أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - بين إيكو وبركات 1 / 3















المزيد.....


بين إيكو وبركات 1 / 3


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1543 - 2006 / 5 / 7 - 11:53
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


" عبورُ البشروش " عبْرَ فضاءاتِ " إسم الوَردة "
(1 / 3)
قراءة ومقاربة :

النص الروائي ، المعاصر ، بما أنه نوعٌ " طاريء " على الأدب ، يُفارق سلفه القديم ، الكلاسيكي ، عند نقطة مفصلية ؛ وهي إنفتاحه على القراءات المتعددة . هذه القابلية ، وبوصفها كذلك ، كان لا بد لها أن تنسحب أيضاً على تلك الآثار الكلاسيكية ، الخالدة ، الدائمة الجدّة ، ومن منطلق لعبة الزمن تحديداً : فكل ما نخطه ، الآن هنا ، في عصر ما بعد الحداثة هذا ، سيصطف في القرون التالية ، هناك ؛ على أرفف المكتبات وبين المجلدات الأثرية ، المغبرّة الحائلة اللون . أما كاتب النص ، الروائي ، فلن يكون له وجودٌ في ذلك الوقت ؛ ليس بمعنى حياته المنتهية حكماً آنئذٍ ، أو بمجاز خلود نصّه : لا هذا ولا ذاك ، فالكاتب منذ لحظة فراغه من التدوين ودفعه النصّ للنشر ، يكون قد إغترب تماماً عما كتبه . شخصٌ آخر ، إذاً ، وفي أي ظرف وبيئة ، هو المقدّر له أن ينفخ الروح في النصّ ويمنحه إكسير خلوده : " فالنص يتألف من كتابات متعددة ، تنحدر من ثقافات عديدة ، تدخل في حوار مع بعضها البعض ، وتتحاكى وتتعارض ؛ بيد أن هناك نقطة يجتمع عندها هذا التعدد . وليست هذه النقطة هي المؤلف ، كما دأبنا على القول ، وإنما هي القاريء " . (1)

إن تأكيد الناقد رولان بارت ، في ما سلف ، على " دأبنا على القول" ، يحيلنا إلى مسألة الثوابت المترسخة ، أيضاً ، في ثقافتنا ؛ خصوصاً لجهة القيمة التي يعطيها النقد الراهن _ والمجتمع ككل _ لمكانة المؤلف . فهذا الأخير ، بحكم تلك الثوابت نفسها ، على علاقة دائبة بنصه المنشور ( ونحن نتكلم هنا ، تحديداً ، عن الروائي ) . ففي كلّ حوار مع هذا المؤلف وفي كلّ حديث بمناسبة وبغير مناسبة أيضاً ، تجده خصماً للنقد أو مزدلفاً له ، فيما يتعلق بأثره المنشور . لا مكان في ثقافتنا ، والحالة هذه ، إلا للقراءة الأولى ، تقريظاً أو ذماً ، سواءً بسواء ؛ قراءة تعزل النصّ ، غالباً ، عن أيّ فضاءٍ غير فضائه ، وبوهم الأصالة المفترضة . كأنما المؤلف عندنا ، في مجتمع إسلاميّ لا يعرف التجديد والتعددية ، هو بمعنى ما " ظل الإله على الأرض " . بمعنى أن أحادية قراءة النصّ ، هي كما لو أنها تجلّ لـ " وحدانيّة " الخالق . وقد عبّر عن ذلك محمد بنيس ، بتأكيده على هذا التصوّر : " المتعالي للفاعل في الطبيعة والحضارة ، المترسخ في وعينا ولا وعينا . نرى إليه ناسجاً إنتشاريته في عموم العالم العربي ، يتجسد إجتماعياً في الأب ، وسياسياً في القبيلة ، وثقافياً في صدى القبيلة وإمتدادها ، موشحاً بمستجد الألفاظ كالوحدة والإشتراكية ، والحرية ، والديمقراطية . ألفاظ تتحول في المعطى السوسيو ثقافي للعالم العربي إلى مجرد إستعارة للواحد الذي لا يتعدد ولا يتغير ولا يختلف ". (2)

كل مقاربة جديدة للنص ، هي في الآن ذاته " تجديد " له . ليس الأمر ، كما يبدو لوهلةٍ ، وكأنه تدخل في بنية النص ، الأصلية ، من لدن القاريء / الناقد ؛ بل بما هو عليه هذا النصّ من قابلية الإنفتاح على قراءات متعددة . من جهة اخرى ، فالنص لا يكون في أيّ حال من الأحوال أصلياً ، ما دام " مصنوعاً " من كتابات سابقة عليه ، كما سلف معنا من قول الناقد رولان بارت . لذلك إعتمد هذا الناقد إسماً طريفاً للكاتب المعاصر ، وهو " الناسخ " ، معلناً أنّ هذا الأخير : " حين يخلف المؤلف ، لا يجد في نفسه إنفعالات ، ولا بشائر ، ولا مشاعر ، ولا إنطباعات . ولكنه يجد هذا القاموس الهائل ، فينهل منه كتابة لا تعرف أي توقف : فالحياة لا تقوم أبداً إلا بتقليد الكتاب ، وهذا الكتاب نفسه ليس سوى نسيج من العلامات . وهذه إنما هي محاكاة ضائعة ، وتراجع من غير حدود " (3) . بناءً على ما سبق ، تصبح أيّ مقاربة لنصّ ما مع نصوص اخرى ، سابقة عليه ، كما لو أنها متوالية متاهية لا تنتهي : لأنّ سلفه أيضاً ، وبصفة بنيته كنص ، محكوم بنفس المقاربة . لا غرو إذاً ، أن يقول رولان بارت في أحد إستعاراته الظريفة ، أنّ الكاتب الأصيل ، الأوحد ، في تاريخ الأدب ، ليس إلا أبونا آدم (!)

ربما أنّ ما سلف من تأكيدنا ، عن علاقة نص ما بما سبقه من نصوص ، قد يوحي للقاريء بفكرة إنتفاء الأصيل أدبياً بمعناها الفوضوي ؛ أيْ تساوي الموهبة بالإدعاء قدّام النقد . إلا أنّ ذلك غير وارد البتة في قراءة الناقد للأعمال الأدبية ، اللهم إلا أن يكون دعياً ، بدوره . إننا إذ ننفض يدنا من أولئك الكتبَة المنتحلين ، وبصفتهم كمنوّعين على أعمال غيرهم ؛ فبالمقابل لا يمكن لنا إلا أن نحتفي بكل أديبٍ مثابر ذي موهبة خلاقة ، مهما يكن رأينا بنصه . ومن هذا الباب ، تحديداً ، شئنا ولوجَ فضاء كاتبٍ ينتمي للشرق ؛ هو السوري سليم بركات ، ومن خلال روايته " الفلكيون في ثلثاء الموت : عبورُ البشروش " (4) . هذه الرواية المتداخلة بفضاءٍ غربيّ ؛ متمثل برواية " إسم الوردة " للإيطالي امبرتو إيكو (5) . وعدا عن رؤى وإشارات عديدة ، في كلا الروايتيْن المعنيتيْن ، تؤدي بتصورنا إلى مدلولات مشتركة ؛ فإنّ إختيارنا لهما وفق تيمة المقارنة ، متأتٍ خصوصاً لجهة تداخل فضاءيْ الشرق والغرب في أعمال مؤلفيْهما بشكل عام . وربما من المهم الإشارة ، منذ البداية ، إلا أنّ بركات بإشتغاله أساساً على النص الشعري ، ما كان له إلا أنْ يكثف بلاغته ، المميّزة ، في نصه الروائي ؛ مما أوحى للقاريء / الناقد ، بإشكالات ومغامض ومعميات ، في كثير من الأحيان . الإيحاء نفسه ، وإن كان لأسباب اخرى ، يشكله إيكو بدوره ، كروائيّ ، خاصة عندما نعرف أنّه كان يشتغل ، وما زال ، في حقل أدبيّ ، نظري بحت ؛ هو السيميولوجيا ( علم الرموز والعلامات ) .

روايتان ورؤيتان :

حينما نشر إيكو روايته الأولى هذه ، بمستهل ثمانينات القرن المنصرم ، ما كان يدور في خاطره حينئذٍ ، على الأرجح ، أنّ " إسمه " كروائي سيتواشج مع " إسم الوردة " . وعلاوة على واردات الشهرة ، التي عادت عليه بسبب هذا العمل ، فإن اللغط المثار حول إسلوبه المتفرد بغرابته ، الذي شغل الأوساط الأدبية الإيطالية ، قد دفعه إلى مساجلات مع ناقديه وقرائه . مساجلات ، لم يكد أوارها يخمد في وسائل إعلام بلده ، حتى أججتها من جديد ما أصدى عن ترجماته إلى اللغات الاخرى . هذا اللغط ، داخلاً وخارجاً ، كان من تنوع إجتهاداته وتضاربها ، ما دفع إيكو إلى محاولة الحدّ من غلوائه ، وعبر مؤلفٍ آخر ؛ انتولوجي ، إشتمل رؤيته الخاصة لإسلوب ومرامي روايته تلك : وهي ، ربما ، سابقة لم يشهدها قبلاً تاريخ آداب العالم . هنا أيضاً ، كان على قدرة كاتبنا ، التنظيرية ، أن تختبر مكامن قوتها وتجربتها إزاء نقدٍ معاصر زمنياً وكلاسيكيّ روحاً وقالباً ؛ هذا النقد ، الحائز إرث تصنيف الأعمال الأدبية مقولباً ضمن مدارس وإتجاهات محددة . إن رواية " إسم الوردة " ، بما هي نص مفتوح على كل مراتب التصنيف ، ما كان لها إذاً إلا أن تحيّر أصحاب النظرية النقدية القديمة ؛ هؤلاء المهيمنون بشدة على الصفحات الثقافية للجرائد ، وغيرها من وسائل الإعلام .

لعل شكل رواية " إسم الوردة " ، المهيمنة عليه حبكة الجريمة الغامضة ، والتحقيق المتقصي آثار الجاني وصولاً إلى كشفه ؛ هذا الشكل ، أوحى لكثيرين من النقاد أن كل الجدّة في عمل إيكو هذا ، مقننٌ في كتابته " رواية بوليسية " بإسلوب مبتكر . لا ريب أنّ شيئاً من الصحة يتكلف هذا القول ، ولم ينكره الروائي في حواراته الصحفية . آخرون من النقاد ، إستأنسوا بما في رواية " إسم الوردة " من عودة إلى حقبة دقيقة ، حاسمة ، من التاريخ الأوروبي ، المتصف بنزاعات الملوك مع بابا روما والإنشقاقات الكنسية ومؤامرات النبلاء ودسائس البلاط .. ؛ عودة ، رأى فيها أولئك النقاد ما تتخلق به " الرواية التاريخية " من شروط مستوفية . فضلاً عن أنّ جدارية الأفكار، العريضة ، التي عنوانها " إسم الوردة " ، والمبنية من مداميك متعددة المشارب والأهواء ؛ كالأسفار الإنجيلية _ رؤيا القديس يوحنا ، بشكل مركزي _ والسفسطات الفكرية والمجادلات اللاهوتية .. ؛ كل ذلك ، برأي آخرين ، أسبغ على عمل إيكو سمة " الرواية الفلسفية " . لن نغيّب هنا ما رآه البعض ، في ذلك العمل ، من شكل " الرواية الشعبية " ؛ بكل ما فيها من مشاهد سوقية مبتذلة ومحاكاة ساخرة وأحاجي ومبالغات فنية . وأخيراً ، لا بدّ من نقل رؤية غالبة على النقاد ، بخصوص " إسم الوردة " ، وهي المحيلة إياها لإسلوب الرواية " الواقعية الجديدة " ، التي كان ألبيرتو مورافيا أحد روادها في إيطالية . إذ إحتفل محبو هذه المدرسة بعمل إيكو ، بوصفه مزجاً بين المتخيّل والواقعي ، كما بين التاريخاني والراهن المعاش ، سواءً بسواء .

الحق أنّ جميع تلك الأشكال الأدبية ، المختلفة ، شكلت الرؤية الفنية لرواية " إسم الوردة " ؛ الأشكال التي أذابها المؤلف في بوتقة عمله الكبير هذا . لا غرو ، والحالة كما أشرنا ، أن يحظى كل رأي من تلك الآراء ، سالفة الذكر ، بما يدعم وجهة نظره بخصوص الرواية . هذا ما يؤكده امبرتو إيكو في كتابه النظري " العمل المفتوح " ، عانياً به النص المنفتح بوصفه جامعاً لعدة معاني : " إن كل عصر من العصور يعتقد فعلاً ، أنه يمتلك المعنى الشرعي للكتاب ، ولكن يكفي أن نوسع التاريخ قليلاً لكي يتحول هذا المعنى المفرد إلى المعنى المتعدد ، ولكي ينتقل الكتاب من إنغلاقه إلى إنفتاحه " (6) . وإذاً ، فبدءاً بعنوان " إسم الوردة " ، المستوحى من نص لاتيني يعود للقرون الوسطى ، نلجُ إلى الأجواء التاريخية للقصة ؛ هذه القصة ، التي باشرها المؤلف بـ " حيلة " فنية ، أضحت شائعة في الأعمال الروائية : إرجاع النص الأصلي ، المزعوم ، إلى مخطوطٍ قديم . ومن خلال هذا الزعم ، يضعنا المؤلف مباشرة في مكان وزمان الرواية ؛ وهي هنا ، دير لطائفة الفرنسيسكان ، يدعى " مالك " ، وفي منتصف القرن الرابع عشر الميلادي . ولم يسلُ إيكو ، في ذلك المستهل ، إخبارنا على لسان الراوي ( الراهب ادسو ) ، بأنّ المخطوط الذي كتبه كـ " شاهد شفاف " على حوادث ذلك الدير ؛ هذا المخطوط منذورٌ لـ : " قصة كتب ، لا قصة مشاغل يومية " ( إسم الوردة : الصفحة 26 ) . الإشارة الأخيرة عن " قصة كتب " ، هي اللمعة الأولى من شيفرة الرواية ؛ اللمعة التي ستفصح عن معناها خطوة فخطوة مع تعقبنا لمغامرة الفتى ادسو ومعلمه المخضرم ، غوليامو ، في ذلك الدير الغامض . ولكن قبل الخوض في تلك المغامرة ، دعونا ننتقل إلى أجواء الكاتب سليم بركات ، وروايته الموازية في خط مقاربتنا لـ " إسم الوردة " .

" عبور البشروش " ، هي الرواية الخامسة للكاتب ، كما أنها الجزء الأول من ثلاثية بعنوان " الفلكيون في ثلثاء الموت " ؛ وقد نشرها في منتصف التسعينات المنصرمة . في حوار مع المؤلف ، ورداً على سؤال عن رابط ٍ ما ، مفترض ، يجمع بين أجزاء ثلاثيته ، يؤكد على : " لفظ " الموت " : ثلاثة مصائر في مكان واحد " (7) . هذا التأكيد ، يعطينا الحق في التعامل مع " عبور البشروش " كرواية ذات بنية متكاملة ؛ بغض الطرف عن علاقة " المكان الواحد " بـ " مصائر " أشخاص الجزئيْن التالييْن " الكون " و " كبد ميلاؤس " . عطفاً على تنويهنا بإسلوب سليم بركات ، المتسم بالكثافة اللغوية ، البلاغية ، فإننا نحيل هنا مجدداً إلى ذلك الحوار نفسه . فهو لا ينفي ذلك " الإشكال " ، المقترن به عمله الروائي ، بشكل خاص ، ويعتبره كقدره الشخصي ، الصعب : " في ختام كل رواية أنجزها سأقول لي : ها لقد قرأتَ رواية . أكتبُ كي أنتهي منها فأعرف أنني قرأت . رواياتي صعبة : أعرف ذلك . فسيفساء مدروسة : أعرف ذلك . متقاطعة الوقائع كلعبة بلا ميثاق : أعرف ذلك . يحضر الشعر فيها مستأنساً بمقعده كإستئناس النثر . مصائر إشكالية : تلك هي جسارتي . لا أبدأ رواية بلا إشكال . الحياة إشكال كاليأس . الحضور والغياب إشكالان . أمتحن الواقعة لتمتحن الواقعة دربتي في الوصول إلى مخرج . أحياناً يقع كلانا في المتاهة " (8) . نفس الإشكال في علاقة الكاتب بقارئه ، سيفصحُ عنه إيكو ، خلال حوار معه ويقول فيه : " رواياتي طرحت إشكالية مهمة ، على هذا المستوى ، وهي روايات " صعبة " . (9)

هذا الإشكال ، في واقع الحال ، هو قدر رواية التجريب عربياً ؛ بصفة خلخلتها للبنى الأدبية التقليدية ، المترسخة السيادة ؛ بتماهي الواقع في السرد مع الفانتاسيا ، لدرجة إستحالة الفصل بينهما غالباً . وبهذا المعنى ، يأتي قول شعيب حليفي في إطروحته النقدية ، التي تناولت نماذج من الرواية العربية الجديدة ، ومنها " فقهاء الظلام " لسليم بركات : " أما ظهور الرواية الفانتاستيكية العربية ، فإن الأمر يصعب تأطيره ما لم تتحوط بالخلفيات المتعددة التي كانت وراء تشكيل هذا المحكي ، فليس بالضرورة أن تجيء ظروفه متشابهة لظروف ولادته في الغرب . من هذا المنطلق فإن الفانتاستيك في الرواية العربية ، يطرح إشكالاً شائكاً لا يناقش إلا في إطار المتخيل العربي " (10) . إذ كانت " المعرفة مرجحة على العلم " ، برأيْ الصوفية ، فإنّ لسان حال التجريبية تفصحُ عن هوىً مماثل ؛ أيْ إستخلاف الفانتاسي للواقعي ، وإحلال الماورائي بمكان الطبيعي . سنجدُ هنا أنّ بركات _ وبمحض الإتفاق ، ربما _ يتقمص معرفة الصوفية تلك ، كخيار أدبي ، بقوله في ذلك الحوار سالف الذكر : " إنتمائي ، بحسب معرفتي القاصرة المحدودة ، إنتماء إلى " الواقعية المعرفية " ، ذات الخصائص المشمولة بعلوم المجهول والخفاء ، والمعلوم والظاهر ، فأنا أستعير لغة المعلوم والظاهر لإستقصاء الغامض كي أكمِلَ به وجوداً " (11) . عودة إلى التجريبية الروائية ، لنرى أنها تختبر اللغة ، ليس على مستوى تجديدها حسب ، بل وخاصة لجهة تحرير مفرداتها من المعنى الواحد ، القاموسيّ ، إلى المعنى المتعدد ، الأدبيّ ؛ أو ما يسميه رولان بارت " غموضاً متعدداً " (12) . توكيد النقد الجديد ، على أن العمل الأدبي في بنيته يحتوي على معنى متعدد ، غامض ؛ هذا التوكيد ، يُضارعه إشتغال كاتبنا ، بركات ، على نصه الروائي وبسياق ٍ فانتاسيّ مشحون بلغةٍ شديدة التكثيف ، إنْ في بلاغتها أو في شعرية صورها . على أنّ مسألة الإشكال في نصه ، ليس في مثل هذه المُساهلة ؛ إشكال غير ممكن تمحيصه ، بحسبتنا ، إلا عبر " مَطهَر " الرموز والمدلولات الكامنة وراء المعاني .

إذا كان عنوان رواية " إسم الوردة " ، قد إقتبسه إيكو من نص لاتينيّ قديم مثبتاً إياه في هامش المتن ؛ فها هو عنوان ثلاثية " الفلكيون في ثلثاء الموت " ، يبدو وكأنه ، على الأقل ظاهرياً ، لاعلاقة له بأي إقتباس . إنه وبعرف بركات ذو دلالة مقتصدة على لفظة " الموت " ( إنظر ما سبق من حوار مع الكاتب ) . ولكن ما المغزى في إختيار هذا اليوم بالذات _ الثلاثاء _ من أيام الإسبوع الاخرى ، كمستقرّ أبديّ لفلكيي / أشخاص الرواية ؟ .. لن نعثر في متن الرواية أو هوامشها على إحالة لنص أو مصدر ما . فـشيمة بركات الكاتب ، كما نعاينها في أعماله جميعاً ، لا تحبذ مثل هكذا هوامش . بيد أن مراجعة جائزة للتراث ، يوفر علينا مشقة الغوص في مدلول ذلك اليوم المنحوس : ففي عُرف العرب الأقدمين ، وبحكم إنابتهم لمسار الكواكب بكل ما يتعلق بأحاجي حيواتهم وحظوظها ؛ هذا العرف ، أعطى لكل يوم من أيام الأسبوع مدلولاً معيناً ؛ فكان يوم الثلاثاء ، كناية ً للموت والشؤم . جدير بالتنويه هنا ، أن كناية كهذه نقرأها في " إسم الوردة " ؛ عندما يلاحظ غوليامو _ بصفته ضالعاً في التحقيق بسلسلة الجرائم الغامضة ، المتواترة في الدير _ أنّ القاتل يتعمّد إرتكاب جرائمه بحسب أيام الأسبوع : فالأحد هو اليوم الأول ، المستهل بالقتل ( من حقيقته كأحديّ واحد : الرقم 1 ) ، ثم يليه يوم الإثنين ، ( الرقم 2 ) .. ، وهكذا ، حتى تكتمل أيام الأسبوع ( إسم الوردة : الصفحة 125 ) . لكأنما " ثلثاء الموت " في رواية بركات ، هو إسترجاع ما ، لـ " أسبوع الموت " في رواية إيكو : ولا ننسى أنه في رواية " عبور البشروش " ، أيضاً ، شاء السردُ أن يبنى على حبكة الجريمة ، ولو أنها شديدة التماهي في السياق ؛ حتى أن القاريء ينتهي من قراءة النص حائراً ، بالكاد يُدرك من القاتل ومن المقتول . أياً كان الأمر ، فهذا ما لدينا من مقاربة لعنوان الثلاثية ، العريض . أما بالنسبة لروايتنا _ وهي الجزء الأول من تلك الثلاثية _ فعنوانها " عبور البشروش " ، مستوحى من عِبْرَة النص . فالبشروش ، بحسب كلمات المتن ، هو طائر من فصيلة اللقالق والكراكي : " له ميّزة الصبر على الجوع ، يعبرُ ثلاثة جبال ويأكل وجبة " ( عبور البشروش : الصفحة 117 ) . هذا الطائر ، كان على مدى زمن الرواية حبيسَ قبو سريّ ، يهتدي إليه الراوي ، كما لو أنه على موعد مع قدره : ثمة سيلتقي ذلك الكائن المُعرّف بـ " الغريب " ، فيطلق عليه النار من بندقية صيد. هناك أيضاً ، سيكون البشروشُ أحد عناصر خاتمة الرواية ، لا بصفته كـ " بطل " لعنوانها ، بل لأنه أحد رموز النص . فما أن يغلق الراوي دفتيْ الكتاب ، حتى يتحرر الطائر ويرتفع : " إلى القبة الأبعد خلف حجاب المكان ، حيث الظاهر ، وحده ، يعتقُ الأبدية من كمالها " ( ص 248 ) . تلك العمارة ، الموسومة بـ " القبة " ، تذكرنا مع شقيقتها " المتحف " ، بالأبنية الملحقة بالدير ، في رواية " إسم الوردة " ؛ كالكنيسة وقاعة الكتب .. ، وغيرهما من الأماكن التي كان أشخاص الرواية يتنقلون عبر حجراتها ومسالكها وممراتها ويواجهون مصائرهم الغامضة فيها . علاوة على أنّ إنتهاء رواية بركات بإغلاق الراوي لـ " دفتيْ الكتاب " ، يوحي بحيلة فنية ، إجتسناها في حديثنا عن إستهلال رواية إيكو بحكاية الإهتداء إلى مخطوط قديم . إذ يعثر الراوي في " عبور البشروش " ، أيضاً ، على مخطوط قديم ، يُدعى " التأسيس الكبير " ؛ حيث نعلم من خلال السياق أنّ أصله مستل من مخطوط آخر ، نقل مصحفاً ، كان قد أتلف من قبل العامّة ، لسبب ما ( ص 77 ) . هذا الأمر ، يُعيدنا إلى مخطوط آخر في رواية إيكو ، هو " الضحك " لأرسطو ؛ سيلقى أصله نفس مصير أصل مخطوط " التأسيس الكبير " . هنا وهناك ، كان كلّ من المخطوطيْن مدوناً بلغات أربع : يونانية ، سريانية ، عربية ولاتينية . هذه الأخيرة ، إستبدلها بركات باللغة الفارسية ، ربما لمماهاة مُفترضة لدينا ، أو لسبب اخر ؟

هوامش ومصادر :

1 _ رولان بارت ، درس السيميولوجيا _ الطبعة العربية في الدار البيضاء 1986 ، ص 87
2 _ محمد بنيس ، حداثة السؤال _ بيروت 1985 ، ص 58
3 _ رولان بارت ، نقد وحقيقة _ الطبعة العربية في حلب 1994 ، ص 22
4 _ سليم بركات ، الفلكيون في ثلثاء الموت : عبور البشروش _ بيروت 1994
5 _ امبرتو إيكو ، إسم الوردة _ الطبعة العربية في تونس 1992
6_ نقد وحقيقة ، مصدر مذكور ، ص 82
7_ ناصر مؤنس وصلاح عبد اللطيف ، حوار مع سليم بركات _ مجلة " تافوكت " العدد الأول 1998 : إستقيناه من مجلة " حجلنامة " العدد الأول 1999 ، ص 39
8_ المصدر نفسه ، ص 34
9_ جمانة حداد ، حوار مع امبرتو إيكو _ ملحق " النهار " الثقافي ، ليوم 18 كانون الثاني 2004
10_ شعيب حليفي ، شعرية الرواية الفانتاستيكية _ مجلة " الكرمل " العدد 40 / 41 لعام 1991 ، ص 107
11_ حوار مع سليم بركات ، مصدر مذكور ، ص 40
12_ نقد وحقيقة ، مصدر مذكور ، ص 87

[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منتخبات شعرية
- الماضي والحاضر
- الوحدة والتعدد في اللوحة الدمشقية
- مأثورات دمشقية في مآثر كردية
- سرّ كافافيس 2 / 2
- سرّ كافافيس 1 / 2
- الدين والوطن ، في ورقة إخوانيّة
- طغم وعمائم
- علوَنة سوريّة : آثارُ 8 آذار
- بلقنة سورية : جذور 8 آذار
- نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 2 / 2
- نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 1 / 2
- مذاهب متشاحنة ؛ السنّة والعلويون والآخرون
- أثنيات متناحرة ؛ الكرد والسريان ، مثالاً
- الوثنيّة الإسلاميّة
- الموساد ، من كردستان إلى لبنان
- التعددية ، في وصفة بعثية
- عيدُ الحبّ البيروتي
- عبثُ الحوار مع البعث ، تاريخاً وراهناً
- المقاومة والقمامة : حزب الله بخدمة الشيطان


المزيد.....




- حمزة يوسف.. الوزير الأول بإسكتلندا يعلن أنه سيستقيل من منصبه ...
- مصادر لـCNN: حماس تناقش مقترحًا مصريًا جديدًا لإطلاق سراح ال ...
- رهينة إسرائيلية أطلق سراحها: -لن أسكت بعد الآن-
- لا يحق للسياسيين الضغط على الجامعات لقمع الاحتجاجات المناصرة ...
- باسم خندقجي: الروائي الذي فاز بالجائزة العالمية للرواية العر ...
- بلينكن يصل إلى السعودية لبحث التطبيع مع إسرائيل ومستقبل غزة ...
- ظاهرة غريبة تثير الذعر في تايوان.. رصد أسراب من حشرات -أم أر ...
- مصري ينتقم من مقر عمله بعد فصله منه
- لردع الهجمات الإلكترونية.. حكومة المملكة المتحدة تحظر استخدا ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة في دونيتسك والقضاء على 975 جن ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - بين إيكو وبركات 1 / 3