|
دوستويفسكي: الروايةُ والاضطهادُ (3)
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 4075 - 2013 / 4 / 27 - 10:18
المحور:
الادب والفن
مع تغييبِ دوستويفسكي للصراع الطبقي كمحركٍ موضوعي للمجتمع ما هو البديل الذي يتشكل من خلال وعيه الإيديولوجي المثالي المسيحي؟ إن التماثلَ الجوهري بين أقانيم المسيحية؛ الأب والابن والروح القدس في السماء، يستحيلُ صراعاً بين قوى الحياة الجوهرية اللاتاريخية، وهي قوى العائلة على الأرض. إن الإيمان بالأب، بالإله، هو شرطُ هذا الوجود من خلال عدسة دوستويفسكي، فبدونه تنفصم عراه، وتنهد أركانه. إن هذا يتحول لديه إلى رؤية مثالية غيبية قومية، مؤسسِّةً للطبيعة ووجود الإنسان، وهذا الإسقاطُ غيرُ فلسفي سببي، ولهذا تنقطعُ العلاقاتُ بين الإله والطبيعة من خلال العلوم، وتنقطع حسب وعي دوستويفسكي العلاقةُ بين الطبيعة والمجتمع والإنسان حسب قوانين الصراع الطبقي، وسيطرح داخل هذه الرواية ضرورة الإيمان بالله بشكل فلسفي وهو أمرٌ متطور عن الرؤية التقليدية للدين غير أنه غير كاف، (المراهق الجزء الثاني، ص 349، طبعة دار رادوغا، موسكو). سيرورةُ المجتمع الروسي منتفيةٌ، غيرُ مدروسةٍ وغيرُ معروضةٍ في سياقِ جذورِ الشخوص والبُنى الفنية، وتنحصر السيرورةُ في العائلة، حيث الأب من جهة، وكائناته المخلوقة منه من جهة أخرى. إن العائلة بشكلها الأبوي السائد روسياً ترتكزُ إيديولوجياً على وعي ديني محافظ، وعلى مذهبية دينية متزمتة معبرة عن قسم من المسيحية لا يزالُ إقطاعياً، ولهذا تظهر السطوةُ بشكليها العلوي والأبوي الأرضي، وهذا الإيمان الذي يكرسُهُ المؤلفُ ينقدهُ ويحلله على مستوى الحياة الأرضية الواقعية عبر وعي تجريبي مثالي، ولا يكشف جذروه في الأرض. إن سطوة الآباء تتجسد في الأبناء، وإن مسلسل التعذيب والاضطهاد الاجتماعي العام يتأسسُ في هذه العلاقة الأساسية، بخلاف المصدر العلوي حيث الحب، كما يُفهم ذلك بحسب هذا الوعي المثالي. إن عالمَ الزنزانة هو عالمُ الاضطهاد والمضطَهدين، وهو عالم الشعب الروسي في الراهن الروائي، ولهذا فإن كل كائن محكوم منه بثنائية أن يُعذِّب أو يُعذَّب. إن أسواط العذاب تُسمعُ في كل مكان. وأساسُ تكونِها هو في العائلة. في الروايات الأولى القصيرة والمتوسطة يظهر موتيف الأب والابن بسيطاً وربما لا يوجد وربما غير شامل ومهيمن كلياً، لكنه يتصاعد في الظهور والسيطرة على البنية الفنية الفكرية. ففي رواية (الزوج الأبدي) يجيء البطل (فالتشانينوف) إلى مدينة بطرسبرج من أجل قضيةِ ورثٍ في المحكمة ويتعب في دهاليز المحاكم، ولكن فجأة تنمو أعراضُ مرض نفسي غريب به، بدأ بالارهاق والتعب ثم صار استعادة لذكريات مقبضةٍ مريرة في حياته حتى سيطرت عليه سوداوية حادة! تنمو الحبكةُ وهو في هذا المزاج القاتم ثم تتكرسلا من وجود شخص ما يلاحقهُ ويلبس قبعةً سوداء دليل حزنه على ميتٍ ما. وهذا الشخص الذي يدور حوله يظهر بقوة ويقتحم حياته بفظاظة، ويسببلا له قلقا وعذاباً مضنياً، ثم يتسرب إلى منزله ثقيلاً متعباً، ويتعرف فيه على صديق قديم كان التقى معه في سنوات خلت. إن تعذيبه الأولي لنفسه عبر الاسترجاع لأعماله السلبية لم يصل الى المحطة الرئيسية فيها حين كان يغوي الزوجات ويهدم البيوت! وهذا الشبح الذي يطاردُهُ ذو القبعة ذات الشريط الأسود هو رجلٌ ليس حزيناً على زوجته المتوفية قبل فترة قصيرة بل هو رجلٌ يريد استثمار هذه الوفاة من أحد عشاق زوجته المتوفاة! وخاصة أنه يحمل ثمرةً آدمية من جراء تلك العلاقة الآثمة! إن (فالتشانينوف) لا يعرف ما جرى للزوجة بعد أن هجرها وخاصة ولادة الطفلة، وحين يقتحم الزوجُ الأبدي حياتَهُ لا يذكره بكل ذلك الماضي المشين لهما معاً، فهو يطمع في ابتزازه بدهاء! إن هذا التعذيب المتبادل ليس شاملاً، عاصفاً، فأبوةُ (فالتشانينوف) لم تكن موجودة، فهي أبوةٌ مضمرة، والبطل رجل ذاتي أناني كرس نفسه للملذات، وإذا عاش لحظة سوداوية الآن لم تصل للكوابيس المروعة، إلا في جزء ضئيل حين قام الزوج الأبدي بتعذيب الطفلة ومحاولة استغلالها تجاه أبيها المفترض، لكن الأب لم يكن أباً، ولهذا فإن العلاقةَ بين الأب والابن لم تتشكل هنا بقوة وعمق. تتبدى هذه السيرورةُ الروائيةُ على هيئةِ مفاجآت، وهي تتحول لرحلات عذاب متعددة، للزوج الأبدي المتذكر علاقته بزوجته الميتة، ورحلة عذاب للابنة الصغيرة المريضة المضطَهدة، وللسارد المركزي الذي يُطارد وتُقتحمُ حياته ويَكتشف ان له ابنة متأخراً لكنها تُعذب وتموت! مجموعة من المفاجآت الميلودرامية تتغلغلُ في السرد تتبادل فيها الشخصيتان الذكوريتان استغلالَ النساء واضطهادهن، وتنهيان القصة عند نفس الموقعين البرجوازيين الصغيرين، أحدهما يبحثُ عن نساء ليكون زوجاً أبدياً لهن، والآخر يعيش حياته الخاصة المرفهة. فبعد أن حصل البطلُ الساردُ على تركته التي كان قد جاء من أجلها في المدينة والتقى فيها ببافل الزوج الأبدي هدأت أعصابه واستقر: فيقول «لا مانع أن ينهار نظامهم الاجتماعي، ولا مانع أن ينفخوا في آذاننا مايشاءون» «أما أنا فسأظل واثقاً من هذا الطعام اللذيذ» ص 155، طبعة دار الهلال، مصر. الشخصية الذليلة تقوم بإذلال غيرها، والعقد النفسية المتراكمة تتحول إلى اضطهاد آخرين ضعفاء، والشخصيات المأزومة تعجز عن تغيير الواقع، فتعيش في شبكة من العقد، أو تنسحب إلى قوقعتها المرفهة. إضافة إلى محدودية رمزية الأب هنا فإن الابنةَ لا تقيمُ علاقةً عميقة معه، فهي لا تتطور نفسياً وروائياً، كما يظل الأب في عيش جسدي تلذذي محدود سطحي، ولا تؤدي به هذه الفاجعة المستجدة بموت الطفلة على هذا الشكل إلى أي انتفاضةٍ في نفسه، ولهذا تتجمدُ الروايةُ ولا تستطيع أن تتمدد في الروحية الأبوية والعلاقة الأرضية الصراعية العميقة.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النظرُ إلى جهةٍ واحدة
-
متسلقو السياسة!
-
الشارقة ترفعُ ثقافةَ الأطفالِ إلى الذروة
-
يمينانِ في صدام
-
سهولةُ الهجومِ على اليسار!
-
دوستويفسكي روايةُ الاضطهادِ (2-2)
-
دوستويفسكي: روايةُ الاضطهادِ (1 -2)
-
لجنةُ العريضةِ والتحولاتُ السياسيةُ (6)
-
لجنةُ العريضةِ والتحولاتُ السياسية (5)
-
لجنةُ العريضةِ والتحولاتُ السياسية (4)
-
وجهانِ لعملةٍ واحدة
-
عودةٌ للعصورِ الوسطى سياسياً
-
لجنة العريضة والتحولات السياسية (3- 3)
-
لجنةُ العريضةِ والتحولاتُ السياسية(2)
-
لجنةُ العريضة والتحولات السياسية
-
محمد جابر الصباح: الوطنيةُ الباقيةُ
-
ليست معارضةً بل مشاكسةً!
-
المستقبلية في العمل السياسي
-
أمةٌ تتأرجحُ على حبالِ التاريخ!
-
البرجوازيةُ الصغيرة والمدارسُ الفكرية
المزيد.....
-
جمعية التشكيليين العراقيين تستعد لاقامة معرض للنحت العراقي ا
...
-
من الدلتا إلى العالمية.. أحمد نوار يحكي بقلب فنان وروح مناضل
...
-
الأدب، أداة سياسية وعنصرية في -اسرائيل-
-
إصدار كتاب جديد – إيطاليا، أغسطس 2025
-
قصة احتكارات وتسويق.. كيف ابتُكر خاتم الخطوبة الماسي وبِيع ح
...
-
باريس تودّع كلوديا كاردينال... تكريم مهيب لنجمة السينما الإي
...
-
آخر -ضارب للكتّان- يحافظ في أيرلندا على تقليد نسيجي يعود إلى
...
-
آلة السانتور الموسيقية الكشميرية تتحدى خطر الاندثار
-
ترامب يعلن تفاصيل خطة -حكم غزة- ونتنياهو يوافق..ما مصير المق
...
-
دُمُوعٌ لَمْ يُجَفِّفْهَا اَلزَّمَنْ
المزيد.....
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
المزيد.....
|