إلى واقعة فيضان نهر بردى، التي استغلّها المتسلم من قبل سعدو باشا كي يثير الريبة عند الدولة تجاه الوالي الجديد. إذ تبين أن مصادرته أرزاق الناس، المنكوبين بالفيضان، لم يكن فقط لارضاء جشعه بل وأيضاً لجعل الوالي الجديد متورطاً دونَ علمه. هذا الأخير، المعروف ب " المورلي باشا "، سبق أن حكم بعض الولايات في بلاد الروم، ويقال أنه برغم ما اتصف به من عصبية ينزع على العموم إلى الحكم بالعدل والرحمة. ينبغي القول، أن ذينك الصفتين كانتا غريبتين على أمثاله ممن اجتازوا نظام الدوشيرمة. هذا النظام، المعمول به منذ أيام الفتوحات الأولى في أوروبا، كان يقضي بانتزاع طفل من كل عائلة نصرانية في تلك البلاد كي يربى في ثكنات الانكشارية بعدما يُختن ويُعلّم أسسَ دينه الجديد. من يُظهر نجابة منهم، يلتحق بمدرسة سلطانية كي يصبح موظفاً؛ وربما ترقى في المناصب ليغدو والياً أو وزيراً أو حتى صدراً أعظم.
في يومٍ مشمسٍ جميل، أعقبَ الفيضان المهول، دخل مورلي باشا إلى دمشق، تسبقه بقليل فرقة تعزف الموسيقى وتحمل شارات الدولة العليّة. وكان المتسلم قد خرجَ قبلاً إلى الكسوة، أينَ أقام الوالي في معسكر هناك ريثما يتحسن الجو. يُقال، أن المتسلم شعرَ بعدم ارتياح الحاكم الجديد لشخصه وأنه ربما يضمر له الشرّ. هكذا عاد معه إلى دمشق، وبمجرد وصولهما افترقا. فالحاكم استقر في قصر الوالي السابق، فيما المتسلم ركنَ إلى حمى الانكشارية في القلعة. وعليّ التذكير هنا، بأن سعدو باشا قد استمال طوال فترة حكمه قادة الأورطات، وكانوا يدعمونه في أيام المواجهات مع وجاقات اللاوند والسكبان لو تمردوا على أوامره أو مالوا إلى الفوضى والسلب والنهب؛ بالأخص، في فترة غيابه على رأس قافلة الحج. وينبغي القول أيضاً، أن مجيء الوالي الجديد صاقبَ اقتراب موعد الحج. كذلك عليّ التنويه، بأنني كنتُ ضمنَ وفدٍ من أشراف المدينة في إبّان استقبال مورلي باشا أمام باب الفراديس بالقرب من أسوار القلعة: لو أنّ عليّ وصف الرجل، لقلتُ أنه قصيرُ القامة وعلى شيء من البدانة، ملامحه لطيفةٌ وتدل على أنه بشوشٌ في الغالب. لكن كان واضحاً، تضايقه من أمر ما. وسأعلم في الغد، مع غيري، عن مغبّة الأمر وأنه متواشجٌ مع مسألة المتسلّم.
بلى، في ظهيرة اليوم التالي، وبلا سابق إنذار، تسابق الطرفان إلى إعلان الجنك [ أي الحرب ـ ملاحظة المدقق ] وحشد القوى. كنتُ إذاك أدرّس طلبة العلوم في المدرسة الشامية، لما تناهى إلينا صوتُ الأعيرة النارية. تفرق الطلبة كل في طريقه، وأنا بالكاد تمكنتُ من الوصول لبيتي، الكائن في سوق ساروجة بالقرب من جامع الورد.

4
كان في خدمتي بالمنزل رجلٌ مسن، معروفٌ باسم " بابا علي "، لكنه ما زال يحتفظ بالقوة وهمّة الشباب. كانت له صفة دينية، لم يصر عليها في مستقره بدمشق. وكان قد لحق بوالدي من الموطن الأول، وبقيَ في رفقته لحين رحيله عن الدنيا. كانت صفته لدينا بين الصديق القديم والخادم، ولم يتركني على أثر وفاة الوالد. لما عدتُ للبيت عقبَ تبادل إطلاق النار بين عسكر الوالي وجماعة القلعة، استقبلني وعلى ملامحه أمارات الجزع. قال لي: " الويل لأهل هذا الحي، ثم الويل، إذا كان الوالي الجديد يرغب بمواجهة الانكشاريين منذ يومه الأول ". دُهشت من سرعة معرفته جليّة الأمر، مع علمي بما يتصف به من الفضول وحب الاطلاع. قلت له، محاولاً تهدئة مخاوفه: " لن يُغامر الوالي الجديد بسمعته عند الدولة، مثلما أن قادة الانكشارية لا مصلحة لهم بإسناد رجل من حاشية الوالي المعزول "
" ولكنني شهدتُ اليومَ بعينيّ إخراجَ الحريم برفقة الخدم، وقصدهم الاحتماء في المسجد الأمويّ. ما يعني أنّ الأمرَ جديّ، وسيتطور إلى صراع طويل ومستطير "، قالها وملامحه ما تني في غاية التوتر. فهمتُ بالطبع ما يعنيه، كون حي سوق ساروجة يسكنه العديد من قادة الأورطات؛ وأنّ إخلاء الحريم لا يحصل، عادةً، سوى بتورط هؤلاء بصراع دمويّ مع جهةٍ ما. لقد شهدنا في بعض الأعوام المنصرمة نزاعات الانكشارية مع هذا الطرف أو ذاك من الوجاقات، وكان الباشا السابق يقف غالباً على الحياد ومن ثم ينجح في إعادة الهدوء للمدينة. في الأثناء، وبينما كنتُ مشغولَ الفكر، لاحَ أن الجو ينحو مجدداً للصفاء وما عاد يُسمع صوت تبادل إطلاق النار. مع ذلك، شعرتُ أنني محاصرٌ في المنزل وبحاجة لرفقة أحد الأصدقاء. ولكن، من يجرؤ على الخروج في هكذا وقتٍ عصيب؟ وكان خادمي قد بدأ يعدّ الغداء، ما دل على أن هواجسه خفتت أو أنه يتشاغل عنها بالعمل. ما عتم المساء أنّ حلّ، فأشعلتُ القنديلَ لأقرأ تحت نوره في أحد الكتب التاريخية. منعني القلقُ من متعة الاسترسال في القراءة، فوضعت الكتاب جانباً وأسلمتُ نفسي للأفكار المتلاطمة برأسي. ولعلني غفوتُ باكراً، ولم أنتبه سوى للخادم وهوَ يشمل جسدي بالغطاء ومن ثم يُخمد نورَ القنديل.

في اليوم التالي، أفقتُ على أخبارٍ في غاية الغرابة، نقلها إليّ هذه المرة صديقي برو. حضرَ قبيل شروعي بأداء صلاة الظهر. لما مددت إليه سجادةً كي يؤدي الفرضَ معي، فإنه تجاهل ببساطة يدي. تمتم بالقول وعلى طرف فمه ابتسامته الساخرة: " لقد سبقتك ". لكنه أصابَ قليلاً من الطعام على سفرتنا، وفي خلال ذلك كان يقصّ عليّ من جدّ من الأمور. لقد ترك الوالي المدينة منذ الصباح، وغرضه أن يعود إليها مع جيش كبير كي يؤدب الأورطات ويدفعها إلى تسليم رقبة المتسلّم. ويُقال، أنه سبقَ واحتاط لاحتمال وقوع مواجهة في المدينة، فترك أورْدِيَهُ [ أي معسكره ـ ملاحظة من المدقق ] في مدينة حمص على أهبة الاستعداد.
علّقتُ على ما سمعته، متسائلاً: " وماذا بشأن جماعة القلعة؟ ". نهضَ الضيفُ عن السفرة، فتناول كوز الماء. بعدما شربَ، مسحَ فمه بظاهر كفه ورد بالقول: " هم أيضاً يستعدون للمعركة، وبعثوا رسلاً إلى قادة الوجاقات للتعاون معاً ". سكتَ هنيهة، قبل أن يضيف بنبرة تهكّم: " وأعتقدُ أن رسولاً مماثلاً سيكون على بابك قريباً ". نظرتُ إليه ملياً، مستفهماً بعينيّ عما يعنيه. فتقمّصَ لهجةً جدّية، وقال: " سيطلبون من الأشراف والأعيان كتابة عريضة للدولة، بغيَة عزل الوالي ".
قلتُ مقاطعاً: " هذا جنونٌ لو صحَّ ما تتوقعه، كونه يعني تحدّي إرادة السلطان ولمّا يمضِ بعض اليوم على فرمان تسمية الوالي الجديد ".
وأكّد صاحبُ النبوءة كلامه: " لا شك أنّ سعدو باشا قدّم لهم رشوة مجزية قبيل مغادرته الشامَ، وأظنه الآنَ في مكان ما ينتظرُ بفارغ الصبر فرمانَ إعادته لمنصبه الأول ". بقيتُ في حيرةٍ، عاجزاً عن إبداء رأي جديد في الموضوع. لكنني شئتُ الاستئناس برأيه، فسألته بعد برهة من الصمت: " وأنتَ يا أخي، بماذا تنصح لو أُخذوا رأيك؟ ". وكأنما كان سبقَ وتكهّنَ بالسؤال، فما أسرع أن ردّ دونَ أن تفارق السخرية نبرته: " لو شئتَ سماع نصيحة أخيك، أرى أن تدعو أصحابك الأشراف والأعيان إلى التوجه للوالي ليكونوا وسطاء بينه وبين جماعة القلعة ومن سينضم لها من الأورطات. وعند العودة، عليهم أن يؤثروا على مستمعيهم من الطرف الآخر، بالزعم أن الوالي معه قوات ضخمة ولا سبيل لمواجهتها ". عندما كنتُ أفكّر برأي " النبي كيكي "، إذا بالخادم يستأذنُ بحضور صديقنا النصرانيّ.
بادر باسيل بمخاطبتي بوجه محمرّ، فورَ دخوله إلى حجرة الضيافة: " بالكاد أوصلت نفسي إليك، كون حيّنا تتناهبه الإشاعات عن قرب مداهمته ونهبه في غمرة هذه الفوضى والقلاقل ". قال ذلك وهوَ ما فتأ يلهث، ثم همد على كرسيّ بمقابلنا. كان شديد الاضطراب بحيث وقفَ ثانية، ليقول: " ربما عليّ العودة بسرعة إلى البيت، لكي لا أسبب المزيد من القلق لأسرتي ". فسارع صديقنا برو لطمأنته، بالقول: " سأرافقك في طريق العودة، لو شئتَ. كما أن لي دالّة على أشقياء المدينة، لو عزموا فعلاً على مهاجمة حيّكم ". أعربتُ بدَوري عن رغبتي بالسير معهما، عندما رجع الخادم وفي يده رسالة هذه المرة: " لقد استلمتها، تواً، من رجل قال أنه من طرف المجلس ". ومثلما تنبأ صديقنا برو قبل قليل، كانت الرسالة تحثّني على الانضمام لمجلس الأشراف على أن يحضره أيضاً ممثلون عن الأعيان والهيئة الدينية. كونهم سيجتمعون في منزل كبير حي القيمرية، فإنني اتجهتُ إلى صاحب النبوءة بالقول: " سينعقد المجلسُ في حيّكم، لذلك أرى أن أكونَ أيضاً في معيتك ".

5
بعيداً عن إلهام " النبي كيكي "، كانت قراءاتي في التاريخ تُجيز ليَ فهم ما يحصل في الحاضرة من أحداثٍ، ناتجة عن أهواء الوالي المعزول. كنتُ متيقناً من أن عصره انتهى، ولن يجني من التشبث بحلمه سوى الضياع والفناء. إنّ الآلة الضخمة، التي تُسيّر الأمورَ في تخت السلطنة، تسحق كل مَن يقف بوجهها كائناً من كان بمن في ذلك سلطان الكون. الصفة الأخيرة، باتت تثير السخرية؛ بما أنّ دول الكفار بات كل منها آلة مخيفة، تتقدم ببطء، لكن بمزيد من التصميم، لتقضم المزيد من أراضي السلطنة.
تركتُ البيتَ مع صديقيّ وكان الوقتُ أصيلاً، متجهين إلى ناحية حي النصارى. بقع مياه كبيرة، متخلفة عن سيل الأمطار الأخيرة، كانت تلوح للناظر عن بُعد وقد أنعكست عليها أشعة الشمس الغاربة، لتبدو ككنز من قطع نقدية فضية لفظته الأرضُ. بغيَة اختصار المسافة، أخذنا طريقنا مروراً من تربة الدحداح، مضطرين للقفز فوق الأضرحة الرخامية تجنياً من برك المياه والأرض الموحلة. إلى أن أصبحنا بمواجهة ضريح أمراء " منكورس "، الأيوبيين، التي راحت تنظر إلينا بعيون نوافذها الصمّاء، لننعطف من ثم إلى جهة اليمين كي نتقدم بشكل مستقيم تقريباً إلى وجهتنا. كان الدربُ مقفراً بشكل عام، وبعض العابرين ممن صادفناهم تطلعوا بفضول إلى صديقنا النصرانيّ، متعرفين عليه من خلال ملابسه ذات اللون الأزرق. لما تحوّلت النظراتُ الفضولية إلينا بعد هنيهة أخرى، كان من الواضح أننا صرنا قربيبن من منزل صديقنا. باجتيازنا للكنيسة الكبرى، قال باسيل وكأنما الخبر يهم صديقيه المسلمين: " لقد عادت الكنائس إلى ملكية طائفتنا أخيراً، عقب فرمان السلطان باستلام بطريرك الكاثوليك لكرسي البطريركية في دمشق. وكان المنفصلون من طائفة المشاقين قد ذعروا من هذا التطور، فدفعوا رشوة كبيرة لكي ترجع الأمور لنصابها الأول. ما أجبر البطريرك على الهروب مجددا إلى جبل لبنان، لحين أن تدخل ملك الفرنسيس عند الباب العالي لتثبيت فرمانه الأول ". لم يعلّق أي منا على الموضوع، ما جعل وجه صديقنا يتضرّج من الخجل. لكنه سرعان ما استعاد صفاء ملامحه الجميلة، لما وصل إلى عتبة باب منزله، المكوّن من دورين. شكرنا وهوَ يشد على يدنا الواحد بأثر الآخر، وقال قبل أن يستأذن بمغادرتنا: " يبدو أنها معلومة مغرضة وكاذبة، خبر تطويق الحي تمهيداً لاقتحامه ونهبه ".

غبَّ سير معاكس لمدة نصف ساعة أخرى، عليّ كان هذه المرة أن أودّع صاحب النبوءة. سألته ضاحكاً، ما لو كان ثمة نصيحة جديدة يود إسداءها لي. فقال بنبرته الساخرة، الموحية دوماً لك بأنك على شيء من السذاجة: " سيربح الجولة مَن هو أكثر دهاء، وليسَ مَن هوَ أقوى عدداً وتسليحاً. أما الحرب، فلا يُسمح لأي طرف أن يربحها مهما يكن ". متزوّداً بكلمته البليغة، استأذنتُ في الدخول إلى منزل كبير حي القيمرية. لمحض المصادفة، أن المنزل يقع بمنتصف المسافة بين قصر الوالي والقلعة. عند ذلك دُعيت للدخول إلى الإيوان، المنفتح على هذا المساء الربيعيّ الدافئ. بفضل الإنارة القوية، كان يُخيّل للمرء أنه في رابعة النهار. عدا أعضاء مجلس الأشراف، وعددهم سبعة بما فيهم شخصي الفقير، كان هنالك حضرة المفتي وبعض الأعيان علاوة على ثلاثة من زعماء أصناف المرتزقة بملابسهم العسكرية المميزة. أفصحت وجوهُ الحاضرين، أنني كنتُ آخرَ مَن يُنتظر.
قال زعيم القيمرية، وكان رجلاً أربعينياً يتميّز بالبساطة والهيبة في آنٍ معاً، مفتتحاً الاجتماع: " هنا يجتمعُ أكابر البلد، لكي يجدوا حلاً معقولاً لهذا الوضع المستطير، الذي نشأ على حين فجأة عقبَ دخول سعادة الباشا إلى مقر ولايته. إنني لن أقلل بالطبع من إحترام الطرف الآخر، المتمثل بقادة القابيقول واليرلية، المتحصنين في القلعة والضامنين سلامة متسلّم المدينة السابق ". وشدد الرجل على المفردة الأخيرة، كما لو أنه يقرّ بأن عهداً جديداً قد حلّ ولم يعُد من مكان للعهد البائد. قال ذلك ثم دعا حضرة المفتي، ليقول كلمته. كان المفتي من آل " مرادي "، المتوارثين المنصب أباً عن جد، وكان أيضاً ينتمي لفئة الأشراف ولو لم يكن منضماً لمجلسهم بسبب حساسية منصبه. قال الرجل العجوز، الفائح من ملابسه الثمينة عبق عطرٍ قويّ: " بعد التوكل على الله، أريد أن أثني على المبجّل أخينا زعيم القيمرية، لدعوته أكابر المدينة في هذا الظرف العصيب. إن إيماني وإخلاصي للدولة العلية، يحتمان عليّ القول أن أياً من طرفي النزاع سيخصر الدنيا والاخرة لو خالف فرمان مولانا السلطان. لكن يُمكن ألا يكون ثمة غالب ومغلوب، لو أتبع المتخاصمون سبيل الحكمة والشرف ".
آمرُ قوات اللاوند، وهوَ أحدُ المفسدين في الأرض، عقّبَ على الكلمة الأخيرة بالقول: " كلنا نشارك حضرة المفتي في أمنيته أن تسود لغة الحكمة والشرف، حقناً لدماء الناس وصوناً لأرزاقهم. بيد أن التمنيات لم تعُد تنفع، طالما أن الوالي الجديد ظهرَ شخصاً غير لائق بتسيير أمور وظيفته "
عاد المفتي للقول، مقاطعاً المتحدث: " نشدتك بالله، يا آغا، ألا تستخدم هكذا ألفاظ بحق ممثل السلطان. ثم كيف لنا الحكم على الرجل، وهوَ لم يُعطَ فرصةً لتعاطي الحكم؟ ".
ردّ الآمرُ، محنياً رأسه بحركة متكلّفة من الخضوع والاحترام: " أمرك مطاعٌ، سيّدنا المفتي. وجواباً أقول، أن الباشا بمجرد وصوله لقصره بادرَ بتعذير المتسلّم والحط من قدره، لدرجة دفعته للالتجاء إلى القلعة وطلب حماية قادة الانكشارية "
" الباشا أخذ على المتسلّم مصادرته أرزاق الناس بغير حق، عقبَ حصول الطوفان، وذلك بدلاً عن مواساتهم وشد أزرهم في محنتهم "، تدخّل كبيرُ القيمرية بالجدل. في الأثناء، كانت همهماتُ الحضور تتعالى وكلّ منهم كأنما كان يُبدي رأيه لنفسه. عاد آمرُ اللاوند للقول، ملتفتاً إلى المضيف: " لو أننا سنحاسبُ هذا وذاك على تجاوزاته، فلن نكون قادرين على البت بأمر مشكلتنا الآنية. وعندي أنّ الحل يكمنُ في سرعة كتابة عريضة لمولانا السلطان، تعرض أصل الخلاف بين الطرفين مع التوصية بإعادة الوالي السابق، الذي عاشت البلد في ظل حكمه ما يزيد عن العشرة أعوام من الاستقرار والأمان "
" ليسَ من داعٍ لارسال هكذا عريضة، لأنّ مبعوثاً من لدُن السلطان سيصل غداً أو بعده عن طريق البحر للمشاركة في تهيئة المحمل الشريف "، فاجأ حضرةُ المفتي الحضورَ بالخبر. هنا، تعالت الأصوات لتحل بمحل الهمهمات وكانت تُطالب بتأكيدٍ للخبر. أضاف المفتي، تلبية لطلبات الحاضرين: " حضرة شيخ الإسلام بعث لي برسالة قبل مجيء الوالي الجديد بفترة، ومنها علمتُ بقرب وصول مبعوث جلالة السلطان "
" وماذا لو هاجم الباشا الشامَ قبل ذلك، وهوَ مَن يحشد الجيوش لذلك؟ "، صرخَ أكثر من صوت بهذا الكلام. هنا، بادرت إلى أخذ زمام الحديث: " بمجرد وصول قوات الباشا إلى جهة المدينة، سيقوم ولا شك بإرسال إنذار لقادة القلعة كي يمتثلوا لأمره ويسلموه المتسلم السابق. عند ذلك، نرسل إلى الباشا وفداً من أشراف وأعيان المدينة وعلى رأسه حضرة المفتي، لنحثه على تأخير الهجوم ريثما نُكمل مهمة الوساطة بينه وبين قادة الانكشارية. فلو وصل مبعوث السلطان، كان خيراً وهوَ مَن سيأخذ على عاتقه تدبيرَ الأمر ". تعالت الأصوات بعدئذٍ، لتعبّر عن تأييد فكرتي ـ والتي هيَ، كما علمنا، من بنات أفكار صديقي، الغريب الأطوار. حتى آمرُ صنف المرتزقة، وكان قد أخذ بعين الاعتبار خبرَ قرب مجيء مبعوث السلطان، فإنه أثنى على رأيي، مضيفاً: " إنما بشرط ألا يهاجم الباشا القلعة دونَ سابق إنذار، وإلا سنضطرُ للوقوف بوجهه ".
هكذا عدتُ إلى داري، مُكللاً بإكليل غار الحكمة، المستحق إياه صديقي برو، المعروف على لسان العامّة بلقب " النبي كيكي ". مررت بالقرب من منزله، وكان بودي لو أزوره لولا علمي بعادته في الاخلاد للنوم مبكراً.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدخل إلى عصر الرعب: توطئة
- مدخل إلى عصر الرعب: تنويه من المحقق
- زمن موناليزا الحزينة: الخاتمة
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 5
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 4
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 3
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 2
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 1
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع عشر/ 5
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع عشر/ 4
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع عشر/ 3
- زمن موناليزا الحزينة: مستهل الفصل التاسع عشر
- زمن موناليزا الحزينة: بقية الفصل الثامن عشر
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن عشر/ 3
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن عشر/ 2
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن عشر/ 1
- زمن موناليزا الحزينة: بقية الفصل السابع عشر
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل السابع عشر/ 3
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل السابع عشر/ 2
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل السابع عشر/ 1


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مدخل إلى عصر الرعب: البرج الأول