|
الوحدة والتعدد في اللوحة الدمشقية
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1519 - 2006 / 4 / 13 - 11:23
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
" ثمة ميّزة في المجتمع السوري تتجلى في روح التسامح القومي ، التي تمنحك فرصة للإنخراط في المجتمع من دون عوائق أو أي تعرّض لكرامتك الوطنية . فالشام كانت دائماً ملتقى الغرباء والتجار من كل الأجناس من : شيشانيين ، بنادقة ، ألبان ، شركس ، أرمن وأكراد . أعراق وشعوب تتعايش ، ولا تشعر إنك في مدينة معادية . وهنا سرّها وسحرها وتناقضاتها " (1) . هكذا يرى الصحافي الأجنبي ، الزائرُ العابرُ ، لوحَة دمشق في أواخر القرن المنصرم . هذه الملاحظة ، تكملها ملاحظة اخرى ، لا تقلّ أهمية ، فيما يتعلق بالمؤثرات الطارئة على حياة أقدم حواضر المدنيّة ؛ والتي جعلتْ منها إثر حقبة إنقلابية ، دهرية في إمتدادها ومريرة في تحوّلاتها : " مدينة محافظة على تقاليد وعادات وطقوس ، أقرب للريف منها إلى المدينة المعهودة ؛ لذا تبدو معظم الأشكال الإبداعية من الشعر حتى السينما ، تغرف من الحياة الريفية . وكذلك السياسي ، حين يستعير من الفلاح صبره وعلاقته المقدسة بالأرض ، ومفاهيم عزة النفس ومفردات الشرف . أضف إلى ذلك الشعور القومي والعروبي ، الذي يبدأ من التربية المدرسية والأناشيد وإنتهاء بالحياة السياسية " (2) . في ما سبق من عرضنا هذا ، حاولنا أن نجتاسَ بعضاً من الموروث الشعبي لمدينة دمشق ، العائد لحِقبٍ مختلفة ؛ الموروث المستشف منه رؤية أبناء البلد ، أنفسهم ، للوحة الفسيفساء المشكلة منها مدينتهم . ومع حلول العصر الحديث ، المُبطِنُ في طياته حداثة ً شاملة ً أوجه الحياة الشامية جميعاً ، من إجتماعية وثقافية وإقتصادية وغيرها ؛ فكان لابدّ لتلك اللوحة ، المركبة والمتناغمة ، أن يضفى عليها لمسات أكثر جدّة وأقلّ إبداع ، في آن . حضرَ مفهومُ الأقلية والأغلبية ، عموماً ، في وقتٍ صار يعزّ فيه مفهوم التعدد والإختلاف ، ضمن وحدة المجتمع وتجانسه ؛ المجتمع الذي سيرهن نفسه ، بمحض مشيئته أو بقوة ضاغطة ما ، للون واحد ، سقيم إلى حدّ البلى . هذا الأمر ليس مرهوناً برؤى وتنظيرات الباحثين و السياسيين حسب ، بل سيتعداه إلى نصوص المبدعين أيضاً ؛ هذه وتلك ، الطافية على سطح لوحتنا ، مذ قدّر لها الإحتفاء بهويتها " الأصيلة " ، كعرين ٍ للعروبة ؛ العرين الذي سينتظرُ " أسدَهُ " ، وحامي حِماهُ ، في إحدى منعطفات التاريخ الإنقلابيّ ! دأب مؤرخو دمشق ، من معاصرينا ، على التنويه بإزدهار مدينتهم في عصريْها الذهبيَيْن ؛ الأموي والأيوبي . هذا محمد أحمد دهمان ، كمثال ، يكتب عن المرحلة الاولى من العهد المملوكي : " وإن إنحط عن العصر الأيوبي ، فإنّ إنحطاطه كان نسبياً . لأنّ هؤلاء المماليك ، إكتسبوا بعضَ تربية راقية من ملوك لم يمسهم الرّق ، وكان علماؤهم إمتداداً للعصر الأيوبي " (3) . هذه الإشارة ، الحصيفة بحق ، ما يلبث باحثنا أن يلحقها بإشارة اخرى ، لا يمكن وصفها إلا بعكس سابقتها : " فقد شاهدنا في عصرنا هذا عدة هجرات إلى دمشق ، لم تؤثر فيها أي أثر يستحق الذكر ؛ فكانت هجرة الأكراد والكريديين [ نسبة لمسلمي جزيرة كريت ، أو كريد ] إلى الصالحية ، والألبان والشركس والأرمن . وكل هؤلاء لم يؤثروا أي أثر في تاريخ دمشق أو عمرانها أو إجتماعياتها " (4) . بتلك الشطبة ، غير الموفقة ، يحاول المؤرخ الفصل ببساطة بين الأيوبيين وأبناء جنسهم ، من أكراد الشام . الأدهى من ذلك ، إيحاؤه أنّ تأسيس حيّ الصالحية ، العريق ، ما كان بفضلهم ؛ عازياً الأمرَ إلى بني قدامة ، من مهاجري بيت المقدس : " الذين جعلوا منه مدينة عظيمة ، ولمّا يمض ثلاثة عقود على إستقرارهم فيه " ، على حدّ قوله . لا شك لدينا ، في أنّ هذا القولُ ينأى بنفسه عن حقيقة ٍ ، لا تحتاج لعناء البراهين ؛ وهي أنّ مجد الصالحية كان أحد أثال بني أيوب ، الكرد ، وما جاء من أخلافهم من بني قومهم . فيما لم يخلف أولئك المقادسة سوى المدرسة العمرية ؛ المنسوبة لشيخهم أبو عمر بن قدامة . لا بل إنّ الجامع الملحق بهذه المدرسة ، أتمّ بنائه مظفر الدين كوكبري ، قائد صلاح الدين وصهره ، فعُرف بـ " الجامع المظفري ". (5) هذه الحقيقة ، يؤكدها المؤرخ الإجتماعي ، يوسف جميل نعيسة ، بنقله عن المصادر الأصلية ما يفيد بأنّ الأكراد كانوا يشكلون الأغلبية المطلقة في الصالحية ، إلى نهاية عهد المماليك ، على الأقل (6) . ويشاركه الرأيَ باحث آخر ، هو الجغرافيّ نصوح خيّر ، الذي ينوّه بالنواة الاولى لحيّ الأكراد ، شرقي الصالحية ، بقوله : " فقد توافد الأكرادُ في عهد السلطان نور الدين وعهد السلاطين الأيوبيين ، لخوض غمار الحروب الصليبية . وإنتقوا لهم فسحة خالية من الأرض إلى الشرق من الصالحية ، وإختاروها موطناً دائماً لهم . وقد إنتقوا لهم هذه المنطقة لعدم وجود متسع لسكناهم في المدينة القديمة . كما إبتعدوا عن المنطقة المزروعة لأنهم لم يكونوا ملاكاً ولا مزارعين . بيْدَ أنّ هذه الضواحي ، وإن إعتبرناها إمتدادات للمدينة ، فقد ظلت خلال قرون عديدة تحيا حياة خاصة ، مستقلة عن حياة المدينة " (7) . ويبدو أنّ باحثنا ، بدوره ، يضيق ذرعاً بتعدد ألوان لوحة الفسيفساء ، الدمشقية . فهو يرى في هذه التعددية خطراً مستقبلياً ، محتملاً ، يهدد الوحدة والإنسجام والتجانس في النسيج الإجتماعي للمدينة . وخيرُ علاج لهذا " المرض الإجتماعيّ " ، على حدّ توصيفه ، يكمن في صهر اللوحة في بوتقة القومية الواحدة : " ولا شك في أنّ أي تخطيط تنظيمي للمدينة ، يجب أن يقضي على إنعزالية الأحياء المغلقة ذات النعرات العصبية والطائفية فيحطم إستقلاليتها ، ويحقق ذوبان مختلف عناصر الشعب بعضها في بعض ، ويؤدي إلى التلاحم والتعاضد الإجتماعي " (8) . وهذا ما جرى تطبيقه ، فعلاً ، في العهد البعثي ، العروبي . غير أنّ التخطيط التنظيمي ، الذي إبتدأ منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي ، إستفردَ بحيّ الأكراد ، وحده ، مستبيحاً قاطنيه إقصاءً لأربعة جهات الحاضرة . وبالمقابل ، أوجدَ التخطيطُ التنظيمي ، ذاته ، مستوطنات جديدة في حلقة مدروسة ، مضروبة حول دمشق ، مخصصة لنخبة معينة من أهل الساحل السوري ؛ " المؤهلين " لحماية السلطة الديكتاتورية : " التي تتستر بعباءة الطائفة ، وتتمترس خلف شعارات قومية كبرى ، لم تكن سوى للتضليل في سبيل ترسيخ تحالفاتها الإقليمية على أساس يخدم توجهاتها الطائفية ، إنطلاقاً من مصالحها الخاصة بها وليس الطائفة " . (9) لغة الخطاب السياسيّ ، كما هو معروف ، عادة ً ما تكون أكثر تشدداً من لغة المؤرخ أو الجغرافي أو الإجتماعي ، فيما يخص مسألة الأثنيات . جديرٌ بالتنويه ، أولاً ، بأنه منذ العقود الأخيرة من القرن المنصرم ، طرأ إزدياد ملحوظ في إهتمام الغربيين بوضع أثنيات الشرق الأوسط ، ممن تناولوه بأبحاث متعددة . تتميّز هذه الأبحاث ، بشكل عام ، بالرصانة العلمية والموضوعية وتوفرها على مصادر ومواد أرشيفية هي في غير متناول الباحث المحلي ؛ باحثنا الذي " يمتاز " فضلاً عن ذلك ، بعدم تجرده من نعرات ضيقة ، حينما يمسّ مواضيعَ حساسة ؛ كالمسألة القومية وحقوق الأقليات . على سبيل المثال ، ما أثاره كتاب الباحث باتريك سيل ، المعروف " الصراع على سورية " ، من بعض ردات فعل محلية ، متلائمة ، غالباً ، مع النهج السياسي والإيديولوجي ، المهيمن حالياً على القرار الرسمي . لقد إنبرى وليد المعلم في كتابه " سورية : 1918 _ 1958 " ، إلى تناول الفترة الزمنية ، ذاتها ، التي شملتها دراسة باتريك سيل ، سالفة الذكر . هاهو المعلم يتطرق إلى السلطة التشريعية ، في أول ديمقراطية عرفتها سورية بعيد الإستقلال ، معتبراً إياها ، بحسب تنظيره العقائديّ : " تكرس الإنقسام الوطني عبر الطائفية والإقليمية ، حيث نصت المادة 37 من الدستور : " تراعى في قانون الإنتخابات أصول التصويت السري وتمثيل الأقليات " (10) . ينتقل باحثنا ، من ثمّ ، إلى تناول فترة الحكم الإنقلابي ، الذي أطاح بسلطة الرئيس القوتلي ، مكرراً الآراء المفيدة بإعتماد الإنقلابي ، الزعيم حسني الزعيم ، على أبناء قومه الكرد ؛ الآراء المعبّر عنها بشكل خاص ، سكرتيرُ الزعيم ، نذير فنصة ، حينما ذكر القاريء بالقرابة الرابطة بين معلمه وبين رئيس الوزراء المعيّن ، محسن البرازي (11) . الباحث منذر الموصلي ، من جهته ، يتلقف تلك الإشارة ، ذاهباً أبعدَ من ذلك ؛ بربطه أركان حكم الزعيم ، وكذلك خلفه الإنقلابي ، العقيد أديب الشيشكلي ، بحزب " خويبون " الكردي ؛ مسمياً منهم ، علي بوظو وحسني البرازي ومحسن البرازي ، مؤكداً أنّ هذا الأخير: " قام بمحاولة لكتابة الكردية بالحرف اللاتيني ، منسقاً في هذا الشأن مع البدرخانيين " . (12) ربما جازَ لاولئك السياسيين والعسكريين ، الكرد ، التفكيرَ بعصبتهم القومية ، فيما هم ماضون بسبيل طموحاتهم . على أنّ مجتمعَ بلدٍ كسورية ، وبخاصة مركزها الدمشقي ، المتسم بمشاعر الريبة تجاه أيّ عصبية ، غيرَ تلك العربية الإسلامية ؛ كان سيحولُ ، لا محالة ، بين ذلك المنتمي لأقلية ما ، وبين نزوعه إلى التعبير ، علناً ، عن ذلك الإنتماء والعمل في سبيله : وحده الفريق الأسد ، من سائر إنقلابيي سورية ، من مضى بعيداً في طموح " أقليته " ، نحو مشروع طائفيّ ، مُبطن ؛ وهو الإستيلاء على السلطة وتركيزها ، من ثمّ ، بنخبة عائلية وعشائرية . أما أكرادنا ، الإنقلابيون ، فهم بصفتهم الإسلامية ، السنيّة ، ما جاوز الواحد منهم محاولة الظهور بصورة الفارس المخلّص ؛ صلاح الدين . علاوة ً عن إنهماكه غالباً بخصومات وأنانيات مع أبناء عصبته ، بالدرجة الأولى . وعلى أيّ حال ، فما إبتدهنا به الزعيم ، الإنقلابيّ الأول ، في البيان رقم واحد ، يساندُ زعمنا : " اليومَ أثبت الجيشُ السوريّ ، أنه لم يزل في سورية شعبٌ عربي يأبى الخضوع والإستسلام ، شعبٌ عربيّ مصممٌ وراء جيشه " . ذلك اللغو القومي ، العروبيّ ، كرره زعيمنا ، الكرديّ ، خلال مؤتمره الصحفي ، عشية الإنقلاب : " نحن قوميون عرب ، ولا مكان في سورية لدعاة الشيوعية الهدامة ، المعادين للعروبة " (13) . وهذا أيضاً ما يمكن قوله ، بخصوص العقيد الشيشكلي ، المبادر منذ لحظة مغامرته الإنقلابية ، إلى تأسيس حزب جديد بإسم " حركة التحرير العربي " ، مستهلاً حملة ً معادية للأثنيات المشكل منها نسيج المجتمع السوري ، وبشكل لا سابق له في تاريخ البلاد ؛ الحملة التي أدتْ ، برأي الباحث باتريك سيل ، إلى تكتل معارض واسع ضد السلطة الإنقلابية ، أطاح بها لاحقاً (14) . وباحثنا ، ذاته ، يعزو بحصافة فشلَ المشروع الكرديّ ، الإنقلابيّ ، ممثلاً بمنظره الأهم ، المُفترض ؛ محسن البرازي ، إلى حقيقة : " بأنه إذا دارتْ ، يوماً ، برأسه خيالات قومية كردية ، فقد بددها واقعُ وظيفته " . (15) عموماً ، أرجع بعض الباحثين الغربيين ، أحدَ أسباب الفشل الكرديّ القومي ، تاريخياً ، إلى : " تصفيح ثابت للنخبة الكردية ، مرده إلى إندماج وإستيعابٍ بالغيْن من بعض أفضل العناصر الكردية ، في القطاع غير الكردي ( عروبة ، إيرانية ، طورانية ) ؛ وهذه العناصر ، عندما وصلت إلى السلطة ، فإنها تأخذ بالدفاع لصالح الإندماج غالباً " (16) . لا أدلّ على هذا التحليل الصائب ، من حقيقة إرتفاع كثير من الأصوات العربية _ منذ مستهلّ التسعينات المتصرمة ، بشكل أحدّ _ المركزة على ما أسمته " نموذج الكردي الدمشقي " ، كمثال ٍ لحلّ المسألة القومية ؛ حلّ سحريّ ، بسيط ، يتمثل في إندماج الكرد ، طوعياً ، في بوتقة القومية الواحدة ، العربية ! هذه الأصوات لباحثين وصحافيين عرب سوريين ، كانت صدىً بالدرجة الأولى ، للتطورات الحاصلة في المنطقة إثرَ حرب الخليج الثانية ، وما أعقبها من تمتع كردستان العراق بإمتياز الإقليم المستقل عن الدولة المركزية . هاهو الصحافي الدمشقي المخضرم ، غسان الإمام ، في واحدة من تجلياته ؛ تحت عنوان " من صلاح الدين إلى حسني الزعيم " . إنه يبيّن إستناداً إلى أسماء معروفة ؛ كحسني الزعيم وخالد بكداش ومحمود الأيوبي وأحمد كفتارو ومروان شيخو وغيرهم ، مدى أهمية الدور الذي لعبه الأكراد ، في تاريخ الشام ومجتمعها ؛ الدورُ المحصورُ بمن إرتضى التمثل في بوتقة القومية المهيمنة ، حسب رأيه (17) . هذا الرأي ، يتحمّس له باحثٌ من مدينة صلاح الدين نفسها ؛ هو منذر الموصلي ، الذي شاءَ التفرّغ لموضوع شائكٍ ، هو العلاقات العربية الكردية ، ومن منظور بعثيّ كلاسيكيّ ، إن صحّ التعبير . إنه يكتب بمناسبة رحيل خالد بكداش ، القائد الشيوعيّ التاريخيّ : " فهو من أكراد الشام ، الذين يعود إنتماؤهم للعاصمة الأموية ما يزيد على ثمانية قرون إندمجوا فيها وفي نسيجها الإجتماعي ، وتبوؤا أكبر المراكز السياسية والإدارية والدينية ، وساهموا في بناء تاريخها الحديث من جميع الأوجه " (18) . وفي نفس السياق ، أيضاً ، يمكن إدراج بعض كتابات السفير رياض نعسان آغا ، حول دور الأكراد الهام في صناعة التاريخ السوري ؛ منوّهاً في هذا المجال بالأصل الكرديّ لوزير الحربية ، وزير العظمة ، المتصدي بشجاعة نادرة لجحافل الغزو الفرنسي ، بداية العقد الثاني من القرن المنصرم (19) . لعلّ أبلغ ما يمكن قولهُ ، في الردّ على الدعاوى ، آنفة الذكر ، سجله يراعُ الباحث التركي البارز ، إسماعيل بيشكجي ؛ الذي لاحظ بهذا الشأن ، أنّ بإمكان الكرديّ : " الذي ينكر إنتماءه القومي ويصبح تركياً ، ويعلن أنه تركي وسعيد بذلك ، أن يحصل على كل ما يريد : أيْ أن يصبح عاملاً وحارساً وبرلمانياً وطالباً ورياضياً ونائباً وحاكماً ورجل أعمال وجندياً ووزيراً أو أستاذاً في الجامعة . أما إذا أصرّ هذا الشخص على أنه كرديّ ويطالب بحقوقه القومية ، فلا يمكنه أن يصبح شيئاً وليس أمامه سوى فرصة واحدة يستطيع الحصول عليها في تركيا : أن يصبح ملاحقاً أو سجيناً " (20) . المفارقة ، في موضوعنا ، تبلغ أوج مأسويتها ؛ حينما يتبنى أنصارُ اليسار مواقفَ الطرف المقابل من معسكرهم ، مشاركين غلاة اليمينيين موقفهم القوميّ ، العروبيّ ؛ هم المفترض قوامهم على إرث حق تقرير المصير ، الماركسي . فهاهو خالد بكداش ، الذي تبرأ في اواخر عمره من " وصمة " أصله الكرديّ ، يدافعُ عن سياسة الإندماج ، العنصرية ، بحجج واهية : " نحن الشيوعيون من أنصار حقوق الأقليات القومية ، ولكننا في الوقت نفسه لسنا ضد التمثل الطوعي . يعني الإندماج الطوعي لسنا ضده ! " (21) . هذا الموقف ، المماليء لعتاة الشوفينيّة ، إنسحب ، إلى هذه الدرجة أو تلك ، إلى مقامات الأدباء والفنانين وغيرهم من حملة مشاعل الثقافة العربية . وهو أفدحُ ما يمكن تصوّره ، في الواقع . إنّ بعض هؤلاء المثقفين ، يستكثر على أحد مكونات الشعب السوري ، الرئيسية ، حقه في إستعمال لغته القومية ؛ شاطباً بجرة قلم تضحيات الشعب الكردي ونضاله المشهود ضد الإنتداب الفرنسيّ : " إنّ سلطة الإنتداب عمدتْ إلى تشجيع اللغة الكردية ، لإضعاف الشعور الوطني في البلاد " (22) . عرضنا فيما سبق من دراستنا ، لنماذج من الموروث الشعبي الشامي ، الذاخر بالأمثال والمِلح والمأثورات الاخرى ، المتناولة حضور الشخصية الكردية في مجتمع دمشق . وعلى النقيض من ذلك ، فإنّ الأعمال الأدبية السورية ، المعاصرة ، نأتْ بنفسها عن هذه الشخصية ، متجاهلة وجودها . هذا ما نجتنيه ، مع شديد الإحباط ، من ثمرات قرائح كتاب معروفين ، دمشقيين ، في الشعر والقصة والرواية : من ديوان نزار قباني ، الضخم .. ، و خلل الكم الهائل لأقاصيص زكريا تامر .. ، مروراً بعديد روايات خيري الذهبي .. ، وحتى محاولات رياض نجيب الريّس في السيرة والنقد .. وغيرها . من كلّ الأعمال الإبداعية لكتابنا الشوام ، لا يعثر المرءُ ، ربما ، سوى على إشارة واحدة ، نادرة ؛ في رواية غادة السمّان " فسيفساء دمشقية " : حينما تتطرقُ الكاتبة عابرة ً إلى ذكرياتها عن أحد أتراب طفولتها ؛ وكان كردياً يُدعى " شورش " (23) . دون أن نغفل ، بطبيعة الحال ، التنويه بكتاب سوريين ، عديدين ، ممن ناصروا الحقوق الكردية ، بشكل عام .؛ وعبْرَ مواقف سياسية ، أو فكرية ؛ أكثر منها أدبية .
هوامش ومصادر :
1 _ يحيى جابر ، عواصم من خطأ _ بيروت 1998 ، ص 79 2 _ المصدر نفسه ، ص 82 3 _ محمد أحمد دهمان ، في رحاب دمشق _ دمشق 1982 ، ص 42 4 _ المصدر نفسه ، ص 125 5 _ عز الدين ملا ، حي الأكراد في مدينة دمشق _ بيروت 1998 ، ص 16 6 _ يوسف جميل نعيسة ، مجتمع مدينة دمشق _ دمشق 1986 ، ص 82 ج1 7 _ صفوح خيّر ، مدينة دمشق : دراسة في جغرافية المدن _ دمشق 1982 ، ص 210 8 _ المصدر نفسه ، ص 263 9 _ عبد الباسط سيدا ، تساؤلات صريحة حول مستقبل النظام السياسي في سورية _ مواقع عامودا . كوم ، في يوم 14 / 1 / 2006 10 _ وليد المعلم ، سورية ( 1981 _ 1958 ) _ دمشق 1985 ، ص 70 11 _ نذير فنصة ، أيام حسني الزعيم _ بيروت 1985 ، ص 34 12 _ منذر الموصلي ، عرب وأكراد _ بيروت 1986 ، ص 304 13 _ رجالات سورية الجديدة ، كتاب الإنقلابيْن الأول والثاني _ دمشق 1949 ، ص 40 14 _ باتريك سيل ، الصراع على سورية _ الطبعة العربية في بيروت 1980 ، ص 182 15 _ المصدر نفسه ، ص 89 16 _ لورانت وآني شابري ، سياسة وأقليات في الشرق الأوسط _ الطبعة العربية في القاهرة 1991 ، ص 370 17 _ صحيفة " الشرق الأوسط " _ الصادرة في لندن ، يوم 15 / 4 / 1992 : جدير بالذكر ، أنّ هذا الصحفي ، بالذات ، لا يخفي تعاطفه مع أيّ سلطة تضطهد الأكراد ؛ عربية كانت أم تركية أم فارسية ! 18 _ منذر الموصلي ، خالد بكداش : كان آخر العمالقة ! _ مجلة " الطليعة " ، الصادرة في دمشق 1995 / العدد 4 _ 5 19 _ رياض نعسان آغا ، حول نسب يوسف العظمة _ موقع شام برس ، يوم 31 / 5 / 2005 20 _ اسماعيل بيشكجي ، كردستان : مستعمرة دولية _ الطبعة العربية في ستوكهولم 1998 ، ص 58 21 _ عماد نداف ، خالد بكداش يتحدث _ دمشق 1993 ، ص 90 22 _ أحمد أبو مطر ، أفكار حول مواجهة النزعة الإنعزالية في الأدب _ مجلة " الهدف " ، الصادرة في دمشق 1984 ( العدد السنوي ) : يجب التنويه ، بأن هذا الكاتب غيّر موقفه ذاك ، ومنذ فترة طويلة ؛ وهو الآن من أشدّ الكتاب العرب _ والفلسطينيين بشكل خاص _ منافحة عن الحقوق المشروعة للشعب الكردي 23 _ غادة السمان ، فسيفساء دمشقية ( الرواية المستحيلة ) _ بيروت 1997 ، ص 218
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مأثورات دمشقية في مآثر كردية
-
سرّ كافافيس 2 / 2
-
سرّ كافافيس 1 / 2
-
الدين والوطن ، في ورقة إخوانيّة
-
طغم وعمائم
-
علوَنة سوريّة : آثارُ 8 آذار
-
بلقنة سورية : جذور 8 آذار
-
نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 2 / 2
-
نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 1 / 2
-
مذاهب متشاحنة ؛ السنّة والعلويون والآخرون
-
أثنيات متناحرة ؛ الكرد والسريان ، مثالاً
-
الوثنيّة الإسلاميّة
-
الموساد ، من كردستان إلى لبنان
-
التعددية ، في وصفة بعثية
-
عيدُ الحبّ البيروتي
-
عبثُ الحوار مع البعث ، تاريخاً وراهناً
-
المقاومة والقمامة : حزب الله بخدمة الشيطان
-
رسام الكاريكاتور بمواجهة الهمجية 2 / 2
-
رسام الكاريكاتور بمواجهة الهمجية
-
إعتذار صليبي من قلعة الإسلام
المزيد.....
-
تونس ـ السجن لرئيس الحكومة الأسبق ومسؤولين سابقين في قضية -ا
...
-
مصر.. البلشي يحسم مسألة سباق نقيب الصحفيين
-
لبنان يعرب عن تضامنه مع سوريا في وجه -الاعتداءات الإسرائيلية
...
-
الولايات المتحدة تلغي نظام الإعفاء من التأشيرة مع رومانيا
-
توصيات الجامعة الربيعية لأطاك المغرب المنظمة بالرباط أيام 25
...
-
ناشطة بأسطول كسر الحصار: قلقون من احتمال حدوث هجوم إسرائيلي
...
-
كيف استخدمت الدعم السريع المسيّرات لتغيير مسار الحرب؟
-
غارات إسرائيلية جديدة على سوريا ودوي انفجارات في دمشق
-
محللون: إسرائيل تستثمر هشاشة الوضع بسوريا لفرض وقائع ميدانية
...
-
غارات إسرائيلية تستهدف مناطق متفرقة في سوريا
المزيد.....
-
الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية
/ نجم الدين فارس
-
ايزيدية شنكال-سنجار
/ ممتاز حسين سليمان خلو
-
في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية
/ عبد الحسين شعبان
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية
/ سعيد العليمى
-
كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق
/ كاظم حبيب
-
التطبيع يسري في دمك
/ د. عادل سمارة
-
كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
/ تاج السر عثمان
-
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و
...
/ المنصور جعفر
-
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي
...
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|