أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - بين إيكو وبركات 3 / 3















المزيد.....



بين إيكو وبركات 3 / 3


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1551 - 2006 / 5 / 15 - 05:48
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


" عبورُ البشروش " عبْرَ فضاءاتِ " إسم الوَردة "


روايتان ومتاهة واحدة :

الأعمال الأدبية الكبيرة ، المعاصرة ، تفرّدت على مستوى الكتابة الروائية ، بترجيعاتٍ ذات خلفية تاريخية / أسطورية ، تماهياً مع اللحظة الزمنية الراهنة ، أو مقاربة رمزية لها . يستحضرنا في هذا المقام رواية " يوليسيس " لجيمس جويس ، كمثال على ما ذهبنا إليه ؛ هذه الرواية المفصحة ، بدءاً بعنوانها ، عن " تقمّص " بطلها مصيرَ وقدرَ بطل " إلياذة " هوميروس . كذلك إنتبه النقاد بخصوص كتابة جويس ، إلى مفارقتها إسلوباً ومضاميناً الأدب المكتوب بالإنكليزية ، الشائع في تقاليد بلاده الإرلندية ، عبرَ إنتمائها فنياً إلى النمط الفرنسي (1) . يمكننا مطابقة ما سلف ، مع ما حملته رواية " إسم الوردة " للكاتب امبرتو إيكو ، من جدة مدهشة في تقنيتها الفنية ومعانيها الكونية الكلية (2) . فكاتبنا هنا ، مع تمثله بأرض بلاده ، بيئة ً وتاريخاً وقيماً ورؤىً فكرية وفلسفية ولاهوتية . إلا أنه إعتمد في إسلوب السرد ولغته ، تحديداً ، طرقاً غريبة عن التقاليد الأدبية الإيطالية ؛ وفي الآن ذاته ، لا تقترب من مثيلاتها الأوروبية . غير أنّ إيكو في روايته هذه ، إختلف بشكل بيّن عن أنداده الأوروبيين ، في نقطة اخرى ، حاسمة ؛ وهي إعتماده شكلاً مبتكراً للسرد خالطاً فيه أشكالاً مختلفة من القص بعضها ببعض ؛ من تاريخية وبوليسية وفكرية .. وغيرها . فضلاً عن أنّ الماضي في " إسم الوردة " لا يُستعاد في لحظة السرد ( الراهنة ) على لسان الراوي ، إلا لكونه ماض ٍ مستعاداً من لدن المؤلف ، بدوره ، تقليباً على مواجع راهنه بالذات : " كمن يتركُ للقادمين ( إن لم يسبقهم المسيح الدجال ) ، دلالاتٍ لدلالات كي تتمرّسَ عليها عبادة ُ فك الرموز " ( إسم الوردة ، الصفحة 29 ) . ولعل مأثرة إيكو ، الأهم ، كانت في خلقه لبنية فنية متكاملة ، عبر تجميع وحدات ( موتيفات ) متناثرة ومتنوعة حدّ التنافر في ترتيبها الزمني والسببي . وإذا كانت فضاءات " إسم الوردة " تاريخية بحتة ، تتقصى صراعات ومجادلات فكرية وفلسفية ولاهوتية ؛ فإنّ إسلوب السرد فيها ، المبني على حبكة التحقيق في جرائم غامضة ، ينحو بها نحو الرواية البوليسية بمعناها الكلاسيكي ، المعروف . الشكل الأخير ، له ميزة الإثارة والمتعة والتشويق ، عرفَ إيكو جيداً قيمته أدبياً ووفاه حقه في " إسم الوردة " . علاوة على أنّ قصة إيكو ، ورَدَت موادها الخام لغة ً ومحاكاة وإستعارات وإحجيات .. ، من إرث الأدب الشعبي لبلاده العائد خصوصاً لفترة القرون الوسطى . هذا الإرث ، السوقيّ والفج في تعابيره ومعانيه ، كان متسقاً في رواية إيكو جنباً لجنب مع الصفحات المستلهمة من الكتب المقدسة ، الوقورة ؛ على غرار " سِفر الرؤيا " و " إلهام القديس يوحنا " و " الأناجيل " .. وغيرها . إنّ إيكو ، في أحد حواراته ، يعتقدُ بأنّ طريقته المبتكرة هذه ، تأسست من كون الكتابة ، بشكل عام ، لا يمكن لها إلا أن تستقى من تقاليد سابقة . حدّ أنه في هذا المضمار ، يستعيرُ مثالاً في الطريقة الفنية المعروفة بالـ " كولاج " ، والقائمة على رفد اللوحة بأنسجة وأتربة وقصاصات فوتوغرافية .. وما إلى ذلك من خامات . (3)

من جهته ، ما كان لسليم بركات ، شاعراً وروائياً ، إلا أن يخرج على أنساق الكتابة العربية السائدة ، سواءً بإطرها المعاصرة أو بمراجعها الكلاسيكية . إن إشتغاله على اللغة ، كان دوماً بهمة المنقب في أغوار منجم الذهب ، المتحدي لعوائق طبيعته الصخرية ، الوعرة . هكذا إشتغال ، لا يحيل الباحث _ كما كان شأن " ايكو " ، في خلفيته كسيميولوجي _ إلى مهنةٍ ما ، متوافقة مع خياره ذاك ؛ خصوصاً كروائيّ . ففي أعماله السابقة على " عبور البشروش " ، كان تأثره بالأدب اللاتيني الأمريكي جلياً . دون إغفال حقيقة ، أنّ " واقعيته السحرية " ، دجنها ببلاغة نضرة ، مميزة ، وبعوالم بيئته الغرائبية ، سواءً بسواء . إلا أنّ إجتناب بركات لأنساق أدبية ، راسخة ، ومألوفة للمتلقي العربي _ كما سلفَ القول _ كان من الطبيعي أن يخلق إشكالاً ، وربما نفوراً ، على صعيد القراءة . فهو في أعماله عموماً ، يُخالف ما عهدناه ، وما يُفترض ربما ، من إنسجام وتجانس في الفن . هكذا مخالفة ، ألقت بظلالها على نصه ، الذي بدا كما لو أنه خال ٍ من أيّ حبكة ، مشتتٌ ضمن وحداتٍ صغرى متبدية ، بدورها ، بلا رابطٍ يجمعها بالسرد . لقد أضفى بركات ، عن عمد ربما ، هذا الشكل على حقله الإبداعيّ ؛ بكل مغامضه وغرائبيته وألغازه .. ، غير عابيء بما قد يجتنيه _ ككاتبٍ صبور كدودٍ _ من ثمرات مرة . فإذ نوهنا بالمتعة التي يسترسل فيها قاريء نص إيكو ؛ فبالمقابل ، لا يحقق نص بركات هذه الميزة الهامة ، الحاسمة ، والتي يعتبرها رولان بارت أحد شروط العمل الأدبي (4) . من جهة اخرى ، قد ينطلي على البعض ، أنّ كاتبنا إعتمدَ في مستهل كل ٍ من رواياته " سجلاً تعريفياً " لشخصياتها ، تسهيلاً على قارئه ورحمة به مما سينتظره في مجاهلها ومعمياتها . لا غروَ إذاً أنْ يقول الراوي في " عبور البشروش " ، أنّ دافعه لقتل ذلك الرجل الغريب ، كان : " إغراء المشاركة في إفتتاح متاهة " ( الصفحة 30 ) . بيدَ أنّ أمرَ ذلك " السجل " الموصوف ، ليسَ شرحاً توضيحياً لمكامن النص ، عبر التعريف المزعوم بشخصياته ؛ بل لا يعدو كونه ، على ضعف رأينا ، لمعة ً اخرى من لوامع فانتاستياته (5) . يؤكد هذا الرأي ، ما عهدناهُ من شيمة بركات ، المتكتمة بإصرار ، خلال حواراته الصحفية ؛ لجهة تجاهله الردود الواضحة ، غير الملتبسة ، عن تساؤلات بخصوص إشكاليات هذه الرواية أو تلك ، من أعماله . ربما أنّ هذا الكتمان ضروريّ له ، كمؤلفٍ لا يأبه بنصه ، بعدما يفرغ منه وينتقل ليد القاريء . أو أنه سببٌ آخر ، يُحيلنا إلى حوار معه ، تحدّث فيه عن مسألة " الكتمان " كقدَر إنتمائه وإشكاليته : " لكل وجود مأزقه وإشكاله . الوجود الكردي يُشكل إسهاماً مضاعفاً في هذا الإشكال . قلتُ لمعلم اللغة العربية إنني كردي ، فحملق فيّ هلعاً ، ودمدم : " ماذا تفعل هنا ؟ إذهب إلى تركية " . عليك أن تتعلم كتمانَ أنك أنت " . (6)

في " إسم الوردة " ، ليس ثمة حياة متشكلة لأبطالها . السردُ المتقمصُ لسانَ راوي المخطوطة المزعومة ، ( وهو الراهب ، الفتى وقتئذٍ ، " إدسو " ) ، يأخذ القاريءَ دونما إمهال في رحلة متاهية ، غرائبية ، إلى عالم الدير ، الملغز . لقاء فتانا بالرجل المُكتهل ، العارف ؛ " غوليامو " ، كأني به لقاءٌ بالمعرفة نفسها ، الكلية المستحيلة ؛ لجهة تمثلها ، قبل كل شيء ، كدرجات في الشك واليقين : " لم أكن أعرف آنذاك عما كان يبحث غوليامو ، والحقيقة أني لا أعرف ذلك حتى الآن . وأخمن أنه كان هو الآخر لا يعرف ذلك " ( ص 32 ) . نحن هنا ، إذاً ، أمام شخصيتيْ العمل ، الرئيستيْن ؛ التلميذ والمعلم . كان هذا الأخير ، رسول الإمبراطور " لودفيك " إلى رئيس دير الفرنسيسكان ؛ الإمبراطور الذي نزل بجيوشه للتو في إيطالية تحدياً للبابا " الغاصب " . قول التلميذ ، منذ مفتتح " مخطوطته " ، بأنّ أستاذه كان " يبحث " عن شيء ما ؛ نحدسُ أنه أولى إشارات الرواية ، لما ينتظرُ الدير من أهوال مؤجلة . علاوة على أنّ تأكيده ، بعدم " معرفة " كل منهما عما كان يبحثه ؛ هو إشارة اخرى عن المعرفة الكلية ، المستحيلة ؛ والتي شاءَ المؤلفُ الوصول إليها خلل درب مدمى بجثث الجرائم الغامضة . بيْدَ أنه من الجائز لنا ، أيضاً ، مماهاة شخصية الراوي ؛ الفتى إدسو ، بشخصية المؤلف نفسه ؛ إيكو : وإذا غضضنا الطرفَ عن إسميهما ، المتماثليْ التهجية ، فلا ننسى أنّ كلاهما كان في فعل الكتابة _ كراو مكتهل _ يترجع مرحلة الصِبا المرتقية درجة فدرجة ، مراتبَ المعرفة . إننا نعرف حقيقة إنهماك إيكو ، المحموم ، المستمر ، في الدراسات ذات الطابع المعرفيّ ، ( وخاصة إختصاصه السيميولوجي : أو علم العلامات والرموز ) ، ومن ثمّ قيامه على تدريسها في الجامعات والمعاهد . هذه الحقيقة ، تبيح لنا إفتراض تقمّصه في " إسم الوردة " شخصيتا التلميذ والمعلم ، معاً . أو على الأقل ، تأثره وهو فتىً بعد ، بأستاذ ما ، كان له فضل كبير عليه معرفياً . قد نرى في " العلامات " التي قرأها غوليامو للمساعدة في العثور على الحصان الضائع ، ما يعضدُ فرضنا ذاك ؛ علاماتٌ سيجتاسها لاحقاً ، في ألغاز الجرائم الغامضة ، التي تهز الدير : " هكذا كان أستاذي . لم يكن يعرف قراءة كتاب الطبيعة الكبير فحسب ، بل والكيفية التي كان الرهبان يقرأون بها الكتب المقدسة ويفكرون من خلالها " (ص 43 ) . وحتى حادثة حريق الدير ، المختتمة به الرواية ؛ ألا يستعيرها كاتبنا إيكو من ذكريات صِباه ، المُنارة بلهيب الحرب العالمية الثانية ؛ بإفتراض إستعاراته لرموزها : البابا " الغاصب " / موسوليني ، الديكتاتور ، كوطنيّ فاشيّ ، معادٍ للحرية والفكر التنويري ؛ والإمبراطور الأجنبيّ " لودفيك " / كناية ً عن الحلفاء الأمريكان والإنكليز ، المحررين ، إثر نزول قواتهم في شبه الجزيرة الإيطالية ؟

شخصيات " عبور البشروش " ، فيها إلتباسٌ مبطنٌ . هنا أيضاً ، كما كان الأمر في الرواية الاخرى ، القرينة ، لا يمكن الحديث عن سيرة حياة متشكلة للراوي ( وهوَ المنعوتُ بمهنته كـ " مهندس " ) . وعلى المنوال ذاته ، مما إستهل به نص إيكو ؛ يُدخل بركاتُ القاريءَ إلى نصه خللَ مسالك ملغزة ، متاهية ، تودي بالراوي إلى فعل جريمةٍ ما / إنتحار ما . الضحية ؛ هو الرجلُ الموسوم بصفته كـ " غريب " ، ولا يظهرُ في السرد إلا كشبح أو طيف عابر . يستعيدُ الراوي صورة ذلك الغريب ، فيما بعد ، متماهية بملامحه وملامح صديقه " جانو " سواء بسواء ( ص 191 ) . هذا الأخير ، بعلامته تلك ، كما بمهنته كمهندس معماريّ ؛ نستقريءُ فيه نوعاً من " القرين " للراوي : قراءة ً تحيلنا ، أيضاً ، إلى بطليْ " إسم الوردة " ، بفرض تماهيهما بشخص مؤلفها ، بالذات . ثمة ما يدعمُ فرضنا هذا ، لجهة تعابير على الخلفية نفسها من المرامي ؛ كما في موضوعة البحث المستحيل عن المعرفة ، السالف ذكره في رواية إيكو . إنّ الإشارة لرمز " المسيح الدجال " ، في مفتتح هذه الأخيرة ( ص 29 ) ، متواترة ٌ في رواية بركات ، فضلاً عن " تكرار " للمعنى نفسه بخصوص ما سبق عن المعرفة ، المستحيلة : " هؤلاء رسُلُ المسيح الدجال ، يا رجل ؟ " . يقول جانو ، ويستطرد : " لا أعرف أنني أعرفهم " ( ص 56 ) . هذه الجملة الأخيرة ، تتقاطع مع مثيل لها ، شبه حرفيّ ، في رواية إيكو : " ولكنك لا تعرف لماذا تعرف أنك تعرف ماذا تفعله " ( ص 231 ) . إنّ فرضيتنا عن تماهي مؤلف " إسم الوردة " مع بطليْها ؛ هذه الفرضية ، نسحبها على " عبور البشروش " ، أيضاً : لنلاحظ أولاً " متاهة " الراوي وجانو ( في تماهيهما ببعضهما البعض ، على زعمنا ) ، حتى لحظة وصولهما للجزيرة القبرصية . كذلك ما سبق لنا ، في حلقة سابقة ، أن قمنا به من جردة لزمن الرواية ، الكليّ ، منذ وصول الراوي وحتى إنهيار المتحف ؛ المكمّل تمام العقد من الأعوام : وهي الفترة ، بكمالها ، التي قضاها المؤلف ، سليم بركات ، في تلك الجزيرة ، لحين إنهائه روايته هذه . وإذ يقول جانو ، في مستهل القص : " أنا مهندس المتاهات " (ص 21 ) ، فكأنما ينقل ذلك على لسان الروائي ؛ هذا القائل في حوار صحفي : " أنا عراب المتاهات " (7) . لعل الجزء الأخير من ثلاثية " الفلكيون في ثلثاء الموت : كبد ميلاؤس " هو أوضح دليل ، لما ذهبنا إليه عن تماهي بركات مع عمله هذا ، بأجزاءه الثلاثة على السواء : فهو يسمي في تلك الرواية الأخيرة ، بدون مواربة ، أفراد أسرته ويعطي تفصيلات وافية عن بيته في " نيقوسيا " ؛ بدءاً بلحظة عمارته والمتوافق مع كون ذلك الجزء _ والثلاثية ، بشكلها العام كبناء متصل ؛ كما يُفيدنا غلافها الداخلي : " ثلاث حركات قوامها الهندسة ُ مُطلقاً ، والترجمة ، والعمارة ، هي أساس الميتات المجازية في عمل روائيّ يجمعه مكانٌ واحد " . (8)

هذا الثالوث المركونُ على العمارة ، أساساً ، والمُشكِل ، بحسب حاشية الكاتب ، آنفة الذكر ، وجْهَة مصائر أبطال " عبور البشروش " ؛ يُمكننا إستكناه دلالته بما كانه رمزُ " المتحف " : ها هنا بناءٌ قيد الإنشاء ؛ قريبٌ من الإكتمال [ العمارة ] ؛ مهندسون خصصت لهم قاعة ، يعملون فيها ما يلزم من تخطيطات لهذا البناء [ الهندسة ] ؛ وكتب مخطوطة ؛ إحداها لإبن سينا ، صنفه معاصر له محتوياً ترجمات النص ضمن المتن نفسه ، باللغات اليونانية والسريانية والفارسية والعربية [ الترجمة ] . صفة " المتحف " ، في رواية بركات ، برأينا ، تتفق مع صفة " المكتبة " ، في رواية إيكو : فكلاهما مضروبٌ عليه نطاقٌ مُحكم من التكتم والسرية ، ضافرَهُ ميتات غريبة / أو أمراض غامضة ، طاولتْ العاملين هنا وهناك . هذه الميتات / الأمراض ، نجمتْ عن رغبة إنسانية مشروعة ، ولكنها ممنوعة في الآن نفسه ، في " معرفة " محتويات كتبٍ معينة : " تساقط فيها الكثير من المهندسين غرقى مثلثات ودوائر لم تروضها اقلامهم " ( عبور البشروش ، الصفحة 176 ) . هكذا إحالة للجريمة برغبة في المعرفة ، كان قد توصلَ إليها مُحققنا ، غوليامو ، في " إسم الوردة " : " لو كانت الجريمة من كتاب ، ذلك يعني أن القاتل يريد الإحتفاظ وحده بأسرار ذلك الكتاب " ( ص 314 ) . ثم حصلنا على مصادفة سعيدة ، تعزز تأويلنا لرمز " العمارة " كدلالة مشتركة ، في كلا الروايتيْن القرينتيْن . ففي حوار صحفي ، يعبّرُ امبرتو إيكو عن هاجسه من أنّ التطور الإلكتروني المتسارع ، في زمننا المعاصر ، سيؤدي إلى تحوّل المكتبة من مكان لقراءة الكتب ، إلى متحفٍ لجمعها وعرضها (9) . العمارة كهندسة وفن ومعرفة ، برؤية المعلم غوليامو في " إسم الوردة " ، تنسخُ نسَقها من نسَق الكون ( كوسموس ) : " لأنها بمثابة حيوان عظيم يتجلى فيه تكامل وتناسب كل أعضائه ( ص 45 ) . هذه الإستعارة ، نعثر عليها في رواية بركات ، بتصوير مماثل لرمز الحيوان ، وأنّ صوته : " هو المعرفة الكلية مختزلة إلى عجمةٍ تؤرق الإنسانَ " ( ص 68 ) . كانت المكتبة حَرَم مقدس ، في " إسم الوردة " ، حتى أنها وصفتْ كـ : " متاهة كبيرة ، وهي دليل على متاهة العالم " ( ص 180 ) . المكتبة ، تسمو بكتبها المخطوطة ؛ وهذه بدورها لا تصبحُ سامية ً ، جديرة بالإقتناء ، إلا وهي موشاة بالمنمنمات والنقوش والتصاوير والتخطيطات . لا غروَ ، والحالة هذه ، أن تصير قاعة الرسامين محط الأعين اليقظة ، المُراقِبة . فالفنّ يستطيعُ ، بنظر اللاهوت ، أن يُحققَ سموَ المقدس ؛ إلا أنه في الآن ذاته ، قادرٌ على خلق الغواية . لا عجبَ ، أيضاً ، أن يخرجَ من هذه القاعة بالذات ، أولئك " الخارجون " على الأعراف والحرمات ؛ التواقون إلى " المعرفة " الممنوعة . ثمة مماهاة ، في الرواية ، للرغبة الجسدية بالمعرفة : من علاماتها ، أنّ كلّ ضحية لجرائم " الكتاب " ، الغامضة ، سبقَ له أن كان عُرضة للشبهة برسم التصاوير الجنسية ، على هامش عمله بالكتب المقدسة ؛ كالأناجيل وغيرها . حتى ويذهب غوليامو ، في تحريه لإحدى الجرائم ، حدّ القول أنّ القتيل كان قد بادلَ : " خطيئة الجنس لإرضاء رغبة الفكر " ( ص 160 ) . هكذا أجواءٌ مشحونة بالسرية والألغاز ، نجتاسها أيضاً في " عبور البشروش " ؛ وفي قاعة المهندسين ، تحديداً ، التي كان يعمل فيها الراوي وقرينه ، جانو . يُعرّف إسم القاعة بمهنتها ، المتمثلة بمهندسين يصممون تخطيطات لعمارة المتحف . هاهنا رسومٌ ومنمنمات وألوان وخطوط ، على منوال متماثل ، مع ما عرضناه آنفاً بخصوص قاعة الرسامين في رواية إيكو .. ، وهاهنا الرغبة الجسدية تتماهى كذلك مع المعرفة ؛ بصفة الأخيرة كمتاهة ، يُجسدها رمزُ " المتحف " في رواية بركات : " الفرجُ متاهة " ؛ في إحدى التعريفات .. ، وهو بحسبها أيضاً : " صورة الكون " ( ص 64 ) . هذه المعرفة ؛ الموصوفة ُ كحَرم مقدس ممنوع على المتطفلين ، يُحاولُ بعض المهندسين إختراق حجبه ، عن طريق سرقة " الكتاب " ، مما نجم عنه أوخم العواقب .

عطفاً على تأكيدنا ، سالف الذكر ، عن مماهاة الرغبة للمعرفة عند إيكو ، ولاحقاً عند بركات ؛ أنّ كل من روايتيْهما تستعيدُ ، في هذا الشأن ، رمز " الشيطان " إنطلاقاً من عقيدة الخير والشر ، في الشرق القديم ، والمنتهية لكمالها في الديانات السماوية . من النافل هنا القول ، أننا نقصدُ إغواء حواء ، بخصوص الشجرة المحرمة ؛ مما آل بها ومن ثمّ زوجها إلى " معرفة " بـ " الخطيئة " ، وبعدئذٍ الطرد من الفردوس . وكان مما له مغزاه ، أنّ الجريمة الأولى على الأرض ، ( مقتل هابيل ) ، إنما هي حاصلٌ لتلك المعرفة نفسها . رواية " عبور البشروش " ، تمثلتْ رمز " الشيطان " هذا ، محيلة ً إليه أقدار شخصياتها ومصائرهم . تدخلُ " جين " إلى السرد ، عبر مغامض ذلك الرمز الإغوائيّ ؛ بوصفها أجنبية ( من أصل بريطاني ) ، متآلفة مع غيرها من الأجانب ( كالكردييْن ، الراوي وجانو ) . جدير بالتنويه ، حقيقة أنّ أغلب حوارات أولئك " الغرباء " كانت تجري في المطعم ؛ هناك ، حيث إعتادوا على تأمل شجرة عظيمة من الخروب . تنهمر كلمات الراوي بغزارة ، في وصف الشجرة وبأدق التفاصيل . ها هي إحدى رموز " الغواية " ، تتمثل على رأينا ، بشجرة الخير والشر : " وأخيراً يرى صورة " الغريب " الذي قتله ، ومن حولها قرون غزالات متشعبة كظل شجرة الخروب " ( ص 203 ) . إذا نحينا جانباً صورة هذا الغريب ، المتبدية هنا على شكل شيطان ذي قرنيْن ؛ فإنّ تماهيهما بعضهما ببعض ، يجدُ له سنداً قوياً في مكان آخر من الرواية ، عندما يقول الراوي للمشرف على مساكن المهندسين : " منذ ثماني سنوات أطلقتُ طلقتين على غريب في قبو بيتي .. أانتَ الشيطان ؟ " ( ص 234 ) . لا تظهرُ تلك البريطانية في السرد ، إلا بصفة الإغواء هذه ؛ وسنجد أنّ حضور الأنثى في رواية إيكو ، كان متوافقاً مع ما سبق . وعودة إلى " عبور البشروش " ، لنجدَ أنها تعوّل على رمز الشيطان ( تدعوهُ أحياناً " ابليس " ) ، كتجل إلهيّ مُحتفى به في عقيدة الإيزديين ، الكرد . وربما أنّ إحدى طقوس العقيدة ذاتها ، المعروفة بـ " الدائرة السحرية " ، يتمثلها المهندس جانو بقوله : " المتاهة تبدأ من الدائرة " ( ص 175 ) . هذه العقيدة ، وجدتْ لذلك الإله مكاناً في الكثافة والعتمة ؛ في طيات نبات الخسّ ، مثلاً ، الذي تفصّل الرواية أسراره ، شأنَ نباتات اخرى .

قلنا أنّ بركات في " عبور البشروش " ، وجدَ في بعض رموز وطقوس قومه _ وأقوام المشرق ، عموماً _ ضالته ؛ محيلاً لها أقدار أبطاله ومصائرهم . بيدَ أننا نعثرُ ، في هذا المضمار ، أيضاً ، على تقاطعات مع رواية إيكو : فالشيطانُ هنا ، كرمز للغواية ، حاضرٌ ، خصوصاً ، عبرَ دفع أولئك الرسامين _ ضحايا المجرم الغامض _ إلى الخطيئة المتمثلة بالرغبة ، غير الشرعية لاهوتياً ، في معرفة مضمون " الكتاب " ؛ فضلاً عن شبهة التلوث بالشهوات الجسدية ، المحرّمة بدورها : " لماذا تلحّ على الأعمال الإجرامية ، دون التعرّض لأسبابها الشيطانية ؟ " ، يسألُ مدير المكتبة المحققَ غوليامو ( ص 50 ) . وكان هذا الأخير ، في تقصيه لدلالات معينة ، يزداد إقتناعاً بأنّ ثمة علاقة متواشجة بين الجريمة والمعرفة . إنّ ذلك " الكتاب " ، الموصوف بالإلغاز والسِحر ( وهو كتاب " الضحك " ، لأرسطو ) ، ما كان سوى واحداً من آلاف الكتب ، المُحاطة بالتكتم الشديد ، والمتراصفة في رفوف المكتبة . يظهرُ الكاهن " يورغ " ، العجوز الأعمى ، في السرد ، كما لو أنه الحارس الخفيّ لأسرار مكتبة الدير ؛ وفي الآن ذاته ، يكون ظهوره كنذير لقدوم المسيح الدجال ( = قرين الشيطان ) ، المفترض بإكتمال الألف عام مذ تنصّر الإمبراطور الروماني قسطنطين : " إنه آتٍ ، لاتضيعوا الأيام الأخيرة في الضحك على الوحوش المفهّدة والأذناب الملتوية ! لا تهدروا الأيام السبعة الأخيرة ! " ( ص 106 ) . ثمة فيما سبق ، إشارتان وردتا على لسان العجوز الأعمى : أولهما ، أنّ قدوم المسيح الدجال ، قد إستوفى مدته بحسب المدة الزمنية له ( أحداث الرواية تجري في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي ) . الإشارة الثانية ، أنّ إسبوعاً حسب ، قد بقيَ للعالم ( وهو زمن الرواية ، الكليّ ، بحسب تقسيم فصولها ) . هذه المدة المفترضة لقدوم ذلك الدجال ، تتوافق أيضاً مع عِقدة الرواية ( = جرائم " الكتاب " ) . إذ أنّ العجوز الأعمى ، يعتقدُ أيضاً بأنّ ذلك " الكتاب " ، السري ، قد ظل : " مجهولاً لألف عام ، بإرادة الربّ ، حتى وصل إلينا عن طريق العرب الكافرين " ( ص 139 ) . هذا الأعمى ، كما تنبئنا خاتمة الرواية ، كان مسؤولاً عن تلك الجرائم كافة ، وبصفة حراسته لأسرار المكتبة ؛ وعلى الأخص كتاب أرسطو، السري ؛ " الضحك " ، من خلال تسميم صفحاته . لا غرو إذاً أن يواجهه غوليامو بهذا القول ، المُحيل لسِمة عاهته : " إنك أنت الشيطان ، وكالشيطان تعيش في الظلمات " . ( ص 513 )

لو عُدنا إلى " عبور البشروش " ، فإنّ أول ما يستوقفنا في مقاربة ما مضى ، هو رمز " المسيح الدجال " في رواية إيكو ، كقرين للشيطان : ألا يُذكرنا هذا ، بما سلف وذكرناه عن مسألة " القرين " في رواية بركات هذه ، الخاصة بشخصيتيْ الراوي / " الغريب " ؟ هذا القِرانُ ، المُستعادُ أيضاً بشخصية عامل القبة ، ( الغامضة ، بوصفها ككائن غير مرئيّ إلا من الراوي ) / مع شخصية " ميلان " ؛ الشاعر وصديق الراوي من فترة الدراسة الروسية . علاوة على إقتران شخصيتيْ الراوي ، بالذات / وجانو ، صديقه المهندس . ونلاحظ ايضاً ، أنّ تلك المهلة الزمنية لعودة دجال " إسم الوردة " يتطابق مع رمز مماثل ، في " عبور البشروش " ؛ هو يلماز ملي ؛ سجين الألف عام ( ص 164 ) . كذلك نقرأ عن نفس تلك المدة الزمنية ، الألفية ، لحظة إنهيار المتحف : " كأنما إنفجرتْ رئة هائلة ، إحتبست فيها الأرض ، وأنفاس ضمائرها ، ألف عام " ( ص 238 ) . بل إنّ هذه الرواية توردُ إسم " المسيح الدجال " ، حرفياً ، كنذير ما ، للمجهول المتربص بأبطالها ( ص 56 ) . وإذا غضضنا الطرف عن حقيقة ، أنّ رمز " المسيح الدجال " لاهوتيّ مسيحيّ بحت ، ( وهو في الوقت نفسه يمت بصلة وثقى للسياق العام لرواية إيكو تلك ، ومراميها وخلفياتها ) .. ؛ فنتساءل ما إذا كان الأجدر بسليم بركات _ كإستخدام لمدلول مشروع ، صائبٍ ، في روايته _ أن يوردَ رمزاً إسلامياً ، خالصاً ؛ هوَ " الأعورُ الدجال " ( = البديل المزيف لشخصية " صاحب الزمان " ) .. ؟ كذلك الأمر في رمز " الكتاب " ، السري ، المسموم الأوراق ( في رواية إيكو ) : فهل كان من باب المُصادفة ، أن يقول الراوي ( في رواية بركات ) عن صديقه المقلب لرسمة جين : " كأنما أصابه سمّ الورقة " ( ص 170 ) .. ؟ شخصية " يورج " ، في رواية إيكو ، تتماهى بهذا الشكل أو ذاك ، مع شخصية " المشرف " ، في رواية بركات : فهو هنا ، بلا إسم أو كنية ، ( غير صفة مهنته في المشروع ) ؛ ذو كينونته غامضة : " كأنما لم ينحدر من نسل " ( ص 182 ) ؛ إنه بحسب بعض الإشارات ، مسؤول عن إنهيار مشروع المتحف وسرقة دفاتره ( ص 180 ) ؛ يتقمصُ فجأة لهجة " جانو " مُصرّاً على إصطحاب الراوي إلى " القبة " ( = بديل " المتحف " ) ، فيشهدا معاً إنهيار هذا البناء الأخير ، بدويّ يُشبه صوتَ الطلقة التي أودتْ بحياة " الغريب " ، قبل بضع سنوات ( ص 238 ) . ثم كان لابد أن يتماهى أعمى " إسم الوردة " ، مع مشرف " عبور البشروش " ؛ كرمز على الأقل ، حيث عثرنا على هذه المتوالية من العلاقات ، صدفة ً ! ، في الصفحة 244 : أ _ المشرف ينزف من عنقه كما لو أنه " الغريب " ، المصاب بالطلق الناري ( الغريبُ ، بوصفه قريناً للراوي ) ب _ يؤكد المشرف للراوي أنّ جانو شخص متخيّل غير موجود " مخترع " ( الراوي ، بوصفه قريناً لجانو ) ج _ يخرج الراوي من المكان ، ليجد نفسه أمام المطعم ، حيث يبصرُ أشخاصاً غامضين أمام دراجاتهم النارية ، فيستلفته شكل أحدهم ، فيدركُ أن حركاته هي حركات أعمى ( المشرف ، بوصفه قريناً للأعمى ) د _ " وعينا الأعمى ترتدان نحو نهار أعمى ( الأعمى ، بوصفه رمزاً للشيطان ) يتخذهما عينين في متاهات ضيائه " ( المتاهة ، بوصفها فخاً للمجرم الغامض ، المفترض ) .

نقعُ أخيراً في شِباك الخاتمة ، المنتهية بها كل من " إسم الوردة " وقرينتها " عبور البشروش " . هاتان الروايتان المتعاقدتان _ بقراءتنا المُقاربة ، على الأقل _ على مَعقِد مُعْضِلةٍ كبرى . معضلة ، تشابكت فيها ، هنا وهناك ، حيوات ومصائر الشخصيات مع أقدار قاسية وهازلة ، في آن . هذه الأقدار ، بصفتها السرانية ، الملغزة ، المتأبدة ، المرسومة بعناية لتلك الشخصيات البشرية درءاً لها من شبهة المعرفة ( = الرغبة ) غير المُجدية والمودية إلى الريبة والمظنة والهلاك . تيمة المكان والزمان ، علاوة على رموز الكائنات والأشياء والظواهر ، تنحو دلالاتها على المنوال نفسه ، عموماً ، في خاتمة كل من الروايتيْن المعنيتيْن : أ _ المطبخ ( كرمز للرغبة / المعرفة ) ؛ يتعرف الراوي إدسو ، في رواية إيكو ، على الرغبة الجنسية ، الظافرة ، من خلال " الفتاة " ، التي ينتهي مصيرها لقبضة محكمة التفتيش فتدان بالموت كأدات للشيطان : والفتاة " جين " ، في رواية بركات ؛ التي يتعرف عليها الراوي في المطعم ، ومن خلالها على الأنثى ، يُصبح مصيرها مجهولاً ، إثر سرقتها لدفاتر من المتحف ( = كأنها أداة للمشرف / الشيطان ؟ ) ب _ القبة في رواية بركات ( كبديل للمتحف المنهار / الرمز ) ؛ تتسرب إليها تخطيطات المتحف من خلال المشرف ، ويتسلمها العامل الشبيه لميلان : وفي رواية إيكو ، فإنّ الكتب القليلة ، التي يتمكن غوليامو من تخليصها من النيران ، تضحي هنا كـ " بديل " عن المكتبة المحترقة ، المندثرة مع مخطوطاتها . ج _ المرآة ، في " عبور البشروش " ، كرمز آخر للقرين ( = الشيطان ) ؛ فحينما يتمرأى فيها الراوي ، تباغته صورة المشرف " الغريب " معكوسة فيها ، فيطلق النار عليه ( على نفسه ؟ ) : ثمة مرآة مماثلة ، في " إسم الوردة " ؛ يرى فيها الراوي نفسه على شكل شيطان ، حتى أنه يصرخ بإسمه فرقاً . د _ الحلم ، في رواية بركات ، متماهٍ مع تعريفات بليغة لأنواع مختلفة من النبات ؛ والبراد الذي ينهمرُ في منام الراوي هذا ، بكل تلك الأنواع الموصوفة ، يبدو كما لو أنه إشارة إلى الواقع ؛ إذ يتكشف ( البراد ) في الفصل الأخير من الرواية عن هوّة تفضي إلى قبو المسكن ( = مجاز المتاهة ) ؛ حيث يلتقي الراوي مع " الغريب " ( = الشيطان ) : وفي رواية إيكو ، يتراءى للراوي في منامه وليمة عجيبة ، تشارك بها طائفة من القديسين المحتفية بالمسيح والعذراء ؛ وكلهم على صور لأشخاص واقعيين نعرف أسماءهم من خلال السرد ؛ كـ " البابا الغاصب " ( = رمز الشيطان ) ؛ ثم يفيق بطلنا أخيراً من حلمه على صوت معلمه الخارج من المتاهة . ه _ رمز " المكتبة " ، في رواية إيكو ، يتقاطع مع رمز " المتحف " ، في رواية بركات ، كما سبق ونوهنا أكثر من مرة ؛ فكلاهما متاهة ، بالمعنى الحرفي أو المجازي ؛ متأسسة وفق علوم متداخلة ، هندسية ومعمارية وفلكية . إنّ المتاهة في " عبور البشروش " مجازٌ أكثر منها واقعاً .. ، بل " متاهات " ، لاتنتهي : تحيل إلى الدينيّ ، ( قابيل وهابيل ) ، في قتل الأخ لأخاه ( ص 33 ) .. ، وإلى اللغويّ ، ( خلط الكردية بلكنات ) ، مُسمية عبث جانو بلغته القومية ( ص 45 ) .. ، وإلى الجغرافيّ ، ( شمال أفريقية ) ، على أنها قدَرٌ سريّ ما ( ص 210 ) .. ، وإلى الشعريّ ، ( قصيدة صديقه ميلان ) ، مُرجعة حروف معينة من أبياتها إلى أشكال رؤوس آدمية ( ص 217 ) .. ، وربما نهتدي أيضاً إلى " المتاهة " بمعناها الحَرْفي ( الواقعي ) ، كما نستقصيه في الطابق الثاني من المتحف ، المصمم من لدن جانو ( ص 184 ) . تأكيداً لقولنا ، عن " متاهات " رواية بركات ؛ فها هي الرواية القرينة ، " إسم الوردة " ، تعيدُ التأكيد نفسه على لسان المعلم غوليامو : " كم يكون العالم جميلاً ، لو كانت هناك قاعدة للتجول داخل المتاهات " ( ص 200 ) . ولا ندري هل كان إتفاقاً أنّ " قاعة أفريقية " ، هنا في مكتبة " إسم الوردة " ( ص 346 ) ، لها صفة متاهية كـ " شمال أفريقية " ؛ الموسومة في " عبور البشروش " ؟ أياً كان الأمر ، فالمتاهة في كلا الروايتيْن هي مجازٌ لواقع المكتبة / المتحف ؛ هذا الواقع ، المُحيل بدوره إلى رمز للمعرفة المستحيلة . لا غرو إذاً ، أنّ المعلم غوليامو يقول عن المكتبة ، أنها ليست : " أداة لنشر الحقيقة ، بل لتأجيل ظهورها " ( ص 319 ) . ومما له مغزاه هنا ، أنّ ظفر المعلم بـ " الكتاب " ( أيْ مؤلف أرسطو ، المفقود ) ، ومن ثم بالقاتل الذي أوقع بضحاياه منعاً لـ " معرفة " ذلك الكتاب ؛ هذا الظفرُ ، كان له ثمن فادح ، تمثل بإندثار المكتبة برمتها في الحريق . ربما قاربتْ الخاتمة في رواية " عبور البشروش " لسليم بركات ، ذات الرؤية والدلالة ، حينما يلتقي الراوي فيها مع قرينه " المُشرف " ، فيحظى منه بنسخة من " المخطوط " ( أيْ مؤلف المارديني ، المُسمى " التأسيس الكبير " ) ؛ ويكون المتحف وقتئذٍ قد إنهار : " أكان هذا الكتاب هنا ، أيضاً ؟ " . ( ص 247 )

هوامش ومصادر :

1 _ ادمون ولسون ، قلعة اكسل : دراسة في الأدب الإبداعي _ الطبعة العربية في بيروت 1979 ، ص 153
2 _ امبرتو إيكو ، إسم الوردة _ الطبعة العربية في تونس 1992
3 _ جمانة حداد ، حوار مع امبرتو إيكو _ ملحق " النهار " الثقافي ، ليوم 18 كانون الثاني 2004
4 _ رولان بارت ، لذة النص _ الطبعة العربية في حلب 1992 ، ص 37
5 _ سليم بركات ، الفلكيون في ثلثاء الموت : عبور البشروش _ بيروت 1994 .. وجدير بالتنويه هنا ، أنّ هذه الطريقة في التعريف بشخصيات الرواية ، كانت معروفة في الأعمال الكلاسيكية عموماً ؛ وربما أنّ أول من أعاد " إحيائها " من الكتاب المعاصرين ، هو الكاتب الإيطالي جيزوالدو بوفالينو
6 _ ناصر مؤنس وصلاح عبد اللطيف ، حوار مع سليم بركات _ مجلة " تافوكت " العدد الأول 1998 : نقلناها من مجلة " حجلنامة " العدد الأول 1999 ، ص 35
7 _ المصدر نفسه ، ص 44
8 _ سليم بركات ، الفلكيون في ثلثاء الموت : كبد ميلاؤس _ بيروت 1997
9 _ حوار مع امبرتو إيكو ، مصدر مذكور



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلتسلُ أبداً أوغاريت
- بين إيكو وبركات 2 / 3
- بين إيكو وبركات 1 / 3
- منتخبات شعرية
- الماضي والحاضر
- الوحدة والتعدد في اللوحة الدمشقية
- مأثورات دمشقية في مآثر كردية
- سرّ كافافيس 2 / 2
- سرّ كافافيس 1 / 2
- الدين والوطن ، في ورقة إخوانيّة
- طغم وعمائم
- علوَنة سوريّة : آثارُ 8 آذار
- بلقنة سورية : جذور 8 آذار
- نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 2 / 2
- نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 1 / 2
- مذاهب متشاحنة ؛ السنّة والعلويون والآخرون
- أثنيات متناحرة ؛ الكرد والسريان ، مثالاً
- الوثنيّة الإسلاميّة
- الموساد ، من كردستان إلى لبنان
- التعددية ، في وصفة بعثية


المزيد.....




- السعودي المسجون بأمريكا حميدان التركي أمام المحكمة مجددا.. و ...
- وزير الخارجية الأمريكي يأمل في إحراز تقدم مع الصين وبكين تكش ...
- مباشر: ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب ع ...
- أمريكا تعلن البدء في بناء رصيف بحري مؤقت قبالة ساحل غزة لإيص ...
- غضب في لبنان بعد تعرض محامية للضرب والسحل أمام المحكمة (فيدي ...
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /26.04.2024/ ...
- البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمق ...
- لماذا غيّر رئيس مجلس النواب الأمريكي موقفه بخصوص أوكرانيا؟
- شاهد.. الشرطة الأوروبية تداهم أكبر ورشة لتصنيع العملات المزي ...
- -البول يساوي وزنه ذهبا-.. فكرة غريبة لزراعة الخضروات!


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - بين إيكو وبركات 3 / 3