راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 6265 - 2019 / 6 / 19 - 14:08
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
في مكتبة المجد في اللاذقية قبل سنوات من اندلاع الثورة السورية. كان يجلس هادئاً إلى تلك الطاولة الصغيرة التي تتسع بالكاد لثلاث كراس، في زاوية في عمق المكتبة، وعلى وجهه ابتسامة وديعة، عرفتُ في لقاءاتنا اللاحقة كم هي شديدة القرب إلى وجهه، وعرفت أيضاً أن هدوءه اللافت ذاك كان صفة عميقة فيه، وليس كذاك الهدوء الكاذب الذي ينقلب في لحظة إلى هيجان ورعونة. تعارفنا بوجود الصديق الراحل بسام يونس الذي كان يتركنا بين حين وحين ليلبي طلبات الزبائن. ضحك يومها عبد الله بصوت عال حين قلت له ممازحا: "هذه هي المرة الأولى التي أصافح فيها أمين عام لحزب شيوعي"، وقال بنبرة مكسورة، بعد أن هدأت ضحكته، "حطّ بالخرج". تدخل بسام متوجهاً إلي بالقول: "انتبه إلى أنك نسيت كلمة "سابق" مرتين، فهو أمين عام سابق، وهذه عملة نادرة في سورية، ولحزب شيوعي سابق أيضاً".
ليست لدى عبد الله مهارات التسويق لنفسه والطفو على السطح، ولا يمتلك موهبة خطف الأضواء، لكنه يمتلك تقديراً عالياً وفهيماً لمحدثه، ويمتلك تقديراً للشباب الذين يجد في احتمالات نشاطهم السياسي القادم في سورية أملاً لم يعد يراه في "الحزب التقليدي" الذي أخذ يتحول إلى "أقنوم لا يعنيه من أمر السياسة شيء"، بحسب تعبيره. من النادر أن ترى سياسياً بعمر وتجربة عبد الله هوشة يصغي للشباب ويتمعن في كلامهم مثله، في حين أن الأمر الشائع لدينا هو أن يجد السياسي المكرس في نفسه "استاذاً" يحاضر الجميع ويفترض أن له الأفضلية والفضل في احتكار الحديث.
***
من المهم والضروري إحياء ذكرى عبد الله هوشة ليس فقط لأنه قضى حياته في النضال من أجل مصلحة عامة، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، لأنه يحمل في ذهنيته وفي فكره وفي طبيعته الشخصية ما نفتقده كثيراً في محيطنا السياسي. أقصد بذلك شيئين: أولاً قدرته على أن يكون سياسياً موضوعياً وهادئاً وثابتاً وسط عواصف الغضب وانفلات الأهواء والنزوات والكيديات والغرائز ..الخ. وثانياً بسبب احترامه القضية العامة التي يناضل من أجلها بحيث يكون بطاقاته وإمكاناته خادماً لهذه القضية وليس العكس، فهو حمل قضيته بأمانة خالصة من النزوع إلى التشاوف والبروز على كتف القضية.
من يتأمل هاتين الخصلتين يدرك أن غيابهما الكبير في وسط النواة السياسية المعارضة في سورية، كان من أسباب نكساتنا السياسية المتكررة. النواة السياسية الوطنية المعارضة في سورية المحرومة، بفعل القمع الدائم، من التواصل مع الناس وبالتالي من المشاركة في تشكيل وعيهم، بقيت لذلك على هامش المجتمع. وفي لحظات الحراك الجماهيري الواسع الذي يتيح لها إمكانية العمل والانتشار والتاثير، كرست هذه النواة السياسية الوطنية هامشيتها بأن اتخذت من "غريزة الجمهور" بديلاً عن "وعيها"، تحت إغراء الطاقة "الخام" المتفجرة في الشارع، دون تكليف النفس عناء "تصنيع" هذه الطاقة بما يجعلها أكثر فاعلية. لذلك نجد أنه كلما حاول مجتمعنا النهوض وجد نفسه يغوص أكثر في الانقسامات الطائفية والعشائرية، أي كلما حاول أن يقترب من حريته أكثر ابتعد عنها أكثر.
لم يكن أبو يوسف من هذا الصنف الشائع من السياسيين، كان يستطيع أن يقول على طول الخط، إن الطاقة المذهبية والطائفية، مهما عظمت، لا تصنع حرية، إنها بالأحرى تحطم الحرية، وإن الطائفية يمكن أن تكون سلاح نظام مستبد، ولا يمكن أن تكون سلاح ثورة تحرر، وإن الرد على طائفية النظام يكون رداً وطنياً لا طائفياً. كان يكرر صيغاً مختلفة من هذا القول بصوته الرزين المتقطع الخارج من صدر أثقل عليه التدخين والمرض.
وكما يرفض عبد الله الاستعانة بالطاقة المستجرة من مولدات مذهبية وطائفية، فإنه كذلك لا يثق بالطاقة المستمدة من قوى إقليمية ودولية. في حديث له مع راديو ألوان مع الصحفي قاسم الحسين، في 16 كانون الأول/ديسمبر 2015، يقول هوشة: "الكيانات السياسية التي نشأت بعد الثورة، هي كيانات نشأت بمبادرة من قوى إقليمية ودولية وليس بمبادرات ذاتية وطنية، ليكون لها دور أو وظيفة في عملية التحول السياسي التي يمكن أن تجري في البلد، لذلك أسميها كيانات سياسية لكن لا أسميها كيانات سياسية معارضة".
إلى هذا كان عبد الله هوشة يرى المأزق المتمثل في تحالف قوى الداخل وقوى الخارج ضد التيار الوطني السوري، ولكنه يفكر أيضاً في قصورنا الذاتي كقوى وطنية. في ندوة أقامها مركز دراسات الجمهورية الديموقراطية، في أكتوبر 2015، قال هوشة إن عجز الأحزاب الوطنية "لا يجد تفسيره في تداعيات القمع الذي تعرضت له فقط، وإنما في البنى غير الديموقراطية المحكومة بها .. ولا يخالجني شك في أن هذه الأحزاب التي لا تتوفر على آليات عمل مناسبة، تعكس بواسطتها إرادة أعضائها، ستكون عاجزة عن التعبير عن مصالح مجتمعها الذي لا بد سوف يلفظها".
كثير من الكلام الموزون والمنطقي يكون مجرد ستار لممارسات مناقضة، أو يتحول في مجال العمل والممارسة، تحت ثقل الالتزام به، إلى هباء لا قيمة له. غير أن ممارسات عبد الله هوشة سبقت كلامه هذا، هو الذي ترك موقع الأمين العام لحزب الشعب الديموقراطي، بعد ستة أشهر من انتخابه، احتجاجاً على تهميش اللوائح الداخلية والقيم الديموقراطية في التنظيم أمام ظاهرة "القادة الأبديين"، بتعبير عبد الله، أو ازدواجية الأمانة العامة في الحزب بين أمين عام اسمي يمثله الشخص المنتخب لهذا المنصب، وأمين عام فعلي يمثله "الزعيم" الذي يحتفظ بسلطة الأمانة العامة من خارج المنصب وعلى الضد من الوثائق التي أقرها المؤتمر. وبكلام عبد الله إن "القادة الأبديين" هم "العائق الأكبر أمام التغيير الذي يستجيب لمتطلبات الواقع". هذا ما دفع هوشة للتعبير عن يأسه من مستقبل هذا النمط من الأحزاب التي قضى عمره في النضال من داخلها. على أثير راديو ألوان يقول عبد الله: "الأشخاص المهيمنين على هذه الأحزاب، تكون على وهم إذا نظرت في يوم ما إلى أنهم يمكن أن يتخلصوا من هذا النمط [الشمولي والتسلطي] لأنه داخل في بنيتهم، هم تكونوا عليه".
لا يبحث الإعلام عن رجل متوازن في كلامه، فالكلام المتوازن كلام غير إعلامي لأنه لا يبهر الجمهور، فضلاً عن أنه ليس على مزاج أصحاب السلطات الإعلامية. لذلك يظل أمثال عبد الله في الظل، لكي تسلط الأضواء على شخصيات كاريكاتورية في شكل ومضمون كلامها وتحليلاتها. وبالمقابل لا يبحث أمثال عبد الله عن الإعلام، وكأن هناك متلازمة ظالمة تجمع الرزانة والتوازن إلى العكوف عن تسويق الذات.
الخسارة برحيل الصديق عبد الله هوشة هي تتويج لخسارة سابقة تتمثل في هامشية تأثير أمثاله في الشأن العام السوري.
كانون الثاني 2019
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟