عماد عبد اللطيف سالم
الحوار المتمدن-العدد: 4677 - 2014 / 12 / 30 - 02:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أمّي .. وقصة الحب في زمن الكوليرا
مات أبي في عام 1966 بالسكتة القلبية .
كان في التاسعة والثلاثين من عمره ، وأمّي في الثالثة والثلاثين .
ترك وراءهُ عشرة أطفال ( أكبرهم ، الذي هو انا ، في الخامسة عشرة من العمر ) ، وأرملة حامل .
خلال الأشهر الأولى ، بعد وفاته ، كانت أمّي تُنشِدُ الأناشيد تمجيداً لبطولاته .. منذ مشاركته في " حرب فلسطين " 1948، وصولاً إلى شجاعته التي ليس لها مثيل في مقارعة " المعتدين " من الأصدقاء والأعداء ، والأقارب ، و" شقاوات " الكرخ .. وأيضاً ذئاب صحراء السماوة ، التي كانت تقطعُ عليه طريق عودته من المعسكر إلى البيت ، عندما كان يتدربُ هناك أثناء خدمته العسكرية . كانت تذكر لنا ، نحن الأطفال الذين لم نستوعب فكرة موته بعد ، تفاصيل كثيرة ومثيرة عن عشقه لها ، وعشقها له .. مع تأكيد جازم بأنّه لم يكن يخافُ شيئاً ، أو أحداً ، ولا يهابُ الموت .
بعد ستة اشهر وضعت أمّي مولودها الحادي عشر .
وحين ضاقت بها الدنيا ، على وسعها ، توقفت فجأة عن الإشادة بحبيبها الراحل . ثم بدأتْ بإلقاء اللوم عليه أمامنا صراحةً ، لأنّهُ تركها مع أحد عشر طفلاً ، في بيتٍ مُستأجرٍ ، وأثاثٍ بسيطٍ ، وبعض الديون ، وراتبٍ تقاعديّ ضئيل .
ازدادتْ قسوة العيش . وعند نقطة ما ، في لحظات اختناقها ، وقلّة حيلتها تلك ، يبدو أنّ أمّي قد قرّرتْ تجريد أبي من ميزته الوحيدة العالقة في ذاكرتنا ، بل وإرثه الوحيد لنا : شجاعتهُ التي لا تصدّقُ ، ولا تُعقَل ، وعدم خوفه من أيّ شيء .
كان عام 1966 ، هو العام الذي عاد فيه وباء الكوليرا إلى العراق . وفي حينه عمّ بين السكان فزَعٌ عظيم من الإصابة به ، أو من مجرد ظهور بعض أعراضه عليهم .
وفي لحظة غضب ، جمعتْ الأمّ أطفالها العشرة ، وصرختْ بهم ، وهي تحملُ رضيعها الحادي عشر : أتعرفون لماذا مات ابوكم ؟
بهَتَ الأطفال .. في حين كانت الأم تواصلُ سردَ روايتها عن اسباب موت ذلك الرجل الشجاع :
لقد أعتقدَ أبوكم أنّ أعراض النوبة القلبية التي المّتْ به ، هي أعراض وباء الكوليرا .. فمات من الخوف .. وتركني وحدي .
أبي .. الشجاع .. العاشق .. الذي لا يُشقُّ لهُ غبار .. توقف قلبهُ عن النبض ، رُعباً وفزَعاً ، ومات من شدّة خوفه من الكوليرا !!! . يا لها من نهاية بشعة لسيرة واحد من أفضل " فرسان " البلد .
أمّي ، شأنها شأن جميع العراقيين ، لديها اسلوبها الخاص ، في أعادة كتابة التاريخ .
تاريخ هذا البلد ، و" رموزه " ، وفرسانه ، وعشّاقه ، وحروبهِ ، وجنرالاته ، وأرامله وأيتامه ، وأكاذيبه .. وفوق كلّ هذا .. تلك الكوليرا . الكوليرا التي تنخُر عميقاً ، في قصصه القصيرة ، وسرديّاته ، وتكوينه الهش .
#عماد_عبد_اللطيف_سالم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟