أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - راتب شعبو - أفعال مشينة















المزيد.....

أفعال مشينة


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6244 - 2019 / 5 / 29 - 12:39
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


يصعب على من يقرأ كتاب "الفعل المشين" للباحث التركي تنار أكشام من ترجمة كيفورك خاتون وانيس، أن يهرب من التشابهات بين سرد الكتاب لسياق المأساة التي تعرض لها الأرمن قبل وخلال الحرب العالمية الأولى، وبين ما عاشه ويعيشه السوريون منذ مطلع العام 2011. يلاحظ المترجم، السوري الجنسية، هذا التشابه ويعتبره أحد دوافعه للإقدام على هذا الجهد المشكور في ترجمة الكتاب.
على خلفية ضعف وانكماش الامبراطورية العثمانية، رأت النخبة العثمانية الحاكمة في مطالبة الأرمن بالإصلاحات والحصول على حكم ذاتي، مؤامرة أوروبية الغرض منها "اقتلاع أحشاءنا" و"بداية إفنائنا الشامل"، حسب تعبير السلطان عبد الحميد الثاني، الذي أكد للسفير الألماني لدى الباب العالي: "أقسم بأنني أفضل الموت على قبول اصلاحات تقود إلى حكم ذاتي للأرمن".
بين 1894-1896 وقعت مجازر ضد الأرمن راح ضحيتها 80 الف أرمني حسب أدنى التقديرات، فيما قدرت البطريركية الأرمنية العدد بحوالي 300 ألف. السياق هو نشاط أرمني يطالب بالإصلاحات، يسانده ضغط خارجي لا تستطيع السلطنة مواجهته بسبب ضعفها، فتوافق السلطنة على الإصلاحات مرغمة، ولكنها ترتد على الأرمن بالمجازر بوصفهم خونة وعملاء. سيكون هذا تمرين مبكر للعرض الأساسي الذي ستشهده السلطنة بعد حوالي عقدين من الزمن.
لغرض تفادي المسؤولية وللتملص من الضغوط الخارجية، لا تقوم المؤسسات الرسمية للدولة بعمليات القتل والتشريد، ولكن هذه المؤسسات تقف مكتوفة اليدين أو تسهل عمل من يقوم بالقتل، ومن يقوم بالقتل هم جماعات منظمة غير رسمية تنفذ السياسة غير المعلنة للدولة، إنها الباطن النتن للدولة. خلال الحرب العالمية الأولى اتخذت هذه الجماعات في السلطنة اسم "تشكيلات مخصوصة".
انطوت الامبراطورية العثمانية على خلل أولي تفجر لاحقاً في وجه مسيحيي الامبراطورية (الأرمن بوجه خاص، لأسباب سنذكرها لاحقاً). الخلل هو أن الامبراطورية العثمانية جمعت بين فكرة وحدة الشعوب، وبين الاستناد إلى عقيدة دينية (الإسلام) تمنح التفوق لجماعة على غيرها، أي عقيدة مضادة لفكرة وحدة الشعوب. حاولت الامبراطورية، وهي في طور الأفول، وتحت ضغط الخارج، أن تصلح هذا الخلل باعتماد مبدأ المساواة القائم على "المواطنة العثمانية"، ولكنها فشلت لأنه لم يكن من السهل الانقلاب على ايديولوجيا التفوق الديني الإسلامية المتغلغة في المؤسسات وفي وعي الأكثرية المسلمة، وأيضاً لأن الخارج لم يكن يريد من الضغط بفكرة المساواة أن يصلح حال الامبراطورية بل أن يفجرها بالأحرى ويتقاسم تركتها.
دفع هذا الخلل إلى التحول من فكرة "العثمانية"، أي وحدة الشعوب ومبدأ الاختلاف وعدم التجانس في ظل الامبراطورية، إلى فكرة الجامعة الإسلامية القائمة على مبدأ التجانس، الأمر الذي ساعد في عزل الأرمن وتهيئتهم ليكونوا ضحية تفكك الامبراطورية وقربان نشوء الأمة التركية. قاد الأرمن إلى مأساتهم ثلاثة عناصر متضافرة: عنصر يتعلق بالهوية الدينية (مسيحيون في وسط مسلم)، وعنصر سياسي يتعلق بصلتهم مع الخارج (روسيا، بريطانيا، فرنسا)، وعنصر جغرافي هو تواجدهم في منطقة الاناضول، أي في "أحشاء" الامبراطورية، وليس في منطقة طرفية يمكن التراجع عنها كرومانيا أو صربيا أو مصر مثلاً.
إذا كان التحول من الرابطة العثمانية إلى الرابطة الإسلامية قد خدم في عزل وإبادة الأرمن المختلفين دينياً، فقد ظلت الرابطة الإسلامية، التي تنطوي بدورها على شعوب لها تطلعات متضاربة، تفتقد إلى الصلابة الكافية لمواجهة خطر "الإفناء الشامل" الذي يريده أعداء السلطنة، كما حدس عبد الحميد الثاني. لا حاجة للقول إن خطر الإفناء الشامل، كما يتصوره السلطان، يستهدف العنصر التركي.
في هذا المجال السياسي والايديولوجي المضطرب برزت فكرة القومية التركية التي كان للهزائم والخسارات المتتالية والشعور بالضعف أمام الدول العظمى الطامعة و"بالشرف التركي الملطخ"، أن تشحنها بطاقة كبيرة تصل إلى حدود الفاشية (أنور باشا يتحدث عن البلغار واليونانيين والصرب بوصفهم "عبيدنا"). هذه الفكرة (الايديولوجيا) كانت تتكيء على الرابطة الإسلامية من حين إلى آخر، لكنها راحت تقوى وتتبلور مع مصطفى كمال وحركته القومية، كإيديولوجيا سياسية محددة ومضادة للدين الإسلامي بوصفه رابطة. الطاقة الكامنة في الفكرة القومية الوليدة مزقت الرابطة الإسلامية كي تمنح الضوء والهواء للجمهورية التركية.
وقعت مجازر الأرمن قبل تبلور الفكرة الكمالية التركية المضادة للرابطة الإسلامية وللرابطة الطورانية معاً. كان مصطفى كمال حريصاً على تجنب إعلان الصلة بالاتحاديين الذين خططوا ونفذوا عملية الإبادة، في حين أن حركته هي استمرار لفكرهم القومي. بهذا تخلص كمال من الثقل المعنوي لأفعال الاتحاديين، وترك لنفسه مسافة تسمح له بوصف ما أقدموا عليه ضد الأرمن "بالفعل المشين". ضم مصطفى كمال إلى حركته وحكومته اللاحقة زعماء اتحاديين فارين من المحاكمات بتهمة تلك المجازر، واستطاع أن يسترجع سجناء الاتحاديين من السجون البريطانية في مالطا ليضعهم في مناصب عليا في حكومته، ولكنه كان يدرك، ببعد نظره، أنه لبناء الجمهورية التركية الجديدة لا بد من التحرر السياسي والأخلاقي من ذاك "الفعل المشين".
بقوة المنطق الذاتي للفكرة القومية تم تحميل الضحية مسؤولية مأساتها، من طلعت باشا (ت 1921): "تعود مسؤولية الأحداث بالدرجة الأولى وقبل كل شيء إلى الذين تسببوا بحدوثها"، إلى مصطفى كمال (ت 1938): "أياً كان الذي وقع للمجتمعات غير المسلمة التي تعيش في بلادنا، فإن ذلك ناجم عن سياسات التقسيم المدعومة بالمؤامرات الأجنبية واستغلال امتيازاتهم عبر أكثر الطرق بربرية"، وصولا إلى عصمت إينونو (ت 1973): "إن مسؤولية الكوارث التي حلت بالمجتمع الارمني ضمن الامبراطورية العثمانية يتحملها المجتمع الأرمني نفسه".
العناصر الأساسية في السياق العثماني المذكور هي: خلل عميق في بنية الامبراطرية، تهديد جدي يتداخل فيه البعد الداخلي (ضرورة الإصلاح) مع البعد الخارجي (سياسات الدول الكبرى إزاء الامبراطورية الضعيفة)، عجز سياسي يدفع إلى اعتماد العنف (قرار الدخول في الحرب العالمية الأولى لإلغاء ضرورة الإصلاح عن طريق الخلاص المادي من "العنصر غير المتجانس")، تغطية العنف بحملة تضليل ثقافي وإعلامي تقوم على أفكار كبرى مثل حماية الدولة أو الدفاع عن النفس ضد خطر الفناء أو مواجهة الخارج الطامع.
عصب السياق العثماني الذي انطوى على مآس إنسانية رهيبة، يمكن تلمسه في السياق السوري الراهن. الخلل العميق في النظام السوري (انعدام وجود آلية لإنتاج شرعية سياسية تسمح باستيعاب الحاجة إلى التغيير)، التهديد الجدي (الثورة السورية المطالبة بتغيير النظام وسعي الدول لاستغلالها وإدراجها في سياساتها الخاصة)، العجز السياسي واعتماد العنف بوصفه الوسيلة الأساسية للتخلص من الخطر، ثم تغطية خيار العنف بحملة تضليل ثقافي وإعلامي يؤدي إلى نسف الرابطة الوطنية لصالح الرابطة السياسية.
في الحالتين، خلقت بيئة المجزرة عن طريق تصوير جماعة معينة (في السلطنة كانت كتلة دينية عرقية تطالب بحكم ذاتي، وفي سوريا كانت كتلة سياسية تطالب بتغيير النظام) بأنها خطر على الوطن وأداة للخارج، أي إنها خائنة. في الوسط التركي ساد الكلام عن الأرمن بوصفهم عملاء وخونة، وفي سوريا صارت كلمة معارض سياسي، في الوعي الذي جرت تهيئته لتقبل المجزرة، تعادل كلمة خائن.
على مستوى التنفيذ، في مقابل "تشكيلات مخصوصة" غير الرسمية التي قدمت "خدمات لم تكن للحكومة والقوات العامة أن تتصور إنجازها"، والتي نفذت المجازر خلال الحرب العالمية الأولى "لإخفاء تدخل حكام الولايات والمسؤولين الآخرين"، كما يقول أحد القادة الاتحاديين، نجد في سورية جماعات الشبيحة غير الرسمية التي ترتكب الفظائع وتعفي الدولة من مسؤولية القيام "بالأفعال المشينة".
"الجماعات الخائنة" مستباحة طبعاً، لأنها مستهدفة من المؤسسة (الدولة) التي يفترض أن تحميها، من الطبيعي أن نجد إذن، ولو على بعد قرن من الزمان، تشابهاً في السلوك إزاء أملاك ومقتنيات هؤلاء "الخونة". النقطة المؤلمة هنا هي انسياق الناس المدنيين ليكونوا أداة في السياسة المشينة. جاء في تقرير كتبه القنصل الأمريكي في 13 آب 1915: "كانت حشود من النساء والأطفال الأتراك تتبع الشرطة مثل نسور تستولي على كل شيء تصله مخالبها، وبعد أن تقوم الشرطة بأخذ الأشياء الثمينة من البيت، كانوا يندفعون إلى الداخل ويأخذون الباقي. أرى هذا السلوك كل يوم بأم عيني." في الجانب السوري ظهرت ممارسات مشابهة سميت "التعفيش"، أي نهب مقتنيات الأهالي المهجرين أو المقتولين، تقوم بها العناصر المشاركة في القتال، ويتم إدخال المدنيين في هذه الحلقة عن طريق بيع المنهوبات في أسواق خاصة.
لا شيء يسوغ عمليات القتل الواسع والإبادة بقدر ما تسوغه القضايا الكبرى. الكلام اليقيني باسم الوطن أو باسم الأمة أو باسم الثورة أو باسم الله، يفتح الطريق أمام المجزرة، ويحشو بطن التاريخ بالكثير من المآسي والمظالم التي تسمم المستقبل. ولا شك أن المجزرة لا تختصر بالمجرم، ولا تنتهي بمحاكمته على أهمية ذلك، لأن وراء المجرم بيئة سياسية أنتجته ومكنته وجاهزة لإنتاج وتمكين غيره، بانتظار المزيد من المجازر.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مراجعة في الثورة
- الحرب في إدلب، لا عزاء للسوريين
- الطائفية و-الرماد الثقيل-
- اللجوء بوصفه تهمة
- متحف للدم الحار
- أخرج من سوريا كي أعود إليها
- مواطنون وأعداء
- فلاحو سوريا، التاريخ ما وراء حجاب السياسة 2
- فلاحو سوريا، التاريخ ما وراء حجاب السياسة 1
- أسئلة عن الثورة السورية
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 4
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 3
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 2
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 1
- تمرد المرأة السورية على الأطر السياسية الذكورية
- جرائم شرف في الثورة
- نجاحات ومخاطر في السودان
- الشبيحة: تشكيلات العنف غير الرسمي في سورية 8
- الشبيحة: تشكيلات العنف غير الرسمي في سورية 7
- الشبيحة: تشكيلات العنف غير الرسمي في سورية 6


المزيد.....




- الطلاب الأمريكيون.. مع فلسطين ضد إسرائيل
- لماذا اتشحت مدينة أثينا اليونانية باللون البرتقالي؟
- مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية: الجيش الإسرائيلي ينتظر ال ...
- في أول ضربات من نوعها ضد القوات الروسية أوكرانيا تستخدم صوار ...
- الجامعة العربية تعقد اجتماعًا طارئًا بشأن غزة
- وفد من جامعة روسية يزور الجزائر لتعزيز التعاون بين الجامعات ...
- لحظة قنص ضابط إسرائيلي شمال غزة (فيديو)
- البيت الأبيض: نعول على أن تكفي الموارد المخصصة لمساعدة أوكرا ...
- المرصد الأورومتوسطي يطالب بتحرك دولي عاجل بعد كشفه تفاصيل -م ...
- تأكيد إدانة رئيس وزراء فرنسا الأسبق فرانسو فيون بقضية الوظائ ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - راتب شعبو - أفعال مشينة