أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس علي العلي - رواية (السوارية) ح2 _2















المزيد.....

رواية (السوارية) ح2 _2


عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)


الحوار المتمدن-العدد: 6315 - 2019 / 8 / 9 - 05:35
المحور: الادب والفن
    


ينحني جزء من المشخاب الكبير وينعطف يمينا في لوحة طبيعية نادرة لشكل شط السوارية في منطقة الحدة، فيما يواصل شطنا الكبير مسيره منفتحا على أوسع مما كان حتى منطقة الناظم، ليقطع عليه المسير من هناك فيتفرع يمينا وشمالا إلى عدة أنهر صغيره فيما يشكل ما واراء النظم بقايا المشخاب المنحدر نحو الجنوب، هذا التشكيل العجيب منح النهر هيبة وقوة وكأنه يقول للناس أنا هنا أرعى حاجاتكم وألبي طلباتكم كيف أشاء فقط دعوني أسير، في منطقة الحدة وبمساحة تمتد من جسر الدوب حتى نهاية سوق العرب وقريبا من الجسر الكونكريتي على السوارية (جسر القادسية) توزعت مساحة خضراء تكبر وتصغر حسب قرب الشارع من النهر، لكنها في الحدة تحديدا نشأت حديقة عامة جميلة كأنها روضة حقيقية، تنوعت أستخداماتها لكنها في جميع الأحوال كانت الأجمل كونها تطل على مفترق النهر وتشكل متنفس حقيقي من زحام المدينة وضوضائها النهاري.
عادة ما تكون منطقة الحدة ولكون جوانبها القريبة من السوق ضحلة وذات طبيعة رملية كونها تكونت من الطمى الذي يحمله النهر في كل سنه، مرتعا للشباب وعموم الرجال في أوقات الظهر حيث لا ملجأ من الحر إلا النهر، أما عصرا فتقل الأعداد كثيرا أحتراما للواقع الأجتماعي فقد تكون الجهة الأخرى مليئة بالنساء اللائي يطأن النهر لنقل الماء أو لغسيل مستلزمات البيت والثياب، الجهة الأخرى تبدو في ما بعد الظهيرة وانكسار حدة الحر وكأنها منطقة خاصة للنساء وحدهن حتى أن بعض صيادي السمك الذين يصطادون بين نهري المشخاب والسوارية يبتعدون أيضا عن هذا المكان مع وفرة ما تتواجد فيه الأسماك التي تتجمع على ما يرمى في النهر من فضلات الطعام أو ما تتركه النساء بعد مشوار الغسل والتنظيف.
مع أمتداد النهر بأتجاه السوارية قامت البلدية بأنشاء مجموعة من الدكاكين أو الأكشاك من صفائح الألمنيوم وبشكل موحد، من نقطة المرافق الصحية العامة التي تعود لها والتي منذ أن شاهدتها لأول مرة وحتى تم تهديمها هي مغلقة ولم تفتح أبوابها فيما يقضي الناس حاجاتهم بين الممرات وخلف الجدار الساتر عن الناس، فتراكمت الفضلات حتى صارت تلال صغيره، هكذا يفهم الموظف المحلي قيمة المرفق العام حين يحرص أن لا يكون في خدمة العامة، الأكشاك كانت موزعة على باعة المفرد من بقالين و(الحدادين) الذين يصنعون الألات والأدوات الزراعية وبعض الكسبة والمقهى الكبير لجبار أل بو منيجل حيث تتعالى أصوات لاعبي الدومينو تحديدا.
الأشهر في هذه السلسلة من الأكشاك البقال أسمه ابو الدود المشهور ببيع الطماطة في موسمها حيث تتجمع النساء غالبا والقرويين لينادي بلهجته المعروفة (عثرة وعثرين أكعد وألكط)، فهو يبيع بضاعته بسعرين بعشرة فلوس وبعشرين فلس والمشتري مخير باللقط والتفحص والانتقاء، كان ابو الدود رجل كبير ومريض لا يقوى على فعل شي سوى المناداة وأستلام الثمن، لا يتحرك إلا عندما يأتي صباحا وعندما يغادر ظهرا وبين هذا وذاك يتعاون معه البعض لترتيب العمل أو جمع السلال والأقفاص...
في الجهة المقابلة للأكشاك وعبر نهر السوارية حيث مكينة الخزاعل وسكلة السمك وسوق أل بو منيجل تحتل كامل الواجهة فيما تلوذ البيوت من خلفه وبعدها بأكوام أو تجمعات لا تعرف النظام أو التخطيط، فيما تقابلهم من نفس الجهة وعلى ذات الأمتداد بقايا مكينة أل شلاش الضخمة ببنايتها وبقايا الألات المتروكة بعد أن تركها أصحابها ولم تعد تتماشى مع الزمن منذ أن دخلت الكهرباء منطقة السوارية وجاء الخزاعل بالمكائن الكهربائية التي تجرش الرز وتطحن وتهبش بسرعة فائقة وبدون ضجيج كما عند أل شلاش، هذا التغير ليس هو الوحيد الذي مر على وجه المدينة وحياتها.
ما زلنا مع النهر وجغرافيته البشرية حيث برع في توزيع الناس على ضفافه وكل حسب ما يتعاطى معه أو يرتبط به أو من خلاله بالحياة، عند ركبة جسر السوارية من جهة المدينة تتوزع المحلات والدكاكين على أمتداد الشارع الموازي للشط أو الداخل إلى عمق المدينة، كراج القادسية عند مقهى عويز وكراج ام عرده عند قهوة مجهول الدبي حلاقين وبقالين ومحل لتصليح إطارات السيارات ليتحول الى حداد عام ثم حداد لصناعة أنابيب مياه السقي من بقايا براميل النفط، ثم المحل الأكبر لبيع الوقود نفط بانزين وكاز وكل مستلزمات الطاقة من بطل نفط بعشر فلوس إلى تنكات البانزين التي تملأ وتلحم بلحيم الرصاص من قبل الوكيل حجير رحيم الدنكجي وصولا إلى توزيع البراميل الخاصة بمكائن السقي الزراعية بواسطة التنكر الفولفو الأحمر، الذي يصل إلى كل مكان في السوارية وضواحيها.
أما بأتجاه السوق ومع النهر فالأشهر كانت محلات سعيد عمران وحجي عبد علي الحداد متجاورين ومتنافسين، لكن الغلبة كانت للأخير لما يملكه من ثراء وقدرة على التعامل بالأجل (للزرعات) حيث موسم لحصاد وتسديد الديون، كلا الرجلين ليسوا من اهل المدينة فقد سكنوها بأسباب تجارية حتى صاروا جزء منها ومن تراثها وأعلاما مجتمعية، هكذا هي السوارية كمدينة جذبت العشرات من الرجال من خارجها ليكونوا عصب أقتصادها منهم من ليس من جوار المنطقة، هناك أكراد وتركمان وقسم حكمت الوظيفة الرسمية أن يكونوا جزء منها، حتى أنها ضمت مهاجرين من إيران ومنهم المرحوم (قلوم الركاع) وعائلته التي هجر جزء منها لاحقا فيما بقيت بناته وزوجته وصهره في العراق.
في أوائل لسبعينات وحين جرت أول عملية تسفير للإيرانيين جاء مفوض الأمن فلاح وكان هو من يدير مفرز الأمن هنا إلى قلوم يخبره بقرار التسفير، فما كان من المرحوم إلا أن قال بالحرف (أنا أبوده يسفرون سماوي هسن اني يسفر ما تسفرون سماوي هسن اني ما يسفر)، لقد أنتسب إلى عشيرة العبودة وطلب أن يعامل مثل معاملة سماوي الحسن زعيمها، قال فلاح تهلوك..
_طيب أنت عبودي وزوجتك؟
_زوجتي (زرف) يسفرون زرف مرتي يتسفر.
_عجيب ولكن زوجتك بنت عمك كيف لها أن تكون زرف وأن عبودة....
ضحك الجميع الذين تجمهروا حول قلوم وهو يمارس عملية ترقيع الأحذية مرتديا الدشداشة الشتوية وعليها معطف صوفي في عز الحر، وتركه مفوض فلاح بعدما سأله سؤال أخير..
_ابو عبود كيف تعرف الموسم صيف أو شتاء وأنت ترتدي نفس الملابس في كل المواسم.
_(بابا إذا بيزاته مايعات يعني هزا صيف، بيزاته جامدات هزا شته)... لقد شرح المسألة من خلال بيضاته هو دون أن يبرر ما تستنكره الناس عليه من مظهر دائم لا يتغير، كان المرحوم ابو عبود واحدا من الشخصيات الظريفة التي سكنت السوارية وتحديدا في النزيزة دون أن يجد صعوبة في لهجته التي لم تتحسن مع طول إقامته فيها، الكثير من الشخصيات التي سكنت المشخاب او الفيصلية أو السوارية على مر تاريخها كانوا من الوافدين إليها من النجف أو من بغداد وأرتبطوا بها وبحركتها وأقتصادها هم من أصول خارجية، حتى أنهم يعرفون عادة بألقابهم المهنية وليس بالعشائرية بالرغم من أن المدينة طابعها الأجتماعي عشائري مبني على الهيكلية المعروفة ، أل فلان من فندة أل فلان فخذ الفلاني من عشيرة الفلانية التي تنتمي عموما إلى ثلاث أو أربع عشائر كبرى، قسمت المدينة أجتماعيا بين السادة أل ياسر عموما بشقيها وأل فتلة بعنوانها الأكبر.
كانت الأرض والماء شريك في هذا التقسيم من طبر أل سيد نور إلى طبر أل إبراهيم إلى أراضي أل فتلة إلى منطقة أل كيم، توزعت العناوين والمواقع عشائريا مع مفردات الماء والطين، لكل عشيرة طبر ونهر وأراضي لا يمكن مناقشة أو التفكير في رسم الجغرافيا هنا بعيدا عن الأرض والماء، كما لم تكتسب العشائر قوتها وهيبتها وهذا الزخم من التأثير لولا الماء والطين التي ربطت الجميع وحتى من خارجها بعلاقات العمل التي وصلت في مراحل منها لحد العبودية، فصار البعض عبد السادة وأخرين عبيد أل فلان، الحياة الأجتماعية تختصر في ضواحي السوارية وما حولها بقصر الشيخ أو دار السيد ومضيفه والعبيد والفلاليح والموسم والأرض والأهم من كل ذلك الماء.
هكذا أرتبطت حركة الناس بالماء وما يرتبط به في سلسلة من العلاقات التخادمية، وهكذا تحكم النهر بحركتهم حتى داخل المدينة ففرض عليهم الشط قانونه ومزاجه وإرادته، وعلى الناس أن تتوافق معه شاءت أم أبت، النهر ليس جغرافية في منطقة السوارية وليس حياة تمنح الوجود أسبابها، بل أيضا تحكمت في تقرير مصير المدينة فصارت السوارية رمزا لها، بالرغم من أن البعض يظن أن النهر مجرد ماء وطين وجرف يسترزق منه الناس، حين تتكوم المدينة حول السوارية كعقدة تتحرك معه وبه وترسم خطواتها كيفما يسير، أعرف أن الماء هنا (هو) أكثر من حياة ... هو قانون جبري على الإنسان أن يطيعه بكل أحترام.



#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)       Abbas_Ali_Al_Ali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لعنة ال لو
- رواية (السوارية) ح2
- رواية (السوارية) ح1
- القانون بين وجوبية التطبيق ورغبة الخارجين عنه.
- العبودية وامتهان كرامة الإنسان
- هل لنا أن نجعل الدين ديمقراطيا في الواقع؟
- مشروع إعادة بناء الدولة العراقية _ خطط ومناهج ج1
- مشروع إعادة بناء الدولة العراقية _ خطط ومناهج ج2
- أساليب النهج الكهنوتي في رسم دائرة الوعي الديني
- العقل الجمعي بين الوعي المختار وهوس الجماعة
- الحاجة الفعلية للديمقراطية وحصاد الربيع العربي
- الأستحمار الفكري والمعرفي وعلاقته بمفهوم العقل الجمعي
- نداء...إلى متظاهر في شوارع البصرة
- قانون التداولية والمطلق المحال....
- الديمقراطية التوافقية الإشكالية والمشكلة
- ((وجعلنا في التراب كل شيء))
- القراءة الإشكالية وإشكاليات القراءة في النص الديني
- الفكر التنويري بين العودة المشروطة وبين التخلي عن نقطة البدا ...
- بين الإلحاد واللا دينية مشتركات ومفاهيم مغلوطة
- الشعور الديني او مظهرية الدين في الذات الإنسانية


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس علي العلي - رواية (السوارية) ح2 _2