أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - بين إيكو وبركات 2 / 3















المزيد.....

بين إيكو وبركات 2 / 3


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1548 - 2006 / 5 / 12 - 06:10
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


" عبورُ البشروش " عبْرَ فضاءاتِ " إسم الوَردة "


تأسيس وإلتباس :

نوهنا فيما مضى ، بأن امبرتو إيكو أدخل قارئه إلى مكان وزمن رواية " إسم الوردة " ، التاريخييْن ، منذ مستهلها وبإشارته تحديداً إلى حكاية العثور على " مخطوط إدسو " ؛ هذا المخطوط ، المختلق بطبيعة الحال ، والمفترض تقصيه ما جرى من أمور غريبة ، غامضة ، في دير للأخوة الفرنسيسكان ؛ يُدعى " مالك " ، في شبه الجزيرة الإيطالية ، وفي حدود منتصف القرن الرابع عشر الميلادي (1). على المنوال ذاته ، قدّم لنا المؤلف الشخصيتيْن الرئيستيْن في عمله ؛ وهما الراهب الفتى " إدسو " ومعلمه المسن ، المخضرم ، " غوليامو " ، إنطلاقاً من رحلة ، مشتركة ، جمعتهما في الطريق إلى ذلك الدير . الرواية / بزعم أنها مخطوط ، مكتوبة بضمير المتكلم : بلسان إدسو ، الذي يروي ما شهده شاباً من غرائب ومغامض ذلك الدير . إلا أنّ " بطل " تلك الحوادث ، ما كان سوى غوليامو ؛ هذا الرجل المكتهل ذو الأصل البريطاني ، الغزير المعرفة والوفير التجارب ، ومن سيكون منذ لحظة تعرفه بالراهب الفتى ، خيرَ معلم له : " سأذكرُ فعلاً أنّ ذلك الرجل الغريب ، كان يحمل معه في جرابه آلات لم أرها قط من قبل ، وكان يعرّف على أنها آلاته العجيبة " ( إسم الوردة : الصفحة 35 ) . لقد سبق لنا ، عند التطرق لموضوع المخطوط القديم ، أن إعتبرناه شكلاً من " الحيل الفنية " للروائي ، يستطيع عبره ولوج الزمن التاريخيّ ، المطلوب . موضوع الرحلة ، أيضاً ، نعتبره كشكل آخر من خيارات الكاتب ، الفنية . هذا الشكل ، رأى النقد الحديث أنه الأكثر ملاءمة لـ " رواية المغامرة " ، وبوصفها : " عذراً مفضلاً للمضمون ، وهي تدخل ضمن ظروف التقنية الفنية " ، بحسب تعبير " تودوروف ". (2)

سليم بركات في روايته هذه ، " عبور البشروش " ، إتبع سبيلاً اخر بخصوص بيئة الرواية (3). فأبطاله هنا ، يتحركون في زمن راهن ٍ ، ومكان مألوفٍ له شخصياً ؛ أيْ قبرص ، التي قضى فيها شطر غربته الأوفر . إلا أنّ المكان نفسه ، كان يتحرك تحت أقدام أشخاص الرواية ، تبعاً لإسراءات النص عبرَ أزمان ماضية ، مختلفة . إنّ الراوي _ غير المنعوت إلا بصفته كـ " مهندس معماريّ " _ يقص علينا الأحداث بضمير المتكلم . منذ الصفحات الأولى لقصته ، يُعطينا إشارات مبهمة عن شخص بلا رسم ولا كيان مسمياً إياه بـ " الغريب " . هذا الشخص ، يتماهى بشكل أو بآخر مع شاب سيلتقي به الراوي للتو ؛ وهو" جانو " ، الذي يعمل معه في نفس المشروع . فيما بعد سترسمُ صديقتهما البريطانية ، " جين " ، ذلك الغريب على شكل ٍ : " فيه المزيج المُرهق من ملامحي وملامح جانو " ( عبور البشروش ، الصفحة 191 ) . وفضلاً عن زمالة الراوي لجانو هذا ، فإنّ قاسماً آخر كان مشتركاً بينهما : الإنتماء القومي . ها نحن ، إذاً ، أمام شخصية تذكرنا بالمعلم غوليامو في " إسم الوردة " ؛ وبصفة كونه " الرجل الغريب " . ثمة إشارة في النص ، أوحى بها الراوي ، تربط ُ إختياره لمهنة الهندسة المعمارية بعثوره وهو فتىً على ( مخطوط قديم ) في شؤون العمارة ، حملَ هذا العنوان الغريب " التأسيس الكبير " ؛ لمؤلف يُدعى " المارديني " . خيار المهنة ، إذاً ، سيوصل الراوي إلى الإتحاد السوفييتي ، السابق ، ليدرس في معاهد عاصمته العتيدة الهندسة المعمارية ، حيث يلتقي هناك بشاعر كرديّ ، إسمه " ميلان " ؛ ثم ما عتم أن عثر ثانية عليه في مجاهل السرد ، الراهنة ، ( في المكان القبرصيّ ) بصفته غير المرئية ، المُتقمصة . علاوة على أنّ عمل الراوي في ذلك الإختصاص الهندسيّ ، سهل له الإلتقاء بصديق آخر ، لا يقل إلتباساً في طبيعته البشرية _ أيْ : جانو _ سيشاركه مقدورَ الغربة وتفاصيلَ أقدار اخرى ، منطلسة ومعمية . بين هذين الحدثيْن رحلة ٌ تحتمَ على كلا بطليْنا القيام بها : تمثلتْ بالعثور على مأوى لكل منهما ، وبوصفهما لاجئيْن كردييْن ، سياسييْن ؟ ، في حِمى الجزيرة القبرصية .

سبق لنا في مجتزأ هذه المقالة ، الأول ، أنْ أشرنا إلى حقيقة تسلسل جرائم " إسم الوردة " مع أيام الإسبوع بدءاً من بدايته كنسياً : الأحد ؛ الجريمة رقم واحد .. ، الإثنين ؛ الجريمة رقم إثنين .. الخ . من جهة اخرى ، فلم يكن زمن الأحداث إلا تلك الأيام السبعة نفسها وفي رواية كبرى ، تتجاوز صفحاتها الستمائة ومحتبية بين طياتها سجل حافل ، هائل ، من تواريخ وفلسفات وأفكار ورؤى . في رواية تسرسلُ بقول الماضي الغابر كمرجع لزمننا الراهن ، وبناءً على ما سلف من إستدلال ، قام مؤلفها بتبويب فصول روايته ، ( السبعة ) . إنّ فهرستَ الرواية ، المُلحِقُ كل من تلك الفصول بعناوين رئيسة ، متضمنة عناوينَ اخرى ، فرعية ، مع خلاصات لما يَستجدّ من جرائم وذيول لها ؛ هكذا فهرست ، ما كان له إلا أن ُيذكرنا بمثيله في الكتب الفلسفية والفكرية ، الرصينة . كان من المفهوم ، بناء على ما سلف ، إهتمام كاتبنا الإيطالي في نصه هذا ، بالشيفرات الثقافية . ذلك الأمر ، يُحيل إلى مهنة امبرتو إيكو ، الأساسية ، كباحثٍ أكاديميّ ، والتي إستفاد منها بتوجيهه قاريء روايته إلى الدلالات المركونة خلف معانيها ؛ والتي سبق له أن أوضحها _ كأكاديميّ _ في إحدى أهم مؤلفاته النظرية ، " دور القاريء " (4) . من ناحية اخرى ، فإسلوب " إسم الوردة " ُيذكر المرءَ بالقصص البوليسية ؛ بتواتر فصولها مع الجريمة / الجرائم المُرتكبة وفق سياق الحكي السردي وكما نلاحظه ، على سبيل المثال ، في روايات الكاتبة أجاثا كريستي . لا يُنكر كاتبنا هذه الحقيقة ، بل يؤكد عليها في إحدى حواراته ، راوياً ما لاحظه المشرف على إطروحته الجامعية _ وكانت بعنوان " توما الأكويني " ، والتي قدمها في صباه _ من أنه كتبها كما لو أنه يروي قصة بوليسية (5) . بيد أنّ رواية إيكو هذه ، كانت بطبيعة الحال أبعد بكثير من مجرد كونها " قصة بوليسية " . خاصة ً ما نعلمه من إستناد هذه الأخيرة ، أساساً ، على شخصية المحقق / البطل . فمحقق " إسم الوردة " ، كان دوره ثانوياً جداً ولم يظهر على كل حال في السرد ، إلا على أطراف خاتمته . كان مما له مغزاه حقاً ، أن " يوكلَ " المؤلفُ مهمة التحقيق ( الحقيقية ) بشخص آخر ؛ هو المعلم غوليامو نفسه . فهذا الرجلُ ، بصفاته النادرة كعالم مجربٍ ومقتدر ، كان مُقدراً له _ وفق خطة إيكو ، الذكية ، الصائبة _ أن يقود تلميذنا الشاب ، ادسو ( ومن خلاله ، قاريء الرواية ، لم لا ؟ ) ، مرتبة ً فمرتبة خلال درجات المعرفة الكونية ، المستحيلة الكليّة . هاهو المعلم يشرح لتلميذه دلالات عمارة الدير ونقوشه وزخارفه : " ومن لا يرى روعة إنسجام كل هذه الأرقام المقدسة التي يكشف كل منها معنىً روحياً في غاية من الدقة ! ثمانية هو رقم كمال كلّ مربع ؛ أربعة هو عدد الأناجيل ؛ خمسة عدد جهات العالم ؛ وسبعة عدد هبات الروح القدس " ( ص 40 ) .

بخصوص المطابقات السالفة الذكر ؛ فيما يتعلق بالأعداد ودلالاتها ، يمكن لنا أن ندرجَ " عبور البشروش " على مدارج التصنيف نفسه ، المفترض . بدءاً يجب التشديد على مسألة الفهارس والعناوين ، في روايات بركات بشكل عام ، والمشتركة فيما بينها بسمة الغرابة المستوفية شروط المتن ؛ هذا المتن بلغته البليغة ، الصعبة ، الغنية بإستعاراتها وكناياتها وإيحاءاتها . هنا أيضاً ، نجتاسُ فرضاً فصول الرواية ، ( الأربعة ) ، في إحالة لإشاراتٍ عن تلك الأعداد . ففي سياق السرد ، يظهرُ دوماً أربعة أشخاص ذوو ملامح متشابهة ، كأنهم صورٌ لشخص واحد : زيهم أخضر ، شعورهم رمادية طويلة ، على أعينهم اليمنى عصابات جلدية مع أنها سليمة ، حناجرهم مثقوبة .. ( ص 55 ) . سنتدارك لاحقاً ما يحمّله الكاتب لأولئك الأشخاص وأشباههم من إحالة لرموز معينة ، دينية كانت أم اسطورية . فما يهمنا الآن هو التأكيد مجدداً ، ومن خلال شواهد النص ، على أنّ هذا الرقم / 4 ، المُلغز ، له إستدلال متوافق مع عدد فصول " عبور البشروش " ، الأربعة . في موضع آخر من هذه الرواية ، نقرأ ما يُشبه " تكراراً " لتشبيهات المعلم غوليامو ، سالفة الذكر ، المُقيلة ما أسماهُ الأرقامَ المقدسة ومعانيها الروحية : " أوراق رسمية ممهورة بختم اهليلجي يمثل مجازات الكون الأربعة : الفراغ ، السكون ، السديم والثقل " ( ص 115 ) . كذلك يُصادفنا هذا الرقم نفسه ، في أحد إستعارات الكتاب والتي تتضمنها صورة خروف كان يخص إمراة ، إسمها " وطفة " ؛ بصفته كضحية لإحدى غارات الطائرات العراقية على قرى الأكراد ؛ وبإيحاء ترميزه للسيد المسيح وكذلك للراوي وسلالته الذين : " بقوائم لا تحصى ، أعلنوا القطيعة مع الخلود ، ليعفوا أنفسهم من مجازات الإنسان الغارق في البحث عن حضوره الثاني " ( ص 240 ) . إستناداً لهذه الإستعارة ، فإنّ تركيز الكاتب على قوائم الخروف التي " لا تحصى " _ وهي أربعة ، على كل حال _ يُجيز لنا أنْ نحيله إلى أرض الكرد ، المقسمة سياسياً إلى أربع كيانات ، تابعة . أما بالنسبة لزمن الرواية ، فثمة أكثر من إشارة فيها عن إمتداده على رقعة العقد من الأعوام ، بدءاً بحلول الراوي في مهجره ؛ جزيرة قبرص . فهو في حديثه عن الجريمة ، يؤكد أنه لا يستطيع تقديم برهان على حصولها : " لا رائحة للجثة بعد تسع سنين " ( ص 34 ) . بيد أنّ تلك الفترة الزمنية ، المذكورة ، إنما هي إسترجاعٌ من لدن الراوي لكل ما حصل معه ، مذ وطئت قدماه أرض الجزيرة القبرصية. فيما أنّ أسبوعاً واحداً حسب ، حاسماً ، كان مقدراً له تأطيرَ زمن " عبور البشروش " ، الحقيقي ؛ وهو الأسبوع الذي سبق إنهيار " المتحف " : أهو تقاطع آخر لنص بركات مع نص إيكو / القرين بزعمنا ، أم الأمر محض إتفاق ؟

قلنا أنّ جغرافيّة " إسم الوردة " ، كانت ضمن حدود دير لفرقة الفرنسيسكان ، القائم في مكان ما من شبه الجزيرة الإيطالية . هذا الدير ، كان يتشامخ بكتلته الصخرية الهائلة وسط خلاء مريع ؛ اللهم إلا من وجودٍ قريب لقرية نائية ، يقتات جياعها من بقايا أطعمة مطبخه العامر . كأني بهذا الدير العظيم صورة مصغرة عن العالم . ها هنا العمائرُ والمواضع المختلفة الإستعمال ( وعددها يُحيلنا ، كمدلول ربما ، إلى فصول الكتاب السبعة ) ، تومي لمناحي الحياة كافة : فالكنيسة ُ ، إيمانٌ وطقوس ؛ المكتبة ، معرفة ٌ وفنون ؛ المختبرُ ، علومٌ وإكتشافات وإختراعات ؛ المبقلة ، نشاط ٌ إقتصادي وإنتاج ؛ المطبخ ، حاجاتُ الجسد ؛ المقبرة ، مستقرٌ أخير للأجساد الفانية ؛ المَعْظمة ، خلودٌ مقنن . هي ذي ، مجدداً ، " سباعيّة " اخرى ، ترمّزُ بتقديرنا لأيام الخلق السبعة ؛ إنسجاماً مع إتجاهات هذه الرواية الفكرية والفلسفية . ومما له معناه ، أيضاً ، أن تكون كنوز الدنيا الغريبة العجيبة ، محفوظة في خزائن اولئك الرهبان المعزولين في تلك البقعة القصية ؛ وخاصة ً الأشياء النادرة ، المقدسة ، العائدة لزمن الرسالات السماوية ، من وقت الطوفان إلى خاتمة الأنبياء : " لو كان الديرُ مرآة للعالم لوجدتَ الجواب .. كي تكون للعالم مرآة يجب أن يكون للعالم شكل " ( ص 142 ) . لا غرو ، إذاً ، أن يختار إيكو لأبطال عمله هكذا مكان منعزل ومتوحد ، كيما يستنفضوه عن كثب تأثراً لخطى القاتل من جهة ، وتوقاً وراء حقيقة العالم من جهة اخرى . ومما يدعو للحيرة ، حقاً ، أن يتواشج فعل الجريمة ، في روايتنا هذه ، مع فعل المعرفة . إلا أنّ حيرتنا ستتبدد لجهة ما أكد عليه النقد الجديد _ بإتجاهه البنيويّ خصوصاً _ من إرتباط فكرة الجريمة أدبياً بما دعاه " باختين " ، في أبحاثه القيمة عن دستويفسكي ، بـ " رواية المغامرة " ؛ حيث تصبح الفكرة فيها برأي الباحث : " الكشف الأكثر عمقاً في حماسة الشخصية في الحياة " (6) . وعلى هذا ، كان على قاريء العمل حبس أنفاسه مع كل خطوة من سَيْر ( التحقيق ) الموكل للمعلم غوليامو بطلب من رئيس الدير . فهذه الجرائم الغامضة ، التي هزت طمأنينة وسلام وهدوء الدير _ بشكلها الظاهر على الأقل _ ما كانت سوى صورة مصغرة ( مرآة ؟ ) لصراعات اخرى ، محتدمة في كل مكان خارج أسواره ؛ صراعات مذهبية ، دموية ، قسّمتْ أوروبا إلى شيَع وفِرق متخاصمة ، يؤججُ نارَها منازعاتُ المُلك بين السلطة الدينية للبابا والسلطة الزمنية للأباطرة .

المكان في " عبور البشروش " ، مثلما أشرنا من قبل ، غير ثابت فيها ؛ اللهمّ إلا ما كان في صورته العريضة كمستقر راهن للشخصيات الرئيسة . وإذا نحينا جانباً تلك الإحالات الزمنية ، المتنوّعة ، إلى أمكنة اخرى على الوتيرة ذاتها من التنوّع ؛ فجغرافية هذه الرواية محصورة ضمن حدود " نيقوسيا " ، عاصمة الجزيرة القبرصية . رحلة الأبطال ، إذاً ، رستْ أخيراً في هذا المكان . بيْدَ أنّ مغامرة هؤلاء ، كانت قد إستهلتْ منذئذٍ في الواقع ( وفي الفانتاسيا ، أيضاً ، بشكل خاص ) ، رامية ً حيواتهم إلى مصائر غامضة ، مجهولة . ثمة أمكنة ثابتة ، أربع ، في روايتنا وهي : المسكن ، أينَ يقيم الراوي ؛ المتحف ، حيثُ يعمل ؛ المطعم ، مجمع الرفقة والغرباء ؛ والقبة ، بناء للتأمل المجرد . فإذا كانت أمكنة " إسم الوردة " ، السبع ، من واردات رمزيتها المفصحة عن عقيدة الخلق بأيامه السبعة ، كما سلف وقلنا ؛ فنحن هنا ، في " عبور البشروش " ، كما لو أننا أمام ما أسماه الراوي " مجازات الكون الأربعة " تماهياً مع التصوّرات الفلكيّة / المعمارية ، التي تبوح بها صفحات الرواية جميعاً : " فتهشمت المجرات السبعة الحصينة ، وتبادلت البروج المتناظرة في مستعمرة أيلول شهواتها الدائرية " ( ص 89 ) . إلا أنّ رواية بركات " تستعير " أحياناً دلالات الأمكنة من رواية إيكو ؛ كما في رمز المطبخ ( = المطعم ) ، إضافة لرمز المَعْظمَة التي نرى دلالة عليها في : " حدائق العظام ، التي يتحدث عنها جانو ، كما لو كانت أمامه " ( ص 118 ) .مسألة الزمن هنا ، والمتحدد بأسبوع واحد سبق إنهيار المتحف ؛ لا يعدُ عن كونه إلتباساً آخر في رواية بركات . فإذ رمّز إيكو أيام روايته ، السبعة ، وفقاً لعقيدة الخلق والتكوين ، فإنه ربما غالى في عبث رمزيته المتعلقة بالمدة الزمنية نفسها . كذلك الأمر مع بركات ، الممهل أبطاله أسبوعاً يتحركون خلاله قبيْل تداعي عمارتهم المرجوة ( المتحف ) . هذه الرمزية هنا وهناك ، تتطلب وقفة متأنية نوعاً . قلنا أنّ الدير في " إسم الوردة " هو ، بمعنى ما ، صورة للعالم . فإنهياره الناجم عن حريق متعمّد ، نشب في المكتبة ، كان من المفترض أن يستدعي إستدلالاً بيّناً عن يوم القيامة . غير أنّ حقيقة نجاة الراوي ومعلمه من بين النيران ، مع العديد من الكتب المخطوطة ، النادرة ، ما كان له إلا أنْ يُبشر بسِفر آخر ، جديد ، لخلق الإنسان وتكوين العالم . فلا غرو أن يقول غوليامو أنّ الدير هو " عالم مصغر " ( ص 219 ) . علاوة على إشارة اخرى لغوليامو ، بمناسبة شرحه نظام الإشارات لتلميذه ادسو : " وأنا أعلمك أن تقرأ الدلالات التي يكلمنا بها العالم ، وكأنه كتاب مفتوح " ( ص 41 ) . إذا كان العالم " كتاباً مفتوحاً " ، وفق ما سلف ، ألا يعني ذلك أنّ إحتراق ( الكتاب ) المنشود الذي يُنسب لأرسطو ، ضمن المكتبة التي أتت عليها النيران ، ربما يكون صورة مجازية عن القيامة ؟ إذا جاز لنا تطبيق التصور نفسه ، مع ما يمكن إستدراكه من دلالات " عبور البشروش " ، في مسألة رمزية المكان تحديداً ؛ سنرى ان تقاطع هذه الرواية الأخيرة مع سلفتها ، متحققٌ هنا أيضاً . لابدّ قبل كل شيء ، من إعادة صوغ الأبعاد الأربعة لرواية بركات ؛ بما هي أمكنة / إشارات : المسكنُ ، عالمُ الموجود ؛ المطعم ، عالمُ العبث ؛ المتحفُ ؛ عالمُ المعرفة ؛ والقبة عالمٌ بديل . إنّ الجريمة ، بوصفها واقعاً يتعايش معه الراوي مذ الأسطر الأولى لحكايته ، قد أرتكبتْ في قبو المسكن الذي يعيش فيه . والمطعم ، يتجلى عبثه في جلسات الراوي مع صديقه جانو ، وكذلك مع فتاة بريطانية إسمها " جين " . وهذه الفتاة ، بحرية علاقاتها مع شخصيات السرد ، ربما تذكرنا بقرينتها ؛ فتاة " إسم الوردة " ، وعلاقاتها الجسدية مع أشخاص متعددين ؛ ولو أنها مُجبرة هنا ، بحكم الجوع ( = المطبخ ، كمكان لتلك العلاقات السرية / وكرمز لحاجة الجسد ) . وعلى كل حال ، شاءَ بركات أن تكون " فتاته " إمرأة مثقفة ، ورسامة ، شغلتْ الجلسات المتسمة بالجدل والمعميات ( = المطعم ، كمكان ورمز ) . علاوة على واقع إختراق تلك الجلسات ، من قبل أشخاص غير واقعيين وبالرغم من مرئيتهم وأشكالهم البشرية . ربما يُضافر رؤيتنا لرمز المطعم ، ما نعرفه عن وقوعه بمواجهة ذلك البناء الذي يُدعى " القبة " ؛ البناء الغريب ، الغامض ، المتناهض في عمارته جنباً إلى جنب مع التداعي المتواتر ، البطيء ، للمتحف : وذلك ما عنيناه من كون هذا الأخير كعالم / مدخر للمعرفة ، وأنّ إنهياره المتوافق مع إكتمال القبة كان ترميزاً من لدن الكاتب لقيامةٍ ما . إفتراضنا هذا ، يعززه تشبيه الراوي لذلك المتحف بشكل السفينة : " تخترقه الأنفاق على شكل متاهة " ( ص 94 ) . إحالة كاتبنا بركات إلى رمز الطوفان ، المتمثل في ( السفينة ) ، نرتادها أيضاً في روايات اخرى له ( " معسكرات الأبد " ، كمثال ) : وهو هنا ، في " عبور البشروش " ، ربما يريد القول بأنّ إنهيار المتحف / سفينة نوح ، إنما هو نذيرُ قيامةٍ أكثرَ منه أملاً بالخلاص ؟

هوامش ومصادر :

1 _ امبرتو إيكو ، إسم الوردة _ الطبعة العربية في تونس 1992
2 _ جان إيف تادييه ، النقد الأدبي في القرن العشرين _ الطبعة العربية في حلب 1993 ، ص 33
3 _ سليم بركات ، الفلكيون في ثلثاء الموت : عبور البشروش _ بيروت 1994
4 _ امبرتو إيكو ، عملية القراءة وبنية الشيفرة : من كتاب " المعنى الأدبي " لوليم راي _ الطبعة العربية في بغداد 1987 ، ص 140
5 _ جمانة حداد ، حوار مع امبرتو إيكو _ ملحق " النهار " الثقافي ، ليوم 18 كانون الثاني 2004
6 _ ميخائيل باختين ، شعرية دستويفسكي _ الطبعة العربية في بغداد 1986 ، ص 18



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين إيكو وبركات 1 / 3
- منتخبات شعرية
- الماضي والحاضر
- الوحدة والتعدد في اللوحة الدمشقية
- مأثورات دمشقية في مآثر كردية
- سرّ كافافيس 2 / 2
- سرّ كافافيس 1 / 2
- الدين والوطن ، في ورقة إخوانيّة
- طغم وعمائم
- علوَنة سوريّة : آثارُ 8 آذار
- بلقنة سورية : جذور 8 آذار
- نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 2 / 2
- نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 1 / 2
- مذاهب متشاحنة ؛ السنّة والعلويون والآخرون
- أثنيات متناحرة ؛ الكرد والسريان ، مثالاً
- الوثنيّة الإسلاميّة
- الموساد ، من كردستان إلى لبنان
- التعددية ، في وصفة بعثية
- عيدُ الحبّ البيروتي
- عبثُ الحوار مع البعث ، تاريخاً وراهناً


المزيد.....




- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...
- دراسة ضخمة: جينات القوة قد تحمي من الأمراض والموت المبكر
- جمعية مغربية تصدر بيانا غاضبا عن -جريمة شنيعة ارتكبت بحق حما ...
- حماس: الجانب الأمريكي منحاز لإسرائيل وغير جاد في الضغط على ن ...
- بوليانسكي: الولايات المتحدة بدت مثيرة للشفقة خلال تبريرها اس ...
- تونس.. رفض الإفراج عن قيادية بـ-الحزب الدستوري الحر- (صورة) ...
- روسيا ضمن المراكز الثلاثة الأولى عالميا في احتياطي الليثيوم ...
- كاسبرسكي تطور برنامج -المناعة السبرانية-
- بايدن: دافعنا عن إسرائيل وأحبطنا الهجوم الإيراني


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - بين إيكو وبركات 2 / 3