أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - جمعيّة دفن الموتى















المزيد.....

جمعيّة دفن الموتى


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 6681 - 2020 / 9 / 19 - 20:23
المحور: كتابات ساخرة
    


كان الوقت صباحاً عندما نزل أبو عبدو من السرفيس، واختار أن يُكمل رحلته سيراً على الأقدام رغم بعد المسافة. اتّجه إلى مقصده يجرُّ وراءه سنواته السبعين ليوفّر على نفسه أجور المواصلات التي باتت فوق طاقته. وبعد أكثر من نصف ساعة وصل إلى وجهته. توقّف يقرأ الشاخصة في أعلى مدخل «جمعية دفن الموتى» ويلقي نظرة على أوراق النعي الملصقة على جانِبَيّ الباب. ثم ولج محنيّ الظهر قليلاً وهو يتفحّص الرَّدهَةَ بخطى وئيدة مضطربة، إلى أن وقع بصره على أحد العاملين يجلس خلف طاولته يعبث في موبايله. فبادره بالتحية قائلاً:
- السلام عليكم يا أخ!
- وعليكم السلام ورحمة الله.
- من هو المسؤول هنا من فضلك؟
- أمر يا عمّ، ماذا تريد؟
- الحقيقة لديّ ولدان توفّيا منذ يومين وجئتُ أسـأل عن ثمن القبر.
بدا وجه الموظف الخمسينيّ وكأنه قُدَّ من خشب؛ كان جامداً لا ينمُّ عن أيّ شعور. وقال مواسياً ببرود:
- الرحمة عليهما. يعني تريد قبرين؟
أجاب أبو عبدو بمذلّة وبصوتٍ غائرٍ مثل عينيه:
- لا والله يا أخي، بل قبر واحد. فقد قرّرتُ دفنهما إلى جانب بعضهما وبشكلٍ شاقولي اختصاراً للمساحة. يحتاج القبر والحال هذه فقط إلى تعميق الحفر حوالي نصف متر إضافي..
تقلّص وجه الموظف وصرخت في عينيه نظرة ذاهلة متردّدة مليئة بالاستفهام، كأنما شكَّ في صدق كلامه. وبعد لحظات من الصمت اعتدل في جلسته ثم أغلق موبايله وابتسم برثاء قائلاً في تهكّم:
- بشكلٍ شاقولي؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ولكن هذا مخالف لكل الشرائع السماوية يا عمّي! اتّقِ الله، ما هذا الكلام؟!
- في محنتي الراهنة لم أعد أؤمن بشيء. ليس باليد حيلة والله. ظروفي صعبة للغاية يا أخي ويتعذّر عليّ شراء قبرين.
أشار بيده الموظف إشارة تدلّ على الأسف. ودعاه للجلوس على كرسيّ قريب منه قائلاً بإشفاق:
- الرحمة والمغفرة لروحَيهما الطاهرتين والصبر والسلوان لك ولباقي أفراد أسرتك. تفضّل، تفضّل اجلس يا عمّ!
مسح أبو عبدو براحة كفّه حبّات العرق عن جبينه وتقدّم متمهّلاً بضع خطوات، وكأنه ينتظر بلهفة دعوته للجلوس ليرتاح من تعب مشواره الطويل. ردَّ على مواساة الموظف بصوتٍ واهنٍ وهو يتهالك على الكرسيّ:
- تعيش يا أخي، الله يرحم أمواتك ولا يفجعك بعزيز.
- وكيف توفّيا ولداك؟
أجاب وهو يُصارع في داخله ليبقى متماسكاً:
- أحدهما كان يعمل في لبنان بالبناء، يأتي إلى سورية كل شهر شهرين يدير باله علينا بقرشين. وبعد أن فرضت الحكومة دفع الـ (100) دولار على القادمين إلى البلاد من السوريين ليُسمح لهم بالدخول، امتنع عن المجيء بالمرّة. وفي التفجير الأخير في مرفأ بيروت استُشهِد. وسوف يصل جثمانه غداً.
ثم توقّف هُنيهةً ورفع عينيه إلى السقف وهو يعضُّ على شفتيه ليمنع تحدّر العبرات التي احتشدت. فسارع الموظف إلى إعطائه محرمة من العلبة على الطاولة وهو يخفّف عنه. وبعد صمتٍ قصير تابع يقول:
- أما الآخر، فكان يعمل بائع جوارب على رصيف في سوق شعبي. وفي أوقات فراغه يتسلّى ويخربش على الفيسبوك. وقد تم استدعاؤه مؤخراً من قبل فرع الأمن الجنائي لارتكابة جريمة إلكترونية كما قِيل له. ولم يسلّم نفسه لأنه سبق واعتُقِل في وقت سابق لأسباب سياسية. وخشي أن يتعرّض لذات التعذيب الرهيب الذي لاقاه على أيدي السلطات. فآثر التواري عن الأنظار وبات مهموماً يفكر ليل نهار في مصيبته، وضاقت الدنيا به إلى أن جاءته أزمة قلبية حادّة أودت بحياته البارحة. ومازال حتى الآن في برّاد المشفى بانتظار استلامه. (وتنهّد متابعاً بحزنٍ شديد والدموع تطفر من عينيه) والله يا أخي ضربتان على الرأس ليست سهلة! (صمَتَ برهة وأضاف) لم تقل لي كم ثمن القبر لديكم؟
شبك الموظف ذراعيه على صدره وأسند كامل ظهره على الكرسيّ، واتّخذ وضعية من حفِظَ الدرس عن ظهر قلب، فأجاب بهدوء وثقة وبشيء من التفصيل:
- والله هذا يتوقف على مكان المقبرة، وعلى موقع القبر؛ فكلّما كان بعيداً عن بوّابة المقبرة يكون أرخص. كما أنه مرتبط بنوعية القبر (العادي، الموزاييك، الحجر، الرخام..). ثم كما تعلم، الثمن مرتبط بقانون العرض والطلب. فعدد المقابر في دمشق لا يتعدّى الثلاثين. وقدوم مئات آلاف النازحين وزيادة عدد الموتى نتيجة الأحداث، لم تعد هذه المقابر تكفي وتستوعب المزيد؛ فازداد الطلب وارتفعت الأسعار.
- طيب، ما هو أرخص قبر لديكم؟
- ممم، يعني بحيطان الـ (المليون) ليرة.
فهتف فيما يشبه الفزع:
- يا ويلاه! يا ربّي دخيلك ما هذه المصيبة؟!
ردَّ عليه وقد تثنّى جبينه في اهتمامٍ شديد:
- لشدّ ما يؤلمني وضعك يا عمّ! طيب، أليس لك ضيعة؟ على حدّ علمي القبور مجّانية في القرى!
وكأن السؤال أثار مكظوم شجونه فأجاب:
- يا أخي أنا رجل نازح من ضيعته بسبب الحرب. وقد تدمّرت بيوتنا ومزارعنا حصيلة الأعمال القتالية بين الدولة والمسلحين. ولا يُسمَح لنا بزيارتها وتفقّدها. ونسكن بالإيجار حالياً في بيت حقير على أطراف العاصمة.
- يا عمّي إذا كنت فقيراً إلى هذه الدرجة، يمكنك استحضار وثيقة «فقر حال» من المختار بحضور شاهدين، ممهورة بختم المحافظ ومصادقته، وتتوجّه بعدها إلى مقبرة (نَجْها) في ريف دمشق، فهناك القبور الفارغة أرخص بكثير. (ونظر في عينيه ليمتحن أثر كلماته).
فقال بصوتٍ ممزّق:
- لا حول ولا قوة إلا بالله. يا أخي بيتي في شمال دمشق، ونَجْها في جنوبها. ويصعب عليّ الوصول إليها وزيارتها في الأعياد والمناسبات..
نفخ في يأس وأجاب بنبرة اعتذار وتسليم:
- والله يا عمّي هذا هو الموجود.
لاذا بصمت يغلّفه الأسى وهما يتبادلان نظرة طويلة. وهمَّ أبو عبدو بالكلام، فتح فاه ولكنه سرعان ما أطبقه. ثم قرّر أن يُفضي بسؤالٍ طارئٍ ذابحٍ خطر على باله فجأةً فقال في حيرةٍ بالغة:
- طيب، هل لكم علاقة بكلية الطب في جامعة دمشق؟ مثلاً هل يطلبون منكم تزويدها بالجثث مجهولة الهوية ليُصار إلى إجراء التشريحات عليها لتعليم الطلاب؟ مع العلم أن ابني الذي توفي البارحة كان يتمتع بجسد كامل الأعضاء لا تشوبه شائبة الله وكيلك. بينما يا حسرتي الثاني، فقد تشوّه بالكامل نتيجة الحريق الناجم عن الانفجار!
تجاهل الموظف سؤاله وصفن مفكّراً وقد ﺯﻭﻯ ﻤﺎ ﺒﻴﻥ ﺤﺎﺠﺒﻴﻪ ﻭراح يحكُّ وراء ﺃﺫﻨﻪ. هازّاً رأسه بطريقة من يتفهّم الأمر وهو يحدجه بنظرة إمعان وتأثّر. وفجأةً برقت عيناه بالمكر، وصفّق مسروراً بإصبعه الوسطى مع إبهامه كمن تخلّص من فخّ، وهتف بنبرة تحريض:
- ما رأيك أن تُخبر السلطات المختصّة أنهما توفيا بسبب إصابتهما بالكورونا؟ فترتاح من مغبّة دفع كافة نفقات الجنازة والدفن والعزاء. لأن الدولة في هذه الحالة هي المعنية بمراسم الدفن من ألفها إلى يائها درءاً لانتشار الفايروس.
سرت في جسد أبي عبدو رعدة واستولى عليه غمٌّ مفاجئٌ. تفكّر قليلاً وقال بصوتٍ يركض فيه القلق:
- ولكن قد يطالبونني بإثبات إصابتهما!
فأجاب بنفاد صبر:
- هوهووت علينا! يا أخي أيّ مشفى خاص ولقاء مبلغ هزيل، يزوّدك بتقرير من كعب الدست، أنهما مصابان بالكورونا وبالكوليرا وبجنون البقر وبأنفلونزا الطيور والخنازير وضرّاب السخن.. وَلَوْ!
ابتسم أبو عبدو بحزن. وتذكّر أنه لم يعرف الابتسام منذ أشهر. لوّح بيدٍ مسترخيةٍ بيأس مودّعاً، وهو يهمُّ بالنهوض مستسلماً لا مقتنعاً وقال بصوتٍ متصدّع:
- اللهمّ ألهمني الصواب. شكراً يا أخي. سأفكّر في اقتراحك الوجيه!
وخرج بائساً فريسةً لقهرٍ مُضني وهو يحدّث نفسه: «الحياة قفراء لدرجة الرعب. كيف أستطيع مواصلة العيش بخواءٍ شاملٍ وقلبٍ معذّبٍ، مع هذا الإحساس المتغلغل في الأعماق بالإحباط والحزن وخيبة الأمل؟»
لدى بلوغه الشارع العام نبحت في وجهه عاصفة من أبواق السيّارات. مختلطة بزقزقة سربٍ من عصافير الدوري يطير فوقه. غضَّ طرفه عن جعير الشارع وتطلّع إلى السماء متأمّلاً، وجد عصفوراً متخلّفاً عن الركب يطارد أنثاه بمرح وهو يرفرف بسعادة. تغيّرت سحنته فجأةً وأحسَّ بأنه يشعر بالخفّة، وكأنه رمى عن كاهله ثقلاً أضناه. ولمع في عينيه وميض الأمل وقال بصوتٍ مسموع:
- ومع ذلك، سأجد حلّاً. فالحياة ستستمرّ.



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأستاذ محمد الأفصع(*)
- الحُبُّ في زمنِ الكِمامة
- ما أبرعهم!
- فلسطين
- بعد طول انتظار
- عيون ومخارز
- «توقاً إلى الحياة»
- حوار مع رفيقي «القائد!»
- الجماهير ترقص فرحاً
- لماذا نحن متخلّفون؟!
- العَوْراء
- وأنا الشيوعي، كيف نسّبوني إلى «البعث»؟
- حلاوة
- نبوءة صادقة في حرفها الأول!
- لكنّنا لم نلتقِ!
- مسلمة الحنفي – قراءة في تاريخ محرّم
- هل وحدة الشيوعيين السوريين ممكنة؟
- وأغلقَتِ الخطّ!
- «جبال الأغاني والأنين»
- «البلد»


المزيد.....




- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - جمعيّة دفن الموتى