أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - مديح المفاجأة














المزيد.....

مديح المفاجأة


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6285 - 2019 / 7 / 9 - 00:27
المحور: الادب والفن
    


لأكثر من سنتين ونصف يجول موت نشط في أصقاع سورية دون تعب أو ملل، ويبطش بضحاياه دون اعتبار لعمر الضحية أو جنسها أو حالتها الصحية، ودون اعتبار لما تحمله في سريرتها من أفكار أو تصورات أو مواقف، ودون اعتبار لتاريخها الشخصي أو لأي شيء، كل ما يهمه في الضحية أن تكون حية وحسب. موت لا علاقة له بالموت الذي هو الوجه الآخر للحياة، بل هو موت من نوع آخر، موت معاد للحياة وليس نقيضاً لها. موت لا يحترم طفولة ولا شباب ولا أجنّة، ولا يتوقف عند عتبات السلامة الجسدية. موت يستهدف الحياة أينما وكيفما تجلت. هو انقلاب على الحياة وكسر أو خيانة لخط التوازن والتداول الأبدي بين بزوغ الحياة وغروبها. أو هو غلو في الموت أو تطرف يقتل الموتَ المتوازن العاقل لصالح موت أرعن بلا عقل، تماماً كما هو الورم الخبيث غلو في الحياة يقتل الحياة.
يتوقع السوري اليوم الموت في أي وقت. كل من هو على هذه البقعة من الأرض مدرج على قيد الموت. بات الموت الطبيعي في سوريا رفاهية. حتى الاغتيال السياسي بات امتيازاً أو ضرباً من الرفاهية، فقط لأنه يعطي للموت طابعاً شخصياً يضفي على الضحية قيمة أكبر ويلفه بمسحة من الكرامة والمعنى. الموت السوري اليوم يد مجنونة عمياء، ووجه بلا ملامح، وكتلة تفقد تمايزها أكثر كلما تمددت وازدادت ضخامة. يمكن أن يختبئ الموت للسوري اليوم على باب الفرن، أو في ساحة المدرسة، أو بين قدميه في الشارع، أو على منبر في جامع، أو على سرير في المستشفى ..الخ. لا حرمة لشيء أمام هذا الموت الجديد المستشري كالطاعون في أوصال هذا البلد المنكوب.
هنا حيث ينتقي المسعِفُ الضحيةَ الأقل موتاً أملاً في جدوى الإسعاف. هنا تغدو الحياة بحد ذاتها خصماً لأصحاب الموت لأنها باتت، في نظرهم، رديفاً وتوأماً للتمرد والرفض. هنا حيث المعادلة الأساسية هي: أن تسيطر يعني أن تَقتل. معادلة قابلة للعكس وللتشظي إلى ما لا ينتهي من الاشتقاقات المهلِكة.
وحين يستشري الموت تقل هيبته، وتقل معها هيبة الحياة، فيستسهل الإنسان موته، وترخص حياته، وتغلب لامبالاة المرء على خوفه. ذلك تسلسل نفسي يساعد الشخص على التعايش مع احتمالات موت لا قدرة له على ردها: كل ما يأتي من الله خير. ولن يموت امرؤ إلا في يومه. وما كتبه الله على المرء سيلقاه. ومن له عمر لن تقتله شدة ..الخ. إذن عش حياتك كأنك تعيش أبدا، لا خير أن تفكر في أنك سوف تموت غدا.
يتعايش السوريون مع توقع الموت. فقد نجحوا مع مرور الوقت في دفع هذا التوقع إلى مكان بعيد نسبياً عن مجال نشاطهم اليومي، بما يكفي لمواصلة العيش والعمل وحتى الحلم والتفكير بالمستقبل. وإذا كان ثمة فضل في ذلك فإنه يعود للاعتباط والعشوائية في حركة الموت السوري. فمن خلال شباك العشوائية يمكن للنفس أن تأمل باستمراريتها في الحياة. الفضل يعود للمفاجأة، للموت المفاجئ. لا يعرف أحد في سوريا إن كانت حركة الموت التالية ستطاله أم ستخطؤه. مثلاً، سرعة الريح وتوقيت إسقاط البرميل من الهليكوبتر ومقدار ارتفاع الهليكوبتر وسرعتها .. كلها عوامل متغيرة يمكن أن تتوافق فتجعلك على قيد الموت أو على قيد الحياة. ولكن غريزة الحياة ترجّح لدى النفس ميلها إلى الأمل بالبقاء، فتبعد الموت عن عينيها قليلاً كي تنساه.
من يدركه الموت المخزون في قذيفة أو برميل متفجر أو سيارة مفخخة، فإنه يكون قد عاش عمره حتى منتهاه، بفضل فجائية الموت. ذلك أنه حتى اللحظة الأخيرة من عمره كان يأمل، كان ثمة ما يسند لديه الشعور بأن عمره ملك يديه، وربما كان حتى اللحظة الأخيرة ممتلئاً بحلم ما، أو مسروراً لموعد ما، أو كان يخطط لما يجعل حياته أفضل، وقد يكون مقدماً على زواج، أو منتظراً لمولود، أو لعله كان يفكر بالهجرة هرباً من يد الموت الذي وسم لحظاته هذه بأنها الأخيرة. وقد يكون لديه من الطمأنينة ما يكفي لأن يجلس حيث داهمه الموت ويشرب كأساً دافئاً من الشاي مع سيكارة، ذاهلاً عن موته الوشيك.
تستحق المفاجأة الشكرَ من السوريين اليوم، فالمفاجأة تقطف أعمارهم دون إنذار مسبق، وتعطيهم بذلك حياة كاملة حتى آخر لحظة من أعمارهم المبتورة. المفاجأة تجعلهم يموتون دون موعد مسبق مع الموت، ذلك أهون وأقل وطأة على أرواحهم.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السودان، خطوة إلى الأمام ومخاطر متربصة
- الهزيمة المؤسسة للهزائم
- نفوس مفخخة
- الاستبداد بوصفه نزوعاً شخصياً
- اتفاق داريا، الأرض مقابل الحياة
- حوار، عن الذات وعن الثورة
- هموم لغوية
- سلطات منزاحة
- إلى اختي الصغيرة
- الربيع العربي على خارطة العالم
- الإعلام المزدوج للنظام السوري
- عبد اللع هوشة، الهامش الثري
- عبد العزيز الخير، تجارب متنوعة ومصير واحد
- خصوصيات معلنة
- تسرب المعاني
- الأصل السياسي لمجزرة السويداء
- تواطؤ الثقافة
- كابوس دانيال
- عين واحدة تكفي (إلى منير شعبو)
- عن كتاب -حكم العنف- لسلوى اسماعيل، مركزية الذاكرة في تكوين ا ...


المزيد.....




- حضور لافت للسينما العراقية في مهرجان عمان السينمائي
- إستذكار الفنان طالب مكي ..تجربة فنية فريدة تتجاوز كل التحديا ...
- براد بيت اختبر شعورا جديدا خلال تصويره فيلم -F1-
- السويد.. هجوم جديد بطائرة مسيرة يستهدف الممثلية التجارية الر ...
- -البحث عن جلادي الأسد-.. فيلم استقصائي يتحول إلى دليل إدانة ...
- تقرير رويترز 2025: الجمهور يفضل الفيديو والصحافة البشرية وهك ...
- هكذا تصوّرت السينما نهاية العالم.. 7 أفلام تناولت الحرب النو ...
- بعد أسابيع من طرح الفيلم ونجاحه.. وفاة نجم -ليلو وستيتش- عن ...
- ابتكار ثوري.. طلاء -يعرق- ليُبرّد المباني!
- كيف يساهم تعليم العربية بكوريا الجنوبية في جسر الفجوة الثقاف ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - مديح المفاجأة