|
كربلاء بين ذاكرة التاريخ وتأريخ الذاكرة
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6345 - 2019 / 9 / 8 - 20:15
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كربلاء بين ذاكرة التاريخ وتأريخ الذاكرة
لم يسجل التاريخ الديني والإنساني في ذاكرته حدثا محوريا وضع الإنسان أمام جدل فكري مثلما وضع كربلاء وشخوصها وأحداثها على محك الضمير الإنساني إلا في قضية السيد المسيح ع، فكلا القضيتين لهما بعد أخر وموضوعية مميزة في تناول ما حدث والنتائج المترتبة عليه، قد يكون للعواطف الإنسانية دورا هاما في ذلك من خلال صورة المظلومية أو من خلال قيمة الحدث ذاته وما جر من إرتددات عبرت حالة الزمان والمكان المعنيين بالقضية، في قضية نبي الله عيسى ع كان الحدث يمر عبر ظلم الإنسان لأخيه الإنسان لمجرد أن أراد المصلح النجاة للجنس البشري عبر رسالة خلاص ونجاة وترقي في القيم التي لا بد للبشر أن يستعينوا بها صوب الكمال البشري والإصلاح المجتمعي، فذهب عيسى قربانا لهذه المبادئ دون أن تذهب هذه المبادئ ذاتها كما خطط لها وترسخت من خلال عملية الأعتيال السياسي له، نجح أصحاب الطريق العنفي اللا سوي من تغيب النبي والرسول عن خارطة الوجود لكنهم أصطدموا بالفكرة ذاتها وبقي الصراع بين محور الحق والباطل أو الخير والشر محتدما حتى الساعة. لا تختلف قضية الحسين ع عن قضية النبي عيسى ع ولم تترك التفاصيل الجزئية مجالا للتفاضل بينهما في قيمة ما أحدثت من أثر فكري ومعرفي ونفسي في الدرجة الأولى على طرفي المعادلة، فالقضية برمتها أغتيال سياسي بعنوان ديني كما يبدو لمن أطلع على شكلية القضية، بينما في جوهرها الحقيقي هي أغتيال قيم الحق والخير والفضيلة لصالح منهجية الذات المتضخمة المريضة والمفتتنة بوجودها المتزاحم خارج ما هو إنساني وطبيعي ومنطقي، لذا فما حدث في كربلاء عام 61 هجرية ليس حدثا مرهون لا بشخوصه ولا بالزمكان النوعي، بل كانت أهتزاز حقيقي في ضمير الإنسان كل الإنسان ليعيد حساباته في كل مرة وهو ما يزال يرى دم الفضيلة والإنسانية والحرية تتقاطر من بين يديه، من هنا نشأت تاريخية القضية على أنها فصلا داميا أذهب بنجاح الإنسان أن يكون عامل أصلاح وتوحد في سبيل المبادي العليا التي لا يختلف بشأنها أحد. عندما تتحول تاريخية الحدث إلى إشكالية مختلف بشأنها وبشأن قيمة التجربة ونتائجها، تتحول القضية من محرك أجتماعي تاريخي رئيسي مهم يدفع بالمجتمعات لاستخراج مضمون التجربة وجعلها قيمة معرفية عقلية مساهمة في التطور إلى عامل تشتيت وتمزيق للمجتمع الإنساني، وبذلك يتحول التاريخ ذاته إلى أداة طيعة للأنا الإنسانية المريضة لتكمل مشروع أغتيال أخر أكبر من الحدث ومضامينه وتبدأ معه جولة أخرى من الصراع كأنما نحن في دوامة ضرورية التنازع وليس أمام ضرورية الإصلاح والتمدن ومراجعة الذات عما أرتكبته من خطيئة القتل ذاته، لهذا السبب نرى أن التفاعل مع القضية يأخذ بعدين أساسيين في الصراع بعد القيم وبعد المظلومية ووجوب تصحيح الخطأ، فنجد الصراع التاريخي تحول إلى صراع من نوع أخر صراع مصالح بشخوص رموزها وصراع بقاء من خلال الرموز ذاتها وخرج الإنسان الذي أرادته القيم أن يكون عنصر إيجابي طبيعي في حركته داخل المجتمع محملا بهزيمة أخرى حين عجز أن يوقف هذا الصراع في نقطة الأنحياز لوجوده المحض، وتحول لحطب جاهز للرمي به في أتون مجموعة من النزاعات العبثية بين من يريد للصراع أن يستمر وبين مؤيدي الإصلاح والاستفادة من التجربة ونتائجها. المشكلة الرئيسية والإشكالية الكبرى تكمن في تحويل التاريخ وقضيته إلى تفرعات تفرغ القضية من محتواها وتجير ماهيتها إلى تاريخانية مفرطة في تزوير الحدث، وتشويهها بأستخدام الرموز كأدوات للصراع بعيدا عن أصل القضية ولبها الجوهري، فلا أنصار السيد المسيح ع نجحوا في تقديم جوهر القضية على أن الشر والباطل لا يمكنه أن يهزم الحق والخير حتى بتغيب صانع الحث وفاعله، ولا حتى أعداءه أستطاعوا أن يبرروا بعقلانية ما حدث ويراجعوا الموقف الذي أدى بالنهاية إلى خسارة الإنسان نفسه، في قضية كربلاء الموقف مشابه وقد يكون منطبقا تماما في الوصف والنتيجة والغاية منه، فمن كان مؤمنا بما حدث ومستجيبا له وقع في ذات الخطأ وأبدل القضية التي جاء بها الحسين ع وأستشهد من أجلها وتقديمها على أنها ثورة من أجل الإنسان لتجاوز الخطأ التاريخي، وحولوها إلى تابو بديل عن الدين الرسالة وتقديم الحدث بظاهره الفوقي على الفاعل ومبررات الثورة وعلات الإصلاح التي أرادها من كل ذلك، في حين بقي أعداء الحسين بين نارين نار الهروب للأمام بمجمل الحدث ومحاولة الدفاع عن الظالم ولو بتزوير تاريخي مقيت، ونار الشعور بالذنب والرغبة في إصلاح ما كان ولو بموقف محايد بينهما وقد مضى التاريخ بعيدا عن ذلك. هنا جاء دور تاريخ الذاكرة تاريخ الرأي وليس تأريخ الحقيقة التي كانت أساس الصراع وجذوته بالأساس، فكل ما نتلقاه الآن عن القضيتين هو فعل الذاكرة التي صنعها المؤرخون بدون أمانه وبدون حس بالمسؤولية أمام أبطال الحدث، هذا الفعل وإن كان جزء من أدوات الصراع ولكنه المسؤول الأول عن تشويه القضية وتغير مسارات النتيجة وكلا الطرفين ساهم بجزء مهم منها، لا أنصار الحق كانوا حياديين في صنع الذاكرة وتاريخها ولا الخصوم قدموا رواية الحدث كما هي حتى يضعوا الإنسان أمام الحقيقة، ومن باب الدفاع عن القضيتين تولدت لدينا ذاكرة تاريخية مشوهة خالية من طعمها ولا يمكنها أن تتواصل مع نتائج التجربة التاريخية وتنميتها بأتجاه الإصلاح ومراجعة ما حدث وإدانة المجرم الحقيقي فيها. إن إفراغ قضية كربلاء من محتواها التحرري الثوري وجعلها في دائرة العامل النفسي العاطفي بعيدا عن أسبابها ومسبباتها والروح التي أتقدت فيها لأجل الإنسان ساهم بشكل كبير في ضياع معالم تاريخية الحدث، وتغيبا لفعل الفاعل الذي أجج روح التحدي للباطل ومواجهته بكل الأسلحة الفكرية والمنطقية، سواء ما كان منها ما هو أخلاقي إنساني طبيعي أو ما هو إيماني وجداني متعلق بإرادة السماء العليا والقيم النبيلة المرافقة لهذه الإرادة، لقد ضيع محبوا الحسين قضيتهم بوعي أو بلا قصد أحيانا ثورتهم ومنهجهم لصالح الانخراط بصراع جانبي، صراع ما بين هويات خاصة طارئة أعتباطية ذات أهداف سياسية خالصة وبين تمسكهم بنصرة الحق والامتثال لنداء كربلاء، ( ما خرجت أطرا ولا بطرا وإنما خرجت لإصلاح أمة جدي رسول الله) هذا المحتوى الإنساني الذي يعيد تجميع الأمة على هدف وباتجاه غاية الإصلاح والإرشاد إلى جعلها قضية وجدانية خالصة، وتحول الهدف إلى ما يشبه الدعوة إلى تقسيم الأمة وتجزئتها وترسيخ منطق الباطل على منطق الحق، هدف كربلاء كان أمة الإسلام دون عنوان أخر تحول بالنتيجة إلى هدف أخر هو هدف التفرد والانعزال، دون أن يبذل محبوا الحسين على الأقل جهدهم من أجل التوحيد والوحدة الإيمانية، محاطين القضية بهالة من تقديس المظلومية والتقوقع خلفها وبدل جعل ثقافة رفض الظلم لكل الإنسانية إلى تقديس المظلوم والنوح والبكاء العاجز عن إحداث التغيير المطلوب.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية حكيم لباي ج6
-
رواية حكيم لباي ج5
-
رواية حكيم لباي ج4
-
رواية حكيم لباي ج3
-
رواية حكيم لباي ج2
-
رواية حكيم لباي ج1
-
قراءة دستورية في تركيب النظام التشريعي في الدستور العراقي.
-
رواية (السوارية) ح8 _1
-
رواية (السوارية) ح7 _2
-
رواية (السوارية) ح7 _1
-
رواية (السوارية) ح6
-
رواية (السوارية) ح5 _2
-
رواية (السوارية) ح5 _1
-
رواية (السوارية) ح4 _2
-
رواية (السوارية) ح4 _1
-
رواية (السوارية) ح3 _2
-
رواية (السوارية) ح3 _1
-
أختلاجات في عرض الحقيقة
-
رواية (السوارية) ح3
-
رواية (السوارية) ح2 _2
المزيد.....
-
للمرة الأولى.. أطباء أسناء يركّبون سنًّا لدب بني
-
أمل عرابي: دفاع ترامب عن نتانياهو يؤكد وجود مصالح سياسية مشت
...
-
تفاعل الأوساط السياسية الإسرائيلية مع دعوة ترامب لوقف محاكمة
...
-
روسيا تطوي صفحة اتفاق نووي مع السويد عمره 37 عاما
-
البرش: الاحتلال يكثف هجماته على مراكز الإيواء وإصابات منتظري
...
-
إلغاء جلسات محاكمة نتنياهو بعد مشاركته في جلسة سرية بالمحكمة
...
-
لماذا أفريقيا أولوية لإيران بعد الحرب؟
-
شاهد.. بوغبا يبكي خلال توقيع عقده مع موناكو الفرنسي
-
الاحتلال يصعد بالضفة ويعتقل العشرات بالخليل واعتداءات المستو
...
-
إيران تشكك في التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار وتؤكد جاهزيتها
...
المزيد.....
-
السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية)
/ رحيم فرحان صدام
-
كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون
/ زهير الخويلدي
-
كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية
/ رحيم فرحان صدام
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
المزيد.....
|