أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - لكنّنا لم نلتقِ!















المزيد.....

لكنّنا لم نلتقِ!


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 6576 - 2020 / 5 / 28 - 16:01
المحور: كتابات ساخرة
    


من الشخصيات التي التقيتها في فرع أمن الدولة في حماه أثناء اعتقالي أواخر ثمانينيات القرن العشرين، والتي يصعب محوها من الذاكرة، شخص يدعى ويا للمصادفة: (أحمد حسن البكر!) ذات اسم الرئيس العراقي الأسبق.
شاب مهندس زراعي، بعثي عضو عامل، بحدود الثلاثين من عمره، من ريف حلب. تم اعتقاله بتهمة التعاطف مع الأخوان المسلمين وتم إحضاره إلى حماه. وفور وصوله تم زجّه بالمنفردة. وقد تعرّض للتعذيب الرهيب كباقي المعتقلين أثناء التحقيق.
ظلَّ في المنفردة عدة أيام، لم يطق البقاء فيها. فقد عيلَ صبره وضاق صدره، وبدأ يفكر بطريقة للهروب من الفرع.
وفي إحدى الليالي وقُبَيْلَ بزوغ الفجر حيث الجميع نيام، مدّ يده من بين القضبان في سقف الزنزانة (يتوسّط السقف فتحة للتهوية على شكل نافذة مسلّحة بالقضبان المتصالبة) فوجد سيخ حديد على سطحها. سحبه بسرعة وانهمك بخلع قفل الزنزانة بواسطة ذلك السيخ. وقد أفاق السجانون على حركة السجين الفار! فألقوا القبض عليه فوراً. وعمّت أرجاء القبو الصيحات المتوعّدة مختلطة بصراخ السجين وعويله وهم يوسعونه ضرباً. وقاموا بتكبيل يديه إلى الخلف ورجليه مع بعضهما بسلسلة حديدية، بحيث لا يستطيع المشي إلا قفزاً. وفجأةً يُفتح باب زنزانتنا ويدفعوه إلى داخلها ويغلقون الباب بسرعة منصرفين.
وقف السجين مشدوهاً لاهثاً ينظر إلينا بخوفٍ وهلع. كان مُشعث الهيئة خاوياً من كل طاقة، مذهولاً بشكلٍ كامل.
وبشفقةٍ حقيقية وتعاطفٍ صادق تطوّعتُ لاستقباله وأجلسته إلى جانبي. وبصوتٍ مستجير طلب مني أن أقدّم له الماء ليشرب، أحضرتُ له علبة بلاستيكية طافحة بالماء وسقيته بيدي. شكرني معتذراً بكلمات رقيقة، وحدّثني أنه مظلوم من جرّاء التهمة المنسوبة إليه. بذلتُ جهداً كبيراً إلى أن تمكّنت من تهدئة روعه.
ولما كان لا يستطيع تناول الطعام أو الشراب أو خلع ملابسه لقضاء حاجته بسبب القيود, ولا بدّ من شخص آخر يقوم بمعاونته، فقد كان لزاماً عليّ القيام بهذه المهام كلّها عوضاً عنه، بعد أن امتنع زملائي عن تقديم أيّ مساعدة لهذا السجين! وكم كان يبكي عندما أقوم بتلك الخدمات. كان بكاؤه يشبه بكاء الأطفال. ومن خلال دموعه يحرص على إسماعي طيب الكلام. وكان دوري إلى جانب خدمته، التخفيف عنه وتطمينه من أن اعتقاله لن يدوم طويلاً كونه بعثياً.

يوم، اثنان، ثلاثة.. سبعة، عانيتُ خلالها الأمرّين. فمن جهة لا يمكنني تحمّل رؤية شخص مظلوم ولا أهرع لنجدته وفق استطاعتي. ومن جهة أخرى لم تكن مساعدتي له من النوع السهل إطلاقاً. وخاصةً عند إدخاله إلى المرحاض، وحالة الخجل والحرج التي تعترينا معاً حيال هذه الخصوصية الجسدية المنتهكة. وبدأتُ أعاني من حالة النفور التدريجي جرّاء قيامي بتلك المهامّ.
ما جعلني ألجأ إلى الطلب من السجان لمقابلة المحقق لشرح هذا الوضع الشاقٌّ وغير المحتمل.
لدى مثولي أمام المحقق، شكوتُ له ظروفنا الجديدة بوجود السجين (الفارّ) كما اصطُلِحَ على تسميته فيما بيننا. أجابني بعصبيّة وقد ضيَّقَ ما بين جفنيه:
- تدافع عن واحد اخونجي؟!
قلت له بطريقة راجية:
- لكنه إنسان، ويجب ألاّ تستمرّ هذه المهانة عليه، لا سيما وأنه رفيق لكم من حزبكم كما يقول. ثم إن العقوبة المفروضة عليه طالت، ونحن نتلقّى بجريرته أسوأ ما يحدث في الكوابيس. ما ذنبنا أن نُعاقب على فعلته؟ إذا كنتم تنوون الاستمرار في معاقبته، حبّذا لو تنقلوه إلى زنزانة أخرى ليشيلَ عنّي الآخرون حمله.. فقد ضقتُ ذرعاً به وبخدمته، ولم أعد قادراً على تحمّله.
أجاب وهو يهزُّ كرسيّه إلى الأمام والخلف:
- ألا يساعدك أحد من رفاقك في الزنزانة؟
- لا..
نهض عن كرسيّه وطفق يذرع أرض الغرفة جيئةً وذهابا وهو يحكّ خدّه، وأنا ألاحقه بنظراتي مترقّباً قراره بقلق. وبعد لحظات من الصمت القاسية، قال دون أن يلتفت صوبي:
- ماشي، سنفكّ قيوده. عُدْ إلى زنزانتك.

لحظة تحرّر يديه وقدميه، ضحك بحزن، ورفرف عليه ارتياحٌ سعيد. وأوّل ما فكّر به هو معانقتي تعبيراً عن الشكر والعرفان. واحتفلنا بزوال هذه الغمّة التي نغّصت عيشتنا.
استمرّ وجوده بصحبتنا بعدها حوالي أسبوع، ثم نُقِلَ إلى دمشق لإكمال التحقيق معه.
وخلال هذه المدة التي قضاها معنا, توثّقت علاقتي به كثيراً.. فهو بسيط, طيب, لا علاقة له بالإخوان المسلمين أبداً, وقد أُحضِرَ إلى الفرع بسبب تقرير لئيم من أحد أقاربه.

وتمرُّ الأيام.. فبعد حوالي خمسين يوماً من غيابه عنّا, يفتح السجان باب الزنزانة وينادي:
- ضياء اسكندر.. تعال!
اتجهت صوبه مستوضحاً فأجاب:
- يوجد شخص عند المحقق يرغب برؤيتك!
وأنا باتجاه غرفة المحقق اعتراني فضولٌ همجي وبدأتُ أتساءل: «تُرى من يكون هذا الشخص؟ هل هو أحد أقاربي جاء لزيارتي؟ لكنني محروم من الزيارات!»
وكم كانت المفاجأة هائلة لحظة دخولي غرفة المحقق! إنه أحمد حسن البكر بشحمه ولحمه!
اندفع صوبي بقوة طلقة وعانقني بلهفة متوثّبة. وبقي يضمّني ويشدّني إلى صدره بجنون والدموع تنهمر من عينيه إلى أن قال له المحقق متعجّباً: «والله يا عرص! بقصّ إيدي إذا ما عمل ضياء منك شيوعي..! شو هالمحبة وْلاه؟! لاوالله تكونوا أخوة, مو هيك بتسلّموا على بعض!» ثم التفت المحقق نحوي مضيفاً: «بتعرف؟! صار له ساعة بيترجّاني منشان ينام بزنزانتك! قال شو, حابب يقضي آخر ليلة قبل إخلاء سبيله، عندك ليشبع منك.. وأمام إلحاحه وافقت؟»
رحّبت به كثيراً ودخلنا الزنزانة معاً بسعادة وبقينا ساهرين حتى الصباح. وقبل إخلاء سبيله لبراءته من التهمة التي اعتُقل من أجلها، كرّر رجاءه عشرات المرات وهو يلمس على صدره بحماس، أن أطلب منه أيّ طلب ليعوّض جزءاً من خدماتي إليه خلال مرحلة تكبيله سيئة الذكر. فأجبته ممنوناً:
- أريد منك يا صديقي أن تحفظ اسمي، وتتذكّر دائماً أنني ورفاقي، ندفع ضريبة لا لذنبٍ اقترفناه، بل فقط بسبب حبّنا للشعب والوطن. وكما ترى يا رفيقي، فما يجمعنا معكم أنتم البعثيّون، أكثر بكثير مما يفرّقنا. وآمل أن نلتقي في قادم الأيام وقد تحرّرت سورية من الاستبداد..

لكننا للأسف، لم نلتقِ!



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسلمة الحنفي – قراءة في تاريخ محرّم
- هل وحدة الشيوعيين السوريين ممكنة؟
- وأغلقَتِ الخطّ!
- «جبال الأغاني والأنين»
- «البلد»
- ألو بابا، أنا ابنك!
- «النباتية»
- «أعدائي»
- التحقيق رقم (1)
- «الإسلاموفوبيا»، ثُمَّ الكورونا، ثُمَّ..؟
- اللِّصُّ الغبيّ
- «المترجم الخائن»
- صاحب الأنف الضخم!
- «وردَّدتِ الجبالُ الصدى»
- ما بعد كورونا..
- حظر التجوّل
- بيروتُ الحُلُم، والحقيقة..
- لكِ، «ألف شمس مشرقة»
- أيُّ نظامٍ نريد؟
- الغِرُّ


المزيد.....




- روسيا.. جمهورية القرم تخطط لتدشين أكبر استوديو سينمائي في جن ...
- من معالم القدس.. تعرّف على مقام رابعة العدوية
- القضاء العراقي يوقف عرض مسلسل -عالم الست وهيبة- المثير للجدل ...
- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - لكنّنا لم نلتقِ!