أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس علي العلي - رواية (السوارية) ح4 _2















المزيد.....

رواية (السوارية) ح4 _2


عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)


الحوار المتمدن-العدد: 6322 - 2019 / 8 / 16 - 23:15
المحور: الادب والفن
    


وأيضا ومن الوجه الأخر للمدينة التي عصب أقتصادها المال وعرق الفلاحين وحدهم ليتناوبوا على رفد مكانتها بأسباب الحياة كان الربا يشكل واحدا من هواجس المدينة وريفها، وأنا صغير أسمع بمصطلحات كنت لا أدرك معناها بالتحديد ولكنها متداولة بكثرة تخفي ورائها وجه إبليس حتى وكأنها من مستلزمات البقاء، البيع بالأخضر والعشرة أربعطعش سائدة في كل مكان ولها جمهور واسع من المتعاملين، الأولى أن يبيع الفلاح أو بعض الملاكين محصوله السنوي من الشلب وهو ما زال في البذار أو أولى مراحل الإنبات بسعر يقل حتى عن نصف سعره جاهزا للحصاد أو التسويق، وأخرون يقرضون الناس وخاصة أصحاب الرواتب والمهن الحرة أو من تضطره الظروف أن يقترض كل عشرة دنانير بأربعة عسر دينارا لموعد التسديد.
أشتهرت السوارية بهذا النظام الأقتصادي وأرتبطت علاقات متشابكة به رغم ما فيها من حس ديني ينكرها ويستنكرها، لكن الجميع راضي وساكت وأحيانا متواطئ ولا يجد ضيرا في هذا، الملاكون ممن ناهزت ملكية البعض منهم مقاطعات واسعة قد تكفي معيشة عشرات الأسر بكرامة يلجؤون إليه، وأخرون عناوينهم الأجتماعية قد لا تسمح لهم في مكا أخر أن يفعلوا ذلك، أحدهم وممن يشار له ولأسرته بالبنان في الواقع الأجتماعي يتزوج غجرية وعلنا ودون أن يجد من يستنكر، لكن لو فعلها بسطاء الناس أو من الفقراء أصبح حديث الشارع الذي يتجرد من كل شيء ويدافع عن الفضيلة التي أنتهكت، وجه أخر من وجوه المدينة لا يرحم ولا يبر الخطيئة إلا عندما تكون من أشراف القوم وسادتهم، الخطيئة تكون عار وأثم فقط حين يرتكبها فقير مع كل مبرراته المعقولة.
أشياء الظل لا نراها ونحن صغار لأننا لا نفرق بينها وبين غيرها من السلوكيات حتى تدركنا المسميات بدلالاتها الحقيقية، في عام مر على المدينة كادت أن تضييع بكثرة الديون المؤجلة والمحملة بأرباح متراكمة لم يألفها الناس من قبل، وحدهم تجار الربا كانوا المنتفعين من هذا الحال بمقايضة ديونهم بالأرض وما عليها، الفلاحون البسطاء منهم من تخلى عن (اللزمة) ومنهم من هاجر من الأرض إلى مناطق أخرى ليعملوا كأجراء أو عمالة بناء، والبعض ممن أسعفه الحظ وجد وظيفة حارس أو فراش في مدرسة أو مؤسسة حكومية، أخرون كان حظهم أتعس من حظ الأرض ذاتها لم يعرف كيف يتصرف وقد أغرقهم تسونامي الديون، فهرب إلى ما يخشاه الريفي عادة فصار شرطيا، أو طوع أحد أبناءه في الجيش ليضمن له ولغيره مقدار من الدخل الثابت عله يستطيع بعد حين تسديد ما بذمته من ديون.
ما دمنا في كلام الموسم والحصاد وتسديد الديون نتذكر بعض مما يرافق هذا الوقت كل عام من عادات وتقاليد مهمة وتشكل جزء من شخصية المدينة، ختان الصبيان أو الطهور هو من علامات الموسم التي لا تنسى مهما كانت الأسباب، قد يتم التأجيل لعام أو عامين ومن الممكن أن يكون مقبولا هنا، أما أكثر فهو الغير معتاد، فقد شهدت حالات نادرة لشباب وصلوا مرحلة من العمر وتجاوزوا مرحلة البلوغ الجنسي فكانوا حالات شاذة، وبما أن جدي كان هو الختان الرئيسي في السوارية مهنة توارثها عن أبيه فقد رافقته كثيرا وطويلا في هذه الرحلات أو عند حضورهم لبيته التي كانت أشبه بالعيادة الشخصية، وشهدت الكثير من المفاجآت والمواقف الطريفة والمحزنة أيضا، كنا في أيام وموسم الطهور نخرج فجرا لنقطع مسافات متفاوتة بين الأنهار والشطوط والطبارة للوصول إلى حيث باب الله كما يقول جدي.
أحيانا تجتمع عدة عوائل في منطقة واحدة وخاصة الأقارب أو أهل السلف الواحد على تحديد يوم للختان، أما عن تقشف أو لصعوبة أن يحضر المطهرجي في كل مرة من السوارية، في أحد المرات شهدن طهورا لأكثر من عشرين طفلا بمجموعات في مضيف واحد، كانت مهمتي وأنا المساعد أن أقص الشرائط من الشاش الطبي وأضع عليها دهن الفازلين ثم البودرة البيضاء لاحقا عرفت أنها بودرة (أنتبايتك) مخلوطة مع طحين العفص، أضع لكل طفل شريط وشريط أخر للف بعد أن أصنع من القطن الطبي أيضا مثل الشرائط، قبل كل ذلك كنت أطلب من أهل الطفل أن يأتوا بصحن فيه ماء نظيف وأضع فيه المقص و (الكظاظة) والموس الذي يختن به ثم أسكب عليه الديتول للتعقيم.
في عمر تسع أو عشر سنوات كنت مساعد لأشهر جراح في السوارية وضواحيها وريفها، وكنت سعيدا عندما أسمع عبارات المدح والثناء على عملي من جدي أو من الناس، البعض كان يكرمني بمبلغ بسيط وأخرون لم أرى منهم إلا الشح وأحيانا كنت أتمنى لو أني لم أحضر أصلا، في صبيحة يوم صيفي وقد أنجز جدي مهمته بإتقان والزغاريد والفرح بملأ المكان وأصوات العيارات النارية تسمع بين الحين والحين، أمتدت المائدة على طول المضيف المبني من القصب والبواري وكان جميلا وهو يطل على مجرى النهر وأمامه ساحة كبيرة وعالية، الحضور لا يعد فقد كان الطفل وحيد العائلة وقد أصر والده على أن يكون هذا اليوم مميزا في كل شيء، كانت أمه من وراء المضيف ترسل لي بـ (الكليجة) والحامض حلو والملبس.
عندما بدأ الجميع بتناول الإفطار الصباحي وكان عبارة عن ثماني بطوط محمصات جيدا مع الخبز الحار والبيض المقلي واللبن والزبد والحليب الطازج، شعرت بالامتلاء وعدم الرغبة في أكل أي شيء، كعادته جدي عندما يبدأ الأكل أول ما يقتطع لي أو يسهم كما يقولون في لغة المضايف، أقتطع فخد البطة الذي وضعت أمامه ولوحده وقال لي تناول طعامك فأمامنا طريق طويل، حاولت أن أكل منها بالرغم من منظرها الرهيب في إغراءه للأكل لكنني لم أستطيع ذلك، بقيت أتطلع في وجوه الناس وأشاهد ملامح الفرح الحقيقي وأصوات الزغاريد تأتينا من جهة البيت وبعض من أصوات الطلقات النارية التي تهنيء الأب بهذه المناسبة السعيدة.
كان علي أن أغادر المكان وأرى في عيون طفولتي كيف يلعب الأولاد اللذين هم في سني أمام المضيف وكيف يتقافزون للماء مرحين فرحين، لم اسأل جدي عن ذلك فقمت من على المائدة حتى قام الجميع فورا ومنهم جدي مع إلحاح صاحب الدار على أن يكمل فطوره، ذهب من ذهب للطبر ليغسل يديه ومنهم من بدأ بحمل الطعام الذي لم يلحق البعض أن يتناول منه أكثر من لقمتين، كانت المائدة عند رفعها كأنما هي ولم تتغير أو ينقص منها شيء، شربنا الشاي وغادرنا مع عكس مجرى الماء حتى وصلنا إلى الشارع الذي يربط السوارية بأم عرده وأنا لا أعرف أنني أرتكبت جريمة كبرى.
أسير أمام جدي حاملا الحقيبة الجلدية التي فيها أدواته وعدته كما فيها الكثير من الأسرار التي لم أعرف منها إلا القليل، نعم كنت مزهوا وسعيدا وقد أرسلت لي أم الطفل ربع دينار كاملا وهو مبلغ لم ولن أحصل عليه لا قبلها ولا بعدها، شعرت بشيء على ضهري مثل ضربة سوط لم أكن أتوقع أن جدي يضربني بعقاله من خلفي بعد أن رأى أن لا أحد في الطريق، سقطت منب الحقيقة وهرولت للأمام لأستعلم لماذا ضربني؟.
لم يتكلم معي ولم يسألني عن أي شيء حمل الحقيبة بعد أن لبس العقال وسار سريعا وهذه المرة أنا خلفه خائفا مما سيحصل، وصلنا السوارية ضحى النهار فذهب مباشرة إلى محل الحلاقة وأنا تسللت إلى النزيزة لا أعرف عن كل الذي صار وعن السبب الذي من أجله ضربني جدي، بقيت على سري ولم أخبر أحد بقضية الربع دينار خشية أن يكون هو السبب في زعل جدي مني حتى جاءت الظهيرة وموعد الصلاة، كنت قريبا من جدتي التي أستغربت عدم ذهابي للمحل مع جدتي كالعادة، أكمل جدي الصلاة وجلس ينتظر صينية (الغدا) وأنا جالس مقابلا له بصت وأدب حتى جاءت جدتي بالأكل وجلسنا جميعا، هنا في هذه اللحظة عرفت ذنبي...... لقد حرمت الجميع من الأكل وأولهم جدي حينما قمت...... قام الجميع وتركوا ما بين أيديهم أحتراما لعاداتهم فعنى ينهض الضيف من المائدة على الجميع أن تنهض.



#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)       Abbas_Ali_Al_Ali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية (السوارية) ح4 _1
- رواية (السوارية) ح3 _2
- رواية (السوارية) ح3 _1
- أختلاجات في عرض الحقيقة
- رواية (السوارية) ح3
- رواية (السوارية) ح2 _2
- لعنة ال لو
- رواية (السوارية) ح2
- رواية (السوارية) ح1
- القانون بين وجوبية التطبيق ورغبة الخارجين عنه.
- العبودية وامتهان كرامة الإنسان
- هل لنا أن نجعل الدين ديمقراطيا في الواقع؟
- مشروع إعادة بناء الدولة العراقية _ خطط ومناهج ج1
- مشروع إعادة بناء الدولة العراقية _ خطط ومناهج ج2
- أساليب النهج الكهنوتي في رسم دائرة الوعي الديني
- العقل الجمعي بين الوعي المختار وهوس الجماعة
- الحاجة الفعلية للديمقراطية وحصاد الربيع العربي
- الأستحمار الفكري والمعرفي وعلاقته بمفهوم العقل الجمعي
- نداء...إلى متظاهر في شوارع البصرة
- قانون التداولية والمطلق المحال....


المزيد.....




- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس علي العلي - رواية (السوارية) ح4 _2