|
رسالة سمعان القيرواني الرجل الذي حمل الصليب (قصّة قصيرة)
وليد أحمد الفرشيشي
الحوار المتمدن-العدد: 4040 - 2013 / 3 / 23 - 02:10
المحور:
الادب والفن
"وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيًّا كَانَ آتِيًا مِنَ الْحَقْلِ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ. وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضًا وَيَنُحْنَ عَلَيْه"ِ. إنجيل لوقا:اصحاح 23- الآية 26-27
* * * ونحو الساعة التاسعة رفع المصلوب نظرته الخاوية إلى السماء و صرخ بصوت عظيم قائلا "إيلي إيلي لما شبقتني" أي "إلهي إلهي لماذا تركتني". * * * روفس، يا ولدي الحبيب، سأخبرك عمّا حدث ذلك اليوم الذي أقنعت نفسي دائما انّه تلبسني فيه إبن الله. ذلك اليوم الذي إشتدّ فيه الشك ّ حتى فتح ثغرة في روحي في لحظة مبهمة، متنطعة عن الأزمنة و غير مثقلة بالتفاصيل العارضة، سوى ذلك النبت الأخضر في الحقل الذّي كنت قد غادرته للتوّ. روفس، يا ولدي الحبيب، إستعذبت ان يتملكّني يقين ثابت بأن إبنا اخرس تكلّم على لساني، أنا سمعان العامودي، الذي لم يشغله سوى حقله الصغير و زحزحة الأعشاب و الطيور عن رؤوس السنابل.إستعذبت أن أقول ما لم اقله و أنا أحمل عنه وزر البشرية. أي جبل من الوهم و الخبل تكشّف لي و أنا أحمل الصليب معه أو عنه، و أيّ زغب دمويّ إنثال على يديّ المشقوقتان فسكنها مقدار من الريبة و الشك. هل كذبت علي نفسي؟ هل هو الإيمان الأعمى المطمئن إلى شتاته الجميل ؟ في تلك اللحظة القاسية يا روفس، ذبحتني قبضته التي امسكت كتفي الذي يسند الصليب. هل هي الروح المقدّسة أم هو الوهم الذّي جعلني أخاطب الأزليّ كما يفعل الأزليّ.عذرا ولدي الحبيب، كلماتي الآن لم تكن شفافة أو ذات مغزى كمثلها ذاك اليوم الذي خاطبت فيه المصلوب. حتى الأسئلة التي كانت تسكن مكانها بلا حراك، طفرت فجأة في وجهه الذي أدماه الضرب. هو ذاك يا روفس، وجدت نفسي في لحظة مبهمة لم تحصد أسئلتها بعد، و إن كان حصاد إجاباتها قد إنتهى منذ أن أستوى الأزلي على عرشه و ارتاح في اليوم السابع، ليتركنا كالدريس أكواما ملقاة في عدنه و ريحه تعبث بنا و برائحتنا الذابلة. إستكنت بعد أن أوصلته إلى الجلجلة، إلى يقين واحد: أنّه هو من تكلّم على لساني. ولكنّي سأصدقك القول، الحقيقة كنت أرغب بهكذا يقين. حاولت أن أقنع نفسي بهذا، و أذنيّ تسدهما جلبة الشعب، حيث يختلط خلق عظيم، و جسدي الفاني تلسعه سياط الجنود. قيل لي، بعد ان إنتهى حفل الدم، أنّي، أنا سمعان العامودي، الإنسان الخاطئ الّذي، على الرغم من خطاياه، عاونت المصلوب على إفتداء ارواحنا، بعد ان حملت صليب العار و عبرت به المدينة تحت السياط. تمنيت يا روفس لو كان ما قيل هو الحقيقة. تمنيت يا روفس لو كان شيطان تملكني لأنطق بكلماتي التي لم يدونها أحد و لم تحملها متون النصوص الظاهرة. ولكن في داخلي، في ابعد نقطة من روحي، أعلم أنيّ كنت معولاً هدم حيرة مغروسة في الرمل ليرفع الستار على الخراب والخواء الذي كان داخلنا طيلة الوقت. * * * كان الجوّ حاراّ و خانقا منذ مطلع النهار، و لم تكن هناك ريح، و لم تعبر السماء الشاحبة سحابة. ذلك اليوم، مشيت في حذائي المعفّر بالطمي، أجرجر قدماي بصعوبة، و الجندي الروماني يلكزني برمحه. رأيته دامي الوجه و الأطراف و هو ينوء تحت الصليب. إلتفت إلى الجنديّ معترضا : - - لماذا أنا؟ أنا لم أفعل شيئا . أنا رجل بريء. خرج صوتي يا روفس حادا و مخنوقا كالعواء. دفعني الجنديّ بقسوة و لم اتمالك توازني فسقطت على ركبتيّ و رمحه يتأرجح في تشفّ و للحظة غشي عيني و ميض ذؤابة سيف جنديّ آخر، خشن و قصير، و كانت الندبة الغائرة على وجه تذكّرني بما يتركه محراثي الخشبي من ممرات متعرّجة في الحقل الذي غادرته للتوّ. رأيته ينحي على الذّي سيق للذبح كالنعاج، ليعدّل و ضع الخشبة بطريقة يمكن أن تشتقر على كتفينا معا. سمعت المصلوب يخاطب الشعب الذي تعالى صخبه حتى سدّ أبواب السماء: - يا بنات اورشليم لا تبكين عليّ بل ابكين على انفسكنّ وعلى أولادكن .لأنه هوذا ايام تأتي يقولون فيها طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي التي لم ترضع . حينئذ يبتدئون يقولون للجبال اسقطي علينا وللآكام غطينا . لانه ان كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس . أصدقك يا روفس، إستغلق عليّ فهم ما قاله. خالجتني مختلف الإنفعالات و الأفكار التي لم يسعفني الوقت لأستيضاحها و السياط تكشط الجلد من على ظهورنا و صوت الجندي القصير يستحثني: - أسرع...هل تقوم بنزهة معه؟ أسرع الخطو...قلت لك بسرعة... و كأنيّ كنت أنتظر لسعة الصوت، إلتفتّ للمصلوب محنقا: -بالله عليك إصمت. شعرت بالمهانة و هو يبادلني نظرة متكسّرة حجبها وجهه المتورّم. و أقسم يا روفس أنيّ لمحت شبح إبتسامة ساخرة يتلكأ على شفته المفلوقة من الضرب. كان واضحا انّه يريد ان يقول اكثر من ذلك. ولكن لسبب ما، لازم الصمت. أحسّ بالندم الآن، لأنه لولا صرختي الرعناء في وجهه لما وجدت تلك الثغرة في روحي. لست أعلم بالضبط، كيف إستجمع قواه متكئا على ركبتيه و مستندا إلى الأرض بيده اليسرى بحيث وقف على قدميه منتصبا أمام جلاديه في حين تشبثت يده اليمنى بي و امسكت كتفي بقوّة. و أصدقك القول يا روفس، أصابتني غشية و غامت عيناي حتى شعرت داخل ذلك الغياب جسدا دافئا و حياّ، لم أبصر فيه اثرا للدماء و لا لثقل الفجيعة... ورغم الغياب يا ولدي، أذكر كأنه حلم، أن روحي تعرّجت متخذاً شكل الأزقة بعد أن دخلت روحه، بعد أن أمسك كتفي بقوة و كأنه يقودني على الصراط، لأهدم الصخرة بكلمات إندفعت من لاوعي أزل مكبوت. * * * آتاني صوته واهنا..." مريم..." * * * قلت للمصلوب... أذكرني عنده...إذا ما جلست إلى يمينه... قل له...قلت لي لا تأكل..فأكلت..و رأيت...وفهمت...رأيتني أشبهك...ورأيت في خيبتك...أخرجتني من رحمتك...و قربتني من حيرتك...ألجمتني عن غيّ قوتك...و أسرتني دمعتك... ألأني...أشبهك...أطردتني... الأني...رأيت...أطردتني... الأني...فهمت...أطردتني... أم لأني...غويت...عندما لامست عورتي...وعرفت...بأني...لست مثلك...لست على خلاف مع الخلق.. بأني ما أكلت إلا لأرضيها..هي...امرأة أسميتها أنت... لما....... أرتنا الحية...بهجة في العناق...و رائحة العرق الذي ينز منا صهيلا شب عن منتهى سدرتك...إنشغلنا بالقبلة عن بابك...وركبنا غيمة بلون كفيك... ألأن جسدي إنتفض بالشوق...أنزلتني... أيها المصلوب... إذا ما جلست إلى يمينه...إذكرني عنده...قل له...ما أعدلك؟ قل له...أني ساقط جدا...و لكني في الأصل نزلت مرغما... ..أن عمري لم يشتعل أبدا بالحب...لهاثي الدائم المجنون...كان وقوده الذي إحترق في عدنه... تلحفت ورقة التوت...وبحثت عنها... إمرأة...بحثت عنها...قطعت جبال الروح أنتعل شغفي...وعبرت...صحاري العمر مؤتزرا ضحكتها...وسبحت في وديان تقيح بالدم متشوفا طعم التفاح في شفتيها...من أجلها...قل له.. أني قبلت العاصفة...لتكتمل نبوءتك...و لتخلف بهجتي ومن عليها... حتى إذا ما وجدتها...تدثرتها...أفقا دامعا حزينا... و تدثرتني...شوقا إغتال يوم ولدنا... ألبستها تاجا مطرزا من الدمع...والعالم أضيق من ان يتسع...لإشراقة ضحكتها...غفلت عنا...فحاك الجسد منا...نزوته المتوهجة بخيوط الفجر... أيها المصلوب.. إذا ما جلست إلى يمينه...إذكرني عنده...قل له... أنها من الأزل... وضعت ملح عينيها في جرحي...حتى لا ينبت الإيمان فيه... قل له... أنها...إمرأتي...هي تلك التي أسميتها... حكايتي الأولى التي ولدت مغموسة في البعد... حتى إذا ما أرسلتهم...في الليل... أفيق على همسهم مذعورا...وقد تشربت لحيتي...بعرق القادم في الظلمة... أحسست لهاثهم يلفح وجهي كريح السموم...تجوس أياديهم في نبضي... أخذوها مني... لأني ضحكت من شهقة الريح...و ركبتها ماردا...في قلبه صحوة من جسد... غسلوا شهواتهم عمدا...في...صرختها...لأنها كانت صيحة الحياة في... مرنة كالريح...صاخبة كالحياة... حملوها...وسرقوا مني طيفها الذي نازلت به الكون... حتى إذا ما رحلوا...بقيت...ألوك جرحي...و أجدف على قرص الشمس... أيها المصلوب.. إذا ما جلست إلى يمينه...إذكرني عنده...قل له أنهم لن يخفوا ملامحها بنبوءة متحجرة... قل له... لا زلت دمعتها... تعطيني العهد...سأمشي على دروب من جمر و نار...حتى ألثم ثغرها...و لن يكون إفتراقنا...موعدا للنسيان...بل فصلا...في عمر تمردنا القصير... القصير... * * * روفس، يا ولدي الحبيب، أقسم أني لم أفق من غشيتي إلا عندما قام الجنود بفصلنا، و ألقوني بعيدا عنه..شعرت بغصّة تركض في حلقي و صوته يأتيني واهنا..." بعد قليل ينتهي كل شيء يا سمعان...لست أرغب في أن يقولوا أن إبن المرأة جدّف وهو يساق للموت..و أن صوته إختنق بالنشيد المرّ...إسمها مريم يا سمعان...أسمها مريم..."..ليضيع صوته تحت قرع المطارق وهي تسمّر جسده على الخشبة.. حينما دفعوني بعيدا عنه يا روفس، تملكتني رعدة مخيفة أقوى من احتمالي وكان صوت الذبيح الذي نطق على لساني أثقل من حضوري العابر في محنته..في لحظة كانت فجيعته موعدا لإتحاد روحينا، و حملا ثقيلا ألقاه علي دون رغبة مني..و لتعرف يا روفس، أني أكتب هذا الكلمات و قدماي لم تطآ الجلجثة أبدا..بل إكتفيت برؤية الذبيح يواصل طريق آلامه مرفوعاً على الصليب، و على مرمى نظر، رأيتها...كانت راكعة قرب الصليب خلال تلك الساعات الطويلة المفجعة..كانت تبكي بحرقة يا روفس و هي تمسك قدمي سيدها الحبيب وبدت متلهفة جداً لتتحسس خطيئة الأزلي على رضوض جسده الدامي.. فالخروف الذي ذبحوه كان رجلا عاشقا.. الآن، و صدري يفيض بهذه الكلمات، مازالت الحرائق تلتهم روحي و ترقص على أطراف حيرتي...لم نطق المصلوب على لساني..لو لم تكن هناك إمرأة كان ينتظر إشراقتها في روحه لو لا أن الأزلي أراد غير ذلك... فيما بعد عرفت أن إسمها..مريم..مريم المجدلية... روفس، يا ولدي الحبيب ، عندما تقرا هذه الرسالة..لا تكتم ما جاء فيها.. لقد حملت أنا سمعان القيروانيّ صليب يسوع بدل المحراث...و حملت معه أيضا قلبا عاشقا مجدّفا..
#وليد_أحمد_الفرشيشي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مُرَّة ٌ هذه الجُدرانٌ وهي تحضنني
-
صرّةٌ حُزنٍ أزرق
-
إلاّ إذا.....
-
حتى الأمطار تنتحر يا عزيزتي...
-
في فلسفة السقوط
-
شكري بلعيد....عندما تُغتالُ معجزة في المدينة
-
في عينيكً بيتٌ عتيقٌ
-
قصائد نيّئة
-
إلى دمشق...سلامًا...سلامًا
-
فصّلتْ
-
هيه !! (قصّة قصيرة)
-
كلمات
-
-الذلّ و الضباع-
-
تلك التي تأتي ليلا
-
ثلاث و ثلاثون مرّت...
-
هذه الموجة خالصة لي
-
فصل العمل الدعوي عن العمل الحزبي: لهذه الأسباب تخشى النهضة ع
...
-
قلب بين ضفّتين
-
سأصعد وحيدا إلى السماء
-
رحيق العمر
المزيد.....
-
قصة ميشيكو.. كيف نجت فتاة يابانية من القنبلة النووية؟
-
-ذاكرة أمّ فلسطينية-.. أدب يكسر قيود الأيديولوجيا
-
فيديوهات مخلة.. فنان مصري شهير يتعرض لعملية ابتزاز
-
بعد سقوط نظام الأسد.. الفنان دريد لحام يوجه رسالة إلى السوري
...
-
اكتشاف كنز من التسجيلات غير المنشورة لمايكل جاكسون
-
تعرضوا للخسارة أو شاركوا في القتال.. 5 فنانين تأثروا بالحروب
...
-
ورشات الأطلس في مراكش.. نوافذ للمخرجين السينمائيين الشباب عل
...
-
الثقافة أولاً .. تردد قناة بابل 2025 الجديد على النايل سات و
...
-
بفستان أبيض فخم .. الفنانة اصيل هميم تحتفل بزفافها من رجل أع
...
-
السوداني يوجه بنقل جثمان المخرج قيس الزبيدي إلى العراق
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|