أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - دلور ميقري - من البونابرت العربيّ إلى الطاغوت الطائفيّ















المزيد.....


من البونابرت العربيّ إلى الطاغوت الطائفيّ


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1582 - 2006 / 6 / 15 - 11:52
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


سبق لي هنا ، وفي مقال بعنوان " القناع الجميل لنظام قبيح " ، مقاربة الذكرى السادسة لرحيل الديكتاتور السوري ، الأسد الأب . كان ذلك بمناسبة الهجمة الأمنية ، الجديدة ، على آخر معاقل الثقافة السورية الحرة ، وعلى خلفية المبادرة المسماة " إعلان بيروت _ دمشق " . الحق أن مقالي ذاك ، كان منذوراً بكليته لمسألة ما صار يُعرف في الأدبيات السياسية بـ " وريث العهد الجمهوري " ؛ وهي الأدبيات المُحيلة إلى الوضع السوري ، وتحديداً إثرَ إستحواذ الإبن ، بشار الأسد ، على سلطة أبيه الراحل ، المطلقة . وإذ ألحِفُ ، مجدداً ، على المسألة الطائفية سوريّاً ، فلكونها الجرح النازف ، العتيق ، الذي يعاني منه مجتمعنا ، كنتيجةٍ محتومة لممارسات أهل السلطة ، البعثية ، طوال العقود الأربعة ، الأخيرة . تلك الممارسات المعنية ، تفصحُ بجلاء غيرمُواربٍ ، ليس فقط عن بنية النظام الأسديّ ، الأمنيّ ؛ بل وفي الآن ذاته ، عن أزمته المستعصية في التعاطي مع الداخل والخارج ، سواءً بسواء . ولعلّ ما يرشحُ ، في كل وهلةٍ واخرى ، عن خلافات أركان المعارضة السورية ، وقذفهم لبعضهم البعض بالإتهامات الإقصائية ، بشكل خاص ، لهوَ من براهين تلك المسألة الطائفية ، المزمنة .

إنّ المحاولة البائسة ، الراميَة لنفي الطبيعة الطائفية للنظام الأسدي ، والتي يبدو أن البعض من منظري المعارضة ، قد تبناها لنفسه كـ " منهج عمل " ، وحيدٍ ؛ هكذا محاولة ، تُذكرنا بصفة الحماقة الملتصقة بالنعامة ، والتي إرتضاها ذلك " البعض " جهلاً ، على الأرجح . وهي كمعطياتٍ ، لا يمكن إلا أن تحملَ ، بدورها ، الصفة الطائفية ، البحتة ، علاوة ً على صفةِ السذاجة المتماهية بالمكر القرويّ ؛ والتي ترى " العيب " كامناً ليسَ في ممارسته ، كسلوكٍ مرفوض ، بل في فضحه على الملأ : بمعنى أنّ فضحنا لممارسات أهل النظام ، الطائفية ، يعتبرُ عند أولئك المنظرين البائسين ، أنفسهم ، بمثابة عتبَةٍ محظورة ، لا يجوز إجتيازها ؛ وبحجةٍ واهيةٍ عن مخاطر التمزق المحتمل لمكونات الوطن . وربما يتناسى هؤلاء ، أنّ تلك الممارساتُ ـ الخبيثة كورَم سرطانيّ ـ هي التي من الممكن أن تصيبَ مقتلاً بالوطن ، ما لم يتمّ الإشارة إليها بكل صراحةٍ وإنفتاح ، كيما نعمل جميعاً على محاولة علاجها ، حتى لو بدا الوقتُ متأخراً .

لعلّ كتابات نزار نيوف ، المعارض السوري المقيم في باريس ، هي النموذجُ الأكثرَ وضوحاً بين جماعة المنظرين ، الذين عنيناهم آنفاً ؛ وعلى الأخص مقالاته الأخيرة ، المُلحّة على المسألة الطائفية في سورية وبوصفها " مسألة طوائفية " ، بحسب تعريفه لها . سنحاول هنا مناقشة مقاله الجديد " ست سنوات على رحيله : حافظ الأسد الحيّ فينا ومعنا ! " ، والمنشور في هذا المنبر الإنترنيتي مؤخراً. وهو المقالُ ، المطوّل _ ككل مقالات الكاتب _ الذي بدا كما لو أنه تنظيرٌ " ذرائعيّ " لسيرة الأسد الأب ، السياسية ؛ وتحديداً بعيد إنقلاب 8 آذار 1963 ، الموصل حزب البعث للسلطة في سورية ، متأخراً بذلك شهراً واحداً عن رفاقه ، من إنقلابيي العراق . يجوز لنا المجازفة ، ومنذ مستهل نقدنا لمقالة السيد نيوف ، بالقول أنّ هذه الأخيرة خليط ٌ عجيبٌ من المتناقضات الفادحة ، ومن المغالطات والإختلاقات الصارخة أيضاً ؛ مما سنوافي في حينه القاريء الكريم بها . ولكون مقالة السيد نيوف هذه ، مقسمة إلى فقرات ذات عناوين فرعية ، فقد شئنا الأخذ بمأخذها لجهة التسهيل على القاريء ، بالدرجة الأولى ، وكذلك إبرازاً لأهم النقاط التي يدور نقدنا حولها .

أمثلة من التناقضات :

عطفاً على إشارتنا ، سالفة الذكر ، عن تناقضات المقالة ، فنقول أنها تبدأ بالعرض المعتاد به الكاتب ، ، فيما يخصّ مؤهلاته النظرية ، الماركسية ، مذكراً القاريء بمقولة بليخانوف عن " دور الفرد في التاريخ " . وهي المقولة ُ ، التي يسخر منها كاتبنا ، مشدداً بشأن سيرة الأسد ، التي يتناولها ، على : " الظروف الخارجية التي تولد فيها شخصيات تاريخية من هذا النوع " . وتسهبُ المقالة في الأمثلة ، من هنا وهناك ، الداعمة لوجهة نظر كاتبها ، " العلمية " ( بحسب المفردة الأثيرة لدى نزار نيوف ) ، الداحضة لمقولة بليخانوف ؛ وإذا به صفحة بعد الاخرى ، يسلو عن المسألة ويفاجئنا بتبنيه للمقولة ذاتها ، حدّ أنه يختتم مقالته الطويلة بهذه الكلمات : " إن أكبر برهان على أن حافظ الأسد قد لعب ، كفرد ، دوراً هائلاً في صناعة التاريخ الشرق أوسطي ، هو ما حصل في لبنان " .

التناقض الثاني ، في المقالة ، هو زعم الكاتب أنّ الإقطاع في سورية : " صفي بشكل شبه نهائي في ظل الإحتلال الفرنسي " . وإذا بشطحة قلمه ، الطائشة ، الغافية على ذلك الزعم ، نجدها وقد أفاقت منه على ما يناقضه تماماً ؛ حينما تنوه المقالة بـ " إنجازات " إنقلاب الثامن من آذار : " فقام البعث بالإصلاح الزراعي ( الذي هو بالمناسبة من مهمات البرجوازية ، على عكس ما هو شائع ) ". وما كان لكاتبنا ، الذي لا يراجع ما يكتبه إطلاقاً ، الإنتباه لتلك السقطة الفادحة ؛ هوَ الذي سيعود في مكان آخر من مقالته ، وبمناسبة مقاربته لشخصيتيْ أسد سورية وبسمارك بروسيا ، للقول عن هذا الأخير ، معرفاً مرحلته كمصطلح بأنها : " النزوع الوحدوي لرأسمالية مهيمنة على المجتمع فيها الدولة الحاكمة إقطاعية إستبدادية " . وحتى أنّ المقالة ، في عرضها للمرحلة الأولى من حكم الرئيس الأسد ، تنوه بالإجراءات التي إتخذها : " تعبيراً عن المصالحة مع الرأسمالية الزراعية التي دمرها الإصلاح الزراعي " .

المثال الثالث لتناقضات الكاتب ، كان في تناوله المسألة الطائفية في سورية ؛ وهي بيت القصيد في المقالة ، على ما يبدو . إنّ نزار نيوف ، المتحسس من هذه المسألة حدّ المرض ، يحاججُ من يذهبَ إلى القول بأنّ قضية الطائفية والمذهبية ، هي بمثابة " عقب آخيل " في مشروع الأسد الأب ، البونابرتي : " وحين يتهم نظام الأسد بممارسة الطائفية ، فإن ثمة خطأ علمياً يقترف على نحو يتصل بالإنتهازية السياسية التحريضية أو الجهل بجوهر إشتغال هذا النموذج من الأنظمة " . ها هنا ، أيضاً وأيضاً ، تأكيدٌ ينتمي لعجائب الدنيا السبع ، لا يلبث الكاتب ، بنفسه ، أن يقوم بعبء دحضه ، طوال ما تيسّر من بقية إستطراداته في المسألة الطائفية . فالسيد نيوف ، يعاكس ذلك القول ، آنف الذكر ، بتأكيد آخر ، يناقضه على طول الخط تماماً ؛ حينما يكتبُ عن أشقاء النظام السوري ، من الأنظمة الديكتاتورية : " ولكونها كذلك ، لا يمكن أن تكون إلا طائفية و / أو مذهبية . وفي أحيان كثيرة تنزلق إلى ممارسات فاشية عنصرية سافرة " . هاهو كاتبنا ، يضع إصبعه الشافي ، مشكوراً ، على جرح ٍ آخر في جسد الوطن ؛ حينما يربط ممارسات النظام البعثي ، الطائفية ، بممارساته العنصرية بحق مكونات المجتمع الأثنية . لا بل أن مقالته ، وهي تعيد التأكيد بخصوص تلك الممارسات ، تذهب إلى أبعد من ذلك ، حينما تذكّر بزيف إطروحات النظام ، العلمانية ، محددة نمطبْن من الممارسات التمييزية ، الدينية ، في سورية : " المذهبية داخل الجسم الإسلامي نفسه ( علويين ، سنة ، إسماعيليين ، دروز ) وممارسة طائفية من الدولة ككل ، بإعتبارها ممثلة للإسلام بكليته ، تجاه المسيحيين الذين يجردهم الدستور من مواطنيتهم ويتعامل معهم كمواطنين درجة ثانية " . هذا التأكيد ، الأخير ، يُحيلنا إلى الفقرة التالية من مقالتنا .

في مغالطات الوقائع والتواريخ :

على أعقابها ، تمضي مقالة نزار نيوف توغلاً في التاريخ ، مستعيدة بعض رموزه ؛ وبشوق ٍ حثيثٍ ، على الأرجح ، لإستحضار صورة اخرى ، مشرقة ، للديكتاتور الراحل : " يتوجب علينا التسليم بأن سورية لم تعرف في زمنها السياسي خلال ألفي عام إلا ثلاثة من الحكام هم زنوبيا ومعاوية وحافظ الأسد ، أما الباقون فلم يكونوا أكثر من حلقات ربط إنتقالية رخوة ، غائمة المعالم وفاقدة الهوية ، فيما بين مراحل راسخة لمشاريع سياسية واضحة الهوية " . إقحامُ إسم " أبينا القائد " ، من لدن كاتبنا ، المعارض ، كيما يُكتمل به ذلك الثلاثي ، التاريخي ؛ هكذا إقحام ، بطبيعة الحال ، مسألة فيها نظر : وسنعودُ ، لاحقاً، لمناقشته . ولكن دعونا الآن ، وقبل كل شيء ، نتابعُ الحيثيات المفترضة ، المستند عليها كاتبنا في إنتقائه تلك الشخصيات الموسومة . فهو يعتبر زنوبيا أول من أدرك الأهمية الإستراتيجية لسورية ، كـ " إقليم قاعدة " ، عربي ، على حد تعبيره : " يمكنُ أن يلعب الدور الذي لعبته بروسيا في التاريخ الحديث كقاطرة للوحدة الألمانية . ولعلها أول حاكم عربي يتحسس " عروبته " وإنتماءه القومي محاولاً تجسيده في مشروع سياسي ، كما يمكن أن نلحظ من كتاباتها المخطوطة عن تاريخ الشرق " . كان من المنطقي هنا ، أن يتمّ الإستشهاد بمثال دولة تدمر بقيادة زنوبيا ، فيما لو جاء الحديث ، فرضاً ، إلى مشروع الوحدة الألمانية بقيادة بسمارك ، وليسَ العكس ؛ وإلا لصار متساهلاً به القولَ بأنّ بسمارك ، راعي الوحدة الألمانية ذاتها ، جعل من بروسيا في أواخر القرن التاسع عشر ، " إقليم قاعدة " جرماني ، على غرار ما فعله ، حافظ الأسد ، في أواخر القرن العشرين ، أثناء مشروع الوحدة الرباعي ، العربي .. !؟ ولكن رحماكَ ، أستاذ نزار ، وأنتَ المتفقه بعلوم المادية التاريخية : فهل يصحّ القولَ ، بما ذهبتَ إليه من أنّ زنوبيا كان لديها وعياً " عروبياً " ؛ أنتَ المفترضُ معرفتكَ لحقيقة بديهية ، وهي أن فكرة القومية ، ومشاريعها ، لم تجد سيرورتها على أرض التاريخ العالميّ ، قبل الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر . أما بصدد كتابات زنوبيا " المخطوطة عن تاريخ الشرق " ، بحسب الكاتب ؛ فليته تفضل علينا بالإقتباس ولو بفقرة واحدة منها ، تدعمُ وجهة نظره تلك : فما نعلمه من المصادر التاريخية ، جميعاً ـ وبإستثناء مصادر كتاب السيناريو في المسلسلات التاريخية ، السورية ! ـ هوَ أنّ زنوبيا تنتمي لسلالة من أصل إغريقيّ ، وأنّ صراعها مع روما كان واحداً من بؤر المقاومة التي تأججت في المستعمرات اليونانية ، بمستهل القرن الأول الميلاديّ ، في محاولة منها للإحتفاظ بإستقلالها : ومنها مملكة كوماجين ، على نهر الفرات ، وملكها أنتيوكوس ؛ ومملكة بابل بقيادة ديمتريوس سوتر ؛ ومملكة مصر بقيادة الملكة الشهيرة ، كليوباترا .

في مقالاته الأخيرة ، يصرّ نزار نيوف على " دحض " ما يأخذه الكثير من المعارضين السوريين ، على مسيرة الرئيس الأسد ، السياسية ، بوصفها محصلة لمشروع أقلويّ ، طائفيّ . إنّ كاتبنا يقترحُ ، بهذا المضمار ، مصطلحَ " البونابرتية " ، كتجسيد لشخصية الرئيس الراحل وكذلك كمنهج للنظام الذي إبتناه . وإستكمالاً لذلك الإسقاط التاريخيّ ، المعتمد من الكاتب ، كان من المفهوم إعتباره لصلاح جديد ( سلف الأسد ) ، كتجسيد للقائد " اليعقوبي " ، الثوري ، متجلياً على الأخص في روبسيبيير ؛ آخر زعماء الثورة الفرنسية ، والتي إنتهت عملياً بإرتقاء نابليون بونابرت للعرش كإمبراطور . في مقاله الجديد ، إذاً ، يعودُ السيد نيوف إلى تنظيراته ، المطولة ، سعياً لإثبات ما يذهب إليه عن شخصية الأسد ، البونابرتية . إلا أنه يقفز من هذا المصطلح إلى أخيه ؛ مصطلح " المكيافيلية : " التجلي السياسي العملي للإيديولوجية " اليعقوبية " في المرحلة التي تمهّد لظهور البونابرتية . أي الممارسة السياسية للزعيم اليعقوبي ( من طراز صلاح جديد وأحمد بن بيلا ، مثلاً ) في مجتمع تهيمن عليه الطوائف الحرفية ونمط الإنتاج الحرفي البسيط والطبقات الوسطى التي تشكل أكبر عائق في وجه الراأسمالية وبناء الدول البرجوازية الديمقراطية الحقيقية " . وبغض الطرف عن طيش إسقاط تاريخيّ كهذا ، إلا أنّ ما يثير العجب في الأمر ، هو تجاوز الكاتب لمصطلح " المكيافيلية " ، إلى حد إعتباره كما لو أنه جاء لتطابق حالة سورية الستينات من القرن العشرين إجتماعياً وسياسياً ، مع حالة فلورنسة ؛ الإمارة الإيطالية التي عاش فيها مكيافيلي ، في القرن الرابع عشر الميلادي (؟) . فالمقالة ، تحمّل كتابَ مكيافيلي ، " الأمير " ، الشهير ، عبءَ التعبير عن مصالح تلك الطوائف الحرفية والطبقات الوسطى : " أي قبل أن يحولها صاحبها إلى مقولات سياسية " تعليمية " في كتابه " .

يبدو أنّ شمسَ أنس ِ الإسقاطات التاريخية ، وأنوارمصطلحاتها ، قد أشرقتْ دفعة ً واحدة ، على كاتبنا . فها هوَ قد وصلَ إلى مشروع حافظ الأسد ، السياسيّ ، موصّفاً إياه كما لو أنه محطة أخيرة من محطات " ثورة الثامن من آذار " ؛ الناسخة بإفتراضه لتجربة أمها الرؤوم ؛ الثورة الفرنسية ، بيعقوبييها وبونابرتييها. فالمشروع الإنقلابي للأسد الراحل ، على رأي الأستاذ نيوف : " كان في جوهره ، سواء وعى صاحبه ذلك أم لا ، هو تنفيذ ما عجزت عنه البرجوازية الوطنية التقليدية بسبب ضعفها والصراع ( لا التكامل ) بين أجنحتها الثلاثة : الصناعية والتجارية والزراعية " . هذا التحليل ، بإسقاطاته المعتادة ، سيكون لنا وقفة معه ، في الفقرة الأخيرة من مقالنا . إنّ ما يهمنا هنا ، تحديداً ، هو الإستطراد الحاصل على تلك العبارة ، آنفة الذكر ، حيث جاء فيه بالنسبة لما أسماه الكاتب بـ " الصراع " بين أجنحة البرجوازية ، خلال خمسينات القرن الماضي ، انه عبّر عن نفسه : " بمسلسل الإنقلابات العسكرية المتتالية التي كان كل منها ، في حقيقة الأمر ، ممثلاً أصيلاً لواحدة من تلك البرجوازيات " . هذه المعلومة الأخيرة المقدّمة ـ كدأب " مؤرخنا " في جميع مقالاته ـ بلا أيّ سندٍ تاريخيّ ، تفتقرُ للمنطق السليم ، فما بالكَ بالمصداقية : فما هيَ هذه البرجوازية السورية ، الطائرة بثلاثة أجنحة ، ما دامت البلاد في عشية الإنقلاب العسكري ، الأول ، عام 1949 ، كانت خارجة للتو من تحت ربقة الإنتداب الفرنسيّ ، الذي جعل منها ـ كأيّ مستعمرة من مستعمراته ـ مجرد سوق إستهلاكية لمنتجاته ؟؟ هذا على صعيد " الجناح الصناعي " . أما بالنسبة لأخيه ، الزراعي ؛ فهل تناسى السيد كاتب المقالة ما أتحفنا به آنفاً عن : " الإقطاع الذي صفيَ بشكل شبه نهائي في ظل الإحتلال الفرنسي " ؟؟ ثمّ ما هذه البرجوازية التجارية ، التي كانت من القوة بحيث وجدَ لها تيارٌ ، متجانس ، من الضباط المنافحين عن مصالحها ـ بحسب معلومات كاتبنا ـ إذا كان هوَ نفسه قد أخبرنا ، وقبيل هنيهةٍ حسب ، أن سورية حتى إلى منتصف ستينات القرن الماضي ، كانت من التخلف بحيث أنّ نمط الإنتاج فيها القائم على الحِرف البسيطة ، شكّل : " أكبر عائق في وجه الرأسمالية وبناء الدولة البرجوازية الديمقراطية الحقيقية " ؟؟

في الإختلاقات أيضاً :

أعلمنا الكاتب ، في مقالته العتيدة ، عن مكانة حافظ الأسد تحت الشمس ؛ بما أنه لم يجدَ أيّ حرج ٍ ، لا إيديولوجيّ ولا سياسيّ ، في وضعه ضمن مراتب العظماء المشكلين تاريخ سورية عبرَ عصورها كلها . إنه ينتقل مرتبة ً فمرتبة من زنوبيا التدمرية " العروبية " إلى معاوية بن أبي سفيان ، لينتهي عند العرش البعثي وعاهله المعظم : " لم يحط بأي زعيم عربي في التاريخ المعاصر ، بما فيهم عبد الناصر نفسه ، قدْر من " الإلتباس " أكثر مما أحاط حافظ الأسد وشخصيته و " مشروعه السياسي " . وهو ينحو بالمسؤولية في ذلك الإلتباس ، على من يسميهم : " مجموعة من الصحفيين و " المستشرقين السياسيين " المنتمين لمدرسة في التفكير السياسي لم تعمل إلا على إعادة إنتاج إطروحة بليخانوف عن " دور الفرد " ولكن بطريقة مبتذلة جوهرها مقولة " الشخصية الكاريزمية " . للحقيقة / وللمهزلة أيضاً ! ، فلم يروّج لهذه المقولة الأخيرة ، سوى نزار نيوف نفسه ؛ بإسقاطه شخصية زنوبيا " الكاريزمية " على شخصية بونابرتنا العربيّ . وإذ يستطرد كاتبنا في إختلاقات مخيلته ، مقحماً كيسنجر في تلك المعمعة التاريخية ، فلكي يحط قارئه عند شط الأمان : وهوَ أنّ حافظ الأسد ، ما غيره ، كان مستهدفاً من قبل الأمريكان ، المتنطحين لتشويه شخصيته عبر " أدواتهم " من الصحفيين والمستشرقين السياسيين ؛ هؤلاء الذين لم تتأخر المقالة عن تسمية بعضهم ؛ كالصحفي باتريك سيل والباحث نيكولاس فاندام . وإذ يحيط الكاتبُ إسمَ الأول بالنقد الشفاف ، ( ألكونه صاحب كتاب " حافظ الأسد والصراع على الشرق الأوسط " ، السيرة السياسية المتهمة بتمجيد الطاغية ؟ ) ؛ فإنه يصبّ على الثاني جامَ غيظه قائلاً أنّ مؤلفه : " الصراع على السلطة في سورية " ، هو على درجة كبيرة من التفاهة بالمقاييس العلمية " .

في مطيّة القول السابق ، يمرر كاتبنا عدة إسقاطات تاريخية على شخصية الأسد ؛ فعلاوة على زنوبيا ، ثمة بونابرت وبسمارك . وهذا الأخير ، يُحيله لكتاب آخرين ( وخاصة الصحفي باتريك سيل ) ، القائلين بأن الأسد : " نسخة عربية من بسمارك ، لا لشيء إلا بسبب ما لاحظوه من نزوعه الوحدوي العربي ". والمقالة إذ تزعم " دحض " هذا القول ، فلكي ترسخه في واقع الحال وعبر إسقاطٍ أكثر إعتباطية ؛ وهوَ أنّ طاغوت سورية ، البائد ، كانَ " بونابرت " العرب ؛ بفرض أنّ سلفه ، الإنقلابي الآخر ، صلاح جديد ، مثّل نوعاً من " روبسبيير " ، واصفاً إياه مراراً وتكراراً بـ " اليعقوبي " : ها هنا ، إذاً ، رمزا الثورة الفرنسية ، الأكثر شهرة ؛ وعلى هذا ، فإنّ إنقلاب الثامن من آذار لعام 1963 ، الحامل الجونتا البعثية إلى السلطة المؤبدة في سورية ، ما كان إلا " ثورة برجوازية ديمقراطية حقيقية " ، بحسب تصنيف المقالة لمشروع الأسد ؛ المتمثل بتنفيذ ما عجزت البرجوازية الوطنية التقليدية عن صنعه بسبب ضعفها والصراع بين أجنحتها .. الخ ، مما سبق لنا ونقلناه من تنظيرات الكاتب . يتناسى نزار نيوف ربما ، أنه سبق له وجعل لكل من تلك الأجنحة ، الثلاثة ، من البرجوازية الوطنية ، الصناعية والتجارية والزراعية ، ممثلاً في المؤسسة العسكرية السورية : فهلا يتكرم علينا ، والحالة هكذا ، بتسمية الجناح المنتمي إليه النقيب حافظ الأسد ؛ هذا الذي ترفعَ إلى لواء ثم فريق عبر ترقياتٍ ، صاروخية ، بعيد " الثورة المجيدة " ؟؟ الواقع أنّ كاتبنا ، العارف جيداً للجهة الذاهب إليها سؤالنا ، لن يستطيعَ جواباً إلا خلط الوقائع بعضها ببعض ، محيلاً تارة ً إلى العامل الخارجيّ في نجاح حركة الأسد الإنقلابية ( تأييدها من لدن موسكو وواشنطن ، معاً ) ، وتارة ً اخرى ، إلى حصولها على دعم القوى المنتجة ، المختلفة ، في المجتمع أملاً بالخلاص من إجراءات صلاح جديد ، الراديكالية . قد يكون كلا العاملان ، المذكوران ، قد أسهما في الإطاحة بجماعة جديد ؛ إلا أنّ العامل الحاسم ، على رأينا ، ما كان سوى حقيقة " المشروع السياسي " للأسد ؛ الطائفيّ ، البحت ، الذي كانت كتلة المدنيين في الحزب ، أكبر عائق للمضي به إلى النهاية . لن يقلل شيئاً من صحة هذا الواقع ، المحاججة بأنّ صلاح جديد كان أيضاً منتمياً للـ " طائفة المختارة " نفسها : أليس رفعت الأسد ، هو في آخر الأمر الشقيقُ اللدود للديكتاتور السابق وعمّ وريثه الحالي .. ؟

هرباً من ذلك الواقع الفاقع ، الموصوف ، تحاول مقالة نزار نيوف تعميم " الحالة الطائفية السورية " عربياً ، ومن ثم تبريرها بالزعم أنّ : " ممارسات السلطة ، المذهبية ، تندرج فيما أسميته بـ " الممارسة الطائفية لأسباب غير طائفية " . شيء حسنٌ . إنّ مقصد القول هنا ، يذكرنا بمبررات منظري الإبادة الجماعية في عراق البعث ؛ الذين كانوا يطلبون من الأكراد " تفهم " إصرار السلطة الصدامية على سياسة إزالة المدن والقرى الكردية المحاذية للحدود الإيرانية ، لأن ذلك له أسباب إستراتيجية وليس عنصرية (!) الأدهى ، أنّ المقالة في خضم ذلك التبرير الواهي ، المثير للسخرية ، تسترسلُ القول في الحالة الطائفية السورية : " الواقع أن أي دراسة نقدية مقارنة للأنظمة الشمولية ستجعلنا وجهاً لوجه أمام هذه الحالة : بونابرت أعاد السلطة للكنيسة ومارس ممارسات تمييزية ضد الأقليات الدينية الاخرى " . لا يسعنا هنا إلا القول ، مهلاً أيها المنظر الماركسي ! والحق ، فلا ندري من أيّ مصدر جاء الرجلُ بهذا التأكيد العجيب ، الذي يقحم بونابرت في الأنظمة الشمولية ؟ كما أن إقحامه للأنظمة العربية في الأردن والسعودية ومصر ، ضمن الخانة نفسها ، فيه ما فيه من الجهل وسوء الطوية ، على حدّ سواء . وحتى لو إفترضنا حسن النية ، لدى كاتبنا ، فمن حقنا تذكيره بحقيقةٍ بديهية يتغاضى بإصرار عنها : وهي أن إنتماءَ المرء " عضوياً " لطائفةٍ ما ، أو أثنية ما ، لا يعني مسؤوليته عما يرتكب بإسمها من تجاوزات . وعلى هذا ، فإنتماء الكاتب بنفسه للطائفة العلوية ، لا يجب أن يجعله بهذه الحدة في مسألة التعاطي بالحالة الطائفية السورية ؛ هوَ العلماني ولا شك ، فضلاً عن قناعاته اليسارية الماركسية وما دفعه من ثمن قرباناً لكل ذلك .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الزرقاوي ، وسوداويّة الإسلام السياسي
- الوجهُ الجميل لنظام ٍ قبيح
- المثقفُ مستبداً
- الدين والفن
- بين إيكو وبركات 3 / 3
- فلتسلُ أبداً أوغاريت
- بين إيكو وبركات 2 / 3
- بين إيكو وبركات 1 / 3
- منتخبات شعرية
- الماضي والحاضر
- الوحدة والتعدد في اللوحة الدمشقية
- مأثورات دمشقية في مآثر كردية
- سرّ كافافيس 2 / 2
- سرّ كافافيس 1 / 2
- الدين والوطن ، في ورقة إخوانيّة
- طغم وعمائم
- علوَنة سوريّة : آثارُ 8 آذار
- بلقنة سورية : جذور 8 آذار
- نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 2 / 2
- نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 1 / 2


المزيد.....




- نقل الغنائم العسكرية الغربية إلى موسكو لإظهارها أثناء المعرض ...
- أمنستي: إسرائيل تنتهك القانون الدولي
- الضفة الغربية.. مزيد من القتل والاقتحام
- غالانت يتحدث عن نجاحات -مثيرة- للجيش الإسرائيلي في مواجهة حز ...
- -حزب الله- يعلن تنفيذ 5 عمليات نوعية ضد الجيش الإسرائيلي
- قطاع غزة.. مئات الجثث تحت الأنقاض
- ألاسكا.. طيار يبلغ عن حريق على متن طائرة كانت تحمل وقودا قب ...
- حزب الله: قصفنا مواقع بالمنطقة الحدودية
- إعلام كرواتي: يجب على أوكرانيا أن تستعد للأسوأ
- سوريا.. مرسوم بإحداث وزارة إعلام جديدة


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - دلور ميقري - من البونابرت العربيّ إلى الطاغوت الطائفيّ