أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حازم شحادة - تركتُ يدَ أمّي لأَجلِك















المزيد.....

تركتُ يدَ أمّي لأَجلِك


حازم شحادة
كاتب سوري


الحوار المتمدن-العدد: 4388 - 2014 / 3 / 9 - 10:08
المحور: الادب والفن
    


ألبستني أمي ثيابي وهي تغني لي: (رح طيّر حمام بعيدك يا حبيبي.. وأحلى الكلام بغنيلك يا حبيبي.. مبروك مبروك.. عيدك يا حبيبي).. كنت أرقص ضاربأً قدمي بالأرض على أنغام صوتها.. صوت أمي أجمل صوت سمعته في حياتي كلها التي لم تتجاوز الثلاث سنوات.. صحيح أنني لا أستطيع الغناء معها لأنني لا أجيد الكلام بعد.. إلا أنه كان بمقدوري أن أستقبل مشاعرها وإحساسها بتوق غريب.. صوت أمي أجمل من صوت الرياح بين أغصان الحور.. من صوت الموج على جسد الصخر.. صوت أمي أعذب من موسيقى نينوى.. أقدس من كل التراتيل.. أطهر من مياه جميع الأنهر.. صوت أمي وهي تلبسني ثيابي كي نخرج في مشوار لا كلام يصفه..
ـ يا الله حبيبي.. بدنا نروح مشوار.. تعا لقلبي
كنت قد تعلمت المشي نوعأً ما.. فأمسكتني من يدي وذهبنا هي وأنا لتشتري أغراضاً للمنزل... في الحقيقة لم يكن منزلأً.. كان غرفة مستأجرة في كفرسوسة بدمشق.. تزوجت فيها والدي الصميدعي التواق لتحرير شعوب العالم من الإمبرالية والرأسمالية بسعيه الدؤوب للاستمرار بالفقر.. وهكذا.. ولدت أنا في دمشق.... فكنت مزيجاً لاذقانياً بحرياً.. دمشقياً.. صحيح أنني لم أمض في طفولتي سوى أعوامأً ثلاثة فيها.. إلا أنني في المستقبل سأعود إليها لأدرس الصحافة.. هذا في المستقبل البعيد..
الرفيق ماركس ربما أقنع والدي أنه كلما ازداد الإنسان فقراً كلما ساهم في تحرير طبقة البروليتاريا.. ويا ليته كان تعلم من عروة بن الورد الذي قال: ذريني للغنى أسعى فإني رأيتُ الناسَ شرَّهُمُ الفقيرُ.. لكان أبلى حسنأً أكثر من صحبته للرفيقين ماركس وإنجلس اللذين لم نحصد من ورائهما سوى الشنشطة لكن.. قدر الله وما شاء فعل..
المهم خرجنا أمي وأنا ورحنا نمشي في تلك الحارات القديمة ذات العبق الدمشقي الزكي.. كانت تخاطبني وتقول: شايف يا غالي العنعن.. قاصدة سيارة مرت.. وحين شددتها من يدها كي تأخذني لأمسك النار التي أشعلها أحد أصحاب محلات الطعام نهرتني وقالت: واوا واوا.. تعا لعندي.. وهكذا كنت دائمأً إلى جوار والدتي ونحن نمشي.. أطالع الناس الذين يعبرون بأحجامهم الضخمة.. كانت كل الناس أحجامها ضخمة بشكل غريب.. ولم استطع أن أفهم هذا الاختلاف بيني وبينهم بالأحجام ولا مبرره.. غير أني لم أكن لأستطيع أن أعبر عن ذلك سوى بالتشبث بأمي.. لا أريد أن تترك يدي.. لأني أخاف من هذه الكائنات الغريبة التي يسمونها (بشراً).
خلال تجوالنا صادفنا في إحدى الحارات عرساً.. كان الناس متجمهرين في الحارة وصوت النسوة وهن يطلقن الزغاليط يملأ الأرجاء... الغناء كان صادحاً وقوياً.. فشددت أمي من يدها صوب الحشد أريد أن أرى ما يحدث.. ورحت أبكي كي تحملني لأطالع بوضوح.. وبينما كنت أتجول بعيني بين الناس لمحت ملاكاً صغيرأً بحجمي..تقف إلى جوار والدتها وترقص بشكل غريب.. تقع أرضاً.. ثم تنهض وتتابع الرقص.. فأشرت لأمي أريد أن أنزل إلى جوارها.. وبدون أي تردد رحت أرقص معها
لم تمانع والدتها بذلك.. فابنتها طفلة وأنا طفل.. لماذا ستمانع.. لا بل إنها نظرت إلى والدتي وابتسمت.. ثم راحت تتجاذب معها أطراف الحديث.. في ذلك الوقت كنت أنتهز الفرصة وأمسك الطفلة بيدها فنقع على الأرض سوياً.. ثم ننهض ونواصل ضرب الأرض بأقدامنا الصغيرة كأن العرس عرسنا.. حتى أن بعض الحضور راح يشاهدنا ونسي أمر العروسين الحقيقيين.
لم تطق أمي صبراً فأمسكتني من يدي تريد العودة إلى المنزل ففتحت زموراً عالياً وصرت أبكي لا أريد الذهاب.. دعيني أرقص مع هذه الفتاة.. لكن أمي لم تفهم نظراتي.. ربما فهمتها لكن يجب أن تعود.. وهكذا حملتني رغماً عني وأنا أشهق بكاء وودعت والدة الطفلة ثم قفلت عائدة إلى المنزل (الغرفة)..
في الطريق صادفت جارتنا وهي سيدة من محافظة (السويداء).. كانت من أعز صديقات أمي.. فأنزلتني عن حضنها للتكلم معها موقنة أنني سأبقى إلى جوارها.. حيث لم تتوقع أنني سأباغتها دون أن تنتبه لأعود إلى أميرتي الطفلة.. لم نكن قد ابتعدنا عن مكان العرس.. وريثما انتبهت والدتي إلى أنني اختفيت من جوارها هرعت كالمجنونة تبحث عني بين المحتشدين.
طفت أبحث عن الطفلة الغالية.. لكنني لم أجدها.. لا شك أن خاطرها قد كسر حين أبعدتني أمي عنها وغادرت المكان مع أمها.. كنت أتنقل وأصطدم بركب الناس.. هذا الذي يقول: بعّد يا عمو.. وذاك يقول: انتبه يا ولد.. وأنا لا أفهمهم.. لا أسمعهم.. أين ذهبت أميرتي الصغيرة.. كنت أصرخ بنظراتي.. لم يجب أحد.. ولا أنا عثرت عليها.. وريثما أفقت على الواقع الحزين أدركت أنني لا أمسك بيد أمي.. وحين وعيت هذه الحقيقة قفز الخوف إلى قلبي.. زممت شفتي.. ورحت أبكي كالمجنون..
أمي أيضاً كانت تبكي كالمجنونة وهي تبحث عني وتسأل الآخرين إن كانوا قد عثروا على طفلها.. لكن ما من أحد أجابها.. وما من أحد انتبه إلي وأنا أبكي.. فكل واحد كان يعتقد أنني مع هذه العائلة أو تلك.. وهكذا مرت ساعة تقريباً كأنها الدهر علي وعلى والدتي.. إلى أن رأتني سيدة تعرف أمي فحملتني بين ذراعيها وهي تقول: ولك أنت ليش هون لحالك.. ولأنني تعرفت على ملامحها اطمأن قلبي..وما هي إلا دقائق حتى التقينا بوالدتي التي كانت تبكي أكثر مني.. فضمتني إلى صدرها وهي تصرخ.. ما حرام عليك هيك تعمل وين رحت وين.؟
كيف سأشرح لها أن تلك الفتاة أسرت قلبي لحظة رأيتها.. لا منطق في ذلك.. لا يوجد طفل عمره ثلاث سنوات يقع في الغرام.. فإن وقع.. لا قدرة لديه على الشرح لأنه لا يستطيع الكلام بعد.. ربما بضع كلمات هي كل ما يملكه.. فرحت أشير بإصبعي إلى الوراء وأقول لها: ببو.. ببو.. أي أنني أريد تلك الطفلة.. وأريدها حالاً..
حملتني وأسرعت إلى البيت بينما كنت أبكي أريد العودة.. وحين روت القصة لوالدي لم يصدقها.. فحملها المسؤولية عن فقداني تلك الفترة من الزمن.. لكني لم أستطع الدفاع عنها.. لكنت قلت له: أسكت أسكت.. أكمل قراءة كيف سقينا الفولاذ بصمت.. شو بيعرفك أنت..
من يومها.. وأنا ألحق النساء.. ما أن أرى إحداهن.. حتى يختفي من حولي الناس ويبقى وجهها ذو الجمال والإشراق وحده أمام ناظري.. أسير صوبها لا أفكر إلا في شيء واحد .. ثم أقول لها: اسمعي يا هذه.. لقد تركت يد أمي وغامرت بالضياع لأجلك.. فلا ترحلي..
يُصدِّقن.. النساء كائنات جميلة.. تبقى أرواحهنّ في طفولة دائمة لذلك يصدقن ما أقول على الرغم من معرفتهنّ بأنه كذب.. فيبقين... لكن فيما بعد.. أنا من يهمّ بالرحيل



#حازم_شحادة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كلُّ البلادِ بلا حضوركِ كالملاجئ
- مسعد يا تنور
- صاعقة
- لا أحبُّ التفاصيل
- يوغا
- الأول على مستوى الجمهورية
- مين سمير؟
- ما تبقّى في قعر الزجاجة
- أوراقٌ.. نساء
- نافذة باردة
- رسالة إلى امرأة تشبه الشتاء
- بائع الدخان
- مع باولو كويللو في الصحراء
- مصطفى الأعور
- لا أشرب المتة مع الرئيس
- هذه ليلتي
- إغواء
- عطر امرأة
- معاون شوفير
- أثر الفراشة


المزيد.....




- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حازم شحادة - تركتُ يدَ أمّي لأَجلِك