أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثاني















المزيد.....



مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثاني


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6751 - 2020 / 12 / 3 - 02:40
المحور: الادب والفن
    


1
الموعد المفترض، المحدد لوصول مبعوث السلطان، كان مطابقاً لما ذكره المفتي. لكن ما لم يعلمه هذا الأخير، وكان مفاجأة كبيرة له ولا غرو، أنّ المبعوث لم يكن سوى شيخ الإسلام، المدعو " أبو المعالي ". حط الرجل أولاً في بيروت، ومن ثم عبَرَ جبل لبنان، المكسو بعدٌ بالثلج، وصولاً إلى دمشق. كون الوالي، كما علمنا، كان ما زال في حمص لتجميع الجيوش القادرة على قهر الانكشارية المتمردة، فإن موكب شيخ الإسلام بقيَ حائراً أينَ سينزل. لكنه أخيراً إتجه إلى القصر، الذي بناه الوالي السابق، والكائن في محيط المسجد الأمويّ. عقبَ نيل المفتي قسطاً من الراحة، إتجه إلى ذلك المسجد كي يؤم المصلين بما أنه يوم جمعة.
في الأثناء، كان نمّ لعلم الأشراف والأعيان خبرُ مقدم شيخ الإسلام. وكان وفداً منهم، ضمّ الفقير صاحب هذا الكناش، قد غادر في اليوم نفسه إلى عدرا، في ظاهر البلد؛ ثمة، أينَ نصبَ الباشا أورديَهُ تمهيداً لدخول المدينة وتأديب المتمردين. حملناه على قبول الوساطة، وحمّلنا بدَوره عرضاً لقادة الإنكشارية بطرد المتسلّم السابق من القلعة بمقابل العفو عنهم. بمجرد رجوعنا إلى الشام، أخبرونا عن وصول شيخ الإسلام، وذلك تمهيداً لسير المحمل الشريف إلى الحجاز. لم نلحق صلاة الجمعة في المسجد الكبير، فاتجهنا رأساً إلى القصر بغيَة السلام على مبعوث السلطان.

لم تكن المرة الأولى، أغشى فيها القصرَ، الذي بناه الوالي السابق وبقيَ يقيم فيه لما يقارب الخمسة عشرة عاماً؛ هيَ مدة ولايته، وكانت الأطول بين من حكموا الشام في العهد العثمانيّ. لقد كنتُ لعدة مرات، متتالية، ضمنَ وفدٍ من الأشراف، لتهنئة ذلك الوالي بحلول العيد. في كل مرةٍ، كان بصري ينتقل مذهولاً في أنحاء قاعة السلاملك، أينَ يُستقبل الضيوف. الواقع، أنّ القصرَ برمته يُعتبر تحفة فنية لا نظير لها في المشرق، وقد أشبه بقصور سلاطين آل عثمان في الأستانة ولو لم يكن بعظمتها. في مرحلة الإنشاء، قيل أن المساحة الشاسعة المعيّنة لإشادة القصر، تطلبت إزالة عشرات المنازل الكبيرة مع دفع تعويض زهيد لأصحابها. الوالي السابق، المعرَّف بالجشع شأن معظم أنداده، أجبرَ أيضاً أصحابَ الدور الفخمة في المدينة على تقديم قطع الرخام والمرمر لكسوة قصره. بل إنه اقتلع من المدرسة الأيوبية، الناصرية، أعمدة بكاملها كي ينصبها في الرواق. كان محظوظاً أيضاً بالمزيد، وذلك عندما تم حفر أساسات القصر لتنكشف عن آبدة قديمة؛ قيل أنها معبدٌ وثنيّ، يخص آلهة رومانية أو إغريقية.
قبل الوصول إلى قاعة السلاملك، يتعيّن على الزائر أن يسيرَ في ممشى حديقة القصر، الحافلة بأنواع الشجر والأزهار. عريشتا مجنونة بلون بنفسجي، تحدقان بالقاعة من جانبيّ عمارتها، المذكّرة بقلعةٍ من القلاع. ولقد ذكّرتني، شخصياً، بواجهة قلعة حلب. لكن واجهات القصر جميعاً لم تكن من الحجر، حَسْب، بل وأختير لها طريقة العمارة الدمشقية، المعروفة بالمداميك الثلاثة، المتوازية؛ وهيَ من فوق لتحت باللون الأسود فالأبيض ثم الأبلق [ أي الأصفر أو الأشقر ـ ملاحظة المدقق ]. مدخل القصر الداخليّ، يستقبل الزائرَ بدرج مزدوج، ومن ثم الباب الرئيس ذي القوس الأشبه بالتاج ويعلوه إطارٌ رخاميّ ومرصّعٌ بالصدف في داخله لوحة بإطار هندسيّ مزخرف، تتضمن أبياتاً من قصيدة مكتوبة بماء الذهب، تُستهل بالبسملة وتختتم برقم السنة الهجرية لانتهاء أعمال البناء. المدخل خال من الأعمدة ذات التيجان، وهذه نلقاها فقط في الرواق المقابل للمبنى، والمفصول عنه بالباحة السماوية المرخّمة، الذاخرة بالأشجار، يتوسطها بحرة دائرية من ذات المادة الحجرية. لكن النظر لن يتأخر عن الغرق في ترف قاعة السلاملك، والذي بلغ من الجرأة أنه ربما يفوق ما تحظى به قصور الأستانة: هنالك في صدر القاعة، وقف حضرة شيخ الإسلام لاستقبالنا. وكانت هيَ المرة الأولى أحظى بالتعرف عليه، مع أنه بالأصل من مدينة دمشق.
" عرفتُ والدك في حياته، وكان رحمه الله من الأتقياء الأبرار ذوي العلم الغزير "، قال لي حضرة شيخ الإسلام وهوَ يمد لي يده لأقبلها. لم يكن طاعناً في السن، ولعله بلغ الخمسين، رشيق القامة مع القليل من القصر، ولحيته كثيفة مسترسلة ومخضبة بالحناء الحمراء. وراء هيئته الوقورة وسحنته المضيئة، الناصعة البياض، كانت تكمن شخصية بالغة التأثير ومتزمّتة بعض الشيء كغالب من يتبوؤون منصبه الرفيع. ولن يتأخر في البوح بمكنون نفسه، لما أتيح له التحدث مع وجهاء المدينة من أشراف وأعيان وعسكر. لكنه استهل كلمته بالتأكيد على ضرورة إسناد الوالي الجديد في مواجهة من يثيرون القلاقل، وأبدى دهشته من تشجيع الانكشارية للمتسلم السابق في التمرد والعصيان: " برغم أن هؤلاء، أو أسلافهم، قُمعوا بشدة على زمن أسعد باشا وكادت تذهب ريحهم أبداً. ويلوح أنهم بحاجةٍ لتلقي درساً جديداً، يجعلهم يستعيدون صوابهم. فإذا كان هكذا مسلك الآمر، فكيف يُرجى من مرؤوسيه الانضباط والطاعة؟ شكايات الأهالي من تصرفات أفراد الأورطات، سواء في الأسواق والدروب أو في المقاهي، وصلت لسمع مولانا السلطان وطلب مني طرح المادة على الوالي كي يتم تلافيها تماماً. وأين هوَ الوالي؟ إنه اضطر منذ اليوم التالي لمباشرة وظيفته لترك المدينة، بعدما رفض قادة الانكشارية تنفيذ أمره بتسليم ذلك المتسلّم، المتهم بمصادرة أرزاق الناس ممن ابتلوا بفيضان نهر بردى ". كان يتكلم بلغة عربية سليمة وجزلة، خالطاً إياها أحياناً بمفردات عامية مألوفة. لما تابع حديثه، أثنى على موقف أكابر الشام، لسعيهم في التواسط بين الوالي وأمراء القلعة الانكشاريين. بدا الارتياح على وجوه الحاضرين، وأظن أنهم شكروا ربهم لاستنكافهم في اللحظة الأخيرة عن مسعى التماس عزل الوالي الجديد بهدف إعادة سلفه. لحظتُ أن بعضهم رمقني بنظرات امتنان، كوني مَن قدم النصيحة بعدم التورط في دعم جماعة القلعة. ارتسمت عند ذلك في مخيلتي صورة صديقي، الذي كان له الفضل الحقيقي في إجزاء تلك النصيحة. وسيدهشني حضرةُ شيخ الإسلام، لاحقاً، لما أعرب عن رغبته بلقاء مَن دعاه " ذلك الرجل الكرديّ، المدّعي النبوّة ".

2
عقبَ تكريس شيخ الإسلام يومه الأول للاجتماع مع أكابر المدينة، دعاه هؤلاء في اليوم التالي لوليمة غداء في منزل كبير حي القيمرية. قبل توجهي إلى ذلك المنزل، مررتُ على صديقي برو، المقيم في نفس الحي. طلبتُ منه مرافقتي، بنبرة رحاء، كون حضرة شيخ الإسلام أحبّ التعرّف إلى شخصه. منزل صديقي كان أشبه بالكهف، برواقه المقوّس وإنعدام وجود نوافذ في جدرانه الخارجية، ما يجعله معتماً ورطباً. كذلك انتفى حظوة المنزل بالأثاث، وكان على الضيف أن يجلس على حشية مبطنة من القش، تستعمل كفراش للنوم. انعدامُ وجود المطبخ، جعل صاحبنا يعيش بحالة من البدائية أقرب للهمجية. لكنه كان يتناول طعامه غالباً في السوق، ثمة أين مكان خدمته كعتّال. أصحابُ المحلات، المستفيدون من خدمته، كانوا علاوة على نقده الأجرة يمنحونه فواكهَ وحلوى. في المقابل، كان الرجلُ العملاق لا يخرج من المنزل سوى بملابس نظيفة، ولو أنها خَلِقة، ويغتسلُ مرةً في كل أسبوع في حمّام السوق.
قال لي، رداً على الدعوة: " عليّ أن أعمل طوال النهار، كيلا أبقى جائعاً ". كان ينام باكراً، ثم يستيقظ في الصباح على صوت الديك. وإلا فإنّ هذا الرواق كان سيجعله كأهل الكهف، الذين شاءت العناية الإلهية لهم الإغفاء طوال بضع مئات من السنين. لما قدّم حجّته، علّقتُ ضاحكاً: " أقول له أنك ستتناول طعامك في وليمة إمبراطورية، وهوَ يجيبني بخشيته أن يبقى جائعاً ". أطلق ضحكة مقتضبة، ثم عاد وجهه يتجهّم لما رد بالقول: " ما شأن شيخ الإسلام معي؟ أم أنهم أخبروه بأنني القرد، الذي يُسلّي الناسَ في السوق؟ ". في حقيقة الحال، أنّ صديقي كان عزيزَ النفس بحيث يرفض أيّ منحةٍ مالية أو عينية إلا لقاء خدمةٍ يؤديها. بل لقد رفض مرةً تلبية دعوة، وصلته من لدُن الوالي السابق، وقال لرسوله: " أنا لستُ جامعَ ضرائب على الموتى ". ويُقال أن الوالي لم وصل إليه الجواب، أستلقى على قفاه من شدة الضحك. لقد تذكّر سعدو باشا، ولا ريب، حكايته مع رجل محتال وضع طاولة في مدخل مقبرة الباب الصغير وكان يأخذ ضريبة على كل جنازة. وفي إحدى المرات حضر الباشا جنازةً لقريب من أهله، فلما طلبَ ذلك الرجل المحتال الضريبة المعتادة، قال له: " عفارم عليك! ". ويقال أنه استدعاه في اليوم التالي، وأجبره أن يتقاسم الأرباح معه نظير حمايته.

بيد أنني حملت صديقي أخيراً على انتزاع نفسه من المنزل، وما لبثنا أن صرنا في الدرب الممفضي إلى دار كبير الحي. الشمس الربيعية، كانت عندئذٍ متربعة في السماء وقد تحلقت حولها السحبُ البيض، المتناثرة كما لو أنها طيور الحمام، المحلّقة بدَورها فوق منائر المسجد الأمويّ. السلسلة الجبلية، المترائية عن بُعد، كانت ترتعش في غمرة أشعة شمس الظهيرة، المنعكسة على ألواح الصبّار لتجعل كلاً منها أشبه بالمرآة. هذه الأشعة، بهرت عينيّ، اللتين ألفتا العتمة في ذلك الكهف وذلك في أوان الخروج منه. لكن سرعان ما تلقفني الدربُ بظلاله العميقة، المترامية تحت جدران البيوت وفرنكاتها ومشربياتها. المنزل المطلوب، ما عتمَ أن لاحَ لبصري وكانَ ثمة فتية مسلحون على مدخله قد اختلطوا مع عناصر من الإنكشارية. فكّرتُ إذاك، بأنّ البعض من آمري القلعة قد لبوا أيضاً دعوة الغداء؛ ولعلهم أتوا كي يسلموا جوابَ رفاقهم على مبادرة وساطة أكابر المدينة بينهم وبين الوالي الجديد. جيش هذا الأخير، المُضافر بعساكر من الولايات المجاورة، كان ينتظرُ إشارةً لغزو المدينة، لو فشلت الوساطة، وسيعمد إلى نهبها في فترة محاصرته للقلعة. السلطان، الذي أغضبته جرأة قادة الإنكشارية، هوَ مَن أوعز لباشوات الولايات الأخرى بدعم باشا الشام.
وهوَ ذا مبعوثُ السلطان، يجلسُ بمواجهة أولئك العصاة، وكان منشغلاً عنهم بالحديث مع المضيف، الذي شاء الاحتفال بالوليمة في صحن الدار بالقرب من البركة الكبيرة، المثمّنة الشكل، المنهمر مياهها من نافورةٍ تتوسّطها. دقران الكرمة، كان يمنحُ الظلّ للحضور في هذه الظهيرة من الربيع، الحار نوعاً. بعد إلقائي السلام، تقدمتُ من شيخ الإسلام لتقبيل يده وتقديم صديقي. قال متفكّهاً، غبّ سحب يده المعطّرة من يد العملاق: " النبي كيكي، هيئته تذكّر المرء بأصحابنا الصوفيين، الذين يجدّفون بأمور الدين وهم سكارى أو محششون ". تكلّفتُ المرحَ، بينما أرقب صديقي بنظرة مواربة وقلقة. لكن نظرته بقيت غائمة، كأنما لم يكن ينصت لكلمة شيخ الإسلام. ولحُسن الحظ أنه لم يفتح فاه، بل بقيَ واقفاً ينتظر أن يُدعى للجلوس. المضيف، بادرَ إلى الاشارة لكلينا أن نجلسَ في كرسيين فارغين بقربه. خاطبتُ الشيخَ حالما أخذت مكاني، وقد لحظت حرجه إزاء لا مبالاة صديقي: " في واقع الحال، إنه لا شأن له بالصوفية، مثلما أنه يستاءُ لو نوديَ بلقب النبوّة ". ثم استدركتُ بالقول: " وبالطبع، يا سيّدي، أعلمُ أنكم لا تأخذون كلامَ العامّة بصورة جدّية "
" بلى، وهذا ما سيكونه جوابي، لو سألني مولانا السلطان بشأن ما سمعه عن رجلٍ في الشام، قيل له أنه يدّعي النبوّة "، ردّ الشيخُ مبتسماً وقد تحلّصَ من شعور الحَرَج. بقيَ " النبي كيكي " محتفظاً بالصمت، لحين أن سمع جواب الشيخ. وإذا به يلتفت نحوه، رافعاً أصبعه بحركة تحذير، ليقول: " لكن لن يقدّر لك رؤية مولاك مرةً أخرى، أبداً ".
تلك كانت نبوءة، وقد تحققت مع الكثير من الأسف. فإنّ حضرة شيخ الإسلام سيكون بين ضحايا الموقعة المهولة، عند هجوم الأعراب على المحمل الشريف، المتجه للحج.

3
تعوّل ذاكرتي على استحضار تلك الواقعة، المتواشجة مع الوليمة، باعتبارها المرة الأولى أسمعُ فيها نبوءةً يفوه بها صديقي، المُكنّى من قبل العامّة ب " النبي كيكي ". وأتذكّرُ أيضاً، أنّ حضرة شيخ الإسلام تغاضى عما سمعه، باعتباره من شطحات شخصٍ، مُعرّفٍ بالولاية كحال أمثاله من المجذوبين. وإلا لو صدّق النبوءة، لكان حمى نفسه بطريقة ما؛ كأن يعتذر عن الذهاب مع المحمل الشريف بحجة عارضٍ صحيّ، مزعوم. لكن رجلاً عاقلاً، يتسنّم وظيفة مرموقة ومقدّسة، لم يكن على الأرجح ليتطيّر مما يصدر من أقوال على ألسنة المجذوبين والعرافين، مستعيناً بقول رسول الله: " كذبَ المنجمون ولو صدقوا ". ربما أعتفد أيضاً، أنّ النبوءة تستجلي مصيرَ السلطان لا مصيره هو. إلا أنني يومئذٍ بدا لي موقفُ حضرة شيخ الإسلام نوعاً من الإخبات، يُمكن أن يتبعه الإيحاءُ للوالي بالقبض على شخصٍ بتهمة الزندقة، والتي عقوبتها الإعدام أو الإختفاء في بئر القلعة. وقد أكون مغالياً آنذاك في إعتقادي، طالما أنّ كلاً من الشيخ والوالي منشغلٌ بقضية المتسلّم، المتحصّن في القلعة.
وإذاً، تجاهلَ حضرةُ شيخ الإسلام ما فاه به صديقي، بأن انتقل إلى موضوع آخر. لقد توجّه إليّ بسؤال، فاجأني حقاً: " ألا تجدُ علاقة بين الأحداث الراهنة وبين ما يستشري من الفساد في الحاضرة، كتعاطي الخمر والحشيش وممارسة الدعارة والفحشاء وقضاء الوقت في المقاهي؟ ". كأني به يتهمُ الهيئةَ الدينية، وأنا أحدُ أركانها، بالعجز عن توجيه الخلق إلى جهة الإيمان الحق والابتعاد عما ذكره من الرذائل. فكّرتُ قليلاً، ثم أجبته محاولاً الايحاء بنيّة سليمة: " المعاصي منتشرة في كافة حواضر السلطنة، بما في ذلك الأستانة. مهما تكن الوسائل لمكافحتها والحد منها، فإنها باقية ما ظل الشيطانُ يوسوس في صدور الناس "
" أحسنتَ القول، أيها الشاب المُستنير! إنه الشيطان، مَن يغوي ابنَ آدم وذلك منذ فجر الخليقة. بل إنّ سببَ وجود الحياة على الأرض كان إبليس، الذي أغرى حواء بأكل الثمرة المحرّمة. وعندي أن جذرَ الخطيئة يكمن في المرأة، وكلّما عمدنا إلى تهذيبها تنحرف بشكل أو بآخر عن جادة الصواب ".
على حين فجأة، أيضاً، إذا بصديقي يقاطع الشيخَ. قال دونَ أن يتطلع إلى أيّ منا: " في كلّ رجلٍ شيءٌ من الأنثى، في الوسع قراءة علاماته بالقلب وليسَ بالوجه ". التفت الشيخُ إلى ناحية المتكلم، وظل يُمعن فيه النظرَ. سأله، متكلّفاً لهجة مرحة: " وأنتَ، أيها العملاق، هل تشعر بوجود الأنثى في داخلك؟ "
" أنك تسأل لساني لا قلبي "، ردّ الآخرُ. هيمن الصمتُ هنيهةً، لحين أن تنحنحَ كبيرُ حي القيمرية، ليقولَ في شيء من التردد والحرج: " حديثكم ممتع ومفيد، وأتمنى أن يتواصل بعد الغداء عندما يتم تقديم القهوة ".
قال الشيخ ببرود: " أنا لا أتعاطى القهوة، لأنني أعدها من المحرّمات ". ثم أردف موضحاً، لما لاحظ تبلبلَ المُضيف: " لم يقطع الفقهاءُ الرأيَ بهذا المشروب، ولو أنّ أكثرهم أفتى بتحريمه. أنا من خلال قراءاتي في الشعر العربي القديم، وبالأخص شعر المجون، لحظتُ أنهم يدعون الخمرَ بالقهوة؛ ما يدل على معرفتهم بأنها نوعٌ من المسكر. وبحَسَب الحديث الشريف، فإنّ كل مسكرٍ حرامٌ ". هزّ المضيفُ المسكين رأسَهُ علامة على الفهم والموافقة، ثم ما لبثَ أن رفع يده بإشارة إلى خادمه كي يتم تقديم الطعام.

كنتُ أضيفُ المرقَ واللحم إلى تل الأرز، المتكوّم في صحني، عندما قال لي برو بصوتٍ مسموع: " الفرقُ شاسعٌ بين الشراب المُسكر والشراب المنبّه، وهذا هوَ الفرق بين الخمر والقهوة ". تحدّثَ بلهجةٍ جذلة، كأنما مناكدةُ حضرة شيخ الإسلام تُسعده وتُسلّيه. الواقع أنه محقّ في توصيفه، وتجربة أكثر الناس تؤيّده. توقعتُ، هذه المرة أيضاً، أن يتجاهل الشيخُ كلامَ صاحبنا. لكنه هزّ رأسه علامة على الاهتمام، وأراد أن يقول شيئاً، عندما أضافَ الآخرُ: " عدم ورود ذكر القهوة بالقرآن الكريم والأحاديث الشريفة، يكفي للدلالة على عدم تحريمها ". ازدرد حضرةُ شيخ الإسلام لقمةً كبيرة، عقبَ مضغها بشيء من الصعوبة، فيما كان ينظر إلى المتكلم: لعله يتضايق من عادة الكلام أثناء الأكل؛ وهذا على أي حال ما سبقَ ونبّه إليه المضيفُ، بالقول أنه يتمنى مواصلة الحديث في خلال تناول القهوة. لكن القهوة لن تقدّم، على الأغلب، مراعاةً لخاطر الشيخ.
آبَ برو إلى مواصلة كلامه، غير عابئ بأيّ اعتبار، كمألوف عادته: " ثم إنّ هناك نوعاً آخر من الشراب المنبّه، يُدعى بالصينية ‘ تاي ‘. أحد التجار الهنود المسلمين، وكنتُ قد تكلمت معه ذات يوم في السوق بدمشق، هوَ من أمدّني بحفنة من أوراق التاي، مجففة ومبخّرة مع توابل أخرى ـ كما فهمتُ منه. عندما شربتُ بعضاً من الأوراق، المضافة إلى الماء المغليّ، لم أستطع النوم حتى ساعة متأخرة من الليل. وقال لي التاجرُ، أن نبيّ الصين، بوذا، هوَ مَن إكتشفَ هذا النبات على سبيل المصادفة. ففي عقيدة ذلك النبيّ، كان يتوجب الصوم عن النوم لأيام طويلة بغيَة قضاء الوقت بالتأمل. ذات مرة، كاد أن يغلبه النعاس، فتسلّى بمضغ وريقات شجيرة كانت بالقرب منه. فلاحظ عندئذٍ، أنه كلما واصل مضغ الأوراق كلما زاد نشاطاً وتلاشى خموله ونعاسه ".
رمقه حضرة شيخ الإسلام بنظرة تدل على الحيرة، ثم رأى في عدم التعليق ضعفاً لحجّته؛ على الأقل أمامنا، نحن في الحلقة الضيقة من الحضور. لكنه تصنّعَ نبرة مرحة، مخاطباً ربيبَ الأحاجي: " النبي كيكي، يُحدثنا عن نبيّ البوذية! ". ثم أردفَ بنبرةٍ أكثر جدية: " لا أظنّ إلا أنك تكلمت مع ذلك التاجر الهنديّ بلغته، لما بلغني عن معرفتك بالعديد من اللغات. وهيَ نعمةٌ من الله ولا مِراء. بشأن شراب التاي، فإنني علمتُ بأنه أُهديَ ذات مرةٍ لمولانا السلطان من قبل سفير البلاد الهندية، وكان هذا من مسلميها. على كل حال، فإنني لم أقِضِ بتحريم القهوة، سواءً عُدّت شراباً مُسكراً أو مُنبّهاً. فقط قلتُ أنني لا أشربها، لأنني أعتبرها من المحرّمات؛ وهذا رأيُ العديد من العلماء إن كانوا من تخت السلطنة أو من بقية ولاياتها ".
الكلمة الأخيرة لحضرة شيخ الإسلام، شجّعت المضيفَ على الأمر بتقديم القهوة بعد الغداء. جيء أيضاً بانواع شراب الفواكه وأصناف الحلوى، ثم حانَ على الأثر وقتُ مداولةِ موضوع الوساطة بين الوالي وقادة الأورطات.

4
حاولتُ أن أكون بغاية الحذر والتحفظ في خلال المداولات، المتعلقة بالخلاف بين قادة الوجاقات والوالي الجديد. كنتُ قد تركتُ ورائي ثلاثة عقود من الحياة، حافلة بالتجارب والمصاعب، وآملُ من الخالق أن يمد بعُمري لا أن يقصّره أو يختصره. بكلمة أخرى، أنني فضّلتُ عدم إتخاذ موقف واضح في هذا الصراع. ولعل العديد من الأشراف والأعيان يشاركونني موقفي، بالبديهة عينها. فالحكمة مفضّلة على الشجاعة، بالأخص ونحن نعيش في زمن مقاساة المظالم. المرء، إن كان وجيهاً أو من العامّة، حياته معلقة بكلمة من فم صاحب الأمر. وصاحب الأمر نفسه، يُحدَد مصيرُه في تخت السلطنة ـ كما شهدناه مؤخراً بشأن الوالي السابق، الذي أبعد عن منصبه وكان يظنّ أنه سيورثه لأحد أولاده.
حضرَ إذاً أحد آمري القلعة، ممثلاً عن رفاقه الانكشاريين. وقد تعمّد الرجلُ على ما يبدو الجلوس بالقرب من قائد اللاوند، للدلالة على أنّ الوجاقات تؤيد الأورطات بموقفها من الباشا. لقد إتفقَ أن جلسَ كلا الآمرين بمواجهتنا، وعلى الأرجح أنهما أنصتا لما دار من الحديث. عادةً، تميل الأورطات إلى الوقوف بصف الهيئة الدينية، بينما الوجاقات هيَ أقرب للصوفية. هذا الترتيب ينطبق تقريباً على الموقف من الأعيان والعامّة: فالأولون، يجدون الدعم من الانكشارية، أما الآخرون، وبالأخص أصحاب الحرف، فإنهم مؤيدون لأصناف عسكر المرتزقة. لكن لكل قاعدة استثناء، وقد أكونُ مثالاً في هذا الشأن؛ وأعني قربي من أصحاب خرق الصوفية. على أيّ حال، كنتُ الآنَ مهيئاً نفسي لكل الاحتمالات، بما فيها الأكثر بُعداً عن المنطق والرُشد.

استهل حضرةُ شيخ الإسلام الكلامَ، عقبَ إيمائةٍ من المُضيف، فبدأ يستعرضُ ما نمّ إليه من خبر الخلاف وأسبابه ثم انتهى إلى القول: " ليسَ من المعقول، ولا يجوز شرعاً، أن يُضحى بحياة الناس وأرزاقهم لأجل خاطر رجلٍ فقدَ وظيفته، وهوَ فوق ذلك، متهمٌ بأعمال غير قانونية. إن صبر مولانا السلطان له حدود، وإلا لما كان قد حثّ باشاوات الولايات المجاورة على التدخل من أجل إعادة النظام إلى الولاية الشامية. وإنني أثني على موقف أكابر المدينة، الذين بادروا للوساطة بين الطرفين، مؤملاً بأنها ستنهي الخلاف على نيّة الخير والسلامة للجميع ". في أثناء الكلمة، انتبهتُ لإشارات أخرى للمضيف، استهدفت هذه المرة آمرَ قوات اللاوند. هذا الأخير، مثلما توقعتُ، تنحنح على الأثر ثم بدأ الكلام. كرر على العموم حديثَ حضرة شيخ الإسلام، معلناً في الختام تأييده لشرط الوالي بإخراج المتسلّم السابق من الشام لقاء العفو عن قادة القلعة. عند ذلك، اشرأبّت الرؤوسُ إلى ناحية ممثل هؤلاء الأخيرين وكان يزداد عبوساً بمرور الوقت.
" ثمة تقليدٌ راسخٌ لدينا، نحن معشر الانكشارية، ورثناه عبرَ القرون؛ ألا وهوَ حماية من يلتجئ إلى حمانا سواءً في القلعة أو القشلة "، ابتدأ ذلك الآمر بالكلام. ثم أضاف: " هذا التقليدُ، احتفظ به رفاقنا حتى في تخت السلطنة واحترمه الجميع. بخصوص المتسلّم السابق، فإنه حظيَ بالحماية من قبلنا وفق التقليد المذكور وليسَ لسبب آخر. الآن، غبَّ إعلان الباشا موافقته على الخروج الآمن للرجل من القلعة، نعتبرُ الخلافَ قد انتهى وبضمانة من حضرة شيخ الإسلام والأخوة أكابر المدينة ". تعالت عندئذٍ الهمهماتُ، مستحسنةً كلامَ الآمر. وهوَ ذا المضيفُ، يَتحرك بحيوية في مجلسه، ليُشير إلى خادمه بتقديم المزيد من الشراب للحضور. ثم شاء وضع خاتمة مناسبة للاجتماع، قائلاً: " بحُسن تدبير حضرة شيخ الإسلام، وبحَسَب تأكيد أخينا، آمر القابيقول، يُعتبر الخلافُ منتهياً. منذ الغد، ستعود الحياة إلى طبيعتها في مدينتنا، ويزاول الباشا وظيفته على الرحب والسعة. ونأمل من الله وصول المحمل الشريف بالسلامة إلى أرض الحجاز الطاهرة، وذلك عند إنطلاقه في الأيام القادمة القريبة من أرض الشام المقدسة ".

من ناحيتي، حمدتُ الله على هذه الخاتمة السعيدة، والتي تعلّق بها مصائرُ الكثير من الناس بما فيهم مصيري نفسه. فأولئك العسكر، المعشش القمل والبق في ثكناتهم، كان من المستحيل ترويضهم وإجبارهم على الخضوع، وكانوا على إهبة لخوض صراع دمويّ يحرق الأخضر واليابس. الآن، لاحَ أنهم امتثلوا لنداء العقل والحكمة، لا لمروءة فيهم بل كونهم عاجزين عن مواجهة جيوش الولايات المجاورة، المتضامنة مع باشا الشام. سيُرفع إذاً في الغد الحصارُ عن القلعة، ويُفرغ المسجدُ الأمويّ من الحريم ويعدن لبيوتهن. لقد أُعطيَ دورٌ كبير لحضرة شيخ الإسلام في فض النزاع، ولو أنه في حقيقة الحال لم يفعل شيئاً: مجلس الأشراف، مثلما علمنا، كان السبّاق في الاتصال بالباشا وحثّه على قبول الوساطة.
" أرجو منك البقاء مع صديقك، لحين ذهاب بقية الحضور "، فاجأني حضرة شيخ الإسلام بهذا الطلب. وما أسرعَ أن أختلينا به وبالمضيف، عقبَ مغادرة الآخرين للدار. كان الوقت قد أضحى على مشارف الأصيل، وشاعت البرودة في أوصالنا. لذلك اقترح علينا المضيف الانتقال إلى حجرة الضيوف، وما لبثَ أن تركنا لوحدنا مع الشيخ وربما بإشارةٍ خفية من هذا الأخير.

5
في الأثناء، وبينما إتجه رسولان ـ أحدهما إلى القلعة والآخر إلى ظاهر دمشق ـ لإبلاغ الطرفين المتخاصمين بالاتفاق المُشار إليه آنفاً، كان حضرةُ شيخ الإسلام قد أختلى بنا لغاية في نفسه. بلغ به التواضع، أن صبّ لكل منا القهوة من دلّةٍ تُركت على مجمرة من النحاس في حجرة الضيافة. توجه بلحيته الشريفة إلى ناحية صديقي، وكان ما زال يزدردُ قطعة حلوى: " لم يكن عبثاً، أنّ العامّة أطلقوا عليك نعتَ النبيّ. لا بد أنك تنبّأت لمرات بأشياء معينة، وبفترات مختلفة، لحين أن كونوا عنك هذا التصوّر. أليسَ صحيحاً؟ "
" لا يأمل الإنسانُ بأشياء خارقة للطبيعة إلا عندما يعجزُ عن التفكير بالمنطق والعقل "، رد برو بنبرته الساخرة. وأعتقدُ أنه جوابٌ مُدهش، مثلما كانت ردة فعل مُخاطبه. إذ بقيَ الشيخُ صامتاً، كما لو كان واقعاً تحت تأثير الجواب أو مأخوذاً بنظرة صاحبه. فتحُ فاهُ أخيراً، ليواصل مضغ لقيمة الحلوى وليقول: " كأني بك تُردد مقولات الشاعر المعرّي، المعروف بالايمان بالدهرية؟ ". ثم أستدرك، معتمداً هذه المرة لهجة متصنّعة ليّنة: " لكنني علمتُ بأنك أمّي، تنزعُ ذاكرتك الفذّة إلى الحفظ الشفاهي. وهذه لعلمك من صفات النبوّة، أيضاً ". وجاء دورُ الآخر كي يلازم الصمتَ. ولكنه في الآن نفسه، لم ينتزع عينيه من عينيّ المُحدّث. هذا الأخير، واصل عندئذٍ الكلام عقبَ المقدمة الفخمة: " فليكن لديّ أملٌ، بما حُبيت به أنتَ من منطق وعقل. إنك قد تنبأت لي قبلاً بأنني لن أعود وأرى جلالة مولانا السلطان، مع أنني تركته بصحة جيدة. وعلى أي حال، فالأعمارُ بيد الله. الآن، أصارحك بوجود شقيقة مولانا ضمن موكبنا، وهيَ ستمضي فيما بعد مع المحمل الشريف لأداء مناسك الحج. لقد سمعت هيَ بكراماتك قبل أن تفكّر بالمرور من الشام، مثلما أن سمعة هذه المدينة المقدسة سبقت حلولها فيها. باختصار، إنها طلبت استخارتك في أمر رحلة الحج. ولو أردتَ شيئاً من أثر سلطانتنا، كوسيلة للاستخارة، فإنها زودتني بخصلة من شَعرها ". قال ذلك، ثم أخرجَ منديلاً حريرياً معقوداً ودفعه إلى صاحب النبوّة. بقيت يده معلّقة في الهواء، ما جعلني، أدباً، أتناول الغرضَ بيدي وأضعه على الطاولة أمام صديقي. هذا الأخير، طفقَ على صمته وكأنه في عالم آخر أكثر نأياً. تمتم دونَ أن يلقي نظرة على الصرّة الصغيرة: " أرغبُ بلقاء السلطانة "
" مهلاً، يا صاحبي، فإن ما تطلبه ليسَ مُتاحاً. أصلاً وجودها هنا، هوَ سرّ لا يعلمه إلا قلة قليلة "، أجابَ شيخُ الإسلام مبتسماً. لقد سرّ، ولا ريب، لأن مسعاه في طريق التحقق؛ ويبدو أنه ملزمٌ به أمام سلطانته. لكنني، من ناحيتي، شككتُ بدافع صديقي وأوّلته للفور إلى رغبة عابثة وليسَ إلى تلبّس حالة النبوّة، التي كان يرفضها دوماً وباصرار. عاد الشيخ للقول، وقد استحوذت عليه نشوة الظفر: " على أيّ حال، سأنقل رغبتك لمولاتنا حال وصولي إلى القصر ". ثم نقل نظراته بيننا، قبل أن يوصينا بحرص: " وجود السلطانة في المدينة يجب أن يبقى مكتوماً عن أيّ كان، وهذه هيَ أيضاً رغبة مولانا السلطان. إن تنقّل أفراد العائلة العثمانية، يستلزم دائماً قدراً كبيراً من السرية وذلك حفاظاً على سلامتهم ". ثم حدد لنا الشيخُ موعداً لمقابلته في صباح الغد، على أن نأتي بأنفسنا إلى قصر الوالي. قبل أن نتحرك للذهاب، رمق الشيخُ الصرّة الصغيرة، متسائلاً بشيء من الحيرة: " ألن تلقي نظرة على محتوياتها؟ ". أجابَ صديقي، وكان السؤال موجهاً إليه: " ليسَ ثمة مَن يجهل، أنّ أميرةً من العائلة العثمانية يجب أن تكون ذات شَعر أشقر وناعم ". مد الآخرُ يده إلى الصرّة وفتحها؛ فظهرت بالفعل خصلةُ الشَعر بحَسَب وصف صاحب النبوءة.

في صباح اليوم التالي، وقبل دخول موكب الباشا إلى المدينة، كنتُ وصديقي أمام مدخل قصره، المكوّن من باب كبير وبداخله خوخة أصغر حال الكثير من دور الأعيان. دخل أحد الحراس للإبلاغ بوصولنا. وبعد هنيهة ظهرَ وصيفٌ ذو سمرة داكنة، ليقودنا عبرَ الممشى، المحفوف جانبيه بصفّ من الأزهار البربيعية كالزنبق والنرجس والبنفسج. كان يوماً جميلاً، ألقت فيه الشمس أشعتها على هامة المسجد الأمويّ، الذي ظهرت بجلاء قبّته وإحدى مناراته من موقفي في حديقة القصر. ذلك أن الوصيف أمرني بالبقاء بالقرب من البحرة المستديرة، بينما قاد صديقي إلى ناحية مبنى السلاملك، المنذور للضيوف. ووفق معلوماتي عن البناء، كان القسم الآخر من القصر يضم الحرملك، وهوَ مفصولٌ عن السلاملك بالباحة السماوية وجانب من الحديقة. فيما أنا أتأمل بشغف ما يحفل به المكان من آيات العمارة وفنون الزخرفة وبدائع الأزهار والأشجار والعرائش، إذا بي أفاجأ بحضرة شيخ الإسلام يظهرُ من ناحية السلاملك وهوَ في طريقه إليّ.
" لقد تفتحت قريحةُ صاحبك بوجود سلطانتنا المحتشمة، فشئتُ أن أتركهما وآتي للتكلم معك "، قال لي الشيخُ مبتسماً. ثم جلس بقربي على أريكةٍ مشغولة بالأغصان الجافة، موضوعة بالقرب من البحرة. رحبتُ به، وعلّقتُ من ثمّ بالقول: " هذا من أطواره الغريبة، كونه يؤثر الصمت؛ مثلما أنه يضيقُ بحضور النساء ". ثم أردفتُ مستدركاً، كالمعتذر: " وبالطبع هوَ يعرف الأصول، وأنّ أمامه شقيقة مولانا، سلطان الكون "
" بلى، لحظتُ ذلك ولاشك من خلال حديثنا يوم أمس "، قال الشيخُ ثم أضاف: " وبسبب الظروف المعلومة، لم نستطع إكمال حديثنا ". في الأثناء رجع الوصيفُ مع خادم، وضع أمامنا على طاولة صغيرة عدّة القهوة وصحناً من الحلوى. كعادته في التباسط، أشار لهما الشيخُ بالذهاب وراحَ يصب لنا القهوة في فنجانين صغيرين ومذهّبَي الحواف. قال وهو يرشف من فنجانه، مقرباً وجهه مني ومخفضاً صوته: " أعوّل على صاحبك في كشف أمر آخر، بغاية الأهمية. لنقل أنّ مولانا السلطان يهتم بالأمر، وقد حثّني على اهتبال سانحة وجودي في دمشق كي أستجلي سرّه ". ثم ألقى نظره بعيداً إلى ناحية المسجد الأمويّ، مستطرداً وهوَ يومئ إليه: " يُقال أنّ كنز النبوّة، مدفونٌ في مكان ما من المسجد، ومولانا السلطان يرغب في العثور عليه وجلبه لتخت الخلافة. لقد قرأ عن الكنز في مخطوطٍ ما، وتيقّن من دفنه في موضع سريّ هنالك بالمسجد. هذا الكنز، يضم ثمانية أشياء: حجرٌ عليه أثر دماء هابيل، فأس برونزية ذات قبضة من خشب تخص إبراهيم، قرنا كبش إسماعيل، خاتم سليمان، مزمار داوود، عصا موسى الغليظة، قرطا مريم، وثوب خاتم النبوّة المنسوج من وبر الماعز ".

* الكتاب الثاني من رواية " الأولى والآخرة "، المنشورة في الموقع عام 2010



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الأول
- مدخل إلى عصر الرعب: توطئة
- مدخل إلى عصر الرعب: تنويه من المحقق
- زمن موناليزا الحزينة: الخاتمة
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 5
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 4
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 3
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 2
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 1
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع عشر/ 5
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع عشر/ 4
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع عشر/ 3
- زمن موناليزا الحزينة: مستهل الفصل التاسع عشر
- زمن موناليزا الحزينة: بقية الفصل الثامن عشر
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن عشر/ 3
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن عشر/ 2
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن عشر/ 1
- زمن موناليزا الحزينة: بقية الفصل السابع عشر
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل السابع عشر/ 3
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل السابع عشر/ 2


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثاني